3. مجلد3.الجامع لأحكام القرآن = تفسير القرطبي
المؤلف : أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين
القرطبي (المتوفى : 671هـ)
العاشرة-
في تقليم الاظفار. وتقليم الاظفار: قصها، والقلامة ما يزال منها. وقال مالك: أحب
للنساء من قص الاظفار وحلق العانة مثل ما هو على الرجال. ذكره الحارث ابن مسكين
وسحنون عن ابن القاسم. وذكر الترمذي الحكيم في" نوادر الأصول" له (الأصل
التاسع والعشرون): حدثنا عمر بن أبي عمر قال: حدثنا إبراهيم بن العلاء الزبيدي عن
عمر بن بلال الفزاري قال: سمعت عبد الله بن بشر المازني يقول قال رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (قصوا أظافيركم وادفنوا قلاماتكم ونقوا براجمكم
ونظفوا لثاتكم من الطعام وتسننوا ولا تدخلوا على قخرا بخرا «1» ثم تكلم عليه
فأحسن. قال الترمذي: فأما قص الاظفار فمن أجل أنه يخدش ويخمش ويضر، وهو مجتمع
الوسخ، فربما أجنب ولا يصل الماء إلى البشرة من أجل الوسخ فلا يزال جنبا. ومن أجنب
فبقي موضع إبرة من جسده بعد الغسل غير مغسول فهو جنب على حاله حتى يعم الغسل جسده
كله، فلذلك ندبهم إلى قص الاظفار. والأظافير جمع الاظفور، والاظفار جمع الظفر. وفي
حديث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيث سها في صلاته فقال: (وما لي
لا أوهم ورفغ «2» أحدكم بين ظفره وأنملته ويسألني أحدكم عن خبر السماء وفي أظافيره
الجنابة والتفث). وذكر هذا الخبر أبو الحسن علي بن محمد الطبري المعروف بالكيا
في" أحكام القرآن" له، عن سليمان بن فرج أبي واصل قال: أتيت أبا أيوب
رضي الله عنه فصافحته، فرأى في أظفاري طولا فقال: جاء رجل إلى النبي صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسأله عن خبر السماء فقال: (يحي أحدكم يسأل عن خبر
السماء وأظفاره كأظفار الطير حتى يجتمع فيها الوسخ والتفث). وأما قوله: (ادفنوا
قلاماتكم) فإن جسد المؤمن ذو حرمة، فما سقط منه وزال عنه فحفظه من الحرمة قائم،
فيحق عليه أن يدفنه، كما أنه لو مات دفن، فإذا مات بعضه فكذلك أيضا تقام حرمته
بدفنه، كي لا يتفرق ولا يقع في النار أو في مزابل قذرة. وقد أمر رسول الله
__________
(1). اضطربت الأصول في رسم هذه الكلمة، والتصويب عن" نوادر الأصول"
وسينقل المؤلف رحمه الله كلام الترمذي عن هذا الحديث. [.....]
(2). الرفع: الوسخ الذي بين الأنملة والظفر.
صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بدفن دمه حيث احتجم كي لا تبحث عنه الكلاب. حدثنا بذلك
أبي رحمه الله تعالى قال: حدثنا موسى بن إسماعيل قال: حدثنا الهنيد بن القاسم بن
عبد الرحمن بن ماعز قال: سمعت عامر بن عبد الله بن الزبير يقول إن أباه حدثه أنه
أتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يحتجم، فلما فرغ قال: (يا
عبد الله اذهب بهذا الدم فأهرقه حيث لا يراك أحد). فلما برز عن رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عمد إلى الدم فشربه، فلما رجع قال: (يا عبد الله ما
صنعت به؟). قال: جعلته في أخفى مكان ظننت أنه خافيا عن الناس. قال: (لعلك شربته؟)
قال نعم. قال: (لم شربت الدم، [ويل للناس منك «1» و] ويل لك من الناس). حدثني أبي
قال: حدثنا مالك بن سليمان الهروي قال: حدثنا داود بن عبد الرحمن عن هشام بن عروة
عن أبيه عن عائشة قالت: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأمر
بدفن سبعة أشياء من الإنسان: الشعر، والظفر، والدم، والحيضة، والسن، والقلفة،
والبشيمة. وأما قوله: (نقوا براجمكم) فالبراجم تلك الغضون من المفاصل، وهي مجتمع
الدرن (واحدها برجمة) وهو ظهر عقدة كل مفصل، فظهر العقدة يسمى برجمة، وما بين
العقدتين تسمى راجبة، وجمعها رواجب، وذلك مما يلي ظهرها، وهي قصبة الإصبع، فلكل
إصبع برجمتان وثلاث رواجب إلا الإبهام فإن لها برجمة وراجبتين، فأمر بتنقيته لئلا
يدرن فتبقى فيه الجنابة، ويحول الدرن بين الماء والبشرة. وأما قوله: (نظفوا
لثاتكم) فاللثة واحدة، واللثات جماعة، وهي اللحمة فوق الأسنان ودون الأسنان، وهي
منابتها. والعمور: اللحمة القليلة بين السنين، واحدها عمر. فأمر بتنظيفها لئلا
يبقى فيها وضر الطعام فتتغير عليه النكهة وتتنكر الرائحة، ويتأذى الملكان، لأنه
طريق القرآن، ومقعد الملكين عند نابيه. وروي في الخبر في قوله تعالى:" ما
يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ «2»" قال: عند نابيه.
حدثنا بذلك محمد بن علي الشقيقي قال: سمعت أبي يذكر ذلك عن سفيان بن عيينة، وجاد
ما قال، وذلك أن اللفظ هو عمل الشفتين يلفظ
__________
(1). زيادة عن كتاب" نوادر الأصول".
(2). راجع ج 17 ص 11.
الكلام عن لسانه إلى البراز. وقوله:" لَدَيْهِ" أي عنده، والدي والعند في لغتهم السائرة بمعنى واحد، وكذلك قولهم" لدن" فالنون زائدة. فكأن الآية تنبئ أن الرقيب عتيد عند مغلظ الكلام وهو الناب. وأما قوله: (تسننوا) وهو السواك مأخوذ من السن، أي نظفوا السن. وقوله: (لا تدخلوا على قخرا بخرا) فالمحفوظ عندي (فحلا وقلحا). وسمعت الجارود يذكر عن النضر قال: الأقلح الذي قد اصفرت أسنانه حتى بخرت من باطنها، ولا أعرف القخر. والبخر: الذي تجد له رائحة منكرة لبشرته، يقال: رجل أبخر، ورجال بخر. حدثنا الجارود قال: حدثنا جرير عن منصور عن أبي علي عن أبي جعفر بن تمام بن العباس عن أبيه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (استاكوا، ما لكم تدخلون علي قلحا). الحادية عشرة- في قص الشارب. وهو الأخذ منه حتى يبدو طرف الشفة وهو الإطار، ولا يجزه فيمثل نفسه، قاله مالك. وذكر ابن عبد الحكم عنه قال: وأرى أن يؤدب من حلق شاربه. وذكر أشهب عنه أنه قال في حلق الشارب: هذه بدع، وأرى أن يوجع ضربا من فعله. وقال ابن خويز منداد قال مالك: أرى أن يوجع من حلقه ضربا. كأنه يراه ممثلا بنفسه، وكذلك بنتفه الشعر، وتقصيره عنده أولى من حلقه. وكذلك روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان ذا لمة، وكان أصحابه من بين وافر الشعر أو مقصر، وإنما حلق وحلقوا في النسك. وروي أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقص أظافره وشاربه قبل أن يخرج إلى الجمعة. وقال الطحاوي: لم نجد عن الشافعي في هذا شيئا منصوصا، وأصحابه الذين رأيناهم: المزني والربيع كانا يحفيان شواربهما، ويدل ذلك أنهما أخذا ذلك عن الشافعي رحمه الله تعالى. قال: وأما أبو حنيفة وزفر وأبو يوسف ومحمد فكان مذهبهم في شعر الرأس والشارب أن الإحفاء أفضل من التقصير. وذكر ابن خويز منداد عن الشافعي أن مذهبه في حلق الشارب كمذهب أبي حنيفة سواء. وقال أبو بكر الأثرم: رأيت أحمد بن حنبل يحفي شاربه شديدا، وسمعته سئل عن السنة في إحفاء الشارب فقال: يحفى كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (احفوا الشوارب). قال أبو عمر: إنما في هذا الباب أصلان:
أحدهما:
أحفوا، وهو لفظ محتمل التأويل. والثاني- قص الشارب، وهو مفسر، والمفسر يقضي على
المجمل، وهو عمل أهل المدينة، وهو أولى ما قيل به في هذا الباب. روى الترمذي عن
ابن عباس قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقص من شاربه
ويقول: (إن إبراهيم خليل الرحمن كان يفعله). قال: هذا حديث حسن غريب. وخرج مسلم عن
أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (الفطرة خمس الاختتان
والاستحداد وقص الشارب وتقليم الاظفار ونتف الإبط). وفية عن ابن عمر قال: قال رسول
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (خالفوا المشركين أحفوا الشوارب وأوفوا
اللحى «1»). والأعاجم يقصون لحاهم، ويوفرون شواربهم أو يوفرونهما معا، وذلك عكس
الجمال والنظافة. ذكر رزين عن نافع أن ابن عمر كان يحفي شاربه حتى ينظر إلى الجلد،
ويأخذ هذين، يعني ما بين الشارب واللحية. وفي البخاري: وكان ابن عمر يأخذ من طول
لحيته ما زاد على القبضة إذا حج أو اعتمر. وروى الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن
العاص أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يأخذ من لحيته من عرضها
وطولها. قال: هذا حديث غريب. الثانية عشرة- وأما الإبط فسنته النتف، كما أن سنة
العانة الحلق، فلو عكس جاز لحصول النظافة، والأول أولى، لأنه المتيسر المعتاد.
الثالثة عشرة- وفرق الشعر: تفريقه في المفرق «2»، وفي صفته صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن انفرقت عقيصته «3» فرق، يقال: فرقت الشعر أفرقه فرقا،
يقول: إن انفرق شعر رأسه فرقه في مفرقه، فإن لم ينفرق تركه وفرة «4» واحدة. خرج
النسائي عن ابن عباس أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يسدل
شعره، وكان المشركون يفرقون شعورهم، وكان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه
بشيء، ثم فرق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد ذلك، أخرجه البخاري
ومسلم عن أنس. قال القاضي عياض: سدل الشعر إرساله، والمراد به ها هنا عند العلماء
إرساله على الجبين، واتخاذه كالقصة، والفرق في الشعر سنة
، لأنه الذي رجع إليه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقد روي أن عمر بن
عبد العزيز كان إذا انصرف من الجمعة
__________
(1). إحفاء الشوارب: قص ما طال منها. وإعفاء اللحى: توفيرها.
(2). المفرق: وسط الرأس.
(3). العقيصة: الشعر المعقوص، وهو نحو من المضفور.
(4). الوفرة: الشعر المجتمع على الرأس.
أقام
على باب المسجد حرسا يجزون ناصية كل من لم يفرق شعره. وقد قيل: إن الفرق كان من
سنة إبراهيم عليه السلام، فالله أعلم. الرابعة عشرة- وأما الشيب فنور ويكره نتفه،
ففي النسائي وأبي داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا تنتفوا الشيب ما من مسلم يشيب شيبة في
الإسلام إلا كانت له نورا يوم القيامة وكتب الله له حسنة وحط عنه خطيئة). قلت:
وكما يكره نتفه كذلك يكره تغييره بالسواد، فأما تغييره بغير السواد فجائز، لقوله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حق أبي قحافة- وقد جئ به ولحيته كالثغامة
«1» بياضا-: (غيروا هذا بشيء واجتنبوا السواد). ولقد أحسن من قال:
يسود أعلاها ويبيض أصلها ... ولا خير في الأعلى إذا فسد الأصل
وقال آخر:
يا خاضب الشيب بالحناء تستره ... سل المليك له سترا من النار
الخامسة عشرة وأما الثريد فهو أزكى الطعام وأكثره بركة، وهو طعام العرب، وقد شهد
له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالفضل على سائر الطعام فقال: (فضل
عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام). وفي صحيح البستي عن أسماء بنت أبي
بكر أنها كانت إذا ثردت غطته شيئا حتى يذهب فوره وتقول: إني سمعت رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: (إنه أعظم للبركة). السادسة عشرة- قلت: وهذا كله
في معنى ما ذكره عبد الرزاق عن ابن عباس، وما قاله سعيد بن المسيب وغيره. ويأتي
ذكر المضمضة والاستنشاق والسواك في سورة" النساء «2»" وحكم الاستنجاء
في" براءة «3»" وحكم الضيافة في" هود «4»" إن شاء الله تعالى.
وخرج مسلم عن أنس قال: وقت لنا في قص الشارب وتقليم الاظفار ونتف الإبط وحلق
العانة ألا نترك أكثر من أربعين ليلة، قال علماؤنا: هذا تحديد في أكثر المدة،
__________
(1). الثغامة: نبت أبيض الثمر والزهر، يشبه بياض الشيب به.
(2). راجع ج 5 ص 212.
(3). راجع ج 8 ص 262.
(4). راجع ج 9 ص 64.
والمستحب
تفقد ذلك من الجمعة إلى الجمعة، وهذا الحديث يرويه جعفر بن سليمان. قال العقيلي:
في حديثه نظر. وقال أبو عمر فيه: ليس بحجة، لسوء حفظه وكثرة غلطه. وهذا الحديث ليس
بالقوي من جهة النقل، ولكنه قد قال به قوم، وأكثرهم على ألا توقيت في ذلك، وبالله
التوفيق. السابعة عشرة- قوله تعالى:" إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ
إِماماً" الامام: القدوة، ومنه قيل لخيط البناء: إمام، وللطريق: إمام، لأنه
يؤم فيه للمسالك، أي يقصد. فالمعنى: جعلناك للناس إماما يأتمون بك في هذه الخصال،
ويقتدي بك الصالحون. فجعله الله تعالى إماما لأهل طاعته، فلذلك اجتمعت الأمم على
الدعوى فيه- والله أعلم- أنه كان حنيفا. الثامنة عشرة- قوله تعالى:" وَمِنْ
ذُرِّيَّتِي" دعاء على جهة الرغباء إلى الله تعالى، أي من ذريتي يا رب فاجعل.
وقيل: هذا منه على جهة الاستفهام عنهم، أي ومن ذريتي يا رب ماذا يكون؟ فأخبره الله
تعالى أن فيهم عاصيا وظالما لا يستحق الامامة. قال ابن عباس: سأل إبراهيم عليه
السلام أن يجعل من ذريته إمام، فأعلمه الله أن في ذريته من يعصي فقال:" لا
يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ". التاسعة عشرة- قوله تعالى:" وَمِنْ
ذُرِّيَّتِي" أصل ذرية، فعلية من الذر، لان الله تعالى أخرج الخلق من صلب آدم
عليه السلام كالذر حين أشهدهم على أنفسهم. وقيل: هو مأخوذ من ذرأ الله الخلق
يذرؤهم ذرءا خلقهم، ومنه الذرية وهي نسل الثقلين، إلا أن العرب تركت همزها، والجمع
الذراري. وقرا زيد بن ثابت" ذرية" بكسر الذال و" ذرية"
بفتحها. قال ابن جني أبو الفتح عثمان: يحتمل أصل هذا الحرف أربعة ألفاظ: أحدها-
ذرأ، والثاني- ذرر، والثالث- ذرو، والرابع ذري، فأما الهمزة فمن ذرأ الله الخلق،
وأما ذرر فمن لفظ الذر ومعناه، وذلك لما ورد في الخبر (أن الخلق كان كالذر) وأما
الواو والياء، فمن ذروت الحب وذريته يقالان جميعا، وذلك قوله تعالى:"
فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ «1»" وهذا للطفه وخفته، وتلك حال
لذر أيضا. قال الجوهري:
__________
(1). راجع ج 10 ص 413.
ذرت
الريح التراب وغيره تذروه وتذرويه ذروا وذريا أي نسفته، ومنه قولهم: ذرى الناس
الحنطة، وأذريت الشيء إذا ألقيته، كإلقائك الحب للزرع. وطعنه فأذراه عن ظهر دابته،
أي ألقاه. وقال الخليل: إنما سموا ذرية، لان الله تعالى ذرأها على الأرض كما ذرأ
الزارع البذر. وقيل: أهل ذرية، ذرورة، لكن لما كثر التضعيف أبدل من إحدى الراءات
ياء، فصارت ذروية، ثم أدغمت الواو في الياء فصارت ذرية. والمراد بالذرية هنا
الأبناء خاصة، وقد تطلق على الإباء والأبناء، ومنه قوله تعالى:" وَآيَةٌ
لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ «1»" يعني آباءهم. الموفية عشرين-
قوله تعالى:" لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ" اختلف في المراد بالعهد،
فروى أبو صالح عن ابن عباس أنه النبوة، وقاله السدي. مجاهد: الامامة. قتادة:
الايمان. عطاء: الرحمة. الضحاك: دين الله تعالى. وقيل: عهده أمره. ويطلق العهد على
الامر، قال الله تعالى:" إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا «2»" أي أمرنا.
وقال:" أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ" يعني ألم أقدم إليكم
الامر به، وإذا كان عهد الله هو أوامره فقوله:" لا يَنالُ عَهْدِي
الظَّالِمِينَ" أي لا يجوز أن يكونوا بمحل من يقبل منهم أوامر الله ولا «3»
يقيمون عليها، على ما يأتي بيانه بعد هذا آنفا «4» إن شاء الله تعالى. وروى معمر
عن قتادة في قوله تعالى:" لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ" قال: لا
ينال عهد لله في الآخرة الظالمين، فأما في الدنيا فقد ناله الظالم فآمن به، واكل
وعاش وأبصر. قال الزجاج: وهذا قول حسن، أي لا ينال أماني الظالمين، أي لا أؤمنهم
من عذابي. وقال سعيد بن جبير: الظالم هنا المشرك. وقرا ابن مسعود وطلحة بن
مصرف" لا ينال عهدي الظالمون" برفع الظالمون. الباقون بالنصب. وأسكن
حمزة وحفص وابن محيصن الياء في" عَهْدِي"، وفتحها الباقون. الحادية
والعشرون- استدل جماعة من العلماء بهذه الآية على أن الامام يكون من أهل العدل
والإحسان والفضل مع القوة على القيام بذلك، وهو الذي أمر النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ألا ينازعوا الامر أهله، على ما تقدم «5» من القول فيه. فأما
أهل الفسوق والجور والظلم
__________
(1). راجع ج 15 ص 34.
(2). راجع ج 4 ص 295. [.....]
(3). في ب، ج:" ولا يفتون عليها".
(4). آنفا: ألان. وفعلت الشيء آنفا. أي في أول وقت يقرب منى.
(5). راجع ج 1 ص 264 طبعه ثانية.
فليسوا
له بأهل، لقوله تعالى:" لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ" ولهذا خرج ابن
الزبير والحسين «1» ابن علي رضي الله عنهم. وخرج خيار أهل العراق وعلماؤهم على
الحجاج، وأخرج أهل المدينة بني أمية وقاموا عليهم، فكانت الحرة التي أوقعها بهم
مسلم بن عقبة «2». والذي عليه الأكثر من العلماء أن الصبر على طاعة الامام الجائر
أولى من الخروج عليه، لان في منازعته والخروج عليه استبدال الأمن بالخوف، وإراقة
الدماء، وانطلاق أيدي السفهاء، وشن الغارات على المسلمين، والفساد في الأرض.
والأول مذهب طائفة من المعتزلة، وهو مذهب الخوارج، فاعلمه. الثانية والعشرون- قال
ابن خويز منداد: وكل من كان ظالما لم يكن نبيا ولا خليفة ولا حاكما ولا مفتيا، ولا
إمام صلاة، ولا يقبل عنه ما يرويه عن صاحب الشريعة، ولا تقبل شهادته في الأحكام،
غير أنه لا يعزل بفسقه حتى يعزله أهل الحل والعقد. وما تقدم من أحكامه موافقا
للصواب ماض غير منقوض. وقد نص مالك على هذا في الخوارج والبغاة أن أحكامهم لا تنقض
إذا أصابوا بها وجها من الاجتهاد، ولم يخرقوا الإجماع، أو يخالفوا النصوص. وإنما
قلنا ذلك لإجماع الصحابة، وذلك أن الخوارج قد خرجوا في أيامهم ولم ينقل أن الأئمة
تتبعوا أحكامهم، ولا نقضوا شيئا منها، ولا أعادوا أخذ الزكاة ولا إقامة الحدود
التي أخذوا وأقاموا، فدل على أنهم إذا أصابوا وجه الاجتهاد لم يتعرض لأحكامهم.
الثالثة والعشرون- قال ابن خويز منداد: وأما أخذ الأرزاق من الأئمة الظلمة فلذلك
ثلاثة أحوال: إن كان جميع ما في أيديهم مأخوذا على موجب الشريعة فجائز أخذه، وقد
أخذت الصحابة والتابعون من يد الحجاج وغيره. وإن كان مختلطا حلالا وظلما كما في أيدي
__________
(1). في ب، ج:" والحسن".
(2). الذي في الأصول:" عقبة بن مسلم" وهو تحريف. ويوم الحرة ذكره ابن
الأثير في النهاية فقال:" وهو يوم مشهور في الإسلام أيام يزيد بن معاوية لما
انتهب المدينة عسكره من أهل الشام الذين ندبهم لقتال أهل المدينة من الصحابة والتابعين،
وأمر عليهم مسلم بن عقبة المري في ذى الحجة سنة ثلاث وستين، وعقيبها هلك يزيد.
والحرة هذه: أرض بظاهر المدينة بها حجارة سود كثيرة وكانت الوقعة بها".
ويراجع تاريخ الطبري وابن الأثير والنجوم الزاهرة في حوادث سنة ثلاث وستين.
وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)
الأمراء
اليوم فالورع تركه، ويجوز للمحتاج أخذه، وهو كلص في يده مال مسروق، ومال جيد حلال
وقد وكله فيه رجل فجاء اللص يتصدق به على إنسان فيجوز أن تؤخذ منه الصدقة، وإن كان
قد يجوز أن يكون اللص يتصدق ببعض ما سرق، إذا لم يكن شي معروف بنهب، وكذلك لو باع
أو اشترى كان العقد صحيحا لازما- وإن كان الورع التنزه عنه- وذلك أن الأموال لا
تحرم بأعيانها وإنما تحرم لجهاتها. وإن كان ما في أيديهم ظلما صراحا فلا يجوز أن
يؤخذ من أيديهم. ولو كان ما في أيديهم من المال مغصوبا غير أنه لا يعرف له صاحب
ولا مطالب، فهو كما لو وجد في أيدي اللصوص وقطاع الطريق، ويجعل في بيت المال
وينتظر طالبه بقدر الاجتهاد، فإذا لم يعرف صرفه الامام في مصالح المسلمين.
[سورة البقرة (2): آية 125]
وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ
مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ
طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)
قوله تعالى:" وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً"
فيه مسألتان: الاولى- قوله تعالى:" جَعَلْنَا" بمعنى صيرنا لتعديه إلى
مفعولين، وقد تقدم." الْبَيْتَ" يعنى الكعبة." مَثابَةً" أي مرجعا،
يقال: ثاب يثوب مثابا ومثابة وثئوبا وثوبانا. فالمثابة مصدر وصف به ويراد به
الموضع الذي يثاب إليه، أي يرجع إليه. قال ورقة بن نوفل في الكعبة «1»:
مثابا لإفناء القبائل كلها ... تخب إليها اليعملات الذوامل
وقرا الأعمش:" مثابات" على الجمع. ويحتمل أن يكون من الثواب، أي يثابون
هناك. وقال مجاهد: لا يقضي أحد منه وطرا، قال الشاعر:
جعل البيت مثابا لهم ... ليس منه الدهر يقضون الوطر
والأصل مثوبة، قلبت حركة الواو على الثاء فقلبت الواو ألفا اتباعا لثاب يثوب،
وانتصب على المفعول الثاني، ودخلت الهاء للمبالغة لكثرة من يثوب أي يرجع، لأنه قل
ما يفارق أحد البيت إلا وهو يرى أنه لم يقض منه وطرا، فهي كنسابة وعلامة، قاله
الأخفش. وقال غيره: هي هاء تأنيث المصدر وليست للمبالغة.
__________
(1). الذي في اللسان وشرح القاموس مادة" ثوب" أن البيت لابي طالب.
فإن
قيل: ليس كل من جاءه يعود إليه، قيل: ليس يختص بمن ورد عليه، وإنما المعنى أنه لا
يخلو من الجملة، ولا يعدم قاصدا من الناس، والله تعالى أعلم. الثانية- قوله
تعالى:" وَأَمْناً" استدل به أبو حنيفة وجماعة من فقهاء الأمصار على ترك
إقامة الحد في الحرم على المحصن والسارق إذا لجأ إليه، وعضدوا ذلك بقوله
تعالى:" وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً" كأنه قال: آمنوا من دخل البيت.
والصحيح إقامة الحدود في الحرم، وأن ذلك من المنسوخ، لان الاتفاق حاصل أنه لا يقتل
في البيت، ويقتل خارج البيت. وإنما الخلاف هل يقتل في الحرم أم لا؟ والحرم لا يقع
عليه اسم البيت حقيقة. وقد أجمعوا أنه لو قتل في الحرم قتل به، ولو أتى حدا أقيد
منه فيه، ولو حارب فيه حورب وقتل مكانه. وقال أبو حنيفة: من لجأ إلى الحرم لا يقتل
فيه ولا يتابع، ولا يزال يضيق عليه حتى يموت أو يخرج. فنحن نقتله بالسيف، وهو
يقتله بالجوع والصد، فأي قتل أشد من هذا. وفي قوله:" وَأَمْناً" تأكيد
للأمر باستقبال الكعبة، أي ليس في بيت المقدس هذه الفضيلة، ولا يحج إليه الناس،
ومن استعاذ بالحرم أمن من أن يغار عليه. وسيأتي بيان هذا في" المائدة
«1»" إن شاء الله تعالى. قوله تعالى:" وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ
إِبْراهِيمَ مُصَلًّى" فيه ثلاث مسائل: الاولى- قوله تعالى:"
وَاتَّخِذُوا" قرأ نافع وابن عامر بفتح الخاء على جهة الخبر عمن اتخذه من
متبعي إبراهيم، وهو معطوف على" جَعَلْنَا" أي جعلنا البيت مثابة واتخذوه
مصلى. وقيل هو معطوف على تقدير إذ، كأنه قال: وإذ جعلنا البيت مثابة وإذ اتخذوا،
فعلى الأول الكلام جملة واحدة، وعلى الثاني جملتان. وقرا جمهور القراء"
وَاتَّخِذُوا" بكسر الخاء على جهة الامر، قطعوه من الأول وجعلوه معطوفا جملة
على جملة. قال المهدوي: يجوز أن يكون معطوفا على" اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ"
كأنه قال ذلك لليهود، أو على معنى إذ جعلنا البيت، لان معناه اذكروا إذ جعلنا. أو
على معنى قوله:" مَثابَةً" لان معناه ثوبوا.
__________
(1). راجع ج 6 ص 325.
الثانية-
روى ابن عمر قال: قال عمر: وافقت ربي في ثلاث: في مقام إبراهيم، وفي الحجاب، وفي
أسارى بدر. خرجه مسلم وغيره. وخرجه البخاري عن أنس قال: قال عمر: وافقت الله في
ثلاث، أو وافقني ربي في ثلاث ... الحديث، وأخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده فقال:
حدثنا حماد بن سلمة حدثنا علي بن زيد عن أنس بن مالك قال قال عمر: وافقت ربي في
أربع، قلت يا رسول الله: لو صليت خلف المقام؟ فنزلت هذه الآية:" وَاتَّخِذُوا
مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى" وقلت: يا رسول الله، لو ضربت على نسائك
الحجاب فإنه يدخل عليهن البر والفاجر؟ فأنزل الله:" وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ
مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ «1»"، ونزلت هذه الآية:"
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ
«2»"، فلما نزلت قلت أنا: تبارك الله أحسن الخالقين، فنزلت:" فَتَبارَكَ
اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ «3»"، ودخلت على أزواج النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقلت: لتنتهن أو ليبدلنه الله بأزواج خير منكن، فنزلت
الآية:" عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ «4»". قلت: ليس في هذه الرواية
ذكر للأسارى، فتكون موافقة عمر في خمس. الثالثة- قوله تعالى:" مِنْ
مَقامِ" المقام في اللغة: موضع القدمين. قال النحاس:" مقام" من قام
يقوم، يكون مصدرا واسما للموضع. ومقام من أقام، فأما قول زهير:
وفيهم مقامات حسان وجوههم «5» ... وأندية ينتابها القول والفعل
فمعناه: فيهم أهل مقامات. واختلف في تعيين المقام على أقوال، أصحها- أنه الحجر
الذي تعرفه الناس اليوم الذي يصلون عنده ركعتي طواف القدوم. وهذا قول جابر بن عبد
الله وابن عباس وقتادة وغيرهم. وفي صحيح مسلم من حديث جابر الطويل أن النبي صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما رأى البيت استلم الركن فرمل ثلاثا، ومشى أربعا، ثم
تقدم «6» إلى مقام إبراهيم فقرأ:" وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ
مُصَلًّى" فصلى ركعتين قرأ فيهما ب" قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ"
و" قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ". وهذا يدل على أن ركعتي الطواف
وغيرهما من الصلوات
__________
(1). راجع ج 14 ص 227.
(2). راجع ج 12 ص 109، 10 1.
(3). راجع ج 12 ص 109، 10 1.
(4). راجع ج 18 ص 193.
(5). في نسخ الأصل:" وجوهها". والتصويب عن الديوان.
(6). في ب، ج، ز:" نفذ".
[لأهل
مكة «1» أفضل و] يدل من وجه على أن الطواف للغرباء أفضل، على ما يأتي. وفي
البخاري: أنه الحجر الذي ارتفع عليه إبراهيم حين ضعف عن رفع الحجارة التي كان
إسماعيل يناولها إياه في بناء البيت، وغرقت قدماه فيه. قال أنس: رأيت في المقام
أثر أصابعه وعقبه وأخمص قدميه، غير أنه أذهبه مسح الناس بأيديهم، حكاه القشيري.
وقال السدي: المقام الحجر الذي وضعته زوجة إسماعيل تحت قدم إبراهيم عليه السلام
حين غسلت رأسه. وعن ابن عباس أيضا ومجاهد وعكرمة «2» وعطاء: الحج كله. وعن عطاء:
عرفة ومزدلفة والجمار، وقاله الشعبي. النخعي: الحرم كله مقام إبراهيم، وقاله مجاهد.
فلت: والصحيح في المقام القول الأول، حسب ما ثبت في الصحيح. وخرج أبو نعيم من حديث
محمد بن سوقة عن محمد بن المنكدر عن جابر قال: نظر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إلى رجل بين الركن والمقام، أو الباب والمقام وهو يدعو ويقول: اللهم
اغفر لفلان، فقال له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ما هذا)؟ فقال:
رجل استودعني أن أدعو له في هذا المقام، فقال: (ارجع فقد غفر لصاحبك). قال أبو
نعيم: حدثناه أحمد بن محمد بن أحمد ابن إبراهيم القاضي قال حدثنا محمد بن عاصم بن
يحيى الكاتب قال حدثنا عبد الرحمن بن القاسم القطان الكوفي قال حدثنا الحارث بن
عمران الجعفري عن محمد بن سوقة، فذكره. قال أبو نعيم: كذا رواه عبد الرحمن عن
الحارث عن محمد عن جابر، وإنما يعرف من حديث الحارث عن محمد عن عكرمة عن ابن عباس.
ومعنى" مُصَلًّى". مدعى يدعي فيه، قاله مجاهد. وقيل: موضع صلاة يصلى
عنده، قاله قتادة. وقيل: قبلة يقف الامام عندها، قاله الحسن. قوله تعالى:"
وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ
وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ" فيه ست مسائل: الاولى- قوله
تعالى:" وَعَهِدْنا" قيل: معناه أمرنا. وقيل: أوحينا." أَنْ
طَهِّرا"" أن" في موضع نصب على تقدير حذف الخافض. وقال سيبويه:
إنها بمعنى أي
__________
(1). زيادة يقتضيها السياق، وقد اعتمدنا في زيادتها على ما ورد في المسألة السادسة
ص 116 من هذا الجزء. [.....]
(2). هذا الاسم ساقط من ب، ج، ز.
مفسرة،
فلا موضع لها من الاعراب. وقال الكوفيون: تكون بمعنى القول. و" طَهِّرا"
قيل معناه: من الأوثان، عن مجاهد والزهري. وقال عبيد بن عمير وسعيد بن جبير: من
الآفات والريب. وقيل: من الكفار. وقال السدي: أبنياه وأسساه على طهارة ونية طهارة،
فيجيء مثل قوله:" أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى «1»". وقال يمان: بخراه
وخلقاه." بَيْتِيَ" أضاف البيت إلى نفسه إضافة تشريف وتكريم، وهي إضافة
مخلوق إلى خالق، ومملوك إلى مالك. وقرا الحسن وابن أبي إسحاق وأهل المدينة وهشام
وحفص:" بَيْتِيَ" بفتح الياء، والآخرون بإسكانها. الثانية- قوله
تعالى:" لِلطَّائِفِينَ" ظاهره الذين يطفون به، وهو قول عطاء. وقال سعيد
بن جبير: معناه للغرباء الطارئين على مكة، وفية بعد." وَالْعاكِفِينَ"
المقيمين من بلدي وغريب، عن عطاء. وكذلك قوله:" لِلطَّائِفِينَ".
والعكوف في اللغة: اللزوم والإقبال على الشيء، كما قال الشاعر «2»:
عكف النبيط يلعبون الفنزجا «3»
وقال مجاهد: العاكفون المجاورون. ابن عباس: المصلون. وقيل: الجالسون بغير طواف،
والمعنى متقارب." وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ" أي المصلون عند الكعبة. وخص
الركوع والسجود بالذكر لأنهما أقرب أحوال المصلي إلى الله تعالى. وقد تقدم «4»
معنى الركوع والسجود لغة والحمد لله. الثالثة- لما قال الله تعالى" أَنْ
طَهِّرا بَيْتِيَ" دخل فيه بالمعنى جميع بيوته تعالى، فيكون حكمها حكمه في
التطهير والنظافة. وإنما خص الكعبة بالذكر لأنه لم يكن هناك غيرها، أو لكونها أعظم
حرمة، والأول أظهر، والله أعلم. وفي التنزيل" فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ
أَنْ تُرْفَعَ «5»" وهناك يأتي حكم المساجد إن شاء الله تعالى. وروي عن عمر
بن الخطاب رضي الله عنه أنه
__________
(1). راجع ج 8 ص 259.
(2). هو العجاج، يصف ثورا. وصدر البيت:
فهن يعكفن به إذا حجا
(3). الفنزجة والفنزج (بفتح فسكون): رقص العجم إذا أخذ بعضهم يد بعض وهم يرقصون.
(4). راجع ج 1 ص 291، 344 طبعه ثانية.
(5). راجع ج 12 ص 264.
سمع صوت رجل في المسجد فقال: ما هذا! أتدري أين أنت!؟ وقال حذيفة قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن الله أوحى إلي يا أخا المنذرين يا أخا المرسلين أنذر قومك ألا يدخلوا بيتا من بيوتي إلا بقلوب سليمة وألسنة صادقة وأيد نقية وفروج طاهرة وألا يدخلوا بيتا من بيوتي ما دام لاحد عندهم مظلمة فإني ألعنه ما دام قائما بين يدي حتى يرد تلك الظلامة إلى أهلها فأكون سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويكون من أوليائي وأصفيائي ويكون جاري مع النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ (. الرابعة- استدل الشافعي وأبو حنيفة والثوري وجماعة من السلف بهذه الآية على جواز الصلاة الفرض والنفل داخل البيت. قال الشافعي رحمه الله: إن صلى في جوفها مستقبلا حائطا من حيطانها فصلاته جائزة، وإن صلى نحو الباب والباب مفتوح فصلاته باطلة، وكذلك من صلى على ظهرها، لأنه لم يستقبل منها شيئا. وقال مالك: لا يصلي فيه الفرض ولا السنن، ويصلي فيه التطوع، غير أنه إن صلى فيه الفرض أعاد في الوقت. وقال أصبغ: يعيد أبدا. قلت: وهو الصحيح، لما رواه مسلم عن ابن عباس قال: أخبرني أسامة بن زيد أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما دخل البيت دعا في نواحيه كلها ولم يصل فيه حتى خرج منه، فلما خرج ركع في قبل الكعبة ركعتين وقال: (هذه القبلة) وهذا نص. فإن قيل: فقد روى البخاري عن ابن عمر قال: دخل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو وأسامة بن زيد وبلال وعثمان بن طلحة الحجبي البيت فأغلقوا عليهم الباب. فلما فتحوا كنت أول من ولج فلقيت بلالا فسألته: هل صلى فيه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال، نعم بين العمودين اليمانيين. وأخرجه مسلم، وفية قال: جعل عمودين عن يساره وعمودا عن يمينه وثلاثة أعمدة وراءه، وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة. قلنا: هذا يحتمل أن يكون صلى بمعنى دعا، كما قال أسامة، ويحتمل أن يكون صلى الصلاة العرفية، وإذا احتمل هذا وهذا سقط الاحتجاج به.
فإن
قيل: فقد روى ابن المنذر وغيره عن أسامة قال: رأى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ صورا في الكعبة فكنت آتية بماء في الدلو يضرب به تلك الصور. وخرجه أبو
داود الطيالسي قال: حدثنا ابن أبي ذئب عن عبد الرحمن بن مهران قال حدثنا عمير مولى
ابن عباس عن أسامة بن زيد قال: دخلت على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ في الكعبة وراي صورا قال: فدعا بدلو من ماء فأتيته به فجعل يمحوها
ويقول: (قاتل الله قوما يصورون ما لا يخلقون). فيحتمل أن يكون النبي صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى في حالة مضي أسامة في طلب الماء فشاهد بلال ما لم
يشاهده أسامة، فكان من أثبت أولى ممن نفى، وقد قال أسامة نفسه: فأخذ الناس بقول
بلال وتركوا قولي. وقد روى مجاهد عن عبد الله بن صفوان قال: قلت لعمر بن الخطاب:
كيف صنع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين دخل الكعبة؟ قال: صلى
ركعتين. قلنا: هذا محمول على النافلة، ولا نعلم خلافا بين العلماء في صحة النافلة
في الكعبة، وأما الفرض فلا، لان الله تعالى عين الجهة بقوله تعالى:"
فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ" على ما يأتي بيانه «1»، وقوله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما خرج: (هذه القبلة) فعينها كما عينها الله تعالى.
ولو كان الفرض يصح داخلها لما قال: (هذه القبلة). وبهذا يصح الجمع بين الأحاديث،
وهو أولى من إسقاط بعضها، فلا تعارض، والحمد لله. الخامسة- واختلفوا أيضا في
الصلاة على ظهرها، فقال الشافعي ما ذكرناه. وقال مالك: من صلى على ظهر الكعبة أعاد
في الوقت. وقد روي عن بعض أصحاب مالك: يعيدا أبدا. وقال أبو حنيفة: من صلى على ظهر
الكعبة فلا شي عليه. السادسة- واختلفوا أيضا أيما أفضل الصلاة عند البيت أو الطواف
به؟ فقال مالك: الطواف لأهل الأمصار أفضل، والصلاة لأهل مكة أفضل. وذكر عن ابن
عباس وعطاء ومجاهد. والجمهور على أن الصلاة أفضل. وفي الخبر: (لولا رجال خشع وشيوخ
ركع وأطفال رضع وبهائم رتع لصببنا عليكم العذاب صبا). وذكر أبو بكر أحمد بن علي بن
ثابت الخطيب في كتاب (السابق واللاحق) عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله
صلى الله
__________
(1). راجع ص 160 من هذا الجزء.
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)
عليه
وسلم: (لولا فيكم رجال خشع وبهائم رتع وصبيان رضع لصب العذاب على المذنبين صبا).
لم يذكر فيه" وشيوخ ركع". وفي حديث أبي ذر (الصلاة خير موضوع فاستكثر أو
استقل). خرجه الاجري. والاخبار في فضل الصلاة والسجود كثيرة تشهد لقول الجمهور،
والله تعالى أعلم.
[سورة البقرة (2): آية 126]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ
مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ
كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ
الْمَصِيرُ (126)
وفيه ثلاث مسائل: الاولى- قوله تعالى:" بَلَداً آمِناً" يعني مكة، فدعا
لذريته وغيرهم بالأمن ورغد العيش. فروي أنه لما دعا بهذا الدعاء أمر الله تعالى
جبريل فاقتلع الطائف من الشام فطاف بها حول البيت أسبوعا، فسميت الطائف لذلك، ثم
أنزلها تهامة، وكانت مكة وما يليها حين ذلك قفرا لا ماء ولا نبات، فبارك الله فيما
حولها كالطائف وغيرها، وأنبت فيها أنواع الثمرات، على ما يأتي بيانه في سورة"
إبراهيم «1»" إن شاء الله تعالى. الثانية- اختلف العلماء في مكة هل صارت
حراما آمنا بسؤال إبراهيم أو كانت قبله كذلك على قولين: أحدهما- أنها لم تزل حرما
من الجبابرة المسلطين، ومن الخسوف والزلازل، وسائر المثلات التي تحل بالبلاد، وجعل
في النفوس المتمردة من تعظيمها والهيبة لها ما صار به أهلها متميزين بالأمن من
غيرهم من أهل القرى. ولقد جعل فيها سبحانه من العلامة العظيمة على توحيده ما شوهد
من أمر الصيد فيها، فيجتمع فيها الكلب والصيد فلا يهيج الكلب الصيد ولا ينفر منه،
حتى إذا خرجا من الحرم عدا الكلب عليه وعاد إلى النفور والهرب. وإنما سأل إبراهيم
ربه أن يجعلها آمنا من القحط والجدب والغارات، وأن يرزق أهله من الثمرات، لا على ما
ظنه بعض الناس أنه المنع من سفك الدم في حق من لزمه القتل،
__________
(1). راجع 9 ص 368 فما بعدها.
فإن
ذلك يبعد كونه مقصودا لإبراهيم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى يقال: طلب
من الله أن يكون في شرعه تحريم قتل من التجأ إلى الحرم، هذا بعيد جدا. الثاني- أن
مكة كانت حلالا قبل دعوة إبراهيم عليه السلام كسائر البلاد، وأن بدعوته صارت حرما
آمنا كما صارت المدينة بتحريم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمنا
بعد أن كانت حلالا. احتج أهل المقالة الاولى بحديث ابن عباس قال قال رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم فتح مكة (إن هذا البلد حرمه الله تعالى يوم
خلق السموات والأرض فهو حرام بحرمة الله تعالى إلى يوم القيامة وإنه لم يحل القتال
فيه لاحد قبلي ولم يحل لي إلا ساعة من نهار فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة
لا يعضد «1» شوكه ولا ينفر صيده ولا تلتقط لقطته إلا من عرفها ولا يختلى خلاها «2»
(فقال العباس: يا رسول الله إلا الإذخر «3» فإنه لقينهم ولبيوتهم، فقال:) إلا
الإذخر (. ونحوه حديث أبي شريح، أخرجهما مسلم وغيره. وفي صحيح مسلم أيضا عن عبد
الله بن زيد بن عاصم أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (إن
إبراهيم حرم مكة ودعا لأهلها وإني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة وإني دعوت في
صاعها ومدها بمثلي ما دعا به إبراهيم لأهل مكة (. قال ابن عطية:" ولا تعارض
بين الحديثين، لان الأول إخبار بسابق علم الله فيها وقضائه، وكون الحرمة مدة آدم
وأوقات عمارة القطر بإيمان. والثاني إخبار بتجديد إبراهيم لحرمتها وإظهاره ذلك بعد
الدثور، وكان القول الأول من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثاني يوم
الفتح إخبارا بتعظيم حرمة مكة على المؤمنين بإسناد التحريم إلى الله تعالى، وذكر
إبراهيم عند تحريم المدينة مثالا لنفسه، ولا محالة أن تحريم المدينة هو أيضا من
قبل الله تعالى ومن نافذ قضائه وسابق علمه". وقال الطبري: كانت مكة حراما فلم
يتعبد الله الخلق بذلك حتى سأله إبراهيم فحرمها.
__________
(1). لا يعضد: لا يقطع.
(2). الخلى (مقصور): النبات الرطب الرقيق ما دام رطبا، واختلاؤه: قطعه.
(3). الإذخر (بكسر الهمزة والخاء): حشيشة طيبة الرائحة يسقف بها البيوت فوق الخشب،
ويحرق بدل الخشب والفحم. والقين: الحداد.
الثالثة-
قوله تعالى:" وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ" تقدم
معنى الرزق «1». والثمرات جمع ثمرة، وقد تقدم «2»." مَنْ آمَنَ" بدل من
أهل، بدل البعض من الكل. والايمان: التصديق، وقد تقدم «3»." قال وَمَنْ
كَفَرَ"" من" في قوله" وَمَنْ كَفَرَ" في موضع نصب،
والتقدير وارزق من كفر، ويجوز أن يكون في موضع رفع بالابتداء، وهي شرط والخبر"
فَأُمَتِّعُهُ" وهو الجواب. واختلف هل هذا القول من الله تعالى أو من إبراهيم
عليه السلام؟ فقال أبي بن كعب وابن إسحاق وغيرهما: هو من الله تعالى، وقرءوا"
فَأُمَتِّعُهُ" بضم الهمزة وفتح الميم وتشديد التاء." ثُمَّ
أَضْطَرُّهُ" بقطع الالف وضم الراء، وكذلك القراء السبعة خلا ابن عامر فإنه
سكن الميم وخفف التاء. وحكى أبو إسحاق الزجاج أن في قراءة أبي" فنمتعه قليلا
ثم نضطره" بالنون. وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة: هذا القول عن إبراهيم عليه
السلام. وقرءوا" فأمتعه" بفتح الهمزة وسكون الميم،" ثم اضطره"
بوصل الالف وفتح الراء، فكأن إبراهيم عليه السلام دعا للمؤمنين وعلى الكافرين،
وعليه فيكون الضمير في" قالَ" لإبراهيم، وأعيد" قالَ" لطول
الكلام، أو لخروجه من الدعاء لقوم إلى الدعاء على آخرين. والفاعل في"
قالَ" على قراءة الجماعة اسم الله تعالى، واختاره النحاس، وجعل القراءة بفتح
الهمزة وسكون الميم ووصل الالف شاذة، قال: ونسق الكلام والتفسير جميعا يدلان على
غيرها، أما نسق الكلام فإن الله تعالى خبر عن إبراهيم عليه السلام أنه قال:"
رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً" ثم جاء بقوله عز وجل:" وَارْزُقْ
أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ" ولم يفصل بينه بقال، ثم قال بعد:" قالَ وَمَنْ كَفَرَ"
فكان هذا جوابا من الله، ولم يقل بعد: قال إبراهيم. وأما التفسير فقد صح عن ابن
عباس وسعيد بن جبير ومحمد بن كعب. وهذا لفظ ابن عباس: دعا إبراهيم عليه السلام لمن
آمن دون الناس خاصة، فأعلم الله عز وجل أنه يرزق من كفر كما يرزق من آمن، وأنه
يمتعه قليلا ثم يضطره إلى عذاب
__________
(1). راجع المسألة الثانية والعشرين ج 1 ص 177.
(2). راجع المسألة الرابعة ج 1 ص 229.
(3). راجع المسألة الاولى ج 1 ص 162 طبعه ثانية. [.....]
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127)
النار.
قال أبو جعفر: وقال الله عز وجل:" كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ
عَطاءِ رَبِّكَ «1»" وقال جل ثناؤه:" وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ
«2»". قال أبو إسحاق: إنما علم إبراهيم عليه السلام أن في ذريته كفارا فخص
المؤمنين، لان الله تعالى قال:" لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ".
[سورة البقرة (2): آية 127]
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا
تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127)
قوله تعالى: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ
وَإِسْماعِيلُ" القواعد: أساسه، في قول أبي عبيدة والفراء. وقال الكسائي: هي
الجدر. والمعروف أنها الأساس. وفي الحديث: (إن البيت لما هدم أخرجت منه حجارة
عظام) فقال ابن الزبير: هذه القواعد التي رفعها إبراهيم عليه السلام. وقيل: إن
القواعد كانت قد اندرست فأطلع الله إبراهيم عليها. ابن عباس: وضع البيت على أركان
رآها قبل أن تخلق الدنيا بألفي عام ثم دحيت الأرض من تحته. والقواعد واحدتها
قاعدة. والقواعد من النساء واحدها قاعد. واختلف الناس فيمن بنى البيت أولا وأسسه،
فقيل: الملائكة. روي عن جعفر بن محمد قال: سئل أبي وأنا حاضر عن بدء خلق البيت
فقال: إن الله عز وجل لما قال:" إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً"
قالت الملائكة:" أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ
وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ" فغضب عليهم، فعاذوا بعرشه
وطافوا حوله سبعة أشواط يسترضون ربهم حتى رضي الله عنهم، وقال لهم: ابنوا لي بيتا
في الأرض يتعوذ به من سخطت عليه من بني آدم، ويطوف حوله كما طفتم حول عرشي، فأرضي
عنه كما رضيت عنكم، فبنوا هذا البيت. وذكر عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء وابن
المسيب وغيرهما أن الله عز وجل أوحى إلى آدم: إذا هبطت ابن لي بيتا ثم احفف به كما
رأيت الملائكة تحف بعرشي الذي
__________
(1). راجع ج 10 ص 236.
(2). راجع ج 9 ص 48.
في
السماء. قال عطاء: فزعم الناس أنه بناه من خمسة أجبل: من حراء، ومن طور سينا، ومن
لبنان، ومن الجودي، ومن طور زيتا، وكان ربضة «1» من حراء. قال الخليل: والربض ها
هنا الأساس المستدير بالبيت من الصخر، ومنه يقال لما حول المدينة: ربض. وذكر
الماوردي عن عطاء عن ابن عباس قال: لما أهبط آدم من الجنة إلى الأرض قال له: يا
آدم، اذهب فابن لي بيتا وطف به واذكرني عنده كما رأيت الملائكة تصنع حول عرشي،
فأقبل آدم يتخطى وطويت له الأرض، وقبضت له المفازة، فلا يقع قدمه على شي من الأرض
إلا صار عمرانا حتى انتهى إلى موضع البيت الحرام، وأن جبريل عليه السلام ضرب
بجناحيه الأرض فأبرز عن أس ثابت على الأرض السابعة السفلى، وقذفت إليه الملائكة
بالصخر، فما يطيق الصخرة منها ثلاثون رجلا، وأنه بناه من خمسة أجبل كما ذكرنا. وقد
روي في بعض الاخبار: أنه أهبط لآدم عليه السلام خيمة من خيام الجنة، فضربت في موضع
الكعبة ليسكن إليها ويطوف حولها، فلم تزل باقية حتى قبض الله عز وجل آدم ثم رفعت.
وهذا من طريق وهب بن منبه. وفي رواية: أنه أهبط معه بيت فكان يطوف به والمؤمنون من
ولده كذلك إلى زمان الغرق، ثم رفعه الله فصار في السماء، وهو الذي يدعي البيت
المعمور. روي هذا عن قتادة ذكره الحليمي في كتاب" منهاج الدين" له،
وقال: يجوز أن يكون معنى ما قال قتادة من أنه أهبط مع آدم بيت، أي أهبط معه مقدار
البيت المعمور طولا وعرضا وسمكا، ثم قيل له: ابن بقدره، وتحري «2» أن يكون بحياله،
فكان حياله موضع الكعبة، فبناها فيه. وأما الخيمة فقد يجوز أن تكون أنزلت وضربت في
موضع الكعبة، فلما أمر ببنائها فبناها كانت حول الكعبة طمأنينة لقلب آدم صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما عاش ثم رفعت، فتتفق هذه الاخبار. فهذا بناء آدم
عليه السلام، ثم بناه إبراهيم عليه السلام. قال ابن جريح وقال ناس: أرسل الله
سحابة فيها رأس، فقال الرأس: يا إبراهيم، إن ربك يأمرك أن تأخذ بقدر هذه السحابة،
فجعل ينظر إليها ويخط قدرها، ثم قال الرأس: إنه قد فعلت، فحفر فأبرز عن أساس ثابت
في الأرض. وروي عن علي بن
__________
(1). الربض (بضم الراء، وبسكون الباء وضمها): الأساس. وبفتحهما: ما حول المدينة.
(2). في أ، ج، ز:" ويجوز أن يكون".
أبي
طالب رضي الله عنه: أن الله تعالى لما أمر إبراهيم بعمارة البيت خرج من الشام ومعه
ابنه إسماعيل وأمه هاجر، وبعث معه السكينة «1» لها لسان تتكلم به يغدو معها
إبراهيم إذا غدت، ويروح معها إذا راحت، حتى انتهت به إلى مكة، فقالت لإبراهيم: ابن
على موضعي «2» الأساس، فرفع البيت هو وإسماعيل حتى انتهى إلى موضع الركن، فقال
لابنه: يا بني، ابغني حجرا أجعله علما للناس، فجاءه بحجر فلم يرضه، وقال: ابغني
غيره، فذهب يلتمس، فجاءه وقد أتى بالركن فوضعه موضعه، فقال: يا أبة، من جاءك بهذا
الحجر؟ فقال: من لم يكلني إليك. ابن عباس: صالح أبو قبيس «3»: يا إبراهيم، يا خليل
الرحمن، إن لك عندي وديعة فخذها، فإذا هو بحجر أبيض من ياقوت الجنة كان آدم قد نزل
به من الجنة، فلما رفع إبراهيم وإسماعيل القواعد من البيت جاءت سحابة مربعة فيها
رأس فنادت: أن ارفعا على تربيعي. فهذا بناء إبراهيم عليه السلام. وروي أن إبراهيم
وإسماعيل لما فرغا من بناء البيت أعطاهما الله الخيل جزاء عن رفع قواعد البيت. روى
الترمذي الحكيم حدثنا عمر بن أبي عمر حدثني نعيم بن حماد حدثنا عبد الوهاب بن همام
أخو عبد الرزاق عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس قال: كانت الخبيل وحشا
كسائر الوحش، فلما أذن الله لإبراهيم وإسماعيل برفع القواعد قال الله تبارك اسمه:
(إني معطيكما كنزا ادخرته لكما) ثم أوحى إلى إسماعيل أن اخرج إلى أجياد فادع يأتك
الكنز. فخرج إلى أجياد- وكانت وطنا- ولا يدري ما الدعاء ولا الكنز، فألهمه، فلم
يبق على وجه الأرض فرس بأرض العرب إلا جاءته فأمكنته من نواصيها وذللها له،
فاركبوها واعلفوها فإنها ميامين، وهي ميراث أبيكم إسماعيل، فإنما سمي «4» الفرس
عربيا لان إسماعيل أمر بالدعاء وإياه أتى. وروى عبد المنعم بن إدريس عن وهب بن
منبه، قال: أول من بنى البيت بالطين والحجارة شيث عليه السلام. وأما بنيان قريش له
فمشهور، وخبر الحية في ذلك مذكور، وكانت تمنعهم من هدمه إلى أن اجتمعت قريش عند
المقام فعجوا إلى الله تعالى وقالوا: ربنا، لم ترع! أردنا تشريف بيتك وتزيينه، فإن
كنت ترضى بذلك وإلا فما بدا لك فافعل، فسمعوا
__________
(1). السكينة (بفتح فكسر): ريح خجوج، أي سريعة الحر؟.
(2). في ج:" ابن على موضع الأساس". وأبو قبيس: اسم الجبل المشرف على
مكة.
(3). في ج:" ابن على موضع الأساس". وأبو قبيس: اسم الجبل المشرف على
مكة.
(4). هكذا في جميع النسخ التي بأيدينا.
خواتا
من السماء- والخوات: حفيف جناح الطير الضخم- فإذا هو بطائر أعظم من النسر، أسود
الظهر أبيض البطن والرجلين، فغرز مخاليبه في قفا الحية، ثم انطلق بها تجر ذنبها
أعظم من كذا وكذا حتى انطلق بها نحو أجياد، فهدمتها قريش وجعلوا يبنونها بحجارة
الوادي تحملها قريش على رقابها، فرفعوها في السماء عشرين ذراعا، فبينا النبي
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحمل حجارة من أجياد وعليه نمرة «1» فضاقت عليه
النمرة فذهب يرفع النمرة على عاتقه، فترى عورته من صغر النمرة، فنودي: يا محمد،
خمر عورتك، فلم ير عريانا بعد. وكان بين بنيان الكعبة وبين ما أنزل عليه خمس سنين،
وبين مخرجه وبنائها خمس عشرة سنة. ذكره عبد الرزاق عن معمر عن عبد الله بن عثمان
عن أبي الطفيل. وذكر عن معمر عن الزهري: حتى إذا بنوها وبلغوا موضع الركن اختصمت
قريش في الركن، أي القبائل تلي رفعه؟ حتى شجر بينهم، فقالوا: تعالوا نحكم أول من
يطلع علينا من هذه السكة، فاصطلحوا على ذلك، فأطلع عليهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو غلام عليه وشاح نمرة، فحكموه فأمر بالركن فوضع في ثوب، ثم
أمر سيد كل قبيلة فأعطاه ناحية من الثوب، ثم ارتقى هو فرفعوا إليه الركن، فكان هو
يضعه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال ابن إسحاق: وحدثت أن قريشا وجدوا في
الركن كتابا بالسريانية فلم يدر ما هو، حتى قرأه لهم رجل من يهود، فإذا فيه:"
أنا الله ذو بكة خلقتها يوم خلقت السموات والأرض وصورت الشمس والقمر، وحففتها
بسبعة أملاك حنفاء لا تزول حتى يزول أخشباها «2»، مبارك لأهلها في الماء
واللبن". وعن أبي جعفر محمد بن علي قال: كان باب الكعبة على عهد العماليق
وجرهم وإبراهيم عليه السلام بالأرض حتى بنته قريش. خرج مسلم عن عائشة رضي الله
عنها قالت: سألت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الجدر «3» أمن
البيت هو؟ قال: (نعم) قلت: فلم لم يدخلوه [في البيت «4»]؟ قال: (إن قومك قصرت بهم
النفقة). قلت:
__________
(1). النمرة: كل شملة مخططة من مآزر العرب.
(2). الاخشان: الحبلان المطيفان بمكة، وهما: أبو قبيس، والأحمر.
(3). الجدر: (بفتح الجيم وإسكا- الدال): حجر الكعبة (بكسر الحاء).
(4). الزيادة عن صحيح مسلم.
فما
شأن بابه مرتفعا؟ قال: (فعل ذلك قومك ليدخلوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا ولولا أن
قومك حديث عهدهم في الجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبهم لنظرت أن أدخل الجدر في البيت
وأن ألزق بابه بالأرض (. وخرج عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه قال: حدثتني
خالتي (يعني عائشة) رضي الله عنها قالت قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: (يا عائشة لولا أن قومك حديثو عهد بشرك لهدمت الكعبة فألزقتها بالأرض
وجعلت لها بابين بابا شرقيا وبابا غربيا وزدت فيها ستة أذرع من الحجر فإن قريشا
اقتصرتها حيث بنت الكعبة (. وعن عروة عن [أبيه عن «1»] عائشة قالت قال لي رسول
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:) لولا حداثة [عهد «2»] قومك بالكفر لنقضت
الكعبة ولجعلتها على أساس إبراهيم فإن قريشا حين بنت الكعبة استقصرت ولجعلت لها
خلفا (. وفي البخاري قال هشام بن عروة: يعني بابا. وفي البخاري أيضا:) لجعلت لها
خلفين) يعني بابين، فهذا بناء قريش. ثم لما غزا أهل الشام عبد الله بن الزبير ووهت
الكعبة من حريقهم، هدمها ابن الزبير وبناها على ما أخبرته عائشة، وزاد فيه خمسة
أذرع من الحجر، حتى أبدى أسا نظر الناس إليه، فبنى عليه البناء، وكان طول الكعبة
ثماني عشرة ذراعا، فلما زاد فيه استقصره، فزاد في طوله عشرة أذرع، وجعل لها بابين
أحدهما يدخل منه، والآخر يخرج منه، كذا في صحيح مسلم، وألفاظ الحديث تختلف. وذكر
سفيان عن داود بن شابور عن مجاهد قال: لما أراد ابن الزبير أن يهدم الكعبة ويبنيه
«3» قال للناس: أهدموا، قال: فأبوا أن يهدموا وخافوا أن ينزل عليهم العذاب. قال
مجاهد: فخرجنا إلى مني فأقمنا بها ثلاثا ننتظر العذاب. قال: وارتقى ابن الزبير على
جدار الكعبة هو بنفسه، فلما رأوا أنه لم يصبه شي اجترءوا على ذلك، قال: فهدموا.
فلما بناها جعل لها بابين: بابا يدخلون منه، وبابا يخرجون منه، وزاد فيه مما يلي
الحجر ستة أذرع، وزاد في طولها تسعة أذرع. قال مسلم في حديثه: فلما قتل ابن الزبير
كتب الحجاج إلى عبد الملك ابن مروان يخبره بذلك، ويخبره أن ابن الزبير قد وضع
البناء على أس نظر إليه العدول من أهل
__________
(1). الزيادة عن صحيح مسلم.
(2). الزيادة عن صحيح مسلم. [.....]
(3). كذا في نسخ الأصل. ولمعل تذكير الضمير على بمعنى البيت.
مكة،
فكتب إليه عبد الملك: إنا لسنا من تلطيخ ابن الزبير في شي «1»، أما ما زاد في طوله
فأقره، وأما ما زاد فيه من الحجر فرده إلى بنائه، وسد الباب الذي فتحه، فنقضه
وأعاده إلى بنائه. في رواية: قال عبد الملك: ما كنت أظن أبا خبيب (يعني ابن
الزبير) سمع من عائشة ما كان يزعم أنه سمعه منها، قال الحارث بن عبد الله: بلى،
أنا سمعته منها، قال: سمعتها تقول ماذا؟ قال: قالت قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن قومك استقصروا من بنيان البيت ولولا حداثة عهدهم بالشرك
أعدت ما تركوا منه «2» فإن بدا لقومك من بعدي أن يبنوه فهلمي لأربك ما تركوا منه
فأراها قريبا من سبعة أذرع (. في أخرى: قال عبد الملك: لو كنت سمعته قبل أن أهدمه
لتركته على ما بني ابن الزبير. فهذا ما جاء في بناء الكعبة من الإثار. وروي أن
الرشيد ذكر لمالك بن أنس أنه يريد هدم ما بنى الحجاج من الكعبة، وأن يرده على بناء
ابن الزبير لما جاء عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وامتثله ابن
الزبير، فقال له مالك: ناشدتك الله يا أمير المؤمنين، ألا تجعل هذا البيت ملعبة
للملوك، لا يشاء أحد منهم إلا نقض البيت وبناه، فتذهب هيبته من صدور الناس. وذكر
الوافدي: حدثنا معمر عن همام بن منبه سمع أبا هريرة يقول،: نهى رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن سب أسعد الحميري، وهو تبع، وهو أول من كسا البيت، وهو
تبع الأخر. قال ابن إسحاق: كانت تكسى القباطي «3» ثم كسيت البرد، وأول من كساها
الديباج الحجاج. قال العلماء: ولا ينبغي أن يؤخذ من كسوة الكعبة شي، فإنه مهدي
إليها، ولا ينقص منها شي. روي عن سعيد بن جبير أنه كان يكره أن يؤخذ من طيب الكعبة
يستشفى به، وكان إذا رأى الخادم يأخذ منه قفدها قفدة «4» لا يألو أن يوجعها. وقال
عطاء: كان أحدنا إذا أراد أن يستشفي به جاء بطيب من عنده فمسح به الحجر ثم أخذه.
__________
(1). قوله: إنا لسنا ... إلخ، قال النووي:" يريد بذلك سبه وعيب فعله، يقال:
لطخته أي رميته بأمر قبيح".
(2). كان في صحيح مسلم. وفى نسخ الأصل:" تمامه".
(3). القباطي (جمع القبطية القاف): ثياب كتاب بيض رقاق تعمل بمصر، وهى منسوبة إلى
القبط على غير قياس.
(4). القفد (بفتح فسكون): صفع الرأس ببسط الكف من قبل القفا.
رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)
قوله
تعالى:" رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا" المعنى: ويقولان"
رَبَّنا"، فحذف. وكذلك هي في قراءة أبى وعبد الله بن مسعود:" وإذ يرفع
إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ويقولان ربنا تقبل منا". وتفسير إسماعيل:
اسمع يا الله، لان" إيل" بالسريانية هو الله، وقد تقدم «1». فقيل: إن
إبراهيم لما دعا ربه قال: اسمع يا إيل، فلما أجابه ربه ورزقه الولد سماه بما دعاه.
ذكره الماوردي. قوله تعالى:" إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ"
اسمان من أسماء الله تعالى قد أتينا عليهما في الكتاب" الأسنى في شرج أسماء
الله الحسنى".
[سورة البقرة (2): آية 128]
رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً
لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ
(128)
قوله تعالى:" رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ" أي صيرنا، و"
مُسْلِمَيْنِ" مفعول ثان، سألا التثبيت والدوام. والإسلام في هذا الموضع:
الايمان والأعمال جميعا، ومنه قوله تعالى:" إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ
الْإِسْلامُ «2»" ففي هذا دليل لمن قال: إن الايمان والإسلام شي واحد، وعضدوا
هذا بقوله تعالى في الآية الأخرى:" فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ. فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ
«3»". وقرأ ابن عباس وعوف الاعرابي" مسلمين" على الجمع. قوله تعالى:"
وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ" أي ومن ذريتنا فاجعل، فيقال:
إنه لم يدع نبي إلا لنفسه ولأمته إلا إبراهيم فإنه دعا مع دعائه لنفسه ولأمته
ولهذه الامة. و" من" في قوله:" وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا" للتبعيض،
لان الله تعالى قد كان أعلمه أن منهم ظالمين. وحكى الطبري: أنه أراد بقوله"
وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا" العرب خاصة. قال السهيلي «4»: وذريتهما
__________
(1). راجع ص 36 من هذا الجزء.
(2). راجع ج 4 ص 43.
(3). راجع ج 17 ص 48.
(4). اضطربت الأصول في ذكر كلام السهيلي، وقد ذكر الطبري في تاريخه خبر أولاد
إسماعيل (ص 351 قسم أول)، وابن الأثير (ج 1 ص 88) وابن هشام في سيرته ص 4 طبع
أوربا، فيراجع.
العرب،
لأنهم بنو نبت بن إسماعيل، أو بنو تيمن بن إسماعيل، ويقال: قيدر بن نبت بن
إسماعيل. أما العدنانية فمن نبت، وأما القحطانية فمن قيدر بن نبت بن إسماعيل، أو
تيمن على أحد القولين. قال ابن عطية: وهذا ضعيف، لان دعوته ظهرت في العرب وفيمن
آمن من غيرهم. والامة: الجماعة هنا، وتكون واحدا إذا كان يقتدي به في الخير، ومنه
قوله تعالى:" إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً «1» لِلَّهِ"،
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في زيد بن عمرو بن نفيل: (يبعث أمة وحده)
لأنه لم يشرك في دينه غيره، والله أعلم. وقد يطلق لفظ الامة على غير هذا المعنى،
ومنه قوله تعالى:" إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ «2»" أي على
دين وملة، ومنه قوله تعالى:" إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً
«3»". وقد تكون بمعنى الحين والزمان، ومنه قوله تعالى:" وَادَّكَرَ
بَعْدَ أُمَّةٍ «4»" أي بعد حين وزمان. ويقال: هذه أمة زيد، أي أم زيد.
والامة أيضا: القامة، يقال: فلان حسن الامة، أي حسن القامة، قال «5»:
وإن معاوية الاكرمي ... ن حسان الوجوه طوال الأمم
وقيل: الامة الشجة التي تبلغ أم الدماغ، يقال: رجل مأموم وأميم. قوله تعالى:"
وَأَرِنا مَناسِكَنا"" أرنا" من رؤية البصر، فتتعدى إلى مفعولين،
وقيل: من رؤية القلب، ويلزم قائله أن يتعدى الفعل منه إلى ثلاثة مفاعيل. قال ابن
عطية: وينفصل «6» بأنه يوجد معدى بالهمزة من رؤية القلب إلى مفعولين [كغير المعدي
«7»]، قال حطايط بن يعفر أخو الأسود بن يعفر:
أريني جوادا مات هزلا لأنني «8» ... أرى ما ترين أو بخيلا مخلدا
وقرأ عمر بن عبد العزيز وقتادة وابن كثير وابن محيصن والسدي وروح عن يعقوب ورويس
والسوسي" أرنا" بسكون الراء في القرآن، واختاره أبو حاتم. وقرا أبو عمرو
باختلاس كسرة
__________
(1). راجع ج 10 ص 197.
(2). راجع ج 16 ص 74.
(3). راجع ج 11 ص 338.
(4). راجع ج 9 ص 201.
(5). القائل هو الأعشى، كما في اللسان. [.....]
(6). قال أبو حيان في البحر:" وقوله: ينفصل ... إلخ. يعنى أنه قد استعمل في
اللسان العربي متعديا إلى إثنين ومعه همزة النقل كما استعمل متعديا إلى اثنين بغير
الهمزة.
(7). زيادة عن ابن عطية.
(8). ويروى" لعلى"، ولان بمعنى لعل.
الراء،
والباقون بكسرها، واختاره أبو عبيد. وأصله أرينا بالهمز، فمن قرأ بالسكون قال:
ذهبت الهمزة وذهبت حركتها وبقيت الراء ساكنة على حالها، واستدل بقول الشاعر:
أرنا إداوة عبد الله نملؤها ... من ماء زمزم إن القوم قد ظمئوا
ومن كسر فإنه نقل حركة الهمزة المحذوفة إلى الراء، وأبو عمرو طلب الخفة. وعن شجاع
بن أبي نصر «1» وكان أمينا صادقا أنه رأى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ في المنام فذاكره أشياء من حروف أبي عمرو فلم يرد عليه إلا حرفين: هذا،
والآخر" ما ننسخ من آية أو ننسأها" مهموزا. قوله تعالى:"
مَناسِكَنا" يقال: إن أصل النسك في اللغة الغسل، يقال منه: نسك ثوبه إذا
غسله. وهو في الشرع اسم للعبادة، يقال: رجل ناسك إذا كان عابدا. واختلف العلماء في
المراد بالمناسك هنا، فقيل: مناسك الحج ومعالمه، قاله قتادة والسدي. وقال مجاهد
وعطاء وابن جريج: المناسك المذابح، أي مواضع الذبح. وقيل: جميع المتعبدات. وكل ما
يتعبد به إلى الله تعالى يقال له منسك ومسك. والناسك: العابد. قال النحاس: يقال نسك
ينسك، فكان يجب أن يقال على هذا: منسك، إلا أنه ليس في كلام العرب مفعل. وعن زهير
بن محمد قال: لما فرغ إبراهيم عليه السلام من بناء البيت الحرام قال: أي رب، قد
فرغت فأرنا مناسكنا، فبعث الله تعالى إليه جبريل فحج به، حتى إذا رجع من عرفة وجاء
يوم النحر عرض له إبليس، فقال له: أحصبه، فحصبه بسبع حصيات، ثم الغد ثم اليوم
الثالث، ثم علا ثبيرا «2» فقال: يا عباد الله، أجيبوا، فسمع دعوته من بين الأبحر
ممن في قلبه مثقال ذرة من إيمان، فقال: لبيك، اللهم لبيك، قال: ولم يزل على وجه
الأرض سبعة مسلمون فصاعدا، لولا ذلك لأهلكت الأرض ومن عليها. وأول من أجابه أهل
اليمن. وعن أبي مجلز قال: لما فرغ إبراهيم من البيت جاءه جبريل عليه السلام فأراه
الطواف
__________
(1). في أ، ب، ز:" أبى نصرة". وفي ج، ح:" أبى بصرة". والتصويب
عن طبقات القراء وتهذيب التهذيب.
(2). ثبير: جبل بين مكة ومنى وهو على يمين الذاهب إلى مكة.
بالبيت-
قال: وأحسبه قال:" والصفا والمروة- ثم انطلقا إلى العقبة فعرض لهما الشيطان،
فأخذ جبريل سبع حصيات وأعطى إبراهيم سبع حصيات، فرمى وكبر، وقال لإبراهيم: ارم
وكبر، فرميا وكبرا مع كل رمية حتى أفل الشيطان. ثم انطلقا إلى الجمرة الوسطى، فعرض
لهما الشيطان، فأخذ جبريل سبع حصيات وأعطى إبراهيم سبع حصيات، وقال: ارم وكبر،
فرميا وكبرا مع كل رمية حتى أفل الشيطان. ثم أتيا الجمرة القصوى فعرض لهما
الشيطان، فأخذ جبريل سبع حصيات وأعطى إبراهيم سبع حصيات، وقال: ارم وكبر، فرميا
وكبرا مع كل رمية حتى أفل الشيطان. ثم أتيا الجمرة القصوى فعرض لهما الشيطان، فأخذ
جبريل سبع حصيات وأعطى إبراهيم سبع حصيات، وقال: ارم وكبر، فرميا وكبرا مع كل رمية
حتى أفل الشيطان. ثم أتى به جمعا «1» فقال: ها هنا يجمع الناس الصلوات. ثم أتى به
عرفات فقال: عرفت؟ فقال نعم، فمن ثم سمي عرفات. وروي أنه قال له: عرفت، عرفت،
عرفت؟ أي مني والجمع وهذا، فقال نعم، فسمي ذلك المكان عرفات. وعن خصيف بن عبد
الرحمن أن مجاهدا حدثه قال: لما قال إبراهيم عليه السلام:" وَأَرِنا
مَناسِكَنا" أي الصفا والمروة، وهما من شعائر الله بنص القرآن، ثم خرج به جبريل،
فلما مر بجمرة العقبة إذا إبليس عليها، فقال له جبريل: كبر وارمه، فارتفع إبليس
إلى الوسطى، فقال جبريل: كبر وارمه، ثم في الجمرة القصوى كذلك. ثم انطلق به إلى
المشعر الحرام، ثم أتى به عرفة فقال له: هل عرفت ما أريتك؟ قال نعم، فسميت عرفات
لذلك فيما قيل، قال: فأذن في الناس بالحج، قال: كيف أقول؟ قال قل: يا أيها الناس،
أجيبوا ربكم، ثلاث مرار، ففعل، فقالوا: لبيك، اللهم لبيك. قال: فمن أجاب يومئذ فهو
حاج. وفي رواية أخرى: أنه حين نادى استدار فدعا في كل وجه، فلبى الناس من كل مشرق
ومغرب، وتطأطأت الجبال حتى بعد صوته. وقال محمد بن إسحاق: لما فرغ إبراهيم خليل
الرحمن صلوات الله عليه من بناء البيت الحرام جاءه جبريل عليه السلام فقال له: طف
به سبعا، فطاف به سبعا هو وإسماعيل عليهما السلام، يستلمان الأركان كلها في كل
طواف، فلما أكملا سبعا صليا خلف المقام ركعتين. قال: فقام جبريل فأراه المناسك
كلها: الصفا والمروة ومنى والمزدلفة. قال:
__________
(1). جمع (بفتح فسكون): المزدلفة.
رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)
فلما
دخل مني وهبط من العقبة تمثل له إبليس ...، فذكر نحو ما تقدم. قال ابن إسحاق:
وبلغني أن آدم عليه السلام كان يستلم الأركان كلها قبل إبراهيم عليه السلام. وقال:
حج إسحاق وسارة من الشام، وكان إبراهيم عليه السلام يحجه كل سنة على البراق، وحجته
بعد ذلك الأنبياء والأمم. وروى محمد بن سابط عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أنه قال: (كان النبي من الأنبياء إذا هلكت أمته لحق مكة فتعبد بها هو
ومن آمن معه حتى يموتوا فمات بها نوح وهود وصالح وقبورهم بين زمزم والحجر (. وذكر
ابن وهب أن شعيبا مات بمكة هو ومن معه من المؤمنين، فقبورهم في غربي مكة بين دار
الندوة وبين بني سهم. وقال ابن عباس: في المسجد الحرام قبران ليس فيه غيرهما، قبر
إسماعيل وقبر شعيب عليهما السلام، فقبر إسماعيل في الجحر، وقبر شعيب مقابل الحجر
الأسود. وقال عبد الله بن ضمرة السلولي: ما بين الركن والمقام إلى زمزم قبور تسعة
وتسعين نبيا جاءوا حجاجا فقبروا هنالك، صلوات الله عليهم أجمعين. قوله
تعالى:" وَتُبْ عَلَيْنا" اختلف في معنى قول إبراهيم وإسماعيل عليهما
السلام:" وَتُبْ عَلَيْنا" وهم أنبياء معصومون، فقالت طائفة: طلبا
التثبيت والدوام، لا أنهما كان لهما ذنب. قلت: وهذا حسن، وأحسن منه أنهما لما عرفا
المناسك وبنيا البيت أرادا أن يبينا للناس ويعرفاهم أن ذلك الموقف وتلك المواضع
مكان التنصل من الذنوب وطلب التوبة. وقيل: المعنى وتب على الظلمة منا. وقد مضى
الكلام في عصمة الأنبياء «1» عليهم السلام في قصة آدم عليه السلام، وتقدم القول في
معنى قوله:" إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ" فأغنى عن «2»
إعادته.
[سورة البقرة (2): آية 129]
رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ
وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)
__________
(1). يراجع ج 1 ص 30 طبعه ثانية.
(2). يراجع ج 1 ص 325 طبعه ثانية.
قوله
تعالى:" رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ" يعني محمدا
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وفي قراءة أبي" وابعث في آخرهم رسولا منهم".
وقد روى خالد بن معدان: أن نفرا من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قالوا له: يا رسول الله، أخبرنا عن نفسك، قال: (نعم أنا دعوة أبي إبراهيم وبشرى
عيسى). و" رَسُولًا" أي مرسلا، وهو فعول من الرسالة. قال ابن الأنباري:
يشبه أن يكون أصله من قولهم: ناقة مرسال ورسله، إذا كانت سهلة السير ماضية أمام
النوق. ويقال للجماعة المهملة المرسلة: رسل، وجمه أرسال. يقال: جاء القوم أرسالا،
أي بعضهم في أثر بعض، ومنه يقال للبن رسل، لأنه يرسل من الضرع. قوله تعالى:"
وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ"" الكتاب" القرآن و"
الحكمة": المعرفة بالدين، والفقه في التأويل، والفهم الذي هو سجية ونور من
الله تعالى، قاله مالك، ورواه عنه ابن وهب، وقاله ابن زيد. وقال قتادة:"
الحكمة" السنة وبيان الشرائع. وقيل: الحكم والقضاء خاصة، والمعنى متقارب.
ونسب التعليم إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من حيث هو يعطي الأمور
التي ينظر فيها، ويعلم طريق النظر بما يلقيه الله إليه من وحيه."
وَيُزَكِّيهِمْ" أي يطهرهم من وضر «1» الشرك، عن ابن جريج وغيره. والزكاة:
التطهير، وقد تقدم «2». وقيل: إن الآيات تلاوة ظاهر الألفاظ. والكتاب معاني الألفاظ.
والحكمة الحكم، وهو مراد الله بالخطاب من مطلق ومقيد، ومفسر ومجمل، وعموم وخصوص،
وهو معنى ما تقدم، والله تعالى أعلم." والعزيز" معناه المنيع الذي لا
ينال ولا يغالب. وقال ابن كيسان: معناه الذي لا يعجزه شي، دليله:" وَما كانَ
اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ «3»".
الكسائي:" العزيز" الغالب، ومنه قوله تعالى:" وَعَزَّنِي فِي
الْخِطابِ «4»". وفي المثل:" من عز بز" أي من غلب سلب. وقيل:"
العزيز" الذي لا مثل له، بيانه" لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ «5»".
وقد زدنا هذا المعنى بيانا في اسمه العزيز في كتاب" الأسنى في شرح أسماء الله
الحسنى" وقد تقدم معنى" الحكيم «6»" والحمد الله.
__________
(1). الوضر: الوسخ.
(2). يراجع ج 1 ص 343 طبعه ثانية.
(3). راجع ج 14 ص 361.
(4). راجع ج 15 ص 174.
(5). راجع ج 16 ص 8.
(6). راجع المسألة الثالثة ج 1 ص 287 طبعه ثانية. [.....]
وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130)
[سورة
البقرة (2): آية 130]
وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ
اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130)
قوله تعالى:" وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ
نَفْسَهُ"" مَنْ" استفهام في موضع رفع بالابتداء، و"
يَرْغَبُ" صلة" مَنْ" ..." إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ"
في موضع الخبر. وهو تقريع وتوبيخ وقع فيه معنى النفي، أي وما يرغب، قاله النحاس.
والمعنى: يزهد فيها وينأى بنفسه عنها، أي عن الملة وهي الدين والشرع." إِلَّا
مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ" قال قتادة: هم اليهود والنصارى، رغبوا عن ملة إبراهيم
واتخذوا اليهودية والنصرانية بدعة ليست من الله تعالى. قال الزجاج:"
سَفِهَ" بمعنى جهل، أي جهل أمر نفسه فلم يفكر فيها. وقال أبو عبيدة: المعنى
أهلك نفسه. وحكى ثعلب والمبرد أن" سَفِهَ" بكسر الفاء يتعدى كسفه بفتح
الفاء وشدها. وحكي عن أبي الخطاب ويونس أنها لغة. وقال الأخفش:" سَفِهَ
نَفْسَهُ" أي فعل بها من السفه ما صار به سفيها. وعنه أيضا هي لغة بمعنى سفه،
حكاه المهدوي، والأول ذكره الماوردي. فأما سفه بضم الفاء فلا يتعدى، قاله المبرد
وثعلب. وحكى الكسائي عن الأخفش أن المعنى جهل في نفسه، فحذفت" في"
فانتصب. قال الأخفش: ومثله" عُقْدَةَ النِّكاحِ «1»"، أي على عقدة
النكاح. وهذا يجري على مذهب سيبويه فيما حكاه من قولهم: ضرب فلان الظهر والبطن، أي
في الظهر والبطن. الفراء: هو تمييز. قال ابن بحر: معناه جهل نفسه وما فيها من
الدلالات والآيات الدالة على أن لها صانعا ليس كمثله شي، فيعلم به توحيد الله
وقدرته. قلت: وهذا هو معنى قول الزجاج، فيفكر في نفسه من يدين يبطش بهما، ورجلين
يمشي عليهما، وعين يبصر بها، وأذن يسمع بها، ولسان ينطق به، وأضراس تنبت له عند
غناه عن الرضاع وحاجته إلى الغذاء ليطحن بها الطعام، ومعدة أعدت لطبخ الغذاء، وكبد
يصعد إليها صفوه، وعروق ومعابر ينفذ فيها إلى الاطراف، وأمعاء يرسب إليها ثفل
الغذاء ويبرز من أسفل البدن، فيستدل بهذا على أن له خالقا قادرا عليما حكيما، وهذا
معنى قوله تعالى:"
__________
(1). أي في قوله تعالى:" وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ" راجع ج 3
ص 192.
"
وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ" أشار إلى هذا الخطابي رحمه الله
تعالى. وسيأتي له مزيد بيان في سورة" والذاريات «1»" إن شاء الله تعالى.
وقد استدل بهذه الآية من قال: إن شريعة إبراهيم شريعة لنا إلا ما نسخ منها، وهذا
كقوله:" مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ «2»"،" أَنِ اتَّبِعْ
مِلَّةَ إِبْراهِيمَ «3»". وسيأتي بيانه. قوله تعالى:" وَلَقَدِ
اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا" أي اخترناه للرسالة فجعلناه صافيا من الأدناس
والأصل في" اصْطَفَيْناهُ" اصتفيناه، أبدلت التاء طاء لتناسبها «4» مع
الصاد في الاطباق. واللفظ مشتق من الصفوة، ومعناه تخير الاصفى. قوله تعالى:"
وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ" الصالح في الآخرة هو الفائز.
ثم قيل: كيف جاز تقديم" فِي الْآخِرَةِ" وهو داخل في الصلة، قال النحاس:
فالجواب أنه ليس التقدير إنه لمن الصالحين في الآخرة، فتكون الصلة قد تقدمت، ولأهل
العربية فيه ثلاثة أقوال: منها أن يكون المعنى وإنه صالح في الآخرة، ثم حذف.
وقيل:" فِي الْآخِرَةِ" متعلق بمصدر محذوف، أي صلاحه في الآخرة. والقول
الثالث: أن" الصَّالِحِينَ" ليس بمعنى الذين صلحوا، ولكنه اسم قائم
بنفسه، كما يقال الرجل والغلام. قلت: وقول رابع أن المعنى وإنه في عمل الآخرة لمن
الصالحين، فالكلام على حذف مضاف. وقال الحسين بن الفضل: في الكلام تقديم وتأخير،
مجازه ولقد اصطفيناه في الدنيا والآخرة وإنه لمن الصالحين. وروى حجاج بن حجاج- وهو
حجاج الأسود، وهو أيضا حجاج الأحول المعروف بزق العسل- قال: سمعت معاوية بن قرة
يقول: اللهم إن الصالحين أنت أصلحتهم ورزقتهم أن عملوا بطاعتك فرضيت عنهم، اللهم
كما أصلحتهم فأصلحنا، وكما رزقتهم أن عملوا بطاعتك فرضيت عنهم فارزقنا أن نعمل
بطاعتك، وأرض عنا.
__________
(1). راجع ج 17 ص 40.
(2). راجع ج 12 ص 101.
(3). راجع ج 10 ص 198.
(4). في أ:" لتشابهها ...".
إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131)
[سورة
البقرة (2): آية 131]
إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (131)
العامل في" إِذْ" قوله:" اصْطَفَيْناهُ" أي اصطفيناه إذ قال
له ربه أسلم. وكان هذا القول من الله تعالى حين ابتلاه بالكوكب والقمر والشمس. قال
ابن كيسان والكلبي: أي أخلص دينك لله بالتوحيد. وقيل: اخضع واخشع. وقال ابن عباس:
إنما قال له ذلك حين خرج من السرب «1»، على ما يأتي ذكره في" الانعام
«2»". والإسلام هنا على أتم وجوهه. والإسلام في كلام العرب: الخضوع والانقياد
للمستسلم. وليس كل إسلام إيمانا، وكل إيمان إسلام، لان من آمن بالله فقد استسلم
وانقاد لله. وليس كل من أسلم آمن بالله، لأنه قد يتكلم فزعا «3» من السيف، ولا
يكون ذلك إيمانا، خلافا للقدرية والخوارج حيث قالوا: إن الإسلام هو الايمان، فكل
مؤمن مسلم، وكل مسلم مؤمن، لقوله:" إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ
الْإِسْلامُ «4»" فدل على أن الإسلام هو الدين، وأن من ليس بمسلم فليس بمؤمن.
ودليلنا قوله تعالى:" قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا
وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا «5»" الآية. فأخبر الله تعالى أنه ليس كل من أسلم
مؤمنا، فدل على أنه ليس كل مسلم مؤمنا، وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لسعد بن أبي وقاص لما قال له: أعط فلانا فإنه مؤمن، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أو مسلم) الحديث، خرجه مسلم، فدل على أن الايمان ليس
الإسلام، فإن الايمان باطن، والإسلام ظاهر، وهذا بين. وقد يطلق الايمان بمعنى
الإسلام، والإسلام ويراد به الايمان، للزوم أحدهما الأخر وصدوره عنه، كالإسلام
الذي هو ثمرة الايمان ودلالة على صحته، فاعلمه. وبالله التوفيق.
[سورة البقرة (2): آية 132]
وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى
لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)
__________
(1). السرب (بالتحريك): الحفير، وبئت تحت الأرض.
(2). راجع 7 ص 24.
(3). في ج:" فرقا".
(4). راجع ج 4 ص 43.
(5). راجع ج 16 ص 348.
قوله
تعالى:" وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ" أي بالملة، وقيل: بالكلمة التي هي
قوله:" أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ" وهو أصوب، لأنه أقرب مذكور، أي
قولوا أسلمنا. ووصى وأوصى لغتان لقريش وغيرهم بمعنى، مثل كرمنا وأكرمنا، وقرى
بهما. وفي مصحف عبد الله" ووصى"، وفي مصحف عثمان" وأوصى" وهي
قراءة أهل المدينة والشام. الباقون" وَوَصَّى" وفية معنى التكثير."
وإِبْراهِيمُ" رفع بفعله،" وَيَعْقُوبُ" عطف عليه، وقيل: هو مقطوع
مستأنف، والمعنى: وأوصى يعقوب وقال يا بني إن الله اصطفى لكم الدين، فيكون إبراهيم
قد وصى بنيه، ثم وصى بعده يعقوب بنيه. وبنو إبراهيم: إسماعيل، وأمه هاجر القبطية،
وهو أكبر ولده، نقله إبراهيم إلى مكة وهو رضيع. وقيل: كان له سنتان، وقيل: كان له
أربع عشرة سنة، والأول أصح، على ما يأتي في سورة" إبراهيم «1»" بيانه إن
شاء الله تعالى: وولد قبل أخيه إسحاق بأربع عشرة سنة، ومات وله مائة وسبع وثلاثون
سنة. وقيل: مائة وثلاثون. وكان سنه لما مات أبوه إبراهيم عليهما السلام تسعا
وثمانين سنة. وهو الذبيح في قول. وإسحاق أمه سارة، وهو الذبيح في قول آخر، وهو
الأصح، على ما يأتي بيانه في سورة" والصافات «2»" إن شاء الله. ومن ولده
الروم واليونان والأرمن ومن يجري مجراهم وبنو إسرائيل. وعاش إسحاق مائة وثمانين
سنة، ومات بالأرض المقدسة ودفن عند أبيه إبراهيم الخليل عليهما السلام. ثم لما
توفيت سارة تزوج إبراهيم عليه السلام قنطورا بنت يقطن الكنعانية، فولدت له مدين
ومدائن ونهشان وزمران ونشيق وشيوخ «3»، ثم توفي عليه السلام. وكان بين وفاته وبين
مولد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نحو من ألفي سنة وستمائة سنة،
واليهود ينقصون من ذلك نحوا من أربعمائة سنة. وسيأتي ذكر أولاد يعقوب في سورة"
يوسف «4»" إن شاء الله تعالى. وقرا عمرو بن فائد الأسواري وإسماعيل بن عبد
الله المكي:" ويعقوب" بالنصب عطفا على
__________
(1). راجع ج 9 ص 368.
(2). راجع ج 15 ص 99.
(3). كذا وردت هذه الأسماء في نسخ الأصل. والذي في كتاب الرسل والملوك لابن جرير
الطبري قسم أول ص 345 طبع أوربا:" يقسان، وزمران، ومديان، ويسبق، وسوح،
وبسر". وفى تاريخ ابن الأثير ج 1 ص 87 طبع أوربا:" نفشان، ومران،
ومديان، ومدن، ونشق، وسرح".
(4). راجع ج 9 ص 130. [.....]
"
بَنِيهِ"، فيكون يعقوب داخلا فيمن أوصى. قال القشيري: وقرى" يعقوب"
بالنصب عطفا على" بَنِيهِ" وهو بعيد، لان يعقوب لم يكن فيما بين أولاد
إبراهيم لما وصاهم، ولم ينقل أن يعقوب أدرك جده إبراهيم، وإنما ولد بعد موت
إبراهيم، وأن «1» يعقوب أوصى بنيه أيضا كما فعل إبراهيم. وسيأتي تسمية أولاد يعقوب
إن شاء الله تعالى. قال الكلبي: لما دخل يعقوب إلى مصر رآهم يعبدون الأوثان
والنيران والبقر، فجمع ولده وخاف عليهم وقال: ما تعبدون من بعدي؟ ويقال: إنما سمي
يعقوب لأنه كان هو والعيص توأمين، فخرج من بطن أمه آخذا بعقب أخيه العيص. وفي ذلك
نظر، لان هذا اشتقاق عربي، ويعقوب اسم أعجمي، وإن كان قد وافق العربية في التسمية به
كذكر الخجل «2». عاش عليه السلام مائة وسبعا وأربعين سنة ومات بمصر، وأوصى أن يحمل
إلى الأرض المقدسة، ويدفن عند أبيه إسحاق، فحمله يوسف ودفنه عنده. قوله
تعالى:" يا بَنِيَّ" معناه أن يا بني، وكذلك هو في قراءة أبي وابن مسعود
والضحاك. قال الفراء: ألغيت أن لان التوصية كالقول، وكل كلام يرجع إلى القول جاز
فيه دخول أن وجاز فيه إلغاؤها. قال: وقول النحويين إنما أراد" أن"
فألغيت ليس بشيء. النحاس:" يا بَنِيَّ" نداء مضاف، وهذه ياء النفس لا
يجوز هنا إلا فتحها، لأنها لو سكنت لألتقي ساكنان، ومثله" بِمُصْرِخِيَّ
«3»"." إِنَّ اللَّهَ" كسرت" إن" لان أوصى وقال واحد.
وقيل: على إضمار القول." اصْطَفى " اختار. قال الراجز:
يا ابن ملوك ورثوا الأملاكا ... خلافة الله التي أعطاكا
لك اصطفاها ولها اصطفاكا
" لَكُمُ الدِّينَ" أي الإسلام، والألف واللام في" الدين"
للعهد، لأنهم قد كانوا عرفوه." فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ
مُسْلِمُونَ" إيجاز بليغ. والمعنى: الزموا الإسلام ودوموا عليه ولا تفارقوه
__________
(1). في أ، ب، ز:" بل إن".
(2). الحجل (بالتحريك): طائر على قدر الحمام كالقطا، أحمر المنقار والرجلين، ويسمى
دجاج البر. ويسمى الذكر منه يعقوب وجمعه يعاقب ويعاقيب.
(3). راجع ج 9 ص 357.
أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)
حتى،
تموتوا. فأتى بلفظ موجز يتضمن المقصود، ويتضمن وعظا وتذكيرا بالموت، وذلك أن المرء
يتحقق أنه يموت ولا يدري متى، فإذا أمر بأمر لا يأتيه الموت إلا وهو عليه، فقد
توجه الخطاب من وقت الامر دائبا لازما. و" لا" نهي" تموتن" في
موضع جزم بالنهي، أكد بالنون الثقيلة، وحذفت الواو لالتقاء الساكنين." إِلَّا
وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ" ابتداء وخبر في موضع الحال، أي محسنون بربكم الظن،
وقيل مخلصون، وقيل مفوضون، وقيل مؤمنون.
[سورة البقرة (2): آية 133]
أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما
تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ
وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)
قوله تعالى:" أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ"" شهداء" خبر كان، ولم
يصرف لان فيه ألف التأنيث، ودخلت لتأنيث الجماعة كما تدخل الهاء. والخطاب لليهود
والنصارى الذين ينسبون إلى إبراهيم ما لم يوص به بنيه، وأنهم على اليهودية
والنصرانية، فرد الله عليهم قولهم وكذبهم، وقال لهم على جهة التوبيخ: أشهدتم يعقوب
وعلمتم بما أوصى فتدعون عن علم، أي لم تشهدوا، بل أنتم تفترون!. و" أم"
بمعنى بل، أي بل أشهد أسلافكم يعقوب. والعامل في" إذ" الاولى معنى
الشهادة، و" إذ" الثانية بدل من الاولى. و" شهداء" جمع شاهد
أي حاضر. ومعنى" حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ" أي مقدماته وأسبابه، وإلا
فلو حضر الموت لما أمكن أن يقول شيئا. وعبر عن المعبود ب" ما" ولم يقل
من، لأنه أراد أن يختبرهم، ولو قال" من" لكان مقصوده أن ينظر من لهم
الاهتداء منهم، وإنما أراد تجربتهم فقال" ما". وأيضا فالمعبودات
المتعارفة من دون الله جمادات كالأوثان والنار والشمس والحجارة، فاستفهم عما
يعبدون من هذه. ومعنى" مِنْ بَعْدِي" أي من بعد موتي. وحكي أن يعقوب حين
خيركما تخير الأنبياء اختار الموت وقال: أمهلوني حتى أوصي بني وأهلي، فجمعهم وقال
لهم هذا، فاهتدوا وقالوا:" نَعْبُدُ إِلهَكَ" الآية. فأروه ثبوتهم على
الدين ومعرفتهم بالله تعالى.
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134)
قوله
تعالى:" قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ
وَإِسْحاقَ"" إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ" في موضع خفض
على البدل، ولم تنصرف لأنها أعجمية. قال الكسائي: وإن شئت صرفت" إسحاق"
وجعلته من السحق، وصرفت" يعقوب" وجعلته من الطير. وسمي الله كل واحد من
العم والجد أبا، وبدأ بذكر الجد ثم إسماعيل العم لأنه أكبر من إسحاق. و"
إِلهاً" بدل من" إِلهَكَ" بدل النكرة من المعرفة، وكرره لفائدة
الصفة بالوحدانية. وقيل:" إِلهاً" حال. قال ابن عطية: وهو قول حسن، لان
الغرض إثبات حال الوحدانية. وقرا الحسن ويحيى بن يعمر والجحدري وأبو رجاء
العطاردي" واله أبيك" وفية وجهان: أحدهما- أن يكون أفرد وأراد إبراهيم
وحده، وكره أن يجعل إسماعيل أبا لأنه عم. قال النحاس: وهذا لا يجب، لان العرب تسمي
العم أبا. الثاني- على مذهب سيبويه أن يكون" أبيك" جمع سلامة، حكى
سيبويه أب وأبون وأبين، كما قال الشاعر:
فقلنا أسلموا إن أخوكم «1»
وقال آخر:
فلما تبين أصواتنا ... بكين وفديننا بالأبينا «2»
قوله تعالى:" وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ" ابتداء وخبر، ويحتمل أن يكون
في موضع الحال، والعامل" نَعْبُدُ".
[سورة البقرة (2): آية 134]
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا
تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (134)
__________
(1). الشاهد فيه" أخوكم" فإنه جمع بالواو والنون وحذفت النون للإضافة
ليصح الاخبار به عن ضمير الجمع. وتمام البيت:
فقد سلمت من الإحن الصدور
وصف نساء سبين فوفد عليهن من قومهن من يفاديهن فبكين إليهم وفدينهم بآبائهن سرورا
بوفودهم عليهن. (عن شرح الشواهد).
(2). راجع خزانة الأدب في الشاهد الثامن والعشرين بعد الثلاثمائة.
وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)
قوله
تعالى:" تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ"" تِلْكَ" مبتدأ، و"
أُمَّةٌ" خبر،" قَدْ خَلَتْ" نعت لامة، وإن شئت كانت خبر المبتدأ،
وتكون" أُمَّةٌ" بدلا من" تِلْكَ"." لَها ما
كَسَبَتْ"" ما" في موضع رفع بالابتداء أو بالصفة على قول
الكوفيين." وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ" مثله، يريد من خير وشر. وفي هذا
دليل على أن العبد يضاف إليه أعمال وأكساب، وإن كان الله تعالى أقدره على ذلك، إن
كان خيرا فبفضله وإن كان شرا فبعدله، وهذا مذهب أهل السنة، والآي في القرآن بهذا
المعنى كثيرة. فالعبد مكتسب لأفعاله، على معنى أنه خلقت له قدرة مقارنة للفعل،
يدرك بها الفرق بين حركة الاختيار وحركة الرعشة مثلا، وذلك التمكن هو مناط
التكليف. وقالت الجبرية بنفي اكتساب العبد، وإنه كالنبات الذي تصرفه الرياح. وقالت
القدرية والمعتزلة خلاف هذين القولين، وإن العبد يخلق أفعاله. قوله تعالى:"
وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ" أي لا يؤاخذ أحد بذنب أحد، مثل
قوله تعالى:" وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى " أي لا تحمل حاملة ثقل
أخرى، وسيأتي «1».
[سورة البقرة (2): آية 135]
وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ
حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)
قوله تعالى:" وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا" دعت كل
فرقة إلى ما هي عليه، فرد الله تعالى ذلك عليهم فقال:" بَلْ مِلَّةَ" أي
قل يا محمد: بل نتبع ملة، فلهذا نصب الملة. وقيل: المعنى بل نهتدي بملة إبراهيم،
فلما حذف حرف الجر صار منصوبا. وقرأ الأعرج وابن أبي عبلة:" بل ملة"
بالرفع، والتقدير بل الهدى ملة، أو ملتنا دين إبراهيم. و" حَنِيفاً"
مائلا عن الأديان المكروهة إلى الحق دين إبراهيم، وهو في موضع نصب على الحال، قاله
الزجاج. أي بل نتبع ملة إبراهيم في هذه الحالة. وقال علي بن سليمان: هو منصوب على
أعني، والحال خطأ، لا يجوز جاءني غلام هند مسرعة. وسمي إبراهيم حنيفا لأنه
__________
(1). راجع ج 7 ص 157.
قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)
حنف
إلى دين الله وهو الإسلام. والحنف: الميل، ومنه رجل حنفاء، ورجل أحنف، وهو الذي
تميل قدماه كل واحدة منهما إلى أختها بأصابعها. قالت أم الأحنف:
والله لولا حنف برجله ... ما كان في فتيانكم من مثله
وقال الشاعر:
إذا حول الظل العشي رأيته ... حنيفا وفي قرن الضحى يتنصر
أي الحرباء تستقبل القبلة بالعشي، والمشرق بالغداة، وهو قبلة النصارى. وقال قوم:
الحنف الاستقامة، فسمي دين إبراهيم حنيفا لاستقامته. وسمي المعوج الرجلين أحنف
تفاؤلا بالاستقامة، كما قيل للديغ سليم، وللمهلكة مفازة، في قول أكثرهم.
[سورة البقرة (2): آية 136]
قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ
وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى
وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ
وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)
قوله تعالى:" قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ" خرج البخاري عن أبي هريرة رضي
الله عنه قال: كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل
الإسلام، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا تصدقوا أهل
الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنزل) الآية. وقال محمد بن سيرين: إذا
قيل لك أنت مؤمن؟ فقل:" آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما
أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ" الآية. وكره أكثر السلف
أن يقول الرجل: أنا مؤمن حقا، وسيأتي بيانه في" الأنفال «1»" إن شاء
الله تعالى. وسيل بعض المتقدمين عن رجل قيل له: أتؤمن بفلان النبي، فسماه باسم لم
يعرفه، فلو قال نعم، فلعله لم يكن نبيا، فقد شهد بالنبوة لغير نبي، ولو قال لا،
فلعله نبي، فقد جحد نبيا من الأنبياء، فكيف يصنع؟ فقال: ينبغي أن يقول: إن كان
نبيا فقد آمنت به. والخطاب في هذه الآية لهذه الامة، علمهم الايمان. قال ابن عباس:
جاء نفر من اليهود إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1). راجع ج 7 ص 763.
فسألوه
عمن يؤمن به من الأنبياء، فنزلت الآية. فلما جاء ذكر عيسى قالوا: لا نؤمن بعيسى
ولا من آمن به. قوله تعالى:" وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى
إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ" جمع
إبراهيم براهيم، وإسماعيل سماعيل، قاله الخليل وسيبويه، وقاله الكوفيون، وحكوا براهمة
وسماعلة، وحكوا براهم وسماعل. قال محمد بن يزيد: هذا غلط، لان الهمزة ليس هذا موضع
زيادتها، ولكن أقول: أباره وأسامع، ويجوز أباريه وأساميع. وأجاز أحمد بن يحيى
براه، كما يقال في التصغير بريه. وجمع إسحاق أساحيق، وحكى الكوفيون أساحقة وأساحق،
وكذا يعقوب ويعاقيب، ويعاقبه ويعاقب. قال النحاس: فأما إسرائيل فلا نعلم أحدا يجيز
حذف الهمزة من أوله، وإنما يقال أساريل، وحكى الكوفيون أسارلة وأسارل. والباب في
هذا كله أن يجمع مسلما فيقال: إبراهيمون وإسحاقون ويعقوبون، والمسلم لا عمل فيه.
والأسباط: ولد يعقوب عليه السلام، وهم اثنا عشر ولدا، ولد لكل واحد منهم أمة من
الناس، واحدهم سبط. والسبط في بني إسرائيل بمنزلة القبيلة في ولد إسماعيل. وسموا
الأسباط من السبط وهو التتابع، فهم جماعة متتابعون. وقيل: أصله من السبط
(بالتحريك) وهو الشجر، أي هم في الكثرة بمنزلة الشجر، الواحدة سبطة. قال أبو إسحاق
الزجاج: ويبين لك هذا ما حدثنا به محمد بن جعفر الأنباري قال حدثنا أبو نجيد «1»
الدقاق قال حدثنا الأسود بن عامر قال حدثنا إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس
قال: كل الأنبياء من بني إسرائيل إلا عشرة: نوحا وشعيبا وهودا وصالحا ولوطا
وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وإسماعيل ومحمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ولم
يكن أحد له اسمان إلا عيسى ويعقوب. والسبط: الجماعة والقبيلة الراجعون إلى أصل
واحد. وشعر سبط وسبط: غير جعد. لا نفرق بين أحد منهم" قال الفراء: أي لا نؤمن
ببعضهم ونكفر ببعضهم كما فعلت اليهود والنصارى.
__________
(1). كذا في ج وتفسير ابن كثير في هذا الموضع. وفى سائر الأصول:" أبو
مجيد" بالميم.
فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)
[سورة
البقرة (2): آية 137]
فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا
فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ
الْعَلِيمُ (137)
قوله تعالى:" فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا"
الخطاب لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأمته. المعنى: فإن آمنوا مثل
إيمانكم، وصدقوا مثل تصديقكم فقد اهتدوا، فالمماثلة وقعت بين الايمانين، وقيل «1»:
إن الباء زائدة مؤكدة. وكان ابن عباس يقرأ فيما حكى الطبري:" فإن آمنوا بالذي
آمنتم به فقد اهتدوا" وهذا هو معنى القراءة وإن خالف المصحف، ف"
مثل" زائدة كما هي في قوله:" لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ «2»" أي ليس
كهو شي. وقال الشاعر «3»:
فصيروا مثل كعصف مأكول
وروى بقية حدثنا شعبة عن أبي حمزة عن ابن عباس قال: لا تقولوا فإن آمنوا بمثل ما
آمنتم به فإن الله ليس له مثل، ولكن قولوا: بالذي آمنتم به. تابعه على بن نصر
الجهضيمي عن شعبة، ذكره البيهقي. والمعنى: أي فإن آمنوا بنبيكم وبعامة الأنبياء
ولم يفرقوا بينهم كما لم تفرقوا فقد اهتدوا، وإن أبوا إلا التفريق فهم الناكبون عن
الدين «4» إلى الشقاق" فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ". وحكى عن جماعة من
أهل النظر قالوا: ويحتمل أن تكون الكاف في قوله:" لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ" زائدة. قال: والذي روي عن ابن عباس من نهيه عن القراءة العامة شي ذهب
إليه للمبالغة في نقي التشبيه عن الله عز وجل. وقال ابن عطية: هذا من ابن عباس على
جهة التفسير، أي هكذا فليتأول. وقد قيل: إن الباء بمعنى على، والمعنى: فإن آمنوا
على مثل إيمانكم. وقيل:" مثل" على بابها أي بمثل المنزل، دليله
قوله:" وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ «5»"
وقوله:" وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ
«6»".
__________
(1). هذه الحملة من تمام القول الأول وليست قولا آخر كما يتبادر من السياق.
(2). راجع ج 16 ص 8
(3). هو حميد الأرقط، وصف قوما استؤصلوا فشبههم بالعصف الذي أكل حبه. والعصف
التبن. (عن شرح الشواهد).
(4). في ج:" عن التبيين". وفى ب، ز:" عن التدين".
(5). راجع ج 16 ص 13.
(6). راجع ج 13 ص 351. [.....]
قوله
تعالى:" وَإِنْ تَوَلَّوْا" أي عن الايمان" فَإِنَّما هُمْ فِي
شِقاقٍ" قال زيد بن أسلم: الشقاق المنازعة. وقيل: الشقاق المجادلة والمخالفة
والتعادي. وأصله من الشق وهو الجانب، فكأن كل واحد من الفريقين في شق غير شق
صاحبه. قال الشاعر:
إلى كم تقتل العلماء قسرا ... وتفجر بالشقاق وبالنفاق «1»
وقال آخر:
وإلا فاعلموا أنا وأنتم ... بغاة ما بقينا في شقاق
وقيل: إن الشقاق مأخوذ من فعل ما يشق ويصعب، فكأن كل واحد من الفريقين يحرص على ما
يشق على صاحبه. قوله تعالى:" فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ" أي فسيكفي الله
رسوله عدوه. فكان هذا وعدا من الله تعالى لنبيه عليه السلام أنه سيكفيه من عانده
ومن خالفه من المتولين بمن يهديه من المؤمنين، فأنجز له الوعد، وكان ذلك في قتل
بني قينقاع وبني قريظة وإجلاء بني النضير. والكاف والهاء والميم في موضع نصب
مفعولان. ويجوز في غير القرآن: فسيكفيك [إياهم «2»]. وهذا الحرف"
فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ" هو الذي وقع عليه دم عثمان حين قتل بإخبار النبي
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إياه بذلك. و" السَّمِيعُ" لقول كل
قائل" الْعَلِيمُ" بما ينفذه في عباده ويجريه عليهم. وحكي أن أبا دلامة
دخل على المنصور وعليه قلنسوة طويلة، ودراعة «3» مكتوب بين كتفيها"
فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ"، وسيف معلق في
وسطه، وكان المنصور قد أمر الجند بهذا الزي، فقال له: كيف حالك يا أبا دلامة؟ قال:
بشر يا أمير المؤمنين قال: وكيف ذاك؟ قال: ما ظنك برجل وجهه في وسطه، وسيفه في
استه، وقد نبذ كتاب الله وراء ظهره! فضحك المنصور منه، وأمر بتغيير ذلك الزي من
وقته.
__________
(1). في أ:" ... يقتل ... ويفجر ..." بالياء.
(2). زيادة من إعراب القرآن للنحاس.
(3). الدراعة والمدرع: جبة مشوقة المقدم.
صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138)
[سورة
البقرة (2): آية 138]
صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ
(138)
فيه مسألتان: الاولى- قوله تعالى:" صِبْغَةَ اللَّهِ" قال الأخفش وغيره:
دين الله، وهو بدل من" مِلَّةَ". وقال الكسائي: وهي منصوبة على تقدير
اتبعوا. أو على الإغراء أي ألزموا. ولو قرئت بالرفع لجاز، أي هي صبغة الله. وروى
شيبان عن قتادة قال: إن اليهود تصبغ أبناءهم يهودا، وإن النصارى تصبغ أبناءهم
نصارى، وإن صبغة الله الإسلام. قال الزجاج: ويدلك على هذا أن" صِبْغَةَ"
بدل من" مِلَّةَ". وقال مجاهد: أي فطرة الله التي فطر الناس عليها. قال
أبو إسحاق الزجاج: وقول مجاهد هذا يرجع إلى الإسلام، لان الفطرة ابتداء الخلق،
وابتداء ما خلقوا عليه الإسلام. وروي عن مجاهد والحسن وأبي العالية وقتادة: الصبغة
الدين. واصل ذلك أن النصارى كانوا يصبغون أولادهم في الماء، وهو الذي يسمونه
المعمودية، ويقولون: هذا تطهير لهم. وقال ابن عباس: هو أن النصارى كانوا إذا ولد
لهم ولد فأتى عليه سبعة أيام غمسوه في ماء لهم يقال له ماء المعمودية، فصبغوه بذلك
ليطهروه به مكان الختان، لان الختان تطهير، فإذا فعلوا ذلك قالوا: ألان صار
نصرانيا حقا، فرد الله تعالى ذلك عليهم بأن قال:" صِبْغَةَ اللَّهِ" أي
صبغة الله أحسن صبغة وهي الإسلام، فسمي الدين صبغة استعارة ومجازا من حيث تظهر أعماله
وسمته على المتدين، كما يظهر أثر الصبغ في الثوب. وقال بعض شعراء ملوك همدان:
وكل أناس لهم صبغة ... وصبغة همدان خير الصبغ
صبغنا على ذاك أبناءنا ... فأكرم بصبغتنا في الصبغ
وقيل: إن الصبغة الاغتسال لمن أراد الدخول في الإسلام، بدلا من معمودية النصارى،
ذكره الماوردي. قلت: وعلى هذا التأويل يكون غسل الكافر واجبا تعبدا، وهى المسألة:
قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139)
الثانية
لان معنى" صِبْغَةَ اللَّهِ" غسل الله، أي اغتسلوا عند إسلامكم الغسل
الذي أوجبه الله عليكم وبهذا المعنى جاءت السنة الثابتة في قيس بن عاصم وثمامة بن
أثال حين أسلما. روى أبو حاتم البستي في صحيح مسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن
ثمامة الحنفي «1» أسر فمر به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوما فأسلم،
فبعث به إلى حائط «2» أبي طلحة فأمره أن يغتسل فاغتسل وصلي ركعتين، فقال رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (حسن إسلام صاحبكم). وخرج أيضا عن قيس بن عاصم
أنه أسلم، فأمره النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يغتسل بماء وسدر.
ذكره النسائي وصححه أبو محمد عبد الحق. وقيل: إن القربة إلى الله تعالى يقال لها
صبغة، حكاه ابن فارس في المجمل. وقال الجوهري:" صِبْغَةَ اللَّهِ" دينه.
وقيل: إن الصبغة الختان، اختتن إبراهيم فجرت الصبغة على الختان لصبغهم الغلمان في
الماء، قاله الفراء. وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ
" ابتداء وخبر.
[سورة البقرة (2): آية 139]
قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا
وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139)
قال الحسن: كانت المحاجة أن قالوا: نحن أولى بالله منكم، لأنا أبناء الله وأحباؤه.
وقيل: لتقدم آبائنا وكتبنا، ولانا لم نعبد الأوثان. فمعنى الآية: قل لهم يا محمد،
أي قل لهؤلاء اليهود والنصارى الذين زعموا أنهم أبناء الله وأحباؤه وادعوا أنهم
أولى بالله منكم لقدم آبائهم وكتبهم:" أَتُحَاجُّونَنا" أي أتجاذبوننا
الحجة على دعواكم والرب واحد، وكل مجازى بعمله، فأي تأثير لقدم الدين. ومعنى"
فِي اللَّهِ" أي في دينه والقرب منه والحظوة له «3». وقراءة الجماعة:"
أَتُحَاجُّونَنا". وجاز اجتماع حرفين مثلين من جنس واحد متحركين، لان الثاني
كالمنفصل. وقرا ابن محصين" أتحاجونا" بالإدغام لاجتماع المثلين. قال
النحاس: وهذا
__________
(1). ثمامة الحنفي هو ثمامة بن أثال المتقدم.
(2). الحائط: البستان من النخل إذا كان عليه جدار.
(3). كذا في الأصول، ولعل صوابه:" والحظوة عنده".
أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140)
جائز
إلا أنه مخالف للسواد. ويجوز" أتحاجون" بحذف النون الثانية، كما قرأ
نافع" فبم تبشرون «1»" قوله تعالى:" وَنَحْنُ لَهُ
مُخْلِصُونَ" أي مخلصون العبادة، وفية معنى التوبيخ، أي ولم تخلصوا أنتم فكيف
تدعون ما نحن أولى به منكم!. والإخلاص حقيقته تصفية الفعل عن ملاحظة المخلوقين،
قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن الله تعالى يقول أنا خير شريك فمن
أشرك معي شريكا فهو لشريكي يا أيها الناس أخلصوا أعمالكم لله تعالى فإن الله تعالى
لا يقبل إلا ما خلص له ولا تقولوا هذا لله وللرحم فإنها للرحم وليس لله منها شي
ولا تقولوا هذا لله ولوجوهكم فإنها لوجوهكم وليس لله تعالى منها شي (. رواه الضحاك
بن قيس الفهري قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ... فذكره،
خرجه الدارقطني. وقال رويم: الإخلاص من العمل هو ألا يريد صاحبه عليه عوضا في
الدارين ولا حظا من الملكين. وقال الجنيد: الإخلاص سر بين العبد وبين الله، لا
يعلمه ملك فيكتبه، ولا شيطان فيفسده، ولا هوى فيميله. وذكر أبو القاسم القشيري
وغيره عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: (سألت جبريل عن
الإخلاص ما هو فقال سألت رب العزة عن الإخلاص ما هو قال سر من سري استودعته قلب من
أحببته من عبادي).
[سورة البقرة (2): آية 140]
أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ
وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ
بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140)
قوله تعالى:" أَمْ تَقُولُونَ" بمعنى قالوا «2». وقرا حمزة والكسائي
وعاصم في رواية حفص" تَقُولُونَ" بالتاء وهي قراءة حسنة، لان الكلام
متسق، كأن المعنى: أتحاجوننا في الله أم تقولون إن الأنبياء كانوا على دينكم، فهي
أم المتصلة، وهي على قراءة من قرأ بالياء منقطعة، فيكون
__________
(1). راجع ج 10 ص 35.
(2). هذا القول بأن" أم" منقطعة.
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141)
كلامين
وتكون" أم" بمعنى بل." هُوداً" خبر كان، وخبر" إن"
في الجملة. ويجوز في غير القرآن رفع" هُوداً" على خبر" إن"
وتكون كان ملغاة، ذكره النحاس. قوله تعالى: قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ
اللَّهُ" تقرير وتوبيخ في ادعائهم بأنهم كانوا هودا أو نصارى. فرد الله عليهم
بأنه أعلم بهم منكم، أي لم يكونوا هودا ولا نصارى. قوله تعالى:" وَمَنْ
أَظْلَمُ" لفظه الاستفهام، والمعنى: لا أحد أظلم." مِمَّنْ كَتَمَ
شَهادَةً" يريد علمهم بأن الأنبياء كانوا على الإسلام. وقيل: ما كتموه من صفة
محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قاله قتادة، والأول أشبه بسياق
الآية." وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ" وعيد وإعلام بأنه
لم يترك أمرهم سدى وأنه يجازيهم على أعمالهم. والغافل: الذي لا يفطن للأمور إهمالا
منه، مأخوذ من الأرض الغفل وهي التي لا علم بها ولا أثر عمارة. وناقة غفل: لا سمة
بها. ورجل غفل: لم يجرب الأمور. وقال الكسائي: أرض غفل لم تمطر. غفلت عن الشيء
غفلة وغفولا، وأغفلت الشيء: تركته على ذكر منك.
[سورة البقرة (2): آية 141]
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا
تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (141)
كررها لأنها تضمنت معنى التهديد والتخويف، أي إذا كان أولئك الأنبياء على إمامتهم
وفضلهم يجازون بكسبهم فأنتم أحرى، فوجب التأكيد، فلذلك كررها.
[سورة البقرة (2): آية 142]
سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي
كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى
صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (142)
فيه إحدى عشرة مسألة الاولى- قوله تعالى:" سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ
النَّاسِ" أعلم الله تعالى أنهم سيقولون في تحويل المؤمنين من الشام إلى
الكعبة، ما وَلَّاهُمْ. و" سَيَقُولُ" بمعنى قال، جعل المستقبل
موضع
الماضي، دلالة على استدامة ذلك وأنهم يستمرون على ذلك القول. وخص بقوله:"
مِنَ النَّاسِ" لان السفه يكون في جمادات وحيوانات. والمراد من"
السُّفَهاءُ" جميع من قال:" ما وَلَّاهُمْ". والسفهاء جمع، واحده
سفيه، وهو الخفيف العقل، من قولهم: ثوب سفيه إذا كان خفيف النسج، وقد تقدم «1».
والنساء سقائه. وقال المؤرج: السفيه البهات الكذاب المتعمد خلاف ما يعلم. قطرب:
الظلوم الجهول، والمراد بالسفهاء هنا اليهود الذين بالمدينة، قاله مجاهد. السدي:
المنافقون. الزجاج: كفار قريش لما أنكروا تحويل القبلة قالوا: قد اشتاق محمد إلى
مولده وعن قريب يرجع إلى دينكم، وقالت اليهود: قد التبس عليه أمره وتحير. وقال
المنافقون: ما ولاهم عن قبلتهم! واستهزءوا بالمسلمين. و" وَلَّاهُمْ"
يعني عدلهم وصرفهم. الثانية- روى الأئمة واللفظ لمالك عن ابن عمر قال: بينما الناس
بقباء «2» في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال: رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قد أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها، وكانت
وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة. وخرج البخاري عن البراء أن النبي صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا،
وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، وإنه صلى أول صلاة صلاها العصر «3» وصلي معه
قوم، فخرج رجل ممن كان صلى مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فمر على
أهل المسجد وهم راكعون فقال: أشهد بالله، لقد صليت مع النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل مكة، فداروا كما هم قبل البيت. وكان الذي مات على القبلة
قبل أن تحول قبل البيت رجال قتلوا لم ندر ما نقول فيهم، فأنزل الله عز وجل:"
وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ"، ففي هذه الرواية صلاة العصر، وفي
رواية مالك صلاة الصبح. وقيل: نزل ذلك على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
في مسجد بني سلمة وهو في صلاة الظهر بعد ركعتين منها فتحول في الصلاة، فسمي ذلك
__________
(1). يراجع ج 1 ص 205 طبعه ثانية.
(2). قباء (بالضم): قرية على ميلين من المدينة على يسار لقاصد إلى مكة بها أثر
بنيان كثير، وهناك مسجد التقوى. (عن معجم ياقوت).
(3). رواية البخاري كما في صحيحه:" وإنه صلى- أو صلاها- صلاة العصر
...".
المسجد
مسجد القبلتين. وذكر أبو الفرج أن عباد بن نهيك كان مع النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذه الصلاة. وذكر أبو عمر في التمهيد عن نويلة «1» بنت أسلم
وكانت من المبايعات، قالت: كنا في صلاة الظهر فأقبل عباد بن بشر بن قيظي فقال: إن
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد استقبل القبلة- أو قال: البيت
الحرام- فتحول الرجال مكان النساء، وتحول النساء مكان الرجال. وقيل: إن الآية نزلت
في غير صلاة، وهو الأكثر. وكان أول صلاة إلى الكعبة العصر، والله أعلم. وروى أن
أول من صلى إلى الكعبة حين صرفت القبلة عن بيت المقدس أبو سعيد بن المعلى، وذلك
أنه كان مجتازا على المسجد فسمع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخطب
الناس بتحويل القبلة على المنبر وهو يقرأ هذه الآية:" قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ
فِي السَّماءِ" حتى فرغ من الآية، فقلت لصاحبي: تعال نركع ركعتين قبل أن ينزل
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنكون أول من صلى فتوارينا نعما»
فصليناهما، ثم نزل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فصلى بالناس الظهر
يومئذ. قال أبو عمر: ليس لابي سعيد بن المعلى غير هذا الحديث، وحديث:" كنت
أصلى" في فضل الفاتحة، خرجه البخاري، وقد تقدم «3». الثالثة- واختلف في وقت
تحويل القبلة بعد قدومه المدينة، فقيل: حولت بعد ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا،
كما في البخاري. وخرجه الدارقطني عن البراء أيضا، قال: صلينا مع رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد قدومه المدينة ستة عشر شهرا نحو بيت المقدس، ثم
علم الله هوى نبيه فنزلت:" قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ"
الآية. ففي هذه الرواية ستة عشر شهرا من غير شك. وروى مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد
بن المسيب أن تحويلها كان قبل غزوة بدر بشهرين. قال إبراهيم بن إسحاق: وذلك في رجب
من سنة
__________
(1). في كتاب الاستيعاب والقاموس:" نوله" بالنون، وقال صاحب
القاموس:" أو هي كجهينة". وقد ذكرت في كتاب الإصابة مصغرة في حرفي التاء
والنون، وهى بالنون رواية إسحاق بن إدريس عن جعفر بن محمود، وبالتاء رواية إبراهيم
بن حمزة، قال صاحب الإصابة:" وهى أوثق".
(2). هذه الكلمة ساقطة من أ- والنعم- بفتحتين-: واحد الانعام، الإبل والشاء أو
الإبل خاصة، يذكر ويؤنث.
(3). يراجع ج 1 ص 108 طبعه ثانية. [.....]
اثنتين.
وقال أبو حاتم البستي: صلى المسلمون إلى بيت المقدس سبعة عشر شهرا وثلاثة أيام
سواء، وذلك أن قدومه المدينة كان يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع
الأول، وأمره الله عز وجل باستقبال الكعبة الثلاثاء للنصف من شعبان. الرابعة-
واختلف العلماء أيضا في كيفية استقباله بيت المقدس على ثلاثة أقوال، فقال الحسن:
كان ذلك منه عن رأي واجتهاد، وقاله «1» عكرمة وأبو العالية. الثاني- أنه كان مخيرا
بينه وبين الكعبة، فاختار القدس طمعا في إيمان اليهود واستمالتهم، قاله الطبري.
وقال الزجاج: امتحانا للمشركين لأنهم ألفوا الكعبة. الثالث- وهو الذي عليه
الجمهور: ابن عباس وغيره، وجب عليه استقباله بأمر الله تعالى ووحيه لا محالة، ثم
نسخ الله ذلك وأمره الله أن يستقبل بصلاته الكعبة، واستدلوا بقوله تعالى:"
وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ
يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ" الآية. الخامسة-
واختلفوا أيضا حين فرضت عليه الصلاة أولا بمكة، هل كانت إلى بيت المقدس أو إلى
مكة، على قولين، فقالت طائفة: إلى بيت المقدس وبالمدينة سبعة عشر شهرا، ثم صرفه
الله تعالى إلى الكعبة، قاله ابن عباس. وقال آخرون: أول ما افترضت الصلاة عليه إلى
الكعبة، ولم يزل يصلي إليها طول مقامه بمكة على ما كانت عليه صلاة إبراهيم
وإسماعيل، فلما قدم المدينة صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا،
على الخلاف، ثم صرفه الله إلى الكعبة. قال أبو عمر: وهذا أصح القولين عندي. قال
غيره: وذلك أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما قدم المدينة أراد أن
يستألف اليهود فتوجه [إلى ] قبلتهم ليكون ذلك أدعى لهم، فلما تبين عنادهم وأيس
منهم أحب أن يحول إلى الكعبة فكان ينظر إلى السماء، وكانت محبته إلى الكعبة لأنها
قبلة إبراهيم، عن ابن عباس. وقيل: لأنها كانت أدعى للعرب إلى الإسلام، وقيل:
مخالفة لليهود، عن مجاهد. وروي عن أبي العالية
__________
(1). في الأصول:" وقال".
الرياحي
أنه قال: كانت «1» مسجد صالح عليه السلام وقبلته إلى الكعبة، قال: وكان موسى عليه
السلام يصلي إلى الصخرة نحو الكعبة، وهي قبلة الأنبياء كلهم، صلوات الله عليهم
أجمعين. السادسة- في هذه الآية دليل واضح على أن في أحكام الله تعالى وكتابه ناسخا
ومنسوخا، وأجمعت عليه الامة إلا من شذ، كما تقدم «2». وأجمع العلماء على أن القبلة
أول ما نسخ من القرآن، وأنها نسخت مرتين، على أحد القولين المذكورين في المسألة
قبل. السابعة- ودلت أيضا على جواز نسخ السنة بالقرآن، وذلك أن النبي صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى نحو بيت المقدس، وليس في ذلك قرآن، فلم يكن الحكم
إلا من جهة السنة ثم نسخ ذلك بالقرآن، وعلى هذا يكون:" كُنْتَ عَلَيْها"
بمعنى أنت عليها. الثامنة- وفيها دليل على جواز القطع بخبر الواحد، وذلك أن
استقبال بيت المقدس كان مقطوعا به من الشريعة عندهم، ثم أن أهل قباء لما أتاهم
الأتي وأخبرهم أن القبلة قد حولت إلى المسجد الحرام قبلوا قوله واستداروا نحو
الكعبة، فتركوا المتواتر بخبر الواحد وهو مظنون. وقد اختلف العلماء في جوازه عقلا
ووقوعه، فقال أبو حاتم: والمختار جواز ذلك عقلا لو تعبد الشرع به، ووقوعا في زمن
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بدليل قصة قباء، وبدليل أنه كان عليه
السلام ينفذ آحاد الولاة إلى الاطراف وكانوا يبلغون الناسخ والمنسوخ جميعا. ولكن
ذلك ممنوع بعد وفاته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بدليل الإجماع من الصحابة
على أن القرآن والمتواتر المعلوم لا يرفع بخبر الواحد، فلا ذاهب إلى تجويزه من
السلف والخلف. احتج من منع ذلك بأنه يفضي إلى المحال وهو رفع المقطوع بالمظنون.
وأما قصة أهل قباء
__________
(1). العبارة هنا غبر واضحة. والذي في تفسير الطبري (ج 2 ص 21 طبع بولاق):"
... قال الربيع: إن يهوديا خاصم أبا العالية فقال: إن موسى عليه السلام كان يصلى
إلى صخرة بيت المقدس، فقال أبو العالية: كان يصلى عند الصخرة إلى البيت الحرام،
قال قال: فبيني وبينك مسجد صالح فإنه تحته من الجبل، قال أبو العالية: قد صليت فيه
وقبلته إلى البيت الحرام، قال الربيع: وأخبرني أبو العالية أنه مر على مسجد ذى
القرنين وقبلته إلى الكعبة".
(2). عند قوله تعالى:" ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها" ص 61 من
هذا الجزء.
وولاة
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فمحمول على قرائن إفادة العلم إما نقلا
وتحقيقا، وإما احتمالا وتقديرا. وتتميم هذا سؤالا وجوابا في أصول الفقه. التاسعة-
وفيها دليل على أن من لم يبلغه الناسخ إنه متعبد بالحكم الأول، خلافا لمن قال: إن
الحكم الأول يرتفع بوجود الناسخ لا بالعلم به، والأول أصح، لان أهل قباء لم يزالوا
يصلون إلى بيت المقدس إلى أن أتاهم الأتي فأخبرهم بالناسخ فمالوا نحو الكعبة.
فالناسخ إذا حصل في الوجود فهو رافع لا محالة لكن بشرط العلم به، لان الناسخ خطاب،
ولا يكون خطابا في حق من لم يبلغه. وفائدة هذا الخلاف في عبادات فعلت بعد النسخ
وقبل البلاغ هل تعاد أم لا، وعليه تنبي مسألة الوكيل في تصرفه بعد عزل موكله أو
موته وقبل علمه بذلك على قولين. وكذلك المقارض «1»، والحاكم إذا مات من ولاه أو
عزل. والصحيح أن ما فعله كل واحد من هؤلاء ينفذ فعله ولا يرد حكمه. قال القاضي
عياض: ولم يختلف المذهب في أحكام من أعتق ولم يعلم بعتقه أنها أحكام حر فيما بينه
وبين الناس، وأما بينه وبين الله تعالى فجائزة. ولم يختلفوا في المعتقة أنها لا
تعيد ما صلت بعد عتقها وقبل علمها بغير ستر، وإنما اختلفوا فيمن يطرأ عليه موجب
بغير حكم عبادته وهو فيها، قياسا على مسألة قباء، فمن صلى على حال ثم تغيرت به
حاله تلك قبل أن يتم صلاته إنه يتمها ولا يقطعها ويجزيه ما مضى. وكذلك كمن صلى
عريانا ثم وجد ثوبا في الصلاة، أو ابتدأ صلاته صحيحا فمرض، أو مريضا فصح، أو قاعدا
ثم قدر على القيام، أو أمة عتقت وهي في الصلاة إنها تأخذ قناعها وتبني. قلت: وكمن
دخل في الصلاة بالتيمم فطرأ عليه الماء إنه لا يقطع، كما يقوله مالك والشافعي-
رحمهما الله- وغيرهما. وقيل: يقطع، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى، وسيأتي.
العاشرة- وفيها دليل على قبول خبر الواحد، وهو مجمع عليه من السلف معلوم بالتواتر
من عادة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في توجيهه ولأنه ورسله آحادا
للافاق، ليعلموا الناس دينهم فيبلغوهم سنة رسولهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ من الأوامر والنواهي.
__________
(1). القراض (بكسر القاف) عند المالكية هو ما يسمى بالمضاربة عند الحنفية، وهو
إعطاء المقارص (بكسر الراء وهو رب المال) المقارض (بفتح الراء وهو العامل) مالا
ليتجر به على أن يكون له جزء معلوم من الربح.
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)
الحادية
عشرة- وفيها دليل على أن القرآن كان ينزل على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ شيئا بعد شي وفي حال بعد حال، على حسب الحاجة إليه، حتى أكمل الله دينه،
كما قال:" الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ «1»". قوله
تعالى:" قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ" أقامه حجة، أي له ملك
المشارق والمغارب وما بينهما، فله أن يأمر بالتوجه إلى أي جهة شاء، وقد تقدم. قوله
تعالى:" يَهْدِي مَنْ يَشاءُ" إشارة إلى هداية الله تعالى هذه الامة إلى
قبلة إبراهيم، والله تعالى أعلم. والصراط. الطريق. والمستقيم: الذي لا اعوجاج فيه،
وقد تقدم «2».
[سورة البقرة (2): آية 143]
وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ
وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي
كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ
عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ
وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ
رَحِيمٌ (143)
فيه أربع مسائل: الاولى قوله تعالى:" وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً
وَسَطاً" المعنى: وكما أن الكعبة وسط الأرض كذلك جعلناكم أمة وسطا، أي
جعلناكم دون الأنبياء وفوق الأمم. والوسط: العدل، واصل هذا أن أحمد الأشياء
أوسطها. وروى الترمذي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ في قوله تعالى:" وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً"
قال: (عدلا). قال: هذا حديث حسن صحيح. وفي التنزيل:" قالَ أَوْسَطُهُمْ
«3»" أي أعدلهم وخيرهم. وقال زهير:
هم وسط يرضى الأنام بحكمهم ... إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم
__________
(1). راجع ج 6 ص 16.
(2). ج 1 ص 147.
(3). ج 18 ص 244.
آخر:
أنتم أوسط حي علموا ... بصغير الامر أو إحدى الكبر
وقال آخر:
لا تذهبن في الأمور فرطا ... لا تسألن إن سألت شططا
وكن من الناس جميعا وسطا
ووسط الوادي: خير موضع فيه وأكثره كلا وماء. ولما كان الوسط مجانبا للغلق والتقصير
كان محمودا، أي هذه الامة لم تغل غلو النصارى في أنبيائهم، ولا قصروا تقصير اليهود
في أنبيائهم. وفي الحديث: (خير الأمور أوسطها). وفية عن علي رضي الله عنه:"
عليكم «1» بالنمط الأوسط، فإليه ينزل العالي، وإليه يرتفع النازل". وفلان من
أوسط قومه، وإنه لواسطة قومه، ووسط قومه، أي من خيارهم وأهل الحسب منهم. وقد وسط
وساطة وسطة، وليس من الوسط الذي بين شيئين في شي. والوسط (بسكون السين) الظرف،
تقول: صليت وسط القوم. وجلست وسط الدار (بالتحريك) لأنه اسم. قال الجوهري: وكل
موضع صلح فيه" بين" فهو وسط، وإن لم يصلح فيه" بين" فهو وسط
بالتحريك، وربما يسكن وليس بالوجه. الثانية- قوله تعالى:" لِتَكُونُوا"
نصب بلام كي، أي لان تكونوا." شُهَداءَ" خبر كان." عَلَى
النَّاسِ" أي في المحشر للأنبياء على أممهم، كما ثبت في صحيح البخاري عن أبي
سعيد الخدري قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يدعي نوح عليه
السلام يوم القيامة فيقول لبيك وسعديك يا رب فيقول هل بلغت فيقول نعم فيقال لامته
هل بلغكم فيقولون ما أتانا من نذير فيقول من يشهد لك فيقول محمد وأمته فيشهدون أنه
قد بلغ ويكون الرسول عليكم شهيدا فذلك قوله عز وجل وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً
وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ
شَهِيداً ... (. وذكر هذا الحديث مطولا ابن المبارك بمعناه،
__________
(1). في اللسان والنهاية:" ... خير هذه الامة النمط الأوسط، يلحق بهم التالي،
ويرجع إليهم الغالي" والنمط: جماعة من الناس أمرهم واحد. وقيل: هو الطريقة.
وفية:
(فتقول تلك الأمم كيف يشهد علينا من لم يدركنا فيقول لهم الرب سبحانه كيف تشهدون
على من لم تدركوا فيقولون ربنا بعثت إلينا رسولا وأنزلت إلينا عهدك وكتابك وقصصت
علينا أنهم قد بلغوا فشهدنا بما عهدت إلينا فيقول الرب صدقوا فذلك قوله عز وجل
وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً- والوسط العدل- لتكونوا شهداء على الناس
ويكون الرسول عليكم شهيدا (. قال ابن أنعم: فبلغني أنه يشهد يومئذ أمة محمد عليه
السلام، إلا من كان في قلبه جنة «1» على أخيه. وقالت طائفة: معنى الآية يشهد بعضكم
على بعض بعد الموت، كما ثبت في صحيح مسلم عن أنس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أنه قال حين مرت به جنازة فأثنى عليها خير فقال: (وجبت وجبت وجبت). ثم
مر عليه بأخرى فأثنى عليها شر فقال: (وجبت وجبت وجبت). فقال عمر: فدى لك أبي وأمي،
مر بجنازة فأثني عليها خير فقلت: (وجبت وجبت وجبت) ومر بجنازة فأثني عليها شر
فقلت: (وجبت وجبت وجبت)؟ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (من
أثنيتم عليه خيرا وجبت له الجنة ومن أثنيتم عليه شرا وجبت له النار أنتم شهداء
الله في الأرض أنتم شهداء الله في الأرض أنتم شهداء الله في الأرض (. أخرجه
البخاري بمعناه. وفي بعض طرقه في غير الصحيحين وتلا:" لِتَكُونُوا شُهَداءَ
عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً". وروى أبان وليث
عن شهر بن حوشب عن عبادة بن الصامت قال سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يقول: (أعطيت أمتي ثلاثا لم تعط إلا الأنبياء كان الله إذا بعث نبيا قال
له ادعني أستجب لك وقال لهذه الامة ادعوني أستجب لكم وكان الله إذا بعث النبي قال
له ما جعل عليك في الدين من حرج وقال لهذه الامة وما جعل عليكم في الدين من حرج
وكان الله إذا بعث النبي جعله شهيدا على قومه وجعل هذه الامة شهداء على الناس (.
خرجه الترمذي الحكيم أبو عبد الله في" نوادر الأصول". الثالثة- قال
علماؤنا: أنبأنا ربنا تبارك وتعالى في كتابه بما أنعم علينا من تفضيله لنا باسم
العدالة وتولية خطير الشهادة على جميع خلقه، فجعلنا أولا مكانا وإن كنا آخرا
زمانا، كما قال
__________
(1). الحنة (بكسر الحاء): العداوة، وهى لغة قليلة في الإحنة.
عليه
السلام: (نحن الآخرون الأولون). وهذا دليل على أنه لا يشهد إلا العدول، ولا ينفذ
قول الغير على الغير إلا أن يكون عدلا. وسيأتي بيان العدالة وحكمها في آخر السورة
«1» إن شاء الله تعالى. الرابعة- وفية دليل على صحة الإجماع ووجوب الحكم به، لأنهم
إذا كانوا عدولا شهدوا على الناس. فكل عصر شهيد على من بعده، فقول الصحابة حجة
وشاهد على التابعين، وقول التابعين على من بعدهم. وإذ جعلت الامة شهداء فقد وجب
قبول قولهم. ولا معنى لقول من قال: أريد به جميع الامة، لأنه حينئذ لا يثبت مجمع
عليه إلى قيام الساعة. وبيان هذا في كتب أصول الفقه. قوله تعالى:" وَيَكُونَ
الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً" قيل: معناه بأعمالكم يوم القيامة.
وقيل:" عَلَيْكُمْ" بمعنى لكم، أي يشهد لكم بالايمان. وقيل: أي يشهد
عليكم بالتبليغ لكم. قوله تعالى:" وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ
عَلَيْها" قيل: المراد بالقبلة هنا القبلة الاولى، لقوله" كُنْتَ
عَلَيْها". وقيل: الثانية، فتكون الكاف زائدة، أي أنت ألان عليها، كما تقدم، وكما
قال:" كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ" أي أنتم، في قول
بعضهم، وسيأتي «2». قوله تعالى: إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ
الرَّسُولَ" قال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: معنى"
لِنَعْلَمَ" لنرى. والعرب تضع العلم مكان الرؤية، والرؤية مكان العلم، كقوله
تعالى:" أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ «3»" بمعنى ألم تعلم. وقيل:
المعنى إلا لتعلموا أننا نعلم، فإن المنافقين كانوا في شك من علم الله تعالى
بالأشياء قبل كونها. وقيل: المعنى لنميز أهل اليقين من أهل الشك، حكاه ابن فورك،
وذكره الطبري عن ابن عباس. وقيل: المعنى إلا ليعلم النبي وأتباعه، وأخبر تعالى
بذلك عن نفسه، كما يقال: فعل الأمير كذا، وإنما فعله أتباعه، ذكره المهدوي وهو
جيد. وقيل: معناه ليعلم محمد، فأضاف علمه إلى نفسه تعالى تخصيصا وتفضيلا، كما كنى
عن نفسه سبحانه في قوله: (يا ابن آدم مرضت «4» فلم تعدني)
__________
(1). راجع ج 3 ص 383.
(2). راجع ج 4 ص 170.
(3). راجع ج 20 ص 44.
(4). أضاف المرض إليه سبحانه وتعالى والمراد العبد تشريفا للعبد وتقريبا له. وفى
الحديث:" قال يا رب وكيف أعودك وأنت رب العالمين قال أما علمت أن عبدى فلانا
مرض فلم تعده أما علمت أنك وعدته لوجدتني عنده ...". راجع صحيح مسلم"
فضل عيادة المريض".
الحديث.
والأول أظهر، وأن معناه علم المعاينة الذي يوجب الجزاء، وهو سبحانه عالم الغيب
والشهادة، علم ما يكون قبل أن يكون، تختلف الأحوال على المعلومات وعلمه لا يختلف
بل يتعلق بالكل تعلقا واحدا. وهكذا كل ما ورد في الكتاب من هذا المعنى من قوله
تعالى:" وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ
شُهَداءَ «1»"،" وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ
مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ «2»" وما أشبه. والآية جواب لقريش في قولهم:" ما
وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها" وكانت قريش تألف
الكعبة، فأراد الله عز وجل أن يمتحنهم بغير ما ألفوه ليظهر من يتبع الرسول ممن لا
يتبعه. وقرا الزهري" إلا ليعلم" ف" من" في موضع رفع على هذه
القراءة، لأنها اسم ما لم يسم فاعله. وعلى قراءة الجماعة في موضع نصب على المفعول."
يَتَّبِعُ الرَّسُولَ" يعني فيما أمر به من استقبال الكعبة." مِمَّنْ
يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ" يعني ممن يرتد عن دينه، لان القبلة لما حولت
ارتد من المسلمين قوم ونافق قوم. ولهذا قال:" وَإِنْ كانَتْ
لَكَبِيرَةً" أي تحويلها، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة. والتقدير في العربية:
وإن كانت التحويلة. قوله تعالى:" وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً" ذهب الفراء
إلى أن" إن" واللام بمعنى ما وإلا، والبصريون يقولون: هي إن الثقيلة
خففت. وقال الأخفش: أي وإن كانت القبلة أو التحويلة أو التولية لكبيرة." إِلَّا
عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ" أي خلق الهدى الذي هو الايمان في قلوبهم، كما
قال تعالى:" أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ «3»". قوله
تعالى:" وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ" اتفق العلماء على
أنها نزلت فيمن مات وهو يصلي إلى بيت المقدس، كما ثبت في البخاري من حديث البراء
بن عازب، على ما تقدم «4». وخرج الترمذي عن ابن عباس قال: لما وجه النبي صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الكعبة قالوا: يا رسول الله، كيف بإخواننا الذين
ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله تعالى:" وَما كانَ اللَّهُ
لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ" الآية، قال: هذا حديث حسن صحيح. فسمى الصلاة إيمانا
لاشتمالها على نية وقول وعمل. وقال مالك: إني لأذكر بهذه الآية قول المرجئة: إن
الصلاة ليست من الايمان. وقال محمد بن إسحاق:" وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ
إِيمانَكُمْ" أي
__________
(1). راجع ج 4 ص 218. [.....]
(2). راجع ج 16 ص 253.
(3). راجع ج 17 ص 308.
(4). راجع ص 148 من هذا الجزء.
قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)
بالتوجه
إلى القبلة وتصديقكم لنبيكم، وعلى هذا معظم المسلمين والأصوليين. وروى ابن وهب
وابن القاسم وابن عبد الحكم وأشهب عن مالك" وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ
إِيمانَكُمْ" قال: صلاتكم. قوله تعالى:" إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ
لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ" الرأفة أشد من الرحمة. وقال أبو عمرو بن العلاء: الرأفة
أكثر من الرحمة، والمعنى متقارب. وقد أتينا على لغته وأشعاره ومعانيه في
الكتاب" الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى" فلينظر هناك. وقرا الكوفيون
وأبو عمرو" لرؤف" على وزن فعل، وهي لغة بني أسد، ومنه قول الوليد بن
عقبة:
وشر الطالبين فلا تكنه ... يقاتل عمه الرءوف الرحيم
وحكى الكسائي أن لغة بني أسد" لرأف"، على فعل. وقرا أبو جعفر بن
القعقاع" لرؤف" مثقلا بغير همز، وكذلك سهل كل همزة في كتاب الله تعالى،
ساكنة كانت أو متحركة.
[سورة البقرة (2): آية 144]
قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها
فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ
شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ
مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)
قال العلماء: هذه الآية مقدمة في النزول على قوله تعالى:" سَيَقُولُ
السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ". ومعنى" تَقَلُّبَ وَجْهِكَ": تحول
وجهك إلى السماء، قاله الطبري. الزجاج: تقلب عينيك في النظر إلى السماء، والمعنى
متقارب. وخص السماء بالذكر إذ هي مختصة بتعظيم ما أضيف إليها ويعود منها كالمطر
والرحمة والوحي. ومعنى" تَرْضاها" تحبها. قال السدي: كان إذا صلى نحو
بيت المقدس رفع رأسه إلى السماء ينظر ما يؤمر به، وكان يحب أن يصلي إلى قبل الكعبة
فأنزل الله تعالى:" قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ". وروى
أبو إسحاق عن البراء قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى
نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا، وقد كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحب أن يوجه نحو الكعبة، فأنزل الله تعالى:" قَدْ نَرى
تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ". وقد تقدم هذا المعنى والقول فيه، والحمد
لله.
قوله
تعالى:" فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ" فيه خمس مسائل:
الاولى- قوله تعالى:" فَوَلِّ" أمر" وَجْهَكَ شَطْرَ" أي
ناحية" الْمَسْجِدِ الْحَرامِ" يعني الكعبة، ولا خلاف في هذا. قيل: حيال
البيت كله، عن ابن عباس. وقال ابن عمر: حيال الميزاب من الكعبة، قاله ابن عطية.
والميزاب: هو قبلة المدينة وأهل الشام، وهناك قبلة أهل الأندلس. قلت: قد روى ابن
جريج عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قال: (البيت قبلة لأهل المسجد والمسجد قبلة لأهل الحرم والحرم قبلة لأهل
الأرض في مشارقها ومغاربها من أمتي). الثانية- قوله تعالى:" شَطْرَ الْمَسْجِدِ
الْحَرامِ" الشطر له محامل: يكون الناحية والجهة، كما في هذه الآية، وهو ظرف
مكان، كما تقول: تلقاءه وجهته. وانتصب الظرف لأنه فضلة بمنزلة المفعول [به «1»]،
وأيضا فإن الفعل واقع فيه. وقال داود بن أبي هند: إن في حرف ابن مسعود" فول
وجهك تلقاء المسجد الحرام". وقال الشاعر «2»:
أقول لأمّ زنباع أقيمي ... صدور العيس شطر بني تميم
وقال آخر:
وقد أظلكم من شطر ثغركم ... هول له ظلم يغشاكم قطعا
وقال آخر:
ألا من مبلغ عمرا رسولا ... وما تغني الرسالة شطر عمرو
وشطر الشيء: نصفه، ومنه الحديث: (الطهور شطر الايمان). ويكون من الأضداد، يقال:
شطر إلى كذا إذا أقبل نحوه، وشطر عن كذا إذا أبعد منه وأعرض عنه. فأما الشاطر من
الرجال فلانه قد أخذ في نحو غير الاستواء، وهو الذي أعيا أهله خبثا، وقد شطر وشطر
(بالضم) شطارة فيهما. وسيل بعضهم عن الشاطر، فقال: هو من أخذ في البعد عما نهى
الله عنه.
__________
(1). التكملة عن إعراب القرآن للنحاس.
(2). هو أبو زنباع الجذامي، (عن اللسان).
الثانية-
لا خلاف بين العلماء أن الكعبة قبلة في كل أفق، وأجمعوا على أن من شاهدها وعاينها
فرض عليه استقبالها، وأنه إن ترك استقبالها وهو معاين لها وعالم بجهتها فلا صلاة له،
وعليه إعادة كل ما صلى ذكره أبو عمر. وأجمعوا على أن كل من غاب عنها أن يستقبل
ناحيتها وشطرها وتلقاءها، فإن خفيت عليه فعليه أن يستدل على ذلك بكل ما يمكنه من
النجوم والرياح والجبال وغير ذلك مما يمكن أن يستدل به على ناحيتها. ومن جلس في
المسجد الحرام فليكن وجهه إلى الكعبة وينظر إليها إيمانا واحتسابا، فإنه يروى أن
النظر إلى الكعبة عبادة، قاله عطاء ومجاهد. الرابعة- واختلفوا هل فرض الغائب
استقبال العين أو الجهة، فمنهم من قال بالأول. قال ابن العربي: وهو ضعيف، لأنه
تكليف لما لا يصل «1» إليه. ومنهم من قال بالجهة، وهو الصحيح لثلاثة أوجه: الأول-
أنه الممكن الذي يرتبط به التكليف. الثاني- أنه المأمور به في القرآن، لقوله
تعالى:" فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما
كُنْتُمْ" يعني من الأرض من شرق أو غرب" فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ".
الثالث- أن العلماء احتجوا بالصف الطويل الذي يعلم قطعا أنه أضعاف عرض البيت.
الخامسة- في هذه الآية حجة واضحة لما ذهب إليه مالك ومن وافقه في أن المصلي حكمه
أن ينظر أمامه لا إلى موضع سجوده. وقال الثوري وأبو حنيفة والشافعي والحسن بن حي.
يستحب أن يكون نظره إلى موضع سجوده. وقال شريك القاضي: ينظر في القيام إلى موضع
السجود، وفي الركوع إلى موضع قدميه، وفي السجود إلى موضع أنفه، وفي القعود إلى
حجره. قال ابن العربي: إنما ينظر أمامه فإنه إن حنى رأسه ذهب بعض القيام المفترض
عليه في الرأس وهو أشرف الأعضاء، وإن أقام رأسه وتكلف النظر ببصره إلى الأرض فتلك
مشقة عظيمة وحرج. وما جعل علينا في الدين من حرج، أما إن ذلك أفضل لمن قدر عليه.
__________
(1). كذا في كتاب الأحكام لابن العربي. وفى الأصول:" ما لا يوصل إليه".
وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)
قوله
تعالى:" وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ" يريد اليهود
والنصارى" لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ" يعني تحويل
القبلة من بيت المقدس. فإن قيل: كيف يعلمون ذلك وليس من دينهم ولا في كتابهم؟ قيل
عنه جوابان: أحدهما- أنهم لما علموا من كتابهم أن محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ نبي علموا أنه لا يقول إلا الحق ولا يأمر إلا به. الثاني- أنهم علموا من
دينهم جواز النسخ وإن جحده بعضهم، فصاروا عالمين بجواز القبلة. قوله تعالى:"
وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ" تقدم «1» معناه. وقراء ابن عامر
وحمزة والكسائي" تعملون" بالتاء على مخاطبة أهل الكتاب أو أمة محمد
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وعلى الوجهين فهو إعلام بأن الله تعالى لا
يهمل «2» أعمال العباد ولا يغفل عنها، ضمنه الوعيد. وقرأ الباقون بالياء من تحت.
[سورة البقرة (2): آية 145]
وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا
قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ
بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ
إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)
قوله تعالى:" وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ
ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ" لأنهم كفروا وقد تبين لهم الحق، وليس تنفعهم الآيات،
أي العلامات. وجمع قبلة في التكسير: قبل. وفي التسليم: قبلات. ويجوز أن تبدل من
الكسرة فتحة، فتقول قبلات. ويجوز أن تحذف الكسرة وتسكن الباء فتقول قبلات. وأجيبت"
لئن" بجواب" لو" وهي ضدها في أن" لو" تطلب في جوابها
المضي والوقوع، و" لئن" تطلب الاستقبال، فقال الفراء والأخفش: أجيبت
بجواب" لو" لان المعنى: ولو أتيت. وكذلك تجاب" لو"
بجواب" لئن"، تقول: لو أحسنت أحسن إليك، ومثله قوله تعالى:"
وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا «3»" أي ولو
أرسلنا ريحا. وخالفهما سيبويه فقال: إن معنى" لئن" مخالف
__________
(1). راجع ج 1 ص 466.
(2). ف ب:" بأن الله تعالى يعلم أعمال ...".
(3). راجع ج 14 ص 45.
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146)
لمعنى"
لو" فلا يدخل واحد منهما على الأخر، فالمعنى: ولين أتيت الذين أوتوا الكتاب
بكل آية لا يتبعون قبلتك. قال سيبويه: ومعنى" وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً
فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا" ليظلن. قوله تعالى:" وَما أَنْتَ
بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ" لفظ خبر ويتضمن الامر، أي فلا تركن إلى شي من ذلك. ثم
أخبر تعالى أن اليهود ليست متبعة قبلة النصارى ولا النصارى متبعة قبلة اليهود، عن
السدي وابن زيد. فهذا إعلام باختلافهم وتدابرهم وضلالهم. وقال قوم: المعنى وما من
اتبعك ممن أسلم منهم بمتبع قبلة من لم يسلم، ولا من لم يسلم قبلة من أسلم. والأول
أظهر، والله تعالى أعلم. قوله تعالى:" وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ
بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ" الخطاب
للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والمراد أمته ممن يجوز أن يتبع هواه
فيصير باتباعه ظالما، وليس يجوز أن يفعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
ما يكون به ظالما، فهو محمول على إرادة أمته لعصمة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وقطعنا أن ذلك لا يكون منه، وخوطب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ تعظيما للأمر ولأنه المنزل عليه. والاهواء: جمع هوى، وقد تقدم «1»،
وكذا" مِنَ الْعِلْمِ" تقدم «2» أيضا، فلا معنى للإعادة.
[سورة البقرة (2): آية 146]
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ
وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146)
قوله تعالى:" الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما
يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ"" الَّذِينَ" في موضع رفع بالابتداء
والخبر" يَعْرِفُونَهُ". ويصح أن يكون في موضع خفض على الصفة ل"
لظالمين"، و" يعرفون" في موضع الحال، أي يعرفون نبوته وصدق رسالته،
والضمير عائد على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قاله مجاهد وقتادة
وغيرهما. وقيل:" يعرفون" تحويل القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة أنه حق،
قاله ابن عباس وابن جريج والربيع وقتادة أيضا.
__________
(1). راجع ج 94 من هذا الجزء.
(2). راجع ص 95 من هذا الجزء.
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)
وخص
الأبناء في المعرفة بالذكر دون الأنفس وإن كانت ألصق لان الإنسان يمر عليه من زمنه
برهة لا يعرف فيها نفسه، ولا يمر عليه وقت لا يعرف فيه ابنه. وروي أن عمر قال لعبد
الله بن سلام: أتعرف محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما تعرف ابنك؟
فقال: نعم وأكثر، بعث الله أمينه في سمائه إلى أمينه في أرضه بنعته فعرفته، وابني
لا أدري ما كان من أمه. قوله تعالى:" وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ
لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ" يعني محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قاله
مجاهد وقتادة وخصيف. وقيل: استقبال الكعبة، على ما ذكرنا آنفا. قوله تعالى:"
وَهُمْ يَعْلَمُونَ" ظاهر في صحة الكفر عنادا، ومثله:" وَجَحَدُوا بِها
وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ" «1» وقوله:" فَلَمَّا جاءَهُمْ ما
عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ".
[سورة البقرة (2): آية 147]
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)
قوله تعالى:" الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ" يعني استقبال الكعبة، لا ما أخبرك
به اليهود من قبلتهم. وروي عن علي رضي الله عنه أنه قرأ" الحق" منصوبا
ب" يَعْلَمُونَ" أي يعلمون الحق. ويصح نصبه على تقدير الزم الحق. والرفع
على الابتداء أو على إضمار مبتدأ، والتقدير هو الحق، أو على إضمار فعل، أي جاءك
الحق. قال النحاس: فأما الذي في" الأنبياء"" الْحَقَّ فَهُمْ
مُعْرِضُونَ «2»" فلا نعلم أحدا قرأه إلا منصوبا، والفرق بينهما أن الذي في
سورة" البقرة" مبتدأ آية «3»، والذي في الأنبياء ليس كذلك. قوله
تعالى:" فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ" أي من الشاكين. والخطاب
للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمراد أمته. يقال: امتري فلان [في ]
كذا إذا اعترضه اليقين مرة والشك أخرى فدافع إحداهما بالأخرى، ومنه المراء لان كل
واحد منهما يشك في قول صاحبه. والامتراء في الشيء الشك فيه، وكذا التماري. وأنشد
الطبري شاهدا على أن الممترين الشاكون قول الأعشى:
تدر على أسوق الممترين ... من ركضا إذا ما السراب ارجحن
__________
(1). راجع ج 13 ص 163.
(2). راجع ج 11 ص 280.
(3). في أ:" به". [.....]
وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)
قال
ابن عطية: ووهم في هذا، لان أبا عبيدة وغيره قال: الممترون في البيت هم الذين
يمرون الخيل بأرجلهم همزا لتجري كأنهم يحتلبون الجري منها، وليس في البيت معنى
الشك كما قال الطبري. قلت: معنى الشك فيه موجود، لأنه يحتمل أن يختبر الفرس صاحبه
هل هو على ما عهد من الجري أم لا، لئلا يكون أصابه شي، أو يكون هذا عند أول شرائه
فيجريه ليعلم مقدار جريه. قال الجوهري: ومريت الفرس إذا استخرجت ما عنده من الجري
بسوط أو غيره. والاسم المرية (بالكسر) وقد تضم. ومريت الناقة مريا: إذا مسحت ضرعها
لتدر. وأمرت هي إذا در لبنها، والاسم المرية (بالكسر)، والضم غلط. والمرية: الشك،
وقد تضم، وقرئ بهما.
[سورة البقرة (2): آية 148]
وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما
تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
(148)
فيه أربع مسائل: الاولى- قوله تعالى:"- لِكُلٍّ وِجْهَةٌ
" الوجهة وزنها فعلة من المواجهة. والوجهة والجهة والوجه بمعنى واحد، والمراد
القبلة، أي إنهم لا يتبعون قبلتك وأنت لا تتبع قبلتهم، ولكل وجهة إما بحق وإما
بهوى. الثانية- قوله تعالى:"وَمُوَلِّيها
"" هو" عائد على لفظ كل لا على معناه، لأنه لو كان على المعنى
لقال: هم مولوها وجوههم، فالهاء والألف مفعول أول والمفعول الثاني محذوف، أي هو
موليها وجهه ونفسه. والمعنى: ولكل صاحب ملة قبلة، صاحب القبلة موليها وجهه، على
لفظ كل، وهو قول الربيع وعطاء وابن عباس. وقال علي بن سليمان:"وَلِّيها
" أي متوليها. وقرا ابن عباس وابن عامر" مولاها" على ما لم يسم
فاعله. والضمير على هذه القراءة لواحد، أي ولكل واحد من الناس قبلة، الواحد مولاها
أي مصروف إليها، قاله الزجاج. ويحتمل أن يكون على قراءة الجماعة" هو"
ضمير اسم الله عز وجل وإن لم يجر له ذكر، إذ
معلوم
أن الله عز وجل فاعل ذلك، والمعنى: لكل صاحب ملة قبلة الله موليها إياه. وحكى
الطبري: أن قوما قرءوا" ولكل وجهة" بإضافة كل إلى وجهة. قال ابن عطية:
وخطأها الطبري، وهي متجهة، أي فاستبقوا الخيرات لكل وجهة ولاكموها، ولا تعترضوا
فيما أمركم بين هذه وهذه، أي إنما عليكم الطاعة في الجميع. وقدم قوله"-
لِكُلٍّ وِجْهَةٌ
" على الامر في قوله:"اسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ
" للاهتمام بالوجهة كما يقدم المفعول، وذكر أبو عمرو الداني هذه القراءة عن
ابن عباس رضي الله عنهما. وسلمت الواو في"جْهَةٌ
" للفرق بين عدة وزنة، لان جهة ظرف، وتلك مصادر. وقال أبو علي: ذهب قوم إلى
أنه مصدر شذ عن القياس فسلم. وذهب قوم إلى أنه اسم وليس بمصدر. وقال غير أبي علي:
وإذا أردت المصدر قلت جهة، وقد يقال الجهة في الظرف. الثالثة- قوله
تعالى:"اسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ
" أي إلى الخيرات، فحذف الحرف، أي بادروا ما أمركم الله عز وجل من استقبال
البيت الحرام، وإن كان يتضمن الحث على المبادرة والاستعجال إلى جميع الطاعات
بالعموم، فالمراد ما ذكر من الاستقبال لسياق الآي. والمعنى المراد المبادرة
بالصلاة أول وقتها، والله تعالى أعلم. روى النسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (إنما مثل المهجر إلى الصلاة
كمثل الذي يهدي البدنة ثم الذي على أثره كالذي يهدي البقرة ثم الذي على أثره كالذي
يهدي الكبش ثم الذي على أثره كالذي يهدي الدجاجة ثم الذي على أثره كالذي يهدي البيضة
(. وروى الدارقطني عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:) إن أحدكم ليصلي الصلاة لوقتها وقد ترك من الوقت الأول ما هو
خير له من أهله وماله (. وأخرجه مالك عن يحيى بن سعيد قوله. وروى الدارقطني أيضا
عن ابن عمر قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (خير الأعمال
الصلاة في أول وقتها). وفي حديث ابن مسعود" أول وقتها" بإسقاط"
في". وروي أيضا عن إبراهيم بن عبد الملك عن أبي محذورة عن أبيه عن جده قال
قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أول الوقت رضوان الله ووسط
الوقت رحمة الله
وآخر
الوقت عفو الله (. زاد ابن العربي: فقال أبو بكر: رضوان الله أحب إلينا من عفوه،
فإن رضوانه عن المحسنين وعفوه عن المقصرين، وهذا اختيار الشافعي. وقال أبو حنيفة:
آخر الوقت أفضل، لأنه وقت الوجوب. وأما مالك ففصل القول، فأما الصبح والمغرب فأول
الوقت فيهما أفضل، أما الصبح فلحديث عائشة رضي الله عنها قالت: (إن كان رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليصلي الصبح فينصرف النساء متلفعات بمروطهن ما
يعرفن من الغلس)- في رواية- (متلففات). وأما المغرب فلحديث سلمة بن الأكوع أن رسول
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يصلي المغرب إذا غربت الشمس وتوارت
بالحجاب، أخرجهما مسلم. وأما العشاء فتأخيرها أفضل لمن قدر عليه. روى ابن عمر قال:
مكثنا [ذات «1»] ليلة ننتظر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لصلاة
العشاء الآخرة، فخرج إلينا حين ذهب ثلث الليل أو بعده، فلا ندري أشيء شغله في أهله
أو غير ذلك، فقال حين خرج: (إنكم لتنتظرون صلاة ما ينتظرها أهل دين غيركم ولولا أن
يثقل على أمتي لصليت بهم هذه الساعة). وفي البخاري عن أنس قال: أخر النبي صلى الله
عليه وسلم صلاة العشاء إلى نصف الليل ثم صلى ...، وذكر الحديث. وقال أبو برزة: كان
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستحب تأخيرها. وأما الظهر فإنها تأتي
الناس [على «2»] غفلة فيستحب تأخيرها قليلا حتى يتأهبوا ويجتمعوا. قال أبو الفرج
قال مالك: أول الوقت أفضل في كل صلاة إلا للظهر في شدة الحر. وقال ابن أبي أويس:
وكان مالك يكره أن يصلي الظهر عند الزوال ولكن بعد ذلك، ويقول: تلك صلاة الخوارج.
وفي صحيح البخاري وصحيح الترمذي عن أبي ذر الغفاري قال: كنا مع النبي صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سفر فأراد المؤذن أن يؤذن للظهر، فقال النبي صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أبرد) ثم أراد أن يؤذن فقال له: (أبرد) حتى رأينا في
التلول، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن شدة الحر من فيح»
جهنم فإذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة). وفي صحيح مسلم عن أنس أن النبي صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يصلي الظهر إذا زالت الشمس. والذي يجمع بين
الحديثين ما رواه أنس أنه إذا كان الحر أبرد بالصلاة، وإذا كان البرد عجل.
__________
(1). الزيادة عن صحيح مسلم وسنن النسائي.
(2). الزيادة عن أحكام القرآن لابن العربي.
(3). الفيح: سطوع الحر وفورانه.
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)
قال
أبو عيسى الترمذي:" وقد اختار قوم [من أهل العلم «1»] تأخير صلاة الظهر في
شدة الحر، وهو قول ابن المبارك وأحمد وإسحاق. قال الشافعي: إنما الإبراد بصلاة
الظهر إذا كان [مسجدا «2»] ينتاب «3» أهله من البعد، فأما المصلي وحده والذي يصلي
في مسجد قومه فالذي أحب له ألا يؤخر الصلاة في شدة الحر. قال أبو عيسى: ومعنى من
ذهب إلى تأخير الظهر «4» في شدة الحر هو أولى وأشبه بالاتباع، وأما ما ذهب إليه
الشافعي رحمه الله أن الرخصة لمن ينتاب من البعد وللمشقة على الناس، فإن في حديث
أبي ذر رضي الله عنه ما يدل على خلاف ما قال الشافعي. قال أبو ذر: كنا مع النبي
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سفر فأذن بلال بصلاة الظهر، فقال النبي
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [يا بلال «5»] أبرد ثم أبرد). فلو كان الامر
على ما ذهب إليه الشافعي لم يكن للابراد في ذلك الوقت معنى، لاجتماعهم في السفر
وكانوا لا يحتاجون أن ينتابوا من البعد". وأما العصر فتقديمها أفضل. ولا خلاف
في مذهبنا أن تأخير الصلاة رجاء الجماعة أفضل من تقديمها، فإن فضل الجماعة معلوم،
وفضل أول الوقت مجهول وتحصيل المعلوم أولى، قاله ابن العربي. الرابعة- قوله
تعالى:" أَيْنَما تَكُونُوا" شرط، وجوابه:"أْتِ بِكُمُ اللَّهُ
جَمِيعاً
" يعني يوم القيامة. ثم وصف نفسه تعالى بالقدرة على كل شي لتناسب الصفة مع ما
ذكر من الإعادة بعد الموت والبلى.
[سورة البقرة (2): الآيات 149 الى 150]
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ
لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ
حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما
كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ
حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي
وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)
__________ (1). الزيادة من صحيح الترمذي.
(2). انتاب: قصد.
(3). انتاب: قصد.
(4). كذا في صحيح الترمذي. وفى الأصول:" تأخير الصلاة".
(5). الزيادة من صحيح الترمذي.
قوله
تعالى:" وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ
الْحَرامِ" قيل: هذا تأكيد للأمر باستقبال الكعبة واهتمام بها، لان موقع
التحويل كان صعبا «1» في نفوسهم جدا، فأكد الامر ليرى الناس الاهتمام به فيخف
عليهم وتسكن نفوسهم إليه. وقيل: أراد بالأول: ول وجهك شطر الكعبة، أي عاينها إذا
صليت تلقاءها. ثم قال:" وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ" معاشر المسلمين في سائر
المساجد بالمدينة وغيرها" فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ". ثم
قال:" وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ" يعني وجوب الاستقبال في الاسفار، فكان
هذا أمرا بالتوجه إلى الكعبة في جميع المواضع من نواحي الأرض. قلت: هذا القول أحسن
من الأول، لان فيه حمل كل آية على فائدة. وقد روى الدارقطني عن أنس بن مالك قال:
كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا كان في سفر فأراد أن يصلي على
راحلته استقبل القبلة وكبر ثم صلى حيث توجهت به. أخرجه أبو داود أيضا، وبه قال
الشافعي وأحمد وأبو ثور. وذهب مالك إلى أنه لا يلزمه الاستقبال، لحديث ابن عمر
قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي وهو مقبل من مكة إلى
المدينة على راحلته. قال: وفية نزل" فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ
اللَّهِ" وقد تقدم. قلت: ولا تعارض بين الحديثين، لان هذا من باب المطلق
والمقيد، فقول الشافعي أولى، وحديث أنس في ذلك حديث صحيح. ويروى أن جعفر بن محمد
سئل ما معنى تكرير القصص في القرآن؟ فقال: علم الله أن كل الناس لا يحفظ القرآن،
فلو لم تكن القصة مكررة لجاز أن تكون عند بعض الناس ولا تكون عند بعض، فكررت لتكون
عند من حفظ البعض. قوله تعالى:" لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ
حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ" قال مجاهد: هم مشركو العرب.
وحجتهم قولهم: راجعت قبلتنا، وقد أجيبوا عن هذا بقوله:" قُلْ لِلَّهِ
الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ". وقيل: معنى" لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ
عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ" لئلا يقولوا لكم: قد أمرتم باستقبال الكعبة ولستم
ترونها، فلما قال عز وجل:" وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ
شَطْرَهُ"
__________
(1). في نسخ الأصل:" كان معنى". والتصويب عن تفسير ابن عطية.
زال
هذا. وقال أبو عبيدة: إن" إلا" ها هنا بمعنى الواو، أي والذين ظلموا،
فهو استثناء بمعنى الواو، ومنه قول الشاعر «1»:
ما بالمدينة دار غير واحدة ... دار الخليفة إلا دار مروانا
كأنه قال: إلا دار الخليفة ودار مروان، وكذا قيل في قوله تعالى:" إِلَّا
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ
«2»" أي الذين آمنوا. وأبطل الزجاج هذا القول وقال: هذا خطأ عند الحذاق من
النحويين، وفية بطلان المعاني، وتكون" إلا" وما بعدها مستغني عن ذكرهما.
والقول عندهم أن هذا استثناء ليس من الأول، أي لكن الذين ظلموا منهم فإنهم يحتجون.
قال أبو إسحاق الزجاج: أي عرفكم الله أمر الاحتجاج في القبلة في قوله:"-
لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها
"" ولِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ" إلا من ظلم
باحتجاجه فيما قد وضح له، كما تقول: مالك على حجة إلا الظلم أو إلا أن تظلمني، أي
مالك حجة البتة ولكنك تظلمني، فسمى ظلمه حجة لان المحتج به سماه حجة وإن كانت
داحضة. وقال قطرب: يجوز أن يكون المعنى لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا على الذين
ظلموا، فالذين بدل من الكاف والميم في" عَلَيْكُمْ". وقالت فرقة:"
إِلَّا الَّذِينَ" استثناء متصل، روي معناه عن ابن عباس وغيره، واختاره
الطبري وقال: نفى الله أن يكون لاحد حجة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وأصحابه في استقبالهم الكعبة. والمعنى: لا حجة لاحد عليكم إلا الحجة
الداحضة. حيث قالوا: ما ولاهم، وتحير محمد في دينه، وما توجه إلى قبلتنا إلا أنا كنا
أهدى منه، وغير ذلك من الأقوال التي لم تنبعث إلا من عابد وثن أو يهودي أو منافق.
والحجة بمعنى المحاجة التي هي المخاصمة والمجادلة. وسماها الله حجة وحكم بفسادها
حيث كانت من ظلمة. وقال ابن عطية: وقيل إن الاستثناء منقطع، وهذا على أن يكون
المراد بالناس اليهود، ثم استثنى كفار العرب، كأنه قال: لكن الذين ظلموا يحاجونكم،
وقوله" مِنْهُمْ" يرد هذا التأويل. والمعنى لكن الذين ظلموا، يعني كفار
قريش في قولهم: رجع محمد إلى قبلتنا
__________
(1). هو الفرزدق، وأراد مروان بن الحكم. (عن شرح الشواهد).
(2). راجع ج 20 ص 116.
كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)
وسيرجع
إلى ديننا كله. ويدخل في ذلك كل من تكلم في النازلة من غير اليهود. وقرا ابن عباس
وزيد بن علي وابن زيد" ألا الذين ظلموا" بفتح الهمزة وتخفيف اللام على
معنى استفتاح الكلام، فيكون" الَّذِينَ ظَلَمُوا" ابتداء، أو على معنى
الإغراء، فيكون" الذين" منصوبا بفعل مقدر. قوله تعالى:" فَلا
تَخْشَوْهُمْ" يريد الناس" وَاخْشَوْنِي" الخشية أصلها طمأنينة في
القلب تبعث على التوقي. والخوف: فزع القلب تخف له الأعضاء، ولخفة الأعضاء به سمي
خوفا. ومعنى الآية التحقير لكل من سوى الله تعالى، والامر باطراح أمرهم ومراعاة
أمر الله تعالى. قوله تعالى:" وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ" معطوف
على" لِئَلَّا يَكُونَ" أي ولان أتم، قاله الأخفش. وقيل: مقطوع «1» في
موضع رفع بالابتداء والخبر مضمر، التقدير: ولأتم نعمتي عليكم عرفتكم قبلتي، قاله
الزجاج. وإتمام النعمة الهداية إلى القبلة، وقيل: دخول الجنة. قال سعيد بن جبير:
ولم تتم نعمة الله على عبد حتى يدخله الجنة. و" لَعَلَّكُمْ
تَهْتَدُونَ" تقدم «2».
[سورة البقرة (2): آية 151]
كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا
وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ
تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)
قوله تعالى:" كَما أَرْسَلْنا" الكاف في موضع نصب على النعت لمصدر
محذوف، المعنى: ولأتم نعمتي عليكم إتماما مثل ما أرسلنا، قاله الفراء. قال ابن
عطية: وهذا أحسن الأقوال، أي ولأتم نعمتي عليكم في بيان سنة إبراهيم عليه السلام
مثل ما أرسلنا. وقيل: المعنى ولعلكم تهتدون اهتداء مثل ما أرسلنا. وقيل: هي في
موضع نصب على الحال، والمعنى: ولأتم نعمتي عليكم في هذه الحال. والتشبيه واقع على
أن النعمة في القبلة كالنعمة في الرسالة، وأن الذكر المأمور به في عظمه كعظم
النعمة. وقيل: معنى الكلام على التقديم والتأخير، أي فاذكروني
__________
(1). نص العبارة في البحر المحيط لابي حيان:" وقيل: تتعلق اللام بفعل مؤخر،
التقدير: ولأتم نعمتي عليكم عرفتكم قبلتي".
(2). يراجع ج 1 ص 160 طبعه ثانية.
فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)
كما
أرسلنا روي عن علي رضي الله عنه واختاره الزجاج. أي كما أرسلنا فيكم رسولا تعرفونه
بالصدق فاذكروني بالتوحيد والتصديق به. والوقف على" تَهْتَدُونَ" على
هذا القول جائز. قلت: وهذا اختيار الترمذي الحكيم في كتابه، أي كما فعلت بكم هذا
من المنن التي عددتها عليكم فاذكروني بالشكر أذكركم بالمزيد، لان في ذكركم ذلك
شكرا لي، وقد وعدتكم بالمزيد على الشكر، وهو قوله:" لَئِنْ شَكَرْتُمْ
لَأَزِيدَنَّكُمْ «1»"، فالكاف في قوله" كَما" هنا، وفي الأنفال"
كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ «2»" وفي آخر الحجر" كَما أَنْزَلْنا عَلَى
الْمُقْتَسِمِينَ" متعلقة بما بعده، على ما يأتي بيانه «3».
[سورة البقرة (2): الآيات 152 الى 153]
فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (152) يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ
الصَّابِرِينَ (153)
قوله تعالى:" فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ" أمر وجوابه، وفية معنى
المجازاة فلذلك جزم. واصل الذكر التنبه بالقلب للمذكور والتيقظ له. وسمي الذكر
باللسان ذكرا لأنه دلالة على الذكر القلبي، غير أنه لما كثر إطلاق الذكر على القول
اللساني صار هو السابق للفهم. ومعنى الآية: اذكروني بالطاعة أذكركم بالثواب
والمغفرة، قاله سعيد بن جبير. وقال أيضا: الذكر طاعة الله، فمن لم يطعه لم يذكره
وإن أكثر التسبيح والتهليل وقراءة القرآن، وروي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: (من أطاع الله فقد ذكر الله وإن أقل صلاته وصومه وصنيعه للخير ومن عصى
الله فقد نسي الله وإن كثر صلاته وصومه وصنيعه للخير)، ذكره أبو عبد الله محمد بن
خويز منداد في" أحكام القرآن" له. وقال أبو عثمان النهدي: إني لأعلم
الساعة التي يذكرنا الله فيها، قيل له: ومن أين تعلمها؟ قال يقول الله عز
وجل:" فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ". وقال السدي: ليس من عبد يذكر الله
إلا ذكره الله عز وجل، لا يذكره مؤمن إلا ذكره الله برحمته، ولا يذكره كافر إلا
ذكره الله بعذاب. وسيل أبو عثمان فقيل له: نذكر الله ولا نجد في قلوبنا حلاوة؟ فقال:
احمدوا الله تعالى على أن زين جارحة من جواركم بطاعته. وقال ذو النون المصري رحمه
الله: من ذكر الله تعالى ذكرا على الحقيقة نسي في جنب ذكره
__________
(1). راجع ج 9 ص 343. [.....]
(2). راجع ج 7 ص 367.
(3). راجع ج 10 ص 57
وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154)
كل
شي، وحفظ الله عليه كل شي، وكان له عوضا من كل شي. وقال معاذ بن جبل رضي الله عنه:
ما عمل ابن آدم من عمل أنجى له من عذاب الله من ذكر الله. والأحاديث في فضل الذكر
وثوابه كثيرة خرجها الأئمة. روى ابن ماجة عن عبد الله بن بسر أن أعرابيا قال لرسول
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن شرائع الإسلام قد كثرت علي فأنبئني
منها بشيء أتشبث به، قال: (لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله عز وجل). وخرج عن أبي
هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (إن الله عز وجل يقول أنا
مع عبدي إذا هو ذكرني وتحركت بي شفتاه). وسيأتي لهذا الباب مزيد بيان عند قوله
تعالى:" يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً
«1»" وأن المراد ذكر القلب الذي يجب استدامته في عموم الحالات. قوله تعالى:"
وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ" قال الفراء يقال: شكرتك وشكرت لك، ونصحتك
ونصحت لك، والفصيح الأول «2». والشكر معرفة الإحسان والتحدث به، وأصله في اللغة
الظهور، وقد تقدم «3». فشكر العبد لله تعالى ثناؤه عليه بذكر إحسانه إليه، وشكر
الحق سبحانه للعبد ثناؤه عليه بطاعته له، إلا أن شكر العبد نطق باللسان وإقرار
بالقلب بإنعام الرب مع الطاعات. قوله تعالى:" وَلا تَكْفُرُونِ" نهي،
ولذلك حذفت منه نون الجماعة، وهذه نون المتكلم. وحذفت الياء لأنها رأس آية،
وإثباتها أحسن في غير القرآن، أي لا تكفروا نعمتي وأيادي. فالكفر هنا ستر النعمة
لا التكذيب. وقد مضى القول في الكفر «4» لغة، مضى القول في معنى الاستعانة «5»
بالصبر والصلاة، فلا معنى للإعادة.
[سورة البقرة (2): آية 154]
وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ
وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ (154)
__________
(1). راجع ج 14 ص 197.
(2). الذي في معاجم اللغة أن الفصيح الثاني.
(3). تراجع المسألة الثالثة وما بعدها ج 1 ص 397 طبعه ثانية.
(4). يراجع ج 1 ص 183.
(5). يراجع ج 1 ص 371 طبعه ثانية.
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155)
هذا
مثل قوله تعالى في الآية الأخرى:" وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ"،
وهناك «1» يأتي الكلام في الشهداء وأحكامهم، إن شاء الله تعالى. وإذا كان الله
تعالى يحييهم بعد الموت ليرزقهم- على ما يأتي- فيجوز أن يحيي الكفار ليعذبهم،
ويكون فيه دليل على عذاب القبر. والشهداء أحياء كما قال الله تعالى، وليس معناه
أنهم سيحيون، إذ لو كان كذلك لم يكن بين الشهداء وبين غيرهم فرق إذ كل أحد سيحيا.
ويدل على هذا قوله تعالى:" وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ" والمؤمنون يشعرون
أنهم سيحيون. وارتفع" أَمْواتٌ" على إضمار مبتدأ، وكذلك" بَلْ
أَحْياءٌ" أي هم أموات وهم أحياء، ولا يصح إعمال القول فيه لأنه ليس بينه
وبينه تناسب، كما يصح في قولك: قلت كلاما وحجة.
[سورة البقرة (2): آية 155]
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْ ءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ
الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155)
قوله تعالى:" وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ" هذه الواو مفتوحة عند سيبويه لالتقاء
الساكنين. وقال غيره: لما ضمت إلى النون الثقيلة بني الفعل فصار بمنزلة خمسة عشر.
والبلاء يكون حسنا ويكون سيئا. وأصله المحنة، وقد تقدم «2». والمعنى لنمتحننكم
لنعلم المجاهد والصابر علم معاينة حتى يقع عليه الجزاء، كما تقدم. وقيل: إنما
ابتلوا بهذا ليكون آية لمن بعدهم فيعلموا أنهم إنما صبروا على هذا حين وضح لهم
الحق. وقيل: أعلمهم بهذا ليكونوا على يقين منه أنه يصيبهم، فيوطنوا أنفسهم عليه
فيكونوا أبعد لهم من الجزع، وفية تعجيل ثواب الله تعالى على العزم وتوطين النفس.
قوله تعالى:" بِشَيْ ءٍ" لفظ مفرد ومعناه الجمع. وقرا الضحاك" بأشياء"
على الجمع وقرا الجمهور بالتوحيد، أي بشيء من هذا وشئ من هذا، فاكتفى بالأول
إيجازا" مِنَ الْخَوْفِ" أي خوف العدو والفزع في القتال، قاله ابن عباس.
وقال الشافعي: هو خوف
__________
(1). راجع ج 4 ص 268.
(2). تراجع المسألة الثالثة عشرة ج 1 ص 387 طبعه ثانية.
الله
عز وجل." وَالْجُوعِ" يعني المجاعة بالجدب والقحط، في قول ابن عباس.
وقال الشافعي: هو الجوع في شهر رمضان" وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ" بسبب
الاشتغال بقتال الكفار. وقيل: الجوائح المتلفة. وقال الشافعي: بالزكاة
المفروضة." وَالْأَنْفُسِ" قال ابن عباس: بالقتل ولموت في الجهاد. وقال
الشافعي: يعني بالأمراض." وَالثَّمَراتِ" قال الشافعي: المراد موت
الأولاد، وولد الرجل ثمرة قلبه، كما جاء في الخبر، على ما يأتي. وقال ابن عباس:
المراد قلة النبات وانقطاع البركات. قوله تعالى:" وَبَشِّرِ
الصَّابِرِينَ" أي بالثواب على الصبر. والصبر أصله الحبس، وثوابه غير مقدر،
وقد تقدم «1». لكن لا يكون ذلك إلا بالصبر عند الصدمة الاولى، كما روى البخاري عن
أنس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (إنما الصبر عند الصدمة
الاولى). وأخرجه مسلم أتم منه، أي إنما الصبر الشاق على النفس الذي يعظم الثواب
عليه إنما هو عند هجوم المصيبة وحرارتها، فإنه يدل على قوة القلب وتثبته في مقام
الصبر، وأما إذا بردت حرارة المصيبة فكل أحد يصبر إذ ذاك، ولذلك قيل: يجب على كل
عاقل أن يلتزم عند المصيبة ما لا بد للأحمق منه بعد ثلاث. وقال سهل بن عبد الله
التستري: لما قال تعالى:" وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ" صار الصبر عيشا «2».
والصبر صبران: صبر عن معصية الله، فهذا مجاهد، وصبر على طاعة الله، فهذا عابد.
فإذا صبر عن معصية الله وصبر على طاعة الله أورثه الله الرضا بقضائه، وعلامة الرضا
سكون القلب بما ورد على النفس من المكروهات والمحبوبات. وقال الخواص: الصبر الثبات
على أحكام الكتاب والسنة. وقال رويم: الصبر ترك الشكوى. وقال ذو النون المصري:
الصبر هو الاستعانة بالله تعالى. وقال الأستاذ أبو علي: الصبر حده ألا تعترض على
التقدير، فأما إظهار البلوى على غير وجه الشكوى فلا ينافي الصبر، قال الله تعالى
في قصة أيوب:" إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ «3»" مع ما
أخبر عنه أنه قال:" مَسَّنِيَ الضُّرُّ".
__________
(1). راجع ج 1 ص 371.
(2). هكذا في جميع النسخ التي بأيدينا.
(3). راجع ج 15 ص 215.
الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)
[سورة
البقرة (2): الآيات 156 الى 157]
الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ
راجِعُونَ (156) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ
وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)
فيه ست مسائل: الاولى- قوله تعالى:" مُصِيبَةٌ" المصيبة: كل ما يؤذي
المؤمن ويصيبه، يقال: أصابه إصابة ومصابة ومصابا. والمصيبة واحدة المصائب.
والمصوبة (بضم الصاد) مثل المصيبة. وأجمعت العرب على همز المصائب، وأصله الواو،
كأنهم شبهوا الأصلي بالزائد، ويجمع على مصاوب، وهو الأصل. والمصاب الإصابة، قال
الشاعر:
أسليم إن مصابكم رجلا ... أهدى السلام تحية ظلم
وصاب السهم القرطاس يصيب صبيا، لغة في أصابه. والمصيبة: النكبة ينكبها الإنسان وإن
صغرت، وتستعمل في الشر، روى عكرمة أن مصباح رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ انطفأ ذات ليلة فقال:" إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ
راجِعُونَ" فقيل: أمصيبة هي يا رسول الله؟ قال: (نعم كل ما آذى المؤمن فهو
مصيبة). قلت: هذا ثابت معناه في الصحيح، خرج مسلم عن أبي سعيد وعن أبي هريرة رضي
الله عنهما أنهما سمعا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: (ما
يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا سقم ولا حزن حتى الهم يهمه «1» إلا كفر به من
سيئاته). الثانية- خرج ابن ماجة في سننه حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا وكيع بن
الجراح عن هشام بن زياد عن أمه عن فاطمة بنت الحسين عن أبيها قال قال رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (من أصيب بمصيبة فذكر مصيبته فأحدث استرجاعا
وإن تقادم عهدها كتب الله له من الأجر مثله يوم أصيب).
__________
(1). قال النوى في شرحه على صحيح مسلم:" قال القاضي: هو بضم الياء وفتح الهاء
على ما لم يسم فاعله، وضبطه غيره بفتح الياء وضم الهاء، أي يغمه، وكلاهما
صحيح".
الثالثة-
من أعظم المصائب المصيبة في الدين، ذكر أبو عمر عن الفريابي قال حدثنا فطر بن
خليفة حدثنا عطاء بن أبي رباح قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: (إذا أصاب أحدكم مصيبة فليذكر مصابه بي فإنها من أعظم المصائب). أخرجه
السمرقندي أبو محمد في مسنده، أخبرنا أبو نعيم قال: أنبأنا فطر ...، فذكر مثله
سواء. وأسند مثله عن مكحول مرسلا. قال أبو عمر: وصدق رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لان المصيبة به أعظم من كل مصيبة يصاب بها المسلم بعده إلى
يوم القيامة، انقطع الوحي وماتت النبوة. وكان أول ظهور الشر بارتداد العرب وغير
ذلك، وكان أول انقطاع الخير وأول نقصانه. قال أبو سعيد: ما نفضنا أيدينا من التراب
من قبر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى أنكرنا قلوبنا. ولقد أحسن
أبو العتاهية في نظمه معنى هذا الحديث حيث يقول:
اصبر لكل مصيبة وتجلد ... واعلم بأن المرء غير مخلد
أوما ترى أن المصائب جمة ... وترى المنية للعباد بمرصد
من لم يصب ممن ترى بمصيبة؟ ... هذا سبيل لست فيه بأوحد
فإذا ذكرت محمدا ومصابه ... فاذكر مصابك بالنبي محمد
الرابعة- قوله تعالى:" قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ
راجِعُونَ" جعل الله تعالى هذه الكلمات ملجأ لذوي المصائب، وعصمة للممتحنين:
لما جمعت من المعاني المباركة، فإن قوله:" إِنَّا لِلَّهِ" توحيد وإقرار
بالعبودية والملك. وقوله:" وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ" إقرار بالهلك،
على أنفسنا والبعث من قبورنا، واليقين أن رجوع الامر كله إليه كما هو له. قال سعيد
ابن جبير رحمه الله تعالى: لم تعط هذه الكلمات نبيا قبل نبينا، ولو عرفها يعقوب
لما قال: يا أسفي على يوسف. الخامسة- قال أبو سنان: دفنت ابني سنانا، وأبو طلحة
الخولاني على شفير القبر، فلما أردت الخروج أخذ بيدي فأنشطني وقال: ألا أبشرك يا
أبا سنان، حدثني الضحاك عن أبي موسى أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قال: (إذا مات ولد العبد قال الله لملائكته أقبضتم ولد عبدي فيقولون نعم فيقول
أقبضتم ثمرة فؤاده فيقولون نعم فيقول فماذا قال عبدي
إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)
فيقولون
حمدك واسترجع فيقول الله تعالى ابنوا لعبدي بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد (. وروى
مسلم عن أم سلمة قالت سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:) ما
من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله عز وجل إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ
راجِعُونَ اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها إلا أخلف الله له خيرا منها
(. فهذا تنبيه على قوله تعالى:" وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ" إما بالخلف
كما أخلف الله لام سلمة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنه تزوجها
لما مات أبو سلمة زوجها. وإما بالثواب الجزيل، كما في حديث أبي موسى، وقد يكون
بهما. السادسة- قوله تعالى:" أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ
وَرَحْمَةٌ" هذه نعم من الله عز وجل على الصابرين المسترجعين. وصلاة الله على
عبده: عفوه ورحمته وبركته وتشريفه إياه في الدنيا والآخرة. وقال الزجاج: الصلاة من
الله عز وجل الغفران والثناء الحسن. ومن هذا الصلاة على الميت إنما هو الثناء عليه
والدعاء له، وكرر الرحمة لما اختلف اللفظ تأكيدا وإشباعا للمعنى، كما قال:"
مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى "، وقوله" أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا
نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ". وقال الشاعر:
صلى على يحيى وأشياعه ... رب كريم وشفيع مطاع
وقيل: أراد بالرحمة كشف الكربة وقضاء الحاجة. وفي البخاري وقال عمر رضي الله عنه:
نعم العدلان ونعم العلاوة:" الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا
إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ. أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ
رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ". أراد بالعدلين الصلاة
والرحمة، وبالعلاوة الاهتداء. قيل: إلى استحقاق الثواب وإجزال الأجر، وقيل: إلى
تسهيل المصائب وتخفيف الحزن.
[سورة البقرة (2): آية 158]
إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ
اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً
فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (158)
فيه
تسع مسائل: الاولى- روى البخاري عن عاصم بن سليمان قال: سألت أنس بن مالك عن الصفا
والمروة فقال: كنا نرى أنهما من أمر الجاهلية، فلما كان الإسلام أمسكنا عنهما،
فأنزل الله عز وجل:" إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ
فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ
بِهِما". وخرج الترمذي عن عروة قال: (قلت لعائشة ما أرى على أحد لم يطف بين
الصفا والمروة شيئا، وما أبالي ألا أطوف بينهما. فقالت: بئس ما قلت يا ابن أختي!
طاف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وطاف المسلمون، وإنما كان من أهل
لمناة «1» الطاغية التي بالمشلل لا يطوفون بين الصفا والمروة، فأنزل الله
تعالى:" فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ
يَطَّوَّفَ بِهِما" ولو كانت كما تقول لكانت:" فلا جناح عليه ألا يطوف
بهما". قال الزهري: فذكرت ذلك لابي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام
فأعجبه ذلك وقال: إن هذا لعلم، ولقد سمعت رجالا من أهل العلم يقولون: إنما كان من
لا يطوف بين الصفا والمروة من العرب يقولون إن طوافنا بين هذين الحجرين من أمر
الجاهلية. وقال آخرون من الأنصار: إنما أمرنا بالطواف [بالبيت «2»] ولم نؤمر به
بين الصفا والمروة، فأنزل الله تعالى:" إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ
شَعائِرِ اللَّهِ" قال أبو بكر بن عبد الرحمن: فأراها قد نزلت في هؤلاء
وهؤلاء. قال:" هذا حديث حسن صحيح". أخرجه البخاري بمعناه، وفية بعد قوله
فأنزل الله تعالى" إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ
اللَّهِ":" قالت عائشة وقد سن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الطواف بينهما، فليس لاحد أن يترك الطواف بينهما"، ثم أخبرت أبا
بكر بن عبد الرحمن فقال: إن هذا لعلم ما كنت سمعته، ولقد سمعت رجالا من أهل العلم
يذكرون أن الناس- إلا من ذكرت عائشة- ممن كان يهل بمناة كانوا يطوفون كلهم بالصفا
والمروة، فلما ذكر الله تعالى الطواف بالبيت ولم يذكر الصفا والمروة في القرآن
قالوا: يا رسول الله، كنا نطوف بالصفا والمروة، وإن الله أنزل الطواف بالبيت فلم
يذكر الصفا، فهل علينا من حرج أن
__________
(1). مناة: اسم ضم في جهة البحر مما يلي قديدا بالمشلل (وهو جبل يهبط منه إلى قديد
من ناحية البحر) على سبعة أميال من المدينة. وكانت الأزد وغسان يهلون له ويحجون
إليه، وكان أول من نصبه عمرو بن لحى الخزاعي. (راجع معجم ياقوت في اسم مناة).
[.....]
(2). زيادة عن الترمذي.
نطوف
بالصفا والمروة؟ فأنزل الله عز وجل:" إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ
شَعائِرِ اللَّهِ" الآية. قال أبو بكر: فأسمع هذه الآية نزلت في الفريقين
كليهما: في الذين كانوا يتحرجون أن يطوفوا في الجاهلية بالصفا والمروة، والذين
يطوفون ثم تحرجوا أن يطوفوا بهما في الإسلام، من أجل أن الله تعالى أمر بالطواف
بالبيت، ولم يذكر الصفا حتى ذكر ذلك بعد ما ذكر الطواف بالبيت". وروى الترمذي
عن عاصم بن سليمان الأحول قال: (سألت أنس بن مالك «1» عن الصفا والمروة فقال: كانا
من شعائر الجاهلية، فلما كان الإسلام أمسكنا عنهما، فأنزل الله عز وجل:"
إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ
اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما" قال: هما
تطوع،" وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (. قال: هذا
حديث حسن صحيح". خرجه البخاري أيضا. وعن ابن عباس قال: كان في الجاهلية
شياطين تعزف الليل كله بين الصفا والمروة وكان بينهما آلهة، فلما ظهر الإسلام قال
المسلمون: يا رسول الله، لا نطوف بين الصفا والمروة فإنهما شرك، فنزلت. وقال
الشعبي: كان على الصفا في الجاهلية صنم يسمى" إسافا" وعلى المروة صنم
يسمى" نائلة" فكانوا يمسحونهما إذا طافوا، فامتنع المسلمون من الطواف
بينهما من أجل ذلك، فنزلت الآية. الثانية- أصل الصفا في اللغة الحجر الأملس، وهو
هنا جبل بمكة معروف، وكذلك المروة جبل أيضا، ولذلك أخرجهما بلفظ التعريف. وذكر
الصفا لان آدم المصطفى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقف عليه فسمي به، ووقفت
حواء على المروة فسميت باسم المرأة، فأنث لذلك، والله أعلم. وقال الشعبي: كان على
الصفا صنم يسمى" إسافا" وعلى المروة صنم يدعى" نائلة" فاطرد
ذلك في التذكير والتأنيث وقدم المذكر، وهذا حسن، لان الأحاديث المذكورة تدل على
هذا المعنى. وما كان كراهة من كره الطواف بينهما إلا من أجل هذا، حتى رفع الله
الحرج في ذلك. وزعم أهل الكتاب أنهما زنيا في الكعبة فمسخهما الله حجرين
__________
(1). كذا في الأصول وصحيح البخاري وتفسير الطبري. والذي في صحيح الترمذي:"
أنس بن سيرين ...". وهو مولى أنس بن مالك وممن روى عنه.
فوضعهما
على الصفا والمروة ليعتبر بهما، فلما طالت المدة عبدا من دون الله، والله تعالى
أعلم. والصفا (مقصور): جمع صفاة، وهى الحجارة الملس. وقيل: الصفا اسم مفرد، وجمعه
صفى (بضم الصاد) وأصفاء على مثل أرحاء. قال الراجز «1»:
كأن متنيه «2» من النفي ... مواقع الطير على الصفي
وقيل: من شروط الصفا البياض والصلابة، واشتقاقه من صفا يصفو، أي خلص من التراب
والطين. والمروة (واحدة المرو) وهي الحجارة الصغار التي فيها لين. وقد قيل إنها
الصلاب. والصحيح أن المرو الحجارة صليبها ورخوها الذي يتشظى وترق حاشيته، وفي هذا
يقال: المرو أكثر ويقال في الصليب. قال الشاعر:
وتولى الأرض خفا ذابلا ... فإذا ما صادف المرو رضخ
وقال أبو ذؤيب:
حتى كأني للحوادث مروة ... بصفا المشقر «3» كل يوم تقرع
وقد قيل: إنها الحجارة السود. وقيل: حجارة بيض براقة تكون فيها النار. الثالثة-
قوله تعالى:" مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ" أي من معالمه ومواضع عباداته، وهى
جمع شعيرة. والشعائر: المتعبدات التي أشعرها الله تعالى، أي جعلها أعلاما للناس،
من الموقف والسعى والنحر. والشعار: العلامة، يقال: أشعر الهدي أعلمه بغرز حديدة في
سنامه، من قولك: أشعرت أي أعلمت، وقال الكميت:
نقتلهم جيلا فجيلا تراهم ... شعائر قربان بهم يتقرب
__________
(1). هو الأخيل، كما في اللسان.
(2). في اللسان:" قال ابن سيده: كذا أنشده أبو على، وأنشده ابن دريد في
الجمهرة:" كأن متني" قال: وهو الصحيح، لقوله بعده: من طول إشرافى على
العلوي. والنفي: تطاير الماء عن الرشاء عند الاستقاء. ونفى المطر: ما تنقيه وترشه.
قال صاحب اللسان:" وفسره ثعلب فقال: شبه الماء وقد وقع على متن المستقى بذرق
الطائر على المصفى".
(3). المشقر: حضن بالبحرين عظيم لعبد القيس يلي حصنا لهم آخر يقال له الصفا قبل
مدينة هجر. ويروى" بصفا المشرق" قال أبو عبيدة: المشرق سوق الطائف. وقال
الأصمعي: المشرق المصلى. (عن شرح الديوان ومعجم ياقوت).
الرابعة-
قوله تعالى:" فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ" أي قصد. واصل الحج القصد، قال
الشاعر «1»:
فأشهد من عوف حلولا» كثيرة ... يحجون سب الزبرقان المزعفرا
السب: لفظ مشترك. قال أبو عبيدة: السب (بالكسر) الكثير السباب. وسبك أيضا الذي
يسابك، قال الشاعر «3»:
لا تسبنني فلست بسبي ... إن سبى من الرجال الكريم
والسب أيضا الخمار، وكذلك العمامة، قال المخبل السعدي:
يحجون سب الزبرقان المزعفرا
والسب أيضا الحبل في لغة هذيل، قال أبو ذؤيب:
تدلى عليها بين سب وخيطه ... بجرداء مثل الوكف يكبو غرابها
والسبوب: الحبال. والسب: شقة كتان رقيقة، والسبيبة مثله، والجمع السبوب والسبائب،
قاله الجوهري. وحج الطبيب الشجة إذا سبرها بالميل، قال الشاعر «4»:
يحج مأمومة «5» في قعرها لجف
اللجف: الخسف. تلجفت البئر: انخسف أسفلها. ثم اختص هذا الاسم بالقصد إلى البيت
الحرام لأفعال مخصوصة. الخامسة- قوله تعالى:" أَوِ اعْتَمَرَ" أي زار.
والعمرة: الزيارة، قال الشاعر «6»:
لقد سما ابن معمر حين اعتمر ... مغزى بعيدا من بعيد وضبر «7»
__________
(1). هو المخبل السعدي كما سيجيء.
(2). الحلول: الأحياء المجتمعة، وهو جمع حال. والمزعفر: الملون بالزعفران، وسادات
العرب تصبغ عما ثمها بالزعفران.
(3). هو عبد الرحمن بن حسان يهجو مسكينا الدارمي. (عن اللسان).
(4). هو عذار بن درة الطائي، كما في اللسان. وتمام البيت:
فاست الطبيب قذاها كالمغاريد
(5). المأمومة: الشجة التي بلغت أم الرأس، وهى الجلدة التي تجمع الدماغ. وفى
اللسان:" وفسر ابن دريد هذا الشعر فقال: وصف هذا الشاعر طبيبا يداوى شجة
بعيدة القعر فهو يجزع من هولها، فالقذى يتساقط من استه كالمغاريد".
والمغاريد: جمع مغرود وهو صمغ معروف.
(6). هو العجاج يمدح عمر بن عبيد الله القرشي. عن اللسان.
(7). ضمير: جمع قوائمه ليثب.
السادسة-
قوله تعالى:" فَلا جُناحَ عَلَيْهِ" أي لا إثم. وأصله من الجنوح وهو
الميل، ومنه الجوانح للأعضاء لاعوجاجها. وقد تقدم تأويل عائشة لهذه الآية. قال ابن
العربي" وتحقيق القول فيه أن قول القائل: لا جناح عليك أن تفعل، إباحة الفعل.
وقوله: لا جناح عليك ألا تفعل، إباحة لترك الفعل، فلما سمع عروة قول الله
تعالى:" فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما" قال: هذا دليل
على أن ترك الطواف جائز، ثم رأى الشريعة مطبقة على أن الطواف لا رخصة في تركه فطلب
الجمع بين هذين المتعارضين. فقالت له عائشة: ليس قوله:" فَلا جُناحَ عَلَيْهِ
أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما" دليلا على ترك الطواف، إنما كان يكون دليلا على تركه
لو كان" فلا جناح عليه ألا يطوف بهما" فلم يأت هذا اللفظ لاباحة ترك
الطواف، ولا فيه دليل عليه، وإنما جاء لإفادة إباحة الطواف لمن كان يتحرج منه في
الجاهلية، أو لمن كان يطوف به في الجاهلية قصدا للأصنام التي كانت فيه، فأعلمهم
الله سبحانه أن الطواف ليس بمحظور إذا لم يقصد الطائف قصدا باطلا". فإن قيل:
فقد روى عطاء عن ابن عباس أنه قرأ" فلا جناح عليه ألا يطوف بهما" وهى
قراءة ابن مسعود، ويروى أنها في مصحف أبى كذلك، ويروى عن أنس مثل هذا. والجواب أن
ذلك خلاف ما في المصحف، ولا يترك ما قد ثبت في المصحف إلى قراءة لا يدرى أصحت أم
لا، وكان عطاء يكثر الإرسال عن ابن عباس من غير سماع. والرواية في هذا عن أنس قد
قيل إنها ليست بالمضبوطة، أو تكون" لا" زائدة للتوكيد، كما قال:
وما ألوم البيض ألا تسخرا ... لما رأين الشمط القفندرا «1»
السابعة- روى الترمذي عن جابر أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين قدم
مكة فطاف بالبيت سبعا فقرأ:" وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ
مُصَلًّى" وصلي خلف المقام، ثم أتى الحجر فاستلمه ثم قال: (نبدأ بما بدأ الله
به) فبدأ بالصفا وقال «2»" إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ
اللَّهِ"
__________
(1). القفندر: القبيح المنظر.
(2). الذي في صحيح الترمذي:" وقرأ". [.....]
قال:
هذا حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم أنه يبدأ بالصفا قبل المروة، فإن
بدأ بالمروة قبل الصفا لم يجزه ويبدأ بالصفا. الثامنة- واختلف العلماء في وجوب
السعي بين الصفا والمروة، فقال الشافعي وابن حنبل: هو ركن، وهو المشهور من مذهب
مالك، لقوله عليه السلام: (اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي). خرجه الدارقطني. وكتب
بمعنى أوجب، لقوله تعالى:" كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ"، وقوله عليه
السلام: (خمس صلوات كتبهن الله على العباد). وخرج ابن ماجة عن أم ولد لشيبة قالت:
رأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسعى بين الصفا والمروة وهو
يقول: (لا يقطع الأبطح إلا شدا «1») فمن تركه أو شوطا منه ناسيا أو عامدا رجع من
بلده أو من حيث ذكر إلى مكة، فيطوف ويسعى، لان السعي لا يكون إلا متصلا بالطواف.
وسواء عند مالك كان ذلك في حج أو عمرة وإن لم يكن في العمرة فرضا، فإن كان قد أصاب
النساء فعليه عمرة وهدي عند مالك مع تمام مناسكه. وقال الشافعي: عليه هدى، ولا
معنى للعمرة إذا رجع وطاف وسعي. وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والشعبي: ليس
بواجب، فإن تركه أحد من الحاج حتى يرجع إلى بلاده جبره بالدم، لأنه سنة من سنن
الحج. وهو قول مالك في العتبية «2». وروي عن ابن عباس وابن الزبير وأنس بن مالك
وابن سيرين أنه تطوع، لقوله تعالى:" وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً". وقرا
حمزة والكسائي" يطوع" مضارع مجزوم، وكذلك" فمن تطوع خيرا فهو خير
له" الباقون" تَطَوَّعَ" ماض، وهو ما يأتيه المؤمن من قبل نفسه فمن
أتى بشيء من النوافل فإن الله يشكره. وشكر الله للعبد إثابته على الطاعة. والصحيح
ما ذهب إليه الشافعي رحمه الله تعالى لما ذكرنا، وقوله عليه السلام: (خذوا عني
مناسككم) فصار بيانا لمجمل الحج، فالواجب أن يكون فرضا، كبيانه لعدد الركعات، وما
كان مثل ذلك إذا لم يتفق على أنه سنة أو تطوع. وقال طليب: رأى ابن عباس قوما
يطوفون بين الصفا والمروة فقال: هذا ما أورثتكم أمكم أم إسماعيل.
__________
(1). شدا: أي عدوا.
(2). العتبية: كتاب في مذهب الامام مالك، نسبت إلى مؤلفها فقيه الأندلسي محمد بن
أحمد بن عبد العزيز العتبى القرطبي المتوفى سنة 254 هـ.
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159)
قلت:
وهذا ثابت في صحيح البخاري، على ما يأتي بيانه في سورة" إبراهيم «1»".
التاسعة- ولا يجوز أن يطوف أحد بالبيت ولا بين الصفا والمروة راكبا إلا من عذر،
فإن طاف معذورا فعليه دم، وإن طاف غير معذور أعاد إن كان بحضرة البيت، وإن غاب عنه
أهدى. إنما قلنا ذلك لان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طاف بنفسه وقال:
(خذوا عني مناسككم). وإنما جوزنا ذلك من العذر، لان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ طاف على بعيره واستلم الركن بمحجنه «2»، وقال لعائشة وقد قالت له: إني
أشتكى، فقال: (طوفي من وراء الناس وأنت راكبة). وفرق أصحابنا بين أن يطوف على بعير
أو يطوف على ظهر إنسان، فإن طاف على ظهر إنسان لم يجزه، لأنه حينئذ لا يكون طائفا،
وإنما الطائف الحامل. وإذا طاف على بعير يكون هو الطائف. قال ابن خويز منداد: وهذه
تفرقة اختيار، وأما الاجزاء فيجزئ، ألا ترى أنه لو أغمي عليه فطيف به محمولا، أو
وقف به بعرفات محمولا كان مجزئا عنه.
[سورة البقرة (2): آية 159]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ
بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ
وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (159)
فيه سبع مسائل: الاولى- أخبر الله تعالى أن الذي يكتم ما أنزل من البينات والهدى
ملعون. واختلفوا من المراد بذلك، فقيل: أحبار اليهود ورهبان النصارى الذين كتموا
أمر محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد كتم اليهود أمر الرجم. وقيل:
المراد كل من كتم الحق، فهي عامة في كل من كتم علما من دين الله يحتاج إلى بثه،
وذلك مفسر في قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (من سئل عن علم [يعلمه «3»]
فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار). رواه أبو هريرة وعمرو بن العاص،
أخرجه ابن ماجة. ويعارضه قول عبد الله بن مسعود: ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه
عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة. وقال عليه السلام: (حدث الناس بما يفهمون أتحبون أن
__________
(1). راجع ج 9 ص 368.
(2). المحجن: عصا معوجة الرأس يتناول بها الراكب ما سقط له.
(3). الزيادة عن سنن ابن ماجة.
يكذب
الله ورسوله (. وهذا محمول على بعض العلوم، كعلم الكلام أو ما لا يستوي في فهمه
جميع العوام، فحكم العالم أن يحدث بما يفهم عنه، وينزل كل إنسان منزلته، والله
تعالى أعلم. الثانية- هذه الآية هي التي أراد أبو هريرة رضي الله عنه في قوله:
لولا «1» آية في كتاب الله تعالى ما حدثتكم حديثا. وبها استدل العلماء على وجوب
تبليغ العلم الحق، وتبيان العلم على الجملة، دون أخذ الأجرة عليه، إذ لا يستحق
الأجرة على ما عليه فعله، كما لا يستحق الأجرة على الإسلام. وقد مضى القول «2» في
هذا. وتحقيق الآية هو: أن العالم إذا قصد كتمان العلم عصى، وإذا لم يقصده لم يلزمه
التبليغ إذا عرف أنه مع غيره. وأما من سئل فقد وجب عليه التبليغ لهذه الآية
وللحديث. أما أنه لا يجوز تعليم الكافر القرآن والعلم حتى يسلم، وكذلك لا يجوز
تعليم المبتدع الجدال والحجاج ليجادل به أهل الحق، ولا يعلم الخصم على خصمه حجة
يقطع بها ماله، ولا السلطان تأويلا يتطرق به إلى مكاره الرعية، ولا ينشر الرخص في
السفهاء فيجعلوا ذلك طريقا إلى ارتكاب المحظورات، وترك الواجبات ونحو ذلك. يروى عن
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: (لا تمنعوا الحكمة أهلها
فتظلموهم ولا تضعوها في غير أهلها فتظلموها). وروي عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أنه قال: (لا تعلقوا الدر في أعناق الخنازير)، يريد تعليم الفقه من ليس من أهله.
وقد قال سحنون: إن حديث أبى هريرة وعمرو بن العاص إنما جاء في الشهادة. قال ابن
العربي: والصحيح خلافه، لان في الحديث (من سئل عن علم) ولم يقل عن شهادة، والبقاء
على الظاهر حتى يرد عليه ما يزيله، والله أعلم. الثالثة- قوله تعالى:" مِنَ
الْبَيِّناتِ وَالْهُدى " يعم المنصوص عليه والمستنبط، لشمول اسم الهدى
للجميع. وفية دليل على وجوب العمل بقول الواحد، لأنه لا يجب عليه البيان إلا وقد
وجب قبول قوله، وقال:" إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا
وَبَيَّنُوا" فحكم بوقوع البيان بخبرهم.
__________
(1). الذي في صحيح البخاري وسنن ابن ماجة:" لولا آيتان".
(2). تراجع المسألة الثانية ج 1 ص 335 طبعه ثانية.
فإن
قيل: إنه يجوز أن يكون كل واحد منهم منهيا عن الكتمان ومأمورا بالبيان ليكثر
المخبرون ويتواتر بهم الخبر. قلنا: هذا غلط، لأنهم لم ينهوا عن الكتمان إلا وهم
ممن يجوز عليهم التواطؤ عليه، ومن جاز منهم التواطؤ على الكتمان فلا يكون خبرهم
موجبا للعلم، والله تعالى أعلم. الرابعة- لما قال:" مِنَ الْبَيِّناتِ
وَالْهُدى " دل على أن ما كان من غير ذلك جائز كتمه، لا سيما إن كان مع ذلك
خوف فإن ذلك آكد في الكتمان. وقد ترك أبو هريرة ذلك حين خاف فقال: حفظت عن رسول
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعاءين، فأما أحدهما فبثثته، وأما الأخر
فلو بثثته قطع هذا البلعوم. أخرجه البخاري. قال أبو عبد الله «1»: البلعوم مجرى الطعام.
قال علماؤنا: وهذا الذي لم يبثه أبو هريرة وخاف على نفسه فيه الفتنة أو القتل إنما
هو مما يتعلق بأمر الفتن والنص على أعيان المرتدين والمنافقين، ونحو هذا مما لا
يتعلق بالبينات والهدى، والله تعالى أعلم. الخامسة- قوله تعالى:" مِنْ بَعْدِ
ما بَيَّنَّاهُ" الكناية في" بَيَّنَّاهُ" ترجع إلى ما أنزل من
البينات والهدى. والكتاب: اسم جنس، فالمراد جميع الكتب المنزلة. السادسة- قوله
تعالى:" أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ" أي يتبرأ منهم ويبعد هم من
ثوابه ويقول لهم: عليكم لعنتي، كما قال للعين:" وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي".
واصل اللعن في اللغة الابعاد والطرد، وقد تقدم «2». السابعة- قوله تعالى:"
وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ" قال قتادة والربيع: المراد ب"
اللَّاعِنُونَ" الملائكة والمؤمنون. قال ابن عطية: وهذا واضح جار على مقتضى
الكلام. وقال مجاهد وعكرمة: هم الحشرات والبهائم يصيبهم الجدب بذنوب علماء السوء
الكاتمين فيلعنونهم. قال الزجاج: والصواب قول من قال:" اللَّاعِنُونَ"
الملائكة والمؤمنون، فأما أن يكون ذلك لدواب الأرض فلا يوقف على حقيقته إلا بنص أو
خبر لازم ولم نجد من ذينك شيئا.
__________
(1). أبو عبد الله: كنية البخاري رضى الله عنه.
(2). يراجع ص 25 من هذا الجزء.
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)
قلت:
قد جاء بذلك خبر رواه البراء بن عازب رضى الله عنه قال قال رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله تعالى:" يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ
وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ" قال: (دواب الأرض). أخرجه ابن ماجة عن محمد بن
الصباح أنبأنا عمار بن محمد عن ليث عن أبي المنهال عن زاذان عن البراء، إسناد حسن.
فإن قيل: كيف جمع من لا يعقل جمع من يعقل؟. قيل: لأنه أسند إليهم فعل من يعقل، كما
قال:" رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ «1»" ولم يقل ساجدات، وقد قال:"
لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا «2»"، وقال:" وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ
«3»"، ومثله كثير، وسيأتي إن شاء الله تعالى. وقال البراء بن عازب وابن
عباس:" اللَّاعِنُونَ" كل المخلوقات ما عدا الثقلين: الجن والانس، وذلك
أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (الكافر إذا ضرب في قبره فصاح
سمعه الكل إلا الثقلين ولعنه كل سامع). وقال ابن مسعود والسدي: (هو الرجل يلعن
صاحبه فترتفع اللعنة إلى السماء ثم تنحدر فلا تجد صاحبها الذي قيلت فيه أهلا لذلك،
فترجع إلى الذي تكلم بها فلا تجده أهلا فتنطلق فتقع على اليهود الذين كتموا ما
أنزل الله تعالى، فهو قوله:" وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ" فمن مات
منهم ارتفعت اللعنة عنه فكانت فيمن بقي من اليهود.
[سورة البقرة (2): آية 160]
إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ
وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)
قوله تعالى:" إِلَّا الَّذِينَ تابُوا" استثنى تعالى التائبين الصالحين
لأعمالهم وأقوالهم المنيبين لتوبتهم. ولا يكفى في التوبة عند علمائنا قول القائل:
قد تبت، حتى يظهر منه في الثاني خلاف الأول، فإن كان مرتدا رجع إلى الإسلام مظهرا
شرائعه، وإن كان من أهل المعاصي ظهر منه العمل الصالح، وجانب أهل الفساد والأحوال
التي كان عليها، وإن كان من أهل الأوثان جانبهم وخالط أهل الإسلام، وهكذا يظهر عكس
ما كان عليه. وسيأتي بيان التوبة وأحكامها في" النساء «4»" إن شاء الله
تعالى. وقال بعض العلماء في قوله:
__________
(1). راجع ج 9 ص 122.
(2). راجع ج 15 ص 350.
(3). راجع ج 7 ص 344.
(4). راجع ج 5 ص 91.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162)
"
وَبَيَّنُوا" أي بكسر الخمر وإراقتها. وقيل:" بَيَّنُوا" يعنى ما
في التوراة من نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ووجوب اتباعه. والعموم
أولى على ما بيناه، أي بينوا خلاف ما كانوا عليه، والله تعالى أعلم."
فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ" تقدم «1»
والحمد لله.
[سورة البقرة (2): الآيات 161 الى 162]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ
اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خالِدِينَ فِيها لا
يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (162)
فيه ثلاث مسائل: الاولى- قوله تعالى:" وَهُمْ كُفَّارٌ" الواو واو
الحال. قال ابن العربي: قال لي كثير من أشياخي إن الكافر المعين لا يجوز لعنه، لان
حاله عند الموافاة لا تعلم، وقد شرط الله تعالى في هذه الآية في إطلاق اللعنة:
الموافاة على الكفر، وأما ما روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه
لعن أقواما بأعيانهم من الكفار فإنما كان ذلك لعلمه بمالهم. قال ابن العربي:
والصحيح عندي جواز لعنه لظاهر حاله ولجواز قتله وقتاله، وقد روي عن النبي صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: (اللهم إن عمرو بن العاص هجاني وقد علم أنى
لست بشاعر فالعنه واهجه عدد ما هجاني). فلعنه، وإن كان الايمان والدين والإسلام مآله.
وانتصف بقوله: (عدد ما هجاني) ولم يزد ليعلم العدل والانصاف. وأضاف الهجو إلى الله
تعالى في باب الجزاء دون الابتداء بالوصف بذلك، كما يضاف إليه المكر والاستهزاء
والخديعة. سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا. قلت: أما لعن الكفار جملة
من غير تعيين فلا خلاف في ذلك، لما رواه مالك عن داود بن الحصين أنه سمع الأعرج
يقول: ما أدركت الناس إلا وهم يلعنون الكفرة في رمضان. قال علماؤنا: وسواء كانت
لهم ذمة أم لم تكن، وليس ذلك بواجب، ولكنه مباح لمن
__________
(1). تراجع المسألة الخامسة وما بعدها ج 1 ص 325 طبعه ثانية. [.....]
فعله،
لجحدهم الحق وعداوتهم للدين واهلة، وكذلك كل من جاهر بالمعاصي كشراب الخمر وأكلة
الربا، ومن تشبه من النساء بالرجال ومن الرجال بالنساء، إلى غير ذلك مما ورد في
الأحاديث لعنه. الثانية- ليس لعن الكافر بطريق الزجر له عن الكفر، بل هو جزاء على
الكفر وإظهار قبح كفره، كان الكافر ميتا أو مجنونا. وقال قوم من السلف: إنه لا
فائدة في لعن من جن أو مات منهم، لا بطريق الجزاء ولا بطريق الزجر، فإنه لا يتأثر
به. والمراد بالآية على هذا المعنى أن الناس يلعنونه يوم القيامة ليتأثر بذلك
ويتضرر ويتألم قلبه، فيكون ذلك جزاء على كفره، كما قال تعالى:" ثُمَّ يَوْمَ
الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً
«1»"، ويدل على هذا القول أن الآية دالة على الاخبار عن الله تعالى بلعنهم،
لا على الامر. وذكر ابن العربي أن لعن العاصي المعين لا يجوز اتفاقا، لما روي عن
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه أتي بشارب خمر مرارا، فقال بعض من
حضره: لعنه الله، ما أكثر ما يؤتى به، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: (لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم) فجعل له حرمة الاخوة، وهذا يوجب
الشفقة، وهذا حديث صحيح. قلت: خرجه البخاري ومسلم، وقد ذكر بعض العلماء خلافا في
لعن العاصي المعين، قال: وإنما قال عليه السلام: (لا تكونوا عون الشيطان على
أخيكم) في حق نعيمان «2» بعد إقامة الحد عليه، ومن أقيم عليه حد الله تعالى فلا
ينبغي لعنه، ومن لم يقم عليه الحد فلعنته جائزة سواء سمي أو عين أم لا، لان النبي
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يلعن إلا من تجب عليه اللعنة ما دام على تلك
الحالة الموجبة للعن، فإذا تاب منها وأقلع وطهره الحد فلا لعنة تتوجه عليه. وبين
هذا قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد
ولا يثرب «3».
__________
(1). راجع ج 13 ص 339.
(2). نعمان: هو ابن عمرو بن رفاعة، شهد العقبة وبدرا والمشاهد بعدها، وكان كثير
المزاح، يضحك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من مزاحه. (عن أسد الغابة).
(3). قال ابن الأثير في النهاية:" أي لا يوبخها ولا يقرعها بالزنا بعد الضرب.
وقيل: أراد لا يقنع في عقوبتها بالتثريب بل يضربها الحد".
وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)
فدل
هذا الحديث مع صحته على أن التثريب واللعن إنما يكون قبل أخذ الحد وقبل التوبة،
والله تعالى أعلم. قال ابن العربي: وأما لعن العاصي مطلقا فيجوز إجماعا، لما روي
عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: (لعن الله السارق يسرق
البيضة فتقطع يده). الثالثة- قوله تعالى:" أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ
اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ" أي إبعادهم من رحمته. واصل
اللعن: الطرد والابعاد، وقد تقدم «1». فاللعنة من العباد الطرد، ومن الله العذاب.
وقرا الحسن البصري" والملائكة والناس أجمعون" بالرفع. وتأويلها: أولئك
جزاءهم أن يلعنهم الله ويلعنهم الملائكة ويلعنهم الناس أجمعون، كما تقول: كرهت قيام
زيد وعمرو وخالد، لان المعنى: كرهت أن قام زيد. وقراءة الحسن هذه مخالفة للمصاحف.
فإن قيل: ليس يلعنهم جميع الناس لان قومهم لا يلعنونهم، قيل عن هذا ثلاثة أجوبة،
أحدها- أن اللعنة من أكثر الناس يطلق عليها لعنة الناس تغليبا لحكم الأكثر على
الأقل. الثاني- قال السدى: كل أحد يلعن الظالم، وإذا لعن الكافر الظالم فقد لعن
نفسه. الثالث- قال أبو العالية: المراد به يوم القيامة يلعنهم قومهم مع جميع
الناس، كما قال تعالى:" ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ
بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً «2»". ثم قال عز وجل:"
خالِدِينَ فِيها" يعنى في اللعنة، أي في جزائها. وقيل: خلودهم في اللعنة أنها
مؤبدة عليهم" وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ" أي لا يؤخرون عن العذاب وقتا من
الأوقات." و" خالِدِينَ" نصب على الحال من الهاء والميم في"
عَلَيْهِمْ"، والعامل فيه الظرف من قوله:" عَلَيْهِمْ" لان فيها
معنى استقرار اللعنة.
[سورة البقرة (2): آية 163]
وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (163)
فيه مسألتان: الاولى- قوله تعالى:" وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ" لما حذر
تعالى من كتمان الحق بين أن أول ما يجب إظهاره ولا يجوز كتمانه أمر التوحيد، ووصل
ذلك بذكر البرهان، وعلم طريق
__________
(1). راجع ص 25 من هذا الجزء.
(2). راجع ج 13 ص 339.
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)
النظر،
وهو الفكر في عجائب الصنع، ليعلم أنه لا بد له من فاعل لا يشبهه شي. قال ابن عباس
رضي الله عنهما: قالت كفار قريش: يا محمد انسب لنا ربك، فأنزل الله تعالى
سورة" الإخلاص" وهذه الآية. وكان للمشركين ثلاثمائة وستون صنما، فبين
الله أنه واحد. الثانية- قوله تعالى:" لا إِلهَ إِلَّا هُوَ" نفى
وإثبات. أولها كفر وآخرها إيمان، ومعناه لا معبود إلا الله. وحكى عن الشبلي رحمه
الله أنه كان يقول: الله، ولا يقول: لا إله، فسئل عن ذلك فقال أخشى أن آخذ في كلمة
الجحود ولا أصل إلى كلمة الإقرار. قلت: وهذا من علومهم الدقيقة، التي ليست لها حقيقة،
فإن الله جل اسمه ذكر هذا المعنى في كتابه نفيا وإثباتا وكرره، ووعد بالثواب
الجزيل لقائله على لسان نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خرجه الموطأ
والبخاري ومسلم وغيرهم. وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (من كان آخر
كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة). خرجه مسلم. والمقصود القلب لا اللسان، فلو قال:
لا إله ومات ومعتقده وضميره الوحدانية وما يجب له من الصفات لكان من أهل الجنة
باتفاق أهل السنة. وقد أتينا على معنى اسمه الواحد، ولا إله إلا هو والرحمن الرحيم
في" الكتاب الأسنى، في شرح أسماء الله الحسنى". والحمد لله.
[سورة البقرة (2): آية 164]
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ
وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ
اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها
وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ
الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)
فيه أربع عشرة مسألة: الاولى- قال عطاء: لما نزلت" وَإِلهُكُمْ إِلهٌ
واحِدٌ" قالت كفار قريش: كيف يسع الناس إله واحد! فنزلت" إِنَّ فِي
خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ". ورواه سفيان عن أبيه
عن
أبي الضحى قال: لما نزلت" وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ" قالوا هل من دليل
على ذلك؟ فأنزل الله تعالى" إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ"
فكأنهم طلبوا آية فبين لهم دليل التوحيد، وأن هذا العالم والبناء العجيب لا بد له
من بان وصانع. وجمع السموات لأنها أجناس مختلفة كل سماء من جنس غير جنس الأخرى.
ووحد الأرض لأنها كلها تراب، والله تعالى أعلم. فآية السموات: ارتفاعها بغير عمد
من تحتها ولا علائق من فوقها، ودل ذلك على القدرة وخرق العادة. ولو جاء نبي فتحدى
بوقوف جبل في الهواء دون علاقة كان معجزا. ثم ما فيها من الشمس والقمر والنجوم
السائرة والكواكب الزاهرة شارقة وغاربة نيرة وممحوة آية ثانية. وآية الأرض: بحارها
وأنهارها ومعادنها وشجرها وسهلها ووعرها. الثانية- قوله تعالى:" وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ
وَالنَّهارِ" قيل: اختلافهما بإقبال أحدهما وإدبار الأخر من حيث لا يعلم.
وقيل: اختلافهما في الأوصاف من النور والظلمة والطول والقصر. والليل جمع ليلة، مثل
تمرة وتمر ونخلة ونخل. ويجمع أيضا ليالي وليال بمعنى، وهو مما شذ عن قياس الجموع،
كشبه ومشابه وحاجة وحوائج وذكر ومذاكر، وكان ليالي في القياس جمع ليلاة. وقد
استعملوا ذلك في الشعر قال:
في كل يوم وكل ليلاة
وقال آخر:
في كل يوم ما وكل ليلاه ... حتى يقول كل راء إذ رآه
يا ويحه من جمل ما أشقاه
قال ابن فارس في المجمل: ويقال إن بعض الطير يسمى ليلا، ولا أعرفه «1». والنهار
يجمع نهر وأنهرة. قال أحمد بن يحيى ثعلب: نهر جمع نهر وهو جمع [الجمع «2»] للنهار،
وقيل النهار اسم
__________
(1). قال الجوهري في الصحاح:" وذكر قوم أن الليل ولد الكروان، وأن النهار ولد
الحبارى، وقد جاء ذلك في بعض الاشعار".
(2). زيادة عن اللسان.
مفرد
لم يجمع لأنه بمعنى المصدر، كقولك الضياء، يقع على القليل والكثير. والأول أكثر،
قال الشاعر:
لولا الثريدان هلكنا بالضمر ... ثريد ليل وثريد بالنهر
قال ابن فارس: النهار معروف، والجمع نهر وأنهار. ويقال: إن النهار يجمع على النهر.
والنهار: ضياء ما بين طلوع الفجر إلى غروب الشمس. ورجل نهر: صاحب نهار. ويقال: إن
النهار فرخ الحبارى. قال النضر بن شميل: أول النهار طلوع الشمس، ولا يعد ما قبل
ذلك من النهار. وقال ثعلب: أوله عند العرب طلوع الشمس، استشهد بقول أمية بن أبى
الصلت:
والشمس تطلع كل آخر ليلة ... حمراء يصبح لونها يتورد
وأنشد قول عدي بن زيد:
وجاعل الشمس مصرا «1» لا خفاء به ... بين النهار وبين الليل قد فصلا
وأنشد الكسائي:
إذا طلعت شمس النهار فإنها ... أمارة تسليمي عليك فسلمي
قال الزجاج في كتاب الأنواء: أول النهار ذرور الشمس. وقسم ابن الأنباري الزمن
ثلاثة أقسام: قسما جعله ليلا محضا، وهو من غروب الشمس إلى طلوع الفجر. وقسما جعله
نهارا محضا، وهو من طلوع الشمس إلى غروبها. وقسما جعله مشتركا بين النهار والليل،
وهو ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، لبقايا ظلمة الليل ومبادئ ضوء النهار. قلت:
والصحيح أن النهار من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، كما رواه ابن فارس في المجمل،
يدل عليه ما ثبت في صحيح مسلم عن عدي بن حاتم قال: لما نزلت" حَتَّى
يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ
الْفَجْرِ" قال له عدي: يا رسول الله، إني أجعل تحت وسادتي عقالين: عقالا
أبيض وعقالا أسود، أعرف بهما الليل من النهار. فقال
__________
(1). المصر: الحاجز بين الشيئين.
رسول
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن وسادك لعريض إنما هو سواد الليل
وبياض النهار). فهذا الحديث يقضى أن النهار من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وهو
مقتضى الفقه في الايمان، وبه ترتبط الأحكام. فمن حلف ألا يكلم فلانا نهارا فكلمه
قبل طلوع الشمس حنث، وعلى الأول لا يحنث. وقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ هو الفيصل في ذلك والحكم. وأما على ظاهر اللغة واخذه من السنة فهو من
وقت الاسفار إذا اتسع وقت النهار، كما قال «1»:
ملكت بها كفي فأنهرت فتقها ... يرى قائم من دونها ما وراءها
وقد جاء عن حذيفة ما يدل على هذا القول، خرجه النسائي. وسيأتي في آي الصيام «2» إن
شاء الله تعالى. الثالثة- قوله تعالى:" وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي
الْبَحْرِ" الفلك: السفن، وإفراده وجمعه بلفظ واحد، ويذكر ويؤنث. وليست
الحركات في المفرد تلك بأعيانها في الجمع، بل كأنه بنى الجمع بناء آخر، يدل على
ذلك توسط التثنية في قولهم: فلكان. والفلك المفرد مذكر، قال تعالى:" فِي
الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ «3»" فجاء به مذكرا، وقال:" وَالْفُلْكِ الَّتِي
تَجْرِي فِي الْبَحْرِ" فأنث. ويحتمل واحدا وجمعا، وقال:" حَتَّى إِذا
كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ «4»" فجمع،
فكأنه يذهب بها إذا كانت واحدة إلى المركب فيذكر، وإلى السفينة فيؤنث. وقيل: واحده
فلك، مثل أسد وأسد، وخشب وخشب، وأصله من الدوران، ومنه: فلك السماء التي تدور عليه
النجوم. وفلكت الجارية استدار ثديها، ومنه فلكة المغزل. وسميت السفينة فلكا لأنها
تدور بالماء أسهل دور. ووجه الآية في الفلك: تسخير الله إياها حتى تجري على وجه
الماء ووقوفها فوقه مع ثقلها. وأول من عملها نوح عليه السلام كما أخبر تعالى، وقال
له جبريل: اصنعها على جؤجؤ «5» الطائر، فعملها نوح عليه السلام وراثة في العالمين
بما أراه جبريل. فالسفينة طائر مقلوب والماء في أسفلها نظير الهواء في أعلاها،
قاله ابن العربي.
__________
(1). هو قيس بن الخطيم، يصف طعنة.
(2). راجع ص 273 من هذا الجزء.
(3). راجع ج 15 ص 34.
(4). راجع ج 8 ص 324.
(5). الجؤجؤ: الصدر. وقيل: عظامه.
الرابعة-
هذه الآية وما كان مثلها دليل على جواز ركوب البحر مطلقا لتجارة كان أو عبادة،
كالحج والجهاد. ومن السنة حديث أبي هريرة قال: جاء رجل إلى رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله، إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل
من الماء. الحديث. وحديث أنس بن مالك في قصة أم حرام، أخرجهما الأئمة: مالك وغيره.
روى حديث أنس عنه جماعة عن إسحاق بن عبد الله بن أبى طلحة عن أنس، ورواه بشر بن
عمر عن مالك عن إسحاق عن أنس عن أم حرام، جعله من مسند أم حرام لا من مسند أنس.
هكذا حدث عنه به بندار محمد بن بشار، ففيه دليل واضح على ركوب البحر في الجهاد
للرجال والنساء، وإذا جاز ركوبه للجهاد فركوبه للحج المفترض أولى وأوجب. وروي عن
عمر ابن الخطاب وعمر بن عبد العزيز رضى الله عنهما المنع من ركوبه. والقرآن والسنة
يرد هذا القول، ولو كان ركوبه يكره أو لا يجوز لنهى عنه النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذين قالوا له: إنا نركب البحر. وهذه الآية وما كان مثلها نص
في الغرض واليها المفزع. وقد تؤول ما روي عن العمرين في ذلك بأن ذلك محمول على
الاحتياط وترك التغرير بالمهج في طلب الدنيا والاستكثار منها، وأما في أداء
الفرائض فلا. ومما يدل على جواز ركوبه من جهة المعنى أن الله تعالى ضرب البحر وسط
الأرض وجعل الخلق في العدوتين «1»، وقسم المنافع بين الجهتين فلا يوصل إلى جلبها
إلا بشق البحر لها، فسهل الله سبيله بالفلك، قاله ابن العربي. قال أبو عمر: وقد
كان مالك يكره للمرأة الركوب للحج في البحر، وهو للجهاد لذلك أكره. والقرآن والسنة
يرد قوله، إلا أن بعض أصحابنا من أهل البصرة قال: إنما كره ذلك مالك لان السفن
بالحجاز صغار، وأن النساء لا يقدرن على الاستتار عند الخلاء فيها لضيقها وتزاحم
الناس فيها، وكان الطريق من المدينة إلى مكة على البر ممكنا، فلذلك كره مالك ذلك.
وأما السفن الكبار نحو سفن أهل البصرة فليس بذلك بأس. قال: والأصل أن الحج على كل
من استطاع إليه سبيلا من الأحرار البالغين، نساء كانوا أو رجالا، إذا كان الأغلب من
الطريق الأمن، ولم يخص بحرا من بر.
__________
(1). العدوة: شاطئ الوادي. [.....]
قلت:
فدل الكتاب والسنة والمعنى على إباحة ركوبه للمعنيين جميعا: العبادة والتجارة، فهي
الحجة وفيها الأسوة. إلا أن الناس في ركوب البحر تختلف أحوالهم، فرب راكب يسهل
عليه ذلك ولا يشق، وآخر يشق عليه ويضعف به، كالمائد «1» المفرط الميد، ومن لم يقدر
معه على أداء فرض الصلاة ونحوها من الفرائض، فالأول ذلك له جائز، والثاني يحرم
عليه ويمنع منه. لا خلاف بين أهل العلم وهى: الخامسة- إن البحر إذا أرتج «2» لم
يجز ركوبه لاحد بوجه من الوجوه في حين ارتجاجه ولا في الزمن الذي الأغلب فيه عدم
السلامة، وإنما يجوز عندهم ركوبه في زمن تكون السلامة فيه الأغلب، فإن الذين
يركبونه حال السلامة وينجون لا حاصر لهم، والذين يهلكون فيه محصورون. السادسة-
قوله تعالى:" بِما يَنْفَعُ النَّاسَ" أي بالذي ينفعهم من التجارات وسائر
المآرب التي تصلح بها أحوالهم. وبركوب البحر تكتسب الأرباح، وينتفع من يحمل إليه
المتاع أيضا. وقد قال بعض من طعن في الدين: إن الله تعالى يقول في كتابكم:"
ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ «3»" فأين ذكر التوابل المصلحة
للطعام من الملح والفلفل وغير ذلك؟ فقيل له في قوله:" بِما يَنْفَعُ
النَّاسَ". السابعة- قوله تعالى:" وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ
مِنْ ماءٍ" يعني بها الأمطار التي بها إنعاش العالم وإخراج النبات والأرزاق،
وجعل منه المخزون عدة للانتفاع في غير وقت نزوله، كما قال تعالى:"
فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ «4»". الثامنة- قوله تعالى:" وَبَثَّ
فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ" أي فرق ونشر، ومنه" كَالْفَراشِ
الْمَبْثُوثِ «5»". ودابة تجمع الحيوان كله، وقد أخرج بعض الناس الطير، وهو
مردود،
__________
(1). المائد: الذي يركب البحر فتغثى نفسه حتى يدار به ويكاد يغشى عليه.
(2). أرتج البحر: إذا هاج. وقيل: إذا كثر ماؤه فعم كل شي.
(3). راجع ج 6 ص 420.
(4). راجع ج 12 ص 112.
(5). راجع ج 20 ص 165.
قال
الله تعالى:" وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ
رِزْقُها «1»" فإن الطير يدب على رجليه في بعض حالاته، قال الأعشى:
دبيب قطا البطحاء في كل منهل
وقال علقمة بن عبدة:
صواعقها لطيرهن دبيب
التاسعة- قوله تعالى:" وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ" تصريفها: إرسالها عقيما
وملقحة، وصرا ونصرا وهلاكا، وحارة وباردة، ولينة وعاصفة. وقيل: تصريفها إرسالها
جنوبا وشمالا، ودبورا وصبا، ونكباء، وهى التي تأتى بين مهبى ريحين. وقيل: تصريفها
أن تأتى السفن الكبار بقدر ما تحملها، والصغار كذلك، ويصرف عنهما ما يضربهما، ولا
اعتبار بكبر القلاع ولا صغرها، فإن الريح لو جاءت جسدا واحدا لصدمت القلاع وأغرقت.
والرياح جمع ريح سميت به لأنها تأتى بالروح غالبا. روى أبو داود عن أبي هريرة قال
سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: (الريح من روح الله تأتى
بالرحمة وتأتى بالعذاب فإذا رأيتموها فلا تسبوها واسألوا الله خيرها واستعيذوا
بالله من شرها «2»). وأخرجه أيضا ابن ماجة في سننه حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة
حدثنا يحيى بن سعيد عن الأوزاعي عن الزهري حدثنا ثابت الزرقي عن أبي هريرة قال قال
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا تسبوا الريح فإنها من روح الله
تأتى بالرحمة والعذاب ولكن سلوا الله من خيرها وتعوذوا بالله من شرها (. وروي عن
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: (لا تسبوا الريح فإنها من نفس
الرحمن). المعنى: أن الله تعالى جعل فيها التفريج والتنفيس والترويح، والإضافة من
طريق الفعل. والمعنى: أن الله تعالى جعلها كذلك. وفي صحيح مسلم عن ابن عباس عن
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: (نصرت «3» بالصبا وأهلكت عاد
بالدبور). وهذا معنى ما جاء في الخبر أن الله سبحانه وتعالى
__________
(1). راجع ج 9 ص 6.
(2). كذا ورد في سنن أبى داود. والذي في الأصول:" الريح من روح الله. قال
سلمة: فروح الله عز وجل تأتى ..." إلخ وسلمة هذا أحد من روى عنهم أبو داود
هذا الحديث.
(3). أي يوم الأحزاب. وسيأتي معنى" الصبا والدبور".
فرج
عن نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالريح يوم الأحزاب، فقال تعالى:"
فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها «1»". ويقال: نفس
الله عن فلان كربة من كرب الدنيا، أي فرج عنه. وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة
رضي الله عنه: (من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم
القيامة). أي فرج عنه. وقال الشاعر:
كأن الصبا ريح إذا ما تنسمت ... على كبد مهموم تجلت همومها
قال ابن الاعرابي: النسيم أول هبوب الريح. واصل الريح روح، ولهذا قيل في جمع القلة
أرواح، ولا يقال: أرياح، لأنها من ذوات الواو، وإنما قيل: رياح من جهة الكثرة وطلب
تناسب الياء معها. وفي مصحف حفصة" وتصريف الأرواح". العاشرة- قوله
تعالى:" وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ" قرأ حمزة والكسائي" الريح"
على الافراد، وكذا في الأعراف والكهف وإبراهيم والنمل والروم وفاطر والشورى
والجاثية، لا خلاف بينهما في ذلك. ووافقهما ابن كثير في الأعراف والنمل والروم
وفاطر والشورى. وأفرد حمزة" الريح لواقح «2»". وأفرد ابن كثير" وهو
الذي أرسل الريح «3»" في الفرقان. وقرا الباقون بالجمع في جميعها سوى الذي في
إبراهيم والشورى فلم يقرأهما بالجمع سوى نافع، ولم يختلف السبعة فيما سوى هذه
المواضع. والذي ذكرناه في الروم هو الثاني" اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ
الرِّياحَ «4»". ولا خلاف بينهم في" الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ". وكان
أبو جعفر يزيد بن القعقاع يجمع الرياح إذا كان فيها ألف ولام في جميع القرآن،
سوى" تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ" و" الرِّيحَ الْعَقِيمَ". فإن لم
يكن فيه ألف ولام أفرد. فمن وحد الريح فلانه اسم للجنس يدل على القليل والكثير.
ومن جمع فلاختلاف الجهات التي تهب منها الرياح. ومن جمع مع الرحمة ووجد مع العذاب
فإنه فعل ذلك اعتبارا بالأغلب في القرآن، نحو:" الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ"
و" الرِّيحَ الْعَقِيمَ" فجاءت في القرآن مجموعة مع الرحمة مفردة مع
العذاب، إلا في يونس في قوله:" وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ".
وروي أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقول إذا هبت الريح:
(اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا). وذلك لان ريح العذاب شديدة ملتئمة الاجزاء
كأنها جسم
__________
(1). راجع ج 14 ص 143.
(2). راجع ج 10 ص 15.
(3). راجع ج 13 ص 39.
(4). راجع ج 14 ص 44.
واحد، وريح الرحمة لينة متقطعة فلذلك هي رياح. فأفردت مع الفلك في" يونس"، لان ريح إجراء السفن إنما هي ريح واحدة متصلة ثم وصفت بالطيب فزال الاشتراك بينها وبين ريح العذاب. الحادية عشرة- قال العلماء: الريح تحرك الهواء، وقد يشتد ويضعف. فإذا بدت حركة الهواء من تجاه القبلة ذاهبة إلى سمت القبلة قيل لتلك الريح:" الصبا". وإذا بدت حركة الهواء من وراء القبلة وكانت ذاهبة إلى تجاه القبلة قيل لتلك الريح:" الدبور". وإذا بدت حركة الهواء عن يمين القبلة ذاهبة إلى يسارها قيل لها:" ريح الجنوب". وإذا بدت حركة الهواء عن يسار القبلة ذاهبة إلى يمينها قيل لها:" ريح الشمال". ولكل واحدة من هذه الرياح طبع، فتكون منفعتها بحسب طبعها، فالصبا حارة يابسة، والدبور باردة رطبة، والجنوب حارة رطبة، والشمال باردة يابسة. واختلاف طباعها كاختلاف طبائع فصول السنة. وذلك أن الله تعالى وضع للزمان أربعة فصول مرجعها إلى تغيير أحوال الهواء، فجعل الربيع الذي هو أول الفصول حارا رطبا، ورتب فيه النشء والنمو فتنزل فيه المياه، وتخرج الأرض زهرتها وتظهر نباتها، ويأخذ الناس في غرس الأشجار وكثير من الزرع، وتتوالد فيه الحيوانات وتكثر الألبان. فإذا انقضى الربيع تلاه الصيف الذي هو مشاكل للربيع في إحدى طبيعتيه وهي الحرارة، ومباين له في الأخرى وهي الرطوبة، لان الهواء في الصيف حار يابس، فتنضج فيه الثمار وتيبس فيه الحبوب المزروعة في الربيع. فإذا انقضى الصيف تبعه الخريف الذي هو مشاكل للصيف في إحدى طبيعتيه وهي اليبس، ومباين له في الأخرى وهي الحرارة، لان الهواء في الخريف بارد يابس، فيتناهى فيه صلاح الثمار وتيبس وتجف فتصير إلى حال الادخار، فتقطف الثمار وتحصد الأعناب وتفرغ من جمعها الأشجار. فإذا انقضى الخريف تلاه الشتاء وهو ملائم للخريف في إحدى طبيعتيه وهي البرودة، ومباين له في الأخرى وهو اليبس، لان الهواء في الشتاء بارد رطب، فتكثر الأمطار والثلوج وتمهد الأرض كالجسد المستريح، فلا تتحرك إلا أن يعبد الله تبارك وتعالى إليها حرارة
الربيع،
فإذا اجتمعت مع الرطوبة كان عند ذلك النشء والنمو بإذن الله سبحانه وتعالى. وقد
تهب رياح كثيرة سوى ما ذكرناه، إلا أن الأصول هذه الأربع. فكل ريح تهب بين ريحين
فحكمها حكم الريح التي تكون في هبوبها أقرب إلى مكانها وتسمى" النكباء".
الثانية عشرة- قوله تعالى:" وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ
وَالْأَرْضِ" سمى السحاب سحابا لانسحابه في الهواء. وسحبت ذيلي سحبا. وتسحب
فلان على فلان: اجترأ. والسحب: شدة الأكل والشرب. والمسخر: المذلل، وتسخيره بعثه
من مكان إلى آخر. وقيل: تسخيره ثبوته بين السماء والأرض من غير عمد ولا علائق،
والأول أظهر. وقد يكون بماء وبعذاب، روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (بينما رجل بفلاة من الأرض فسمع صوتا في
سحابة اسق حديقة فلان فتنحى ذلك السحاب فأفرغ ماءه في حرة فإذا شرجة «1» من تلك
الشراج قد استوعبت ذلك الماء كله فتتبع الماء فإذا رجل قائم في حديقته يحول الماء
بمسحاته فقال له يا عبد الله ما اسمك قال فلان للاسم الذي سمع في السحابة فقال له
يا عبد الله لم تسألني عن اسمي فقال إني سمعت صوتا في السحاب الذي هذا ماؤه يقول
اسق حديقة فلان لاسمك فما تصنع [فيها «2»] قال أما إذ قلت هذا فإني أنظر إلى ما
يخرج منها فأتصدق بثلثه وآكل أنا وعيالي ثلثا وارد فيها ثلثه (. وفي رواية"
وأجعل ثلثه في المساكين والسائلين وابن السبيل). وفي التنزيل:" وَاللَّهُ
الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ
«3»"، وقال:" حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالًا سُقْناهُ لِبَلَدٍ
مَيِّتٍ «4»" وهو في التنزيل كثير. وخرج ابن ماجة عن عائشة أن النبي صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا رأى سحابا مقبلا من أفق من الآفاق ترك ما هو
فيه وإن كان في صلاة حتى يستقبله فيقول: (اللهم إنا نعوذ بك من شر ما أرسل به) فإن
أمطر قال: (اللهم سيبا نافعا) مرتين أو ثلاثة، وإن كشفه الله ولم يمطر حمد الله
على ذلك. أخرجه مسلم بمعناه عن عائشة زوج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قالت: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا كان يوم الريح والغيم
عرف ذلك في وجهه
__________
(1). الحرة: أرض ذات أحجار سود. والشرجة: طريق الماء ومسيله.
(2). الزيادة عن صحيح مسلم. [.....]
(3). راجع ج 14 ص 326.
(4). راجع ج 7 ص 229.
وأقبل
وأدبر، فإذا مطرت سر به وذهب عنه ذلك. قالت عائشة: فسألته فقال: (إني خشيت أن يكون
عذابا سلط على أمتي). ويقول إذا رأى المطر: (رحمة). في رواية فقال: (لعله يا عائشة
كما قال قوم عاد" فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ
قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا «1». فهذه الأحاديث والآي تدل على صحة القول الأول
وأن تسخيرها ليس ثبوتها، والله تعالى أعلم. فإن الثبوت يدل على عدم الانتقال، فإن
أريد بالثبوت كونها في الهواء ليست في السماء ولا في الأرض فصحيح، لقوله"
بين" وهي مع ذلك مسخرة محمولة، وذلك أعظم في القدرة، كالطير في الهواء، قال
الله تعالى:" أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ
السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ «2»" وقال:" أَوَلَمْ
يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ
إِلَّا الرَّحْمنُ «3»". الثالثة عشرة- قال كعب الأحبار: السحاب غربال المطر،
لولا السحاب حين ينزل الماء من السماء لأفسد ما يقع عليه من الأرض، رواه عنه ابن
عباس. ذكره الخطيب أبو بكر أحمد بن على عن معاذ بن عبد الله بن خبيب الجهني قال:
رأيت ابن عباس مر على بغلة وأنا في بنى سلمة، فمر به تبيع ابن امرأة كعب فسلم على
ابن عباس فسأله ابن عباس: هل سمعت كعب الأحبار يقول في السحاب شيئا؟ قال: نعم،
قال: السحاب غربال المطر، لولا السحاب حين ينزل الماء من السماء لأفسد ما يقع عليه
من الأرض. قال: سمعت كعبا يقول في الأرض تنبت العام نباتا، وتنبت عاما قابلا غيره؟
قال نعم، سمعته يقول: إن البذر ينزل من السماء. قال ابن عباس: وقد سمعت ذلك من
كعب. الرابعة عشرة- قوله تعالى:" لَآياتٍ" أي دلالات تدل على وحدانيته
وقدرته، ولذلك ذكر هذه الأمور عقيب قوله:" وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ"
ليدل بها على صدق الخبر عما ذكره قبلها من وحدانيته سبحانه، وذكر رحمته ورأفته
بخلقه. وروي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: (ويل لمن قرأ
هذه الآية فمج بها) أي لم يتفكر فيها ولم يعتبرها. فإن قيل: فما أنكرت أنها أحدثت
أنفسها. قيل له: هذا محال، لأنها لو أحدثت أنفسها لم تخل من أن تكون أحدثتها وهي
موجودة أو هي معدومة، فإن أحدثتها وهى
__________
(1). راجع ج 16 ص 205.
(2). راجع ج 10 ص 152.
(3). راجع ج 18 ص 217.
معدومة
كان محالا، لان الأحداث لا يتأتى إلا من حي عالم قادر مريد، وما ليس بموجود لا يصح
وصفه بذلك، وإن كانت موجودة فوجودها يغنى عن إحداث أنفسها. وأيضا فلو جاز ما قالوه
لجاز أن يحدث البناء نفسه، وكذلك النجارة والنسج، وذلك محال، وما أدى إلى المحال
محال. ثم أن الله تعالى لم يقتصر بها في وحدانيته على مجرد الاخبار حتى قرن ذلك بالنظر
والاعتبار في آي من القرآن، فقال لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:"
قُلِ انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ «1»" والخطاب للكفار، لقوله
تعالى:" وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا
يُؤْمِنُونَ"، وقال:" أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ «2»" يعني بالملكوت الآيات. وقال:" وَفِي أَنْفُسِكُمْ
أَفَلا تُبْصِرُونَ «3»". يقول: أو لم ينظروا في ذلك نظر تفكر وتدبر حتى
يستدلوا بكونها محلا للحوادث والتغييرات على أنها محدثات، وأن المحدث لا يستغنى عن
صانع يصنعه، وأن ذلك الصانع حكيم عالم قدير مريد سميع بصير متكلم، لأنه لو لم يكن
بهذه الصفات لكان الإنسان أكمل منه وذلك محال. وقال تعالى:" وَلَقَدْ
خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ «4»" يعني آدم عليه
السلام،" ثُمَّ جَعَلْناهُ" أي جعلنا نسله وذريته" نُطْفَةً فِي قَرارٍ
مَكِينٍ" إلى قوله:" تُبْعَثُونَ". فالإنسان إذا تفكر بهذا التنبيه
بما جعل له من العقل في نفسه رآها مدبرة وعلى أحوال شتى مصرفة. كان نطفة ثم علقة
ثم مضغة ثم لحما وعظما، فيعلم أنه لم ينقل نفسه من حال النقص إلى حال الكمال، لأنه
لا يقدر على أن يحدث لنفسه في الحال الأفضل التي هي كمال عقله وبلوغ أشده عضوا من
الأعضاء، ولا يمكنه أن يزيد في جوارحه جارحة، فيدله ذلك على أنه في حال نقصه وأوان
ضعفه عن فعل ذلك أعجز. وقد يرى نفسه شابا ثم كهلا ثم شيخا وهو لم ينقل نفسه من حال
الشباب والقوة إلى حال الشيخوخة والهرم، ولا اختاره لنفسه ولا في وسعه أن يزايل
حال المشيب ويراجع قوة الشباب، فيعلم بذلك أنه ليس هو الذي فعل تلك الافعال بنفسه،
وأن له صانعا صنعه وناقلا نقله من حال إلى حال، ولولا ذلك لم تتبدل أحواله بلا
ناقل ولا مدبر. وقال بعض الحكماء: إن كل شي في العالم الكبير له نظير العالم
الصغير، الذي هو بدن الإنسان، ولذلك قال تعالى:" لَقَدْ خَلَقْنَا
الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ" وقال:
__________
(1). راجع ج 8 ص 386.
(2). ج 7 ص 330.
(3). ج 17 ص 40.
(4). ج 12 ص 109.
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165)
"
وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ". فحواس الإنسان أشرف من الكواكب
المضيئة، والسمع والبصر منها بمنزلة الشمس والقمر في إدراك المدركات بها، وأعضاؤه
تصير عند البلى ترابا من جنس الأرض، وفية من جنس الماء العرق وسائر رطوبات البدن،
ومن جنس الهواء فيه الروح والنفس، ومن جنس النار فيه المرة الصفراء. وعروقه بمنزلة
الأنهار في الأرض، وكبده بمنزلة العيون التي تستمد منها الأنهار، لان العروق تستمد
من الكبد. ومثانته بمنزلة البحر، لانصباب ما في أوعية البدن إليها كما تنصب
الأنهار إلى البحر. وعظامه بمنزلة الجبال التي هي أوتاد الأرض. وأعضاؤه كالأشجار،
فكما أن لكل شجر ورقا وثمرا فكذلك لكل عضو فعل أو أثر. والشعر على البدن بمنزلة
النبات والحشيش على الأرض. ثم إن الإنسان يحكى بلسانه كل صوت حيوان، ويحاكي
بأعضائه صنيع كل حيوان، فهو العالم الصغير مع العالم الكبير مخلوق محدث لصانع
واحد، لا إله إلا هو. قوله تعالى:
[سورة البقرة (2): آية 165]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ
كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى
الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً
وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ (165)
لما أخبر الله سبحانه وتعالى في الآية قبل ما دل على وحدانيته وقدرته وعظم سلطانه
أخبر أن مع هذه الآيات القاهرة لذوي العقول من يتخذ معه أندادا، وواحدها ند، وقد
تقدم «1». والمراد الأوثان والأصنام التي كانوا يعبدونها كعبادة الله مع عجزها،
قاله مجاهد. قوله تعالى:" يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ" أي يحبون
أصنامهم على الباطل كحب المؤمنين لله على الحق، قاله المبرد، وقال معناه الزجاج.
أي أنهم مع عجز الأصنام يحبونهم كحب المؤمنين لله مع قدرته. وقال ابن عباس والسدي:
المراد بالأنداد الرؤساء المتبعون، يطيعونهم في معاصي الله. وجاء الضمير في"
يُحِبُّونَهُمْ" على هذا على الأصل، وعلى الأول جاء ضمير الأصنام
__________
(1). تراجع المسألة السادسة ج 1 ص 230 طبعه ثانية.
ضمير
من يعقل على غير الأصل. وقال ابن كيسان والزجاج أيضا: معنى" يُحِبُّونَهُمْ
كَحُبِّ اللَّهِ" أي يسؤون بين الأصنام وبين الله تعالى في المحبة. قال أبو
إسحاق: وهذا القول الصحيح، والدليل على صحته:" وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ
حُبًّا لِلَّهِ". وقرا أبو رجاء" يحبونهم" بفتح الياء. وكذلك ما
كان منه في القرآن، وهي لغة، يقال: حببت الرجل فهو محبوب. قال الفراء: أنشدني أبو
تراب:
أحب لحبها السودان حتى ... حببت لحبها سود الكلاب
و" من" في قوله" مَنْ يَتَّخِذُ" في موضع رفع بالابتداء،
و" يتخذ" على اللفظ، ويجوز في غير القرآن" يتخذون" على
المعنى، و" يحبونهم" على المعنى، و" يحبهم" على اللفظ، وهو في
موضع نصب على الحال من الضمير الذي في" يَتَّخِذُ" أي محبين، وإن شئت
كان نعتا للأنداد، أي محبوبة. والكاف من" كَحُبِّ" نعت لمصدر محذوف، أي
يحبونهم حبا كحب الله." وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ" أي
أشد من حب أهل الأوثان لاوثانهم والتابعين لمتبوعهم. وقيل: إنما قال" وَالَّذِينَ
آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ" لان الله تعالى أحبهم أولا ثم أحبوه. ومن
شهد له محبوبه بالمحبة كانت محبته أتم، قال الله تعالى:" يُحِبُّهُمْ
وَيُحِبُّونَهُ". وسيأتي بيان حب المؤمنين لله تعالى وحبه لهم في سورة"
آل عمران «1»" إن شاء الله تعالى. قوله تعالى:" وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ
ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ
اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ" قراءة أهل المدينة وأهل الشام بالتاء، وأهل مكة
وأهل الكوفة وأبو عمرو بالياء، وهو اختيار أبي عبيد. وفي الآية إشكال وحذف، فقال
أبو عبيد: المعنى لو يرى الذين ظلموا في الدنيا عذاب الآخرة لعلموا حين يرونه أن
القوة لله جميعا. و" يَرَى" على هذا من رؤية البصر. قال النحاس في
كتاب" معاني القرآن" له: وهذا القول هو الذي عليه أهل التفسير. وقال في
كتاب" إعراب القرآن" له: وروي عن محمد بن يزيد أنه قال: هذا التفسير
الذي جاء به أبو عبيد بعيد، وليست عبارته فيه بالجيدة، لأنه يقدر: ولو يرى الذين
ظلموا العذاب، فكأنه يجعله مشكوكا فيه وقد أوجبه الله تعالى، ولكن التقدير وهو قول
الأخفش:
__________
(1). راجع ج 4 ص 59.
إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166)
ولو
يرى الذين ظلموا أن القوة لله. و" يرى" بمعنى يعلم، أي لو يعلمون حقيقة
قوة الله عز وجل وشدة عذابه، ف" يرى" واقعة على أن القوة لله، وسدت مسد
المفعولين. و" الذين" فاعل" يرى"، وجواب" لو"
محذوف، أي لتبينوا ضرر اتخاذهم الآلهة، كما قال عز وجل." وَلَوْ تَرى إِذْ
وُقِفُوا «1» عَلى رَبِّهِمْ"،" وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى
النَّارِ «2»" ولم يأت ل" لو" جواب. قال الزهري وقتادة: الإضمار
أشد للوعيد، ومثله قول القائل: لو رأيت فلانا والسياط تأخذه! ومن قرأ بالتاء
فالتقدير: ولو ترى يا محمد الذين ظلموا في حال رؤيتهم العذاب وفزعهم منه
واستعظامهم له لأقروا أن القوة لله، فالجواب مضمر على هذا النحو من المعنى وهو
العامل في" أن". وتقدير آخر: ولو ترى يا محمد الذين ظلموا في حال رؤيتهم
العذاب وفزعهم منه لعلمت أن القوة لله جميعا. وقد كان النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علم ذلك، ولكن خوطب والمراد أمته، فإن فيهم من يحتاج إلى تقوية
علمه بمشاهدة مثل هذا. ويجوز أن يكون المعنى: قل يا محمد للظالم هذا. وقيل:"
أن" في موضع نصب مفعول من أجله، أي لان القوة لله جميعا. وأنشد سيبويه:
وأغفر عوراء الكريم ادخاره ... وأعرض عن شتم اللئيم تكرما
أي لادخاره، والمعنى: ولو ترى يا محمد الذين ظلموا في حال رؤيتهم للعذاب لان القوة
لله لعلمت مبلغهم من النكال ولاستعظمت ما حل بهم. ودخلت" إذ" وهي لما
مضى في إثبات هذه المستقبلات تقريبا للأمر وتصحيحا لوقوعه. وقرا ابن عامر
وحده" يرون" بضم الياء، والباقون بفتحها. وقرا الحسن ويعقوب وشيبة وسلام
وأبو جعفر" إن القوة، وإن الله" بكسر الهمزة فيهما على الاستئناف أو على
تقدير القول، أي ولو ترى الذين ظلموا إذ يرون العذاب يقولون إن القوة لله. وثبت
بنص هذه الآية القوة لله، بخلاف قول المعتزلة في نفيهم معاني الصفات القديمة،
تعالى الله عن قولهم.
[سورة البقرة (2): آية 166]
إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا
الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (166)
__________
(1). راجع ج 6 ص 411، 408.
(2). راجع ج 6 ص 411، 408.
وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)
قوله
تعالى:" إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا" يعنى السادة والرؤساء
تبرءوا ممن اتبعهم على الكفر. عن قتادة وعطاء والربيع. وقال قتادة أيضا والسدي: هم
الشياطين المضلون تبرءوا من الانس. وقل: هو عام في كل متبوع." وَرَأَوُا
الْعَذابَ" يعني التابعين والمتبوعين، قيل: بتيقنهم له عند المعاينة في
الدنيا. وقيل: عند العرض والمسألة في الآخرة. قلت: كلاهما حاصل، فهم يعاينون عند
الموت ما يصيرون إليه من الهوان، وفي الآخرة يذوقون أليم العذاب والنكال. قوله
تعالى:" وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ" أي الوصلات التي كانوا
يتواصلون بها في الدنيا من رحم وغيره، عن مجاهد وغيره. الواحد سبب ووصلة. واصل
السبب الحبل يشد بالشيء فيجذبه، ثم جعل كل ما جر شيئا سببا. وقال السدي وابن زيد:
إن الأسباب أعمالهم. والسبب الناحية، ومنه قول زهير:
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ... ولو رام أسباب السماء بسلم
[سورة البقرة (2): آية 167]
وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما
تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ
وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)
قوله تعالى:" وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا
كَرَّةً"" أن" في موضع رفع، أي لو ثبت أن لنا رجعة"
فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ" جواب التمني. والكرة: الرجعة والعودة إلى حال قد
كانت، أي قال الاتباع: لو رددنا إلى الدنيا حتى نعمل صالحا ونتبرأ منهم" كَما
تَبَرَّؤُا مِنَّا" أي تبرأ كما، فالكاف في موضع نصب على النعت لمصدر محذوف.
ويجوز أن يكون نصبا على الحال، تقديرها متبرئين، والتبرؤ الانفصال. قوله تعالى:
كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ" الكاف في موضع
رفع، أي الامر كذلك. أي كما أراهم الله العذاب كذلك يريهم الله أعمالهم. و"
يُرِيهِمُ اللَّهُ" قيل:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168)
هي
من رؤية البصر، فيكون متعديا لمفعولين: الأول الهاء والميم في"
يُرِيهِمُ"، والثاني" أَعْمالَهُمْ"، وتكون" حَسَراتٍ"
حال. ويحتمل أن يكون من رؤية القلب، فتكون" حَسَراتٍ" المفعول
الثالث." أَعْمالَهُمْ" قال الربيع: أي الأعمال الفاسدة التي ارتكبوها
فوجبت لهم بها النار. وقال ابن مسعود والسدي: الأعمال الصالحة التي تركوها ففاتتهم
الجنة، ورويت في هذا القول أحاديث. قال السدي: ترفع لهم الجنة فينظرون إليها وإلى
بيوتهم فيها لو أطاعوا الله تعالى، ثم تقسم بين المؤمنين فذلك حين يندمون. وأضيفت
هذه الأعمال إليهم من حيث هم مأمورون بها، وأما إضافة الأعمال الفاسدة إليهم فمن
حيث عملوها. والحسرة واحدة الحسرات، كتمرة وتمرات، وجفنة وجفنات، وشهوة وشهوات.
هذا إذا كان اسما، فإن نعته سكنت، كقولك: ضخمة وضخمات، وعبلة وعبلات. والحسرة أعلا
درجات الندامة على شي فائت. والتحسر: التلهف، يقال: حسرت عليه (بالكسر) أحسر حسرا
وحسرة. وهي مشتقة من الشيء الحسير الذي قد انقطع وذهبت قوته، كالبعير إذا عيي.
وقيل: هي مشتقة من حسر إذا كشف، ومنه الحاسر في الحرب: الذي لا درع معه.
والانحسار. الانكشاف. قوله تعالى:" وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ
النَّارِ" دليل على خلود الكفار فيها وأنهم لا يخرجون منها. وهذا قول جماعة
أهل السنة، لهذه الآية، ولقوله تعالى:" وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى
يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ". وسيأتي «1».
[سورة البقرة (2): آية 168]
يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا
تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168)
فيه أربع مسائل: الاولى- قوله تعالى:" يا أَيُّهَا النَّاسُ" قيل: إنها
نزلت في ثقيف وخزاعة وبني مدلج فيما حرموه على أنفسهم من الانعام، واللفظ عام.
والطيب هنا الحلال، فهو تأكيد لاختلاف اللفظ، وهذا قول مالك في الطيب. وقال الشافعي:
الطيب المستلذ، فهو
__________
(1). راجع ج 7 ص 206. [.....]
تنويع،
ولذلك يمنع أكل الحيوان القذر. وسيأتي بيان هذا في" الانعام" «1»
و" الأعراف «2»" إن شاء الله تعالى. الثانية- قوله تعالى:" حَلالًا
طَيِّباً"" حلالا" حال، وقيل مفعول. وسمي الحلال حلالا لانحلال
عقدة الخطر عنه. قال سهل بن عبد الله: النجاة في ثلاثة: أكل الحلال، وأداء
الفرائض، والاقتداء بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقال أبو عبد الله
الساجي واسمه سعيد بن يزيد: خمس خصال بها تمام العلم، وهي: معرفة الله عز وجل،
ومعرفة الحق وإخلاص العمل لله، والعمل على السنة، واكل الحلال، فإن فقدت واحدة لم
يرفع العمل. قال سهل: ولا يصح أكل الحلال إلا بالعلم، ولا يكون المال حلالا حتى
يصفو من ست خصال: الربا والحرام والسحت- وهو اسم مجمل- والغلول والمكروه والشبهة.
الثالثة- قوله تعالى:" وَلا تَتَّبِعُوا" نهى" خُطُواتِ
الشَّيْطانِ"" خطوات" جمع خطوة وخطوة بمعنى واحد. قال الفراء:
الخطوات جمع خطوة، بالفتح. وخطوة (بالضم): ما بين القدمين. وقال الجوهري: وجمع
القلة خطوات وخطوات وخطوات، والكثير خطا. والخطوة (بالفتح): المرة الواحدة، والجمع
خطوات (بالتحريك) وخطاء، مثل ركوة وركاء، قال امرؤ القيس:
لها وثبات كوثب الظباء ... فؤاد خطاء وواد مطر «3»
وقرأ أبو السمال العدوي وعبيد بن عمير" خطوات" بفتح الخاء والطاء. وروي
عن علي بن أبي طالب وقتادة والأعرج وعمرو بن ميمون والأعمش" خطؤات" بضم
الخاء والطاء والهمزة على الواو. قال الأخفش: وذهبوا بهذه القراءة إلى أنها جمع
خطيئة، من الخطأ لا من الخطو. والمعنى على قراءة الجمهور: ولا تفقوا أثر الشيطان
وعمله، وما لم يرد به الشرع فهو منسوب إلى الشيطان. قال ابن عباس:" خُطُواتِ
الشَّيْطانِ" أعماله. مجاهد: خطاياه. السدي: طاعته. أبو مجلز: هي النذور في
المعاصي.
__________
(1). راجع ج 7 ص 115، 00 3.
(2). راجع ج 7 ص 115، 00 3.
(3). يقول: مرة تخطو فتكف عن العدو، ومرة تعدو عدوا يشبه المطر. عن شرح الديوان.
إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)
قلت:
والصحيح أن اللفظ عام في كل ما عدا السنن والشرائع من البدع والمعاصي. وتقدم القول
في" الشيطان" مستوفى «1». الرابعة- قوله تعالى:" إِنَّهُ لَكُمْ
عَدُوٌّ مُبِينٌ" أخبر تعالى بأن الشيطان عدو، وخبره حق وصدق. فالواجب على
العاقل أن يأخذ حذره من هذا العدو الذي قد أبان عداوته من زمن آدم، وبذل نفسه
وعمره في إفساد أحوال بنى آدم، وقد أمر الله تعالى بالحذر منه فقال جل من
قائل:" وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ
مُبِينٌ"،" إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ
تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ" وقال:" الشَّيْطانُ
يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ «2»" وقال:"
وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيداً" وقال:"
إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي
الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ
فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ «3»" وقال:" إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ
مُبِينٌ «4»" وقال:" إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ
عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ
«5»". وهذا غاية في التحذير، ومثله في القرآن كثير. وقال عبد الله ابن عمر:
إن إبليس موثق في الأرض السفلى، فإذا تحرك فإن كل شر في الأرض بين اثنين فصاعدا من
تحركه. وخرج الترمذي من حديث أبى مالك الأشعري وفية: (وآمركم أن تذكروا الله فإن مثل
ذلك كمثل رجل خرج العدو في أثره سراعا حتى إذا أتى على حصن حصين فأحرز نفسه منهم
كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله) الحديث. وقال فيه: حديث حسن
صحيح غريب.
[سورة البقرة (2): آية 169]
إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما
لا تَعْلَمُونَ (169)
قوله تعالى:" إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ" سمى السوء
سوءا لأنه يسوء صاحبه بسوء عواقبه. وهو مصدر ساءه يسوءه سوءا ومساءة إذا أحزنه.
وسؤته فسيء إذا أحزنته فحزن، قال الله تعالى:" سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ
كَفَرُوا «6»". وقال الشاعر:
__________
(1). تراجع المسألة العاشرة ج 1 ص 90 طبعه ثانية.
(2). راجع ج 3 ص 328.
(3). راجع ج 6 ص 292.
(4). راجع ج 13 ص 261.
(5). راجع ج 14 ص 323.
(6). راجع ج 18 ص 220.
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170)
إن
يك هذا الدهر قد ساءني ... فطالما قد سرني الدهر
الامر عندي فيهما واحد ... لذاك شكر ولذاك صبر
والفحشاء أصله قبح المنظر، كما قال:
وجيد كجيد الريم «1» ليس بفاحش
ثم استعملت اللفظة فيما يقبح من المعاني. والشرع هو الذي يحسن ويقبح، فكل ما نهت
عنه الشريعة فهو من الفحشاء. وقال مقاتل: إن كل ما في القرآن من ذكر الفحشاء فإنه
الزنى، إلا قوله:" الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ
بِالْفَحْشاءِ" فإنه منع الزكاة. قلت: فعلى هذا قيل: السوء ما لا حد فيه،
والفحشاء ما فيه حد. وحكي عن ابن عباس وغيره، والله تعالى أعلم. قوله تعالى:"
وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ" قال الطبري: يريد ما
حرموا من البحيرة «2» والسائبة «3» ونحوها مما جعلوه شرعا." وَأَنْ
تَقُولُوا" في موضع خفض عطفا على قوله تعالى:" بِالسُّوءِ
وَالْفَحْشاءِ".
[سورة البقرة (2): آية 170]
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما
أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا
يَهْتَدُونَ (170)
فيه سبع مسائل: الاولى- قوله تعالى:" وَإِذا قِيلَ لَهُمُ" يعني كفار
العرب. ابن عباس: نزلت في اليهود. الطبري: الضمير في" لَهُمُ" عائد على
الناس من قوله تعالى:" يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا".
__________
(1). الريم: الظبى الأبيض الخالص البياض.
(2). قال أبو إسحاق النحوي:" أثبت ما روينا عن أهل اللغة في البحيرة أنها
الناقة كانت إذا نتجت خمسة أبطن فكان آخرها ذكرا بحروا أذنها أي شقوه، واعفوا
ظهرها من الركوب والحمل والذبح، ولا تحلا، (تطرد) عن ماء ترده، ولا تمنع من مرعى،
وإذا لقيها المعنى المنقطع به لم يركبها".
(3). كان الرجل في الجاهلية إذا قدم من سفر بعيد، أو برئ من علة، أو نحبة دابة من
مشقة أو حرب قال: ناقتي سائبة، أي تسيب فلا ينتفع بظهرها ولا تحلا عن ماء، ولا
تمنع من كلا ولا تركب. (عن اللسان).
وقيل:
هو عائد على" من" في قوله تعالى:" وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ
مِنْ دُونِ اللَّهِ" الآية. وقوله تعالى:" اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ
اللَّهُ" أي بالقبول والعمل." قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا
عَلَيْهِ آباءَنا" ألفينا: وجدنا. وقال الشاعر:
فألفيته غير مستعتب ... ولا ذاكر الله إلا قليلا
الثانية قوله تعالى:" أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ" الالف للاستفهام، وفتحت
الواو لأنها واو عطف، عطفت جملة كلام على جملة، لان غاية الفساد في الالتزام أن
يقولوا: نتبع آباءنا ولو كانوا لا يعقلون، فقرروا على التزامهم هذا، إذ هي حال
آبائهم. مسألة- قال علماؤنا: وقوه ألفاظ هذه الآية تعطى إبطال التقليد،
ونظيرها:" وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى
الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا" الآية. وهذه الآية
والتي قبلها مرتبطة بما قبلهما، وذلك أن الله سبحانه أخبر عن جهالة العرب فيما
تحكمت فيه بآرائها السفيهة في البحيرة والسائبة والوصيلة «1»، فاحتجوا بأنه أمر
وجدوا عليه آباءهم فاتبعوهم في ذلك، وتركوا ما أنزل الله على رسوله وأمر به في
دينه، فالضمير في" لَهُمُ" عائد عليهم في الآيتين جميعا. الثالثة- تعلق
قوم بهذه الآية في ذم التقليد لذم الله تعالى الكفار باتباعهم لآبائهم في الباطل،
واقتدائهم بهم في الكفر والمعصية. وهذا في الباطل صحيح، أما التقليد في الحق فأصل
من أصول الدين، وعصمة من عصم المسلمين يلجأ إليها الجاهل المقصر عن درك النظر.
واختلف العلماء في جوازه في مسائل الأصول على ما يأتي، وأما جوازه في مسائل الفروع
فصحيح. الرابعة- التقليد عند العلماء حقيقته قبول قول بلا حجة، وعلى هذا فمن قبل
قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من غير نظر في معجزته يكون مقلدا،
وأما من نظر فيها فلا يكون مقلدا.
__________
(1). قال المفسرون: الوصيلة كانت في الشاة خاصة، كانت الشاة إذا ولدت أنثى فهي
لهم، وإذا ولدت ذكرا جعلوه لآلهتهم، فإذا ولدت ذكرا وأنثى قالوا: وصلت أخاها، فلم
يذبحوا الذكر لآلهتهم. وفيها معان أخر. (يراجع اللسان مادة" وصل").
وتقدم معنى" البحيرة والسائبة" ص 210.
وقيل:
هو اعتقاد صحة فتيا من لا يعلم صحة قوله. وهو في اللغة مأخوذ من قلادة البعير، فإن
العرب تقول: قلدت البعير إذا جعلت في عنقه حبلا يقاد به، فكأن المقلد يجعل أمره
كله لمن يقوده حيث شاء، وكذلك قال شاعرهم:
وقلدوا أمركم لله دركم ... ثبت الجنان بأمر الحرب مضطلعا
الخامسة- التقليد ليس طريقا للعلم ولا موصلا له، لا في الأصول ولا في الفروع، وهو
قول جمهور العقلاء والعلماء، خلافا لما يحكى عن جهال الحشوية والثعلبية من أنه
طريق إلى معرفة الحق، وأن ذلك هو الواجب، وأن النظر والبحث حرام، والاحتجاج عليهم
في كتب الأصول. السادسة- فرض العامي الذي لا يشتغل باستنباط الأحكام من أصولها
لعدم أهليته فيما لا يعلمه من أمر دينه ويحتاج إليه أن يقصد أعلم من في زمانه
وبلده فيسأله عن نازلته فيمتثل فيها فتواه، لقوله تعالى:" فَسْئَلُوا أَهْلَ
الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ «1»"، وعليه الاجتهاد في أعلم أهل
وقته بالبحث عنه، حتى يقع عليه الاتفاق من الأكثر من الناس. وعلى العالم أيضا فرض
أن يقلد عالما مثله في نازلة خفى عليه فيها وجه الدليل والنظر، وأراد أن يجدد
الفكر فيها والنظر حتى يقف على المطلوب، فضاق الوقت عن ذلك، وخاف على العبادة أن
تفوت، أو على الحكم أن يذهب، سواء كان ذلك المجتهد الأخر صحابيا أو غيره، وإليه
ذهب القاضي أبو بكر وجماعة من المحققين. السابعة- قال ابن عطية: أجمعت الامة على
إبطال التقليد في العقائد. وذكر فيه غيره خلافا كالقاضي أبى بكر بن العربي وأبي
عمر وعثمان بن عيسى بن درباس الشافعي. قال ابن درباس في كتاب" الانتصار"
له: وقال بعض الناس يجوز التقليد في أمر التوحيد، وهو خطأ لقوله تعالى:"
إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ «2»". فذمهم بتقليدهم آباءهم وتركهم
اتباع الرسل، كصنيع أهل الاهواء في تقليدهم كبراءهم وتركهم اتباع محمد صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في دينه، ولأنه فرض على كل مكلف تعلم أمر التوحيد
والقطع به، وذلك لا يحصل إلا من جهة الكتاب والسنة، كما بيناه في آية التوحيد «3»،
والله يهدي من يريد.
__________
(1). راجع ج 10 ص 108 وج 11 ص 272. [.....]
(2). راجع ج 16 ص 74.
(3). ص 190 من هذا الجزء.
قال
ابن درباس: وقد أكثر أهل الزيغ القول على من تمسك بالكتاب والسنة أنهم مقلدون.
وهذا خطأ منهم، بل هو بهم أليق وبمذاهبهم أخلق، إذ قبلوا قول ساداتهم وكبرائهم
فيما خالفوا فيه كتاب الله وسنة رسوله وإجماع الصحابة رضي الله عنهم، فكانوا
داخلين فيمن ذمهم الله بقوله:" رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا
وَكُبَراءَنا" إلى قوله:" كَبِيراً «1»" وقوله:" إِنَّا
وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ «2»". ثم
قال لنبيه:" قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ
آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ «3»" ثم قال لنبيه
عليه السلام" فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ «4»" الآية. فبين تعالى أن الهدى
فيما جاءت به رسله عليهم السلام. وليس قول أهل الأثر في عقائدهم: إنا وجدنا أئمتنا
وآباءنا والناس على الأخذ بالكتاب والسنة وإجماع السلف الصالح من الامة، من قولهم:
إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا وأَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا بسبيل، لان هؤلاء نسبوا
ذلك إلى التنزيل وإلى متابعة الرسول، وأولئك نسبوا إفكهم إلى أهل الأباطيل،
فازدادوا بذلك في التضليل، ألا ترى أن الله سبحانه أثنى على يوسف عليه السلام في
القرآن حيث قال:" إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ. وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ
وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ
مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ «5»". فلما كان آباؤه عليه
وعليهم السلام أنبياء متبعين للوحي وهو الدين الخالص الذي ارتضاه الله، كان اتباعه
آباءه من صفات المدح. ولم يجئ فيما جاءوا به ذكر الاعراض وتعلقها بالجواهر
وانقلابها فيها، فدل على أن لا هدى فيها ولا رشد في واضعيها. قال ابن الحصار:
وإنما ظهر التلفظ بها في زمن المأمون بعد المائتين لما ترجمت كتب الأوائل وظهر
فيها اختلافهم في قدم العالم وحدوثه. واختلافهم في الجوهر وثبوته، والعرض وماهيته،
فسارع المبتدعون ومن في قلبه زيغ إلى حفظ تلك الاصطلاحات، وقصدوا بها الاغراب على
أهل السنة، وإدخال الشبه على الضعفاء من أهل الملة. فلم يزل الامر كذلك إلى أن
ظهرت البدعة، وصارت للمبتدعة شيعة، والتبس الامر على السلطان، حتى قال الأمير بخلق
القرآن، وجبر الناس عليه، وضرب أحمد بن حنبل على ذلك.
__________
(1). راجع ج 14 ص 249.
(2). راجع ج 16 ص 74 فما بعدها.
(3). راجع ج 9 ص 191.
(4). راجع ج 16 ص 74 فما بعدها.
(5). راجع ج 9 ص 191.
وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)
فانتدب
رجال من أهل السنة كالشيخ أبي الحسن الأشعري وعبد الله «1» بن كلاب وابن مجاهد
والمحاسبي وأضرابهم، فخاضوا مع المبتدعة في اصطلاحاتهم، ثم قاتلوهم وقتلوهم
بسلاحهم. وكان من درج من المسلمين من هذه الامة متمسكين بالكتاب والسنة، معرضين عن
شبه الملحدين، لم ينظروا في الجوهر والعرض، على ذلك كان السلف. قلت: ومن نظر ألان
في اصطلاح المتكلمين حتى يناضل بذلك عن الدين فمنزلته قريبة من النبيين. فأما من
يهجن من غلاة المتكلمين طريق من أخذ بالأثر من المؤمنين، ويحض على درس كتب الكلام،
وأنه لا يعرف الحق إلا من جهتها بتلك الاصطلاحات فصاروا مذمومين لنقضهم طريق
المتقدمين من الأئمة الماضين، والله أعلم. وأما المخاصمة والجدال بالدليل والبرهان
فذلك بين في القرآن، وسيأتي بيانه «2» إن شاء الله تعالى.
[سورة البقرة (2): آية 171]
وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ
دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (171)
شبه تعالى واعظ الكفار وداعيهم وهو محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بالراعي الذي ينعق بالغنم والإبل فلا تسمع إلا دعاءه ونداءه، ولا تفهم ما يقول،
هكذا فسره ابن عباس ومجاهد وعكرمة والسدي والزجاج والفراء وسيبويه، وهذه نهاية
الإيجاز. قال سيبويه: لم يشبهوا بالناعق إنما شبهوا بالمنعوق به. والمعنى: ومثلك
يا محمد ومثل الذين كفروا كمثل الناعق والمنعوق به من البهائم التي لا تفهم، فحذف
لدلالة المعنى. وقال ابن زيد: المعنى مثل الذين كفروا في دعائهم الآلهة الحماد
كمثل الصائح في جوف الليل فيجيبه الصدى، فهو يصيح بما لا يسمع، ويجيبه ما لا حقيقة
فيه ولا منتفع. وقال قطرب: المعنى مثل الذين كفروا في دعائهم ما لا يفهم، يعني
الأصنام، كمثل الراعي إذا نعق بغنمه وهو لا يدري أين هي. قال الطبري: المراد مثل
الكافرين في دعائهم آلهتهم كمثل الذي ينعق بشيء بعيد فهو لا يسمع من أجل
__________
(1). في الأصول:" وأبى عبد الله" والتصويب عن القاموس وشرحه، وهو عبد
الله بن سعيد بن كلاب التميمي البصري، وهو رأس الطائفة الكلابية من أهل السنة.
(2). راجع ج 12 ص 94، ج 13 ص 350.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)
البعد،
فليس للناعق من ذلك إلا النداء الذي يتعبه وينصبه. ففي هذه التأويلات الثلاثة يشبه
الكفار بالناعق الصائح، والأصنام بالمنعوق به. والنعيق: زجر الغنم والصياح بها،
يقال: نعق الراعي بغنمه ينعق نعيقا ونعاقا ونعاقا، أي صاح بها وزجرها. قال الأخطل:
انعق بضأنك يا جرير فإنما ... منتك نفسك في الخلاء ضلالا
قال القتبي: لم يكن جرير راعى ضأن، وإنما أراد أن بني كليب يعيرون برعي الضأن،
وجرير منهم، فهو في جهلهم. والعرب تضرب المثل براعي الغنم في الجهل ويقولون:"
أجهل من راعى ضأن". قال القتبي: ومن ذهب إلى هذا في معنى الآية كان مذهبا،
غير أنه لم يذهب إليه أحد من العلماء فيما نعلم. والنداء للبعيد، والدعاء للقريب،
ولذلك قيل للأذان بالصلاة نداء لأنه للاباعد. وقد تضم النون في النداء والأصل
الكسر. ثم شبه تعالى الكافرين بأنهم صم بكم عمى. وقد تقدم في أول «1» السورة.
[سورة البقرة (2): آية 172]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا
لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)
هذا تأكيد للأمر الأول، وخص المؤمنين هنا بالذكر تفضيلا. والمراد بالأكل الانتفاع
من جميع الوجوه. وقيل: هو الأكل المعتاد. وفى صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه
قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أيها الناس إن الله تعالى
طيب لا يقبل إلا طيبا وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال" يا
أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما
تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ" وقال:" يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ
طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ" ثم ذكر «2» الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه
إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام [ومشربه حرام ] وملبسه حرام [وغذي بالحرام
«3»] فأنى يستجاب لذلك (." وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ" إِيَّاهُ
تَعْبُدُونَ" تقدم معنى الشكر «4» فلا معنى للإعادة.
__________
(1). راجع ج 1 ص 214 طبعه ثانية.
(2). هذه الجملة من كلام الراوي، والضمير للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ. و" الرجل" بالرفع مبتدأ، مذكور على الحكاية من لفظ الرسول
عليه السلام. ويجوز أن ينصب على أنه مفعول" ذكر".
(3). الزيادة عن صحيح مسلم.
(4). تراجع المسألة الثالثة وما بعدها ج 1 ص 397 طبعه ثانية.
إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)
[سورة
البقرة (2): آية 173]
إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما
أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ
عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)
فيه أربع وثلاثون مسألة «1»: الاولى- قوله تعالى:" إِنَّما حَرَّمَ
عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ" إنما" كلمة موضوعة للحصر، تتضمن النفي
والإثبات، فتثبت ما تناوله الخطاب وتنفى ما عداه، وقد حصرت ها هنا التحريم، لا
سيما وقد جاءت عقيب التحليل في قوله تعالى:" يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ" فأفادت الإباحة على الإطلاق، ثم
عقبها بذكر المحرم بكلمة" إنما" الحاصرة، فاقتضى ذلك الايعاب للقسمين،
فلا محرم يخرج عن هذه الآية، وهي مدنية، وأكدها بالآية الأخرى التي روى أنها نزلت
بعرفة:" قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ"
إلى آخرها، فاستوفى البيان أولا وآخرا، قال ابن العربي. وسيأتي الكلام في تلك
في" الانعام «2»" إن شاء الله تعالى. الثانية-" الميتة" نصب
ب" حرم"، و" ما" كافة. ويجوز أن تجعلها بمعنى الذي، منفصلة في
الخط، وترفع" الميتة والدم ولحم الخنزير" على خبر" إن" وهي
قراءة ابن أبى عبلة. وفي" حَرَّمَ" ضمير يعود على الذي، ونظيره قوله
تعالى:" إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ «3»". وقرا أبو جعفر"
حرم" بضم الحاء وكسر الراء ورفع الأسماء بعدها، إما على ما لم يسم فاعله،
وإما على خبر إن. وقرا أبو جعفر بن القعقاع أيضا" الميتة" بالتشديد.
الطبري: وقال جماعة من اللغويين: التشديد والتخفيف في ميت، وميت لغتان. وقال أبو
حاتم وغيره: ما قد مات فيقالان فيه، وما لم يمت بعد فلا يقال فيه" ميت"
بالتخفيف، دليله قوله تعالى:" إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ «4»".
وقال الشاعر:
ليس من مات فاستراح بميت ... إنما الميت ميت الأحياء
__________
(1). اضطربت جميع نسخ الأصل في ذكر هذه المسائل، فبعضها أسقط الثانية، وأخرى"
الحادية والعشرين". أخرى" الرابعة والعشرين". [.....]
(2). راجع ج 7 ص 115.
(3). راجع ج 11 ص 223.
(4). راجع ج 15 ص 254.
ولم
يقرأ أحد بتخفيف ما لم يمت، إلا ما روى البزي عن ابن كثير" وما هو بميت
«1»" والمشهور عنه التثقيل، وأما قول الشاعر:
إذا ما مات ميت من تميم ... فسرك أن يعيش فجئ بزاد
فلا أبلغ في الهجاء من أنه أراد الميت حقيقة، وقد ذهب بعض الناس إلى أنه أراد من
شارف الموت، والأول أشهر. الثالثة- الميتة: ما فارقته الروح من غير ذكاة مما يذبح،
وما ليس بمأكول فذكاته كموته، كالسباع وغيرها، على ما يأتي بيانه هنا وفي"
الانعام «2»" إن شاء الله تعالى. الرابعة- هذه الآية عامة دخلها التخصيص
بقوله عليه السلام: (أحلت لنا ميتتان الحوت والجراد ودمان الكبد والطحال). أخرجه
الدارقطني، وكذلك حديث جابر في العنبر «3» يخصص عموم القرآن بصحة سنده. خرجه
البخاري ومسلم مع قوله تعالى:" أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ"، على
ما يأتي بيانه هناك «4»، إن شاء الله تعالى. وأكثر أهل العلم على جواز أكل جميع
دواب البحر حيها وميتها، وهو مذهب مالك. وتوقف أن يجيب في خنزير الماء وقال: أنتم
تقولون خنزيرا! قال ابن القاسم: وأنا أتقيه ولا أراه حراما. الخامسة- وقد اختلف
الناس في تخصيص كتاب الله تعالى بالسنة، ومع اختلافهم في ذلك اتفقوا على أنه لا
يجوز تخصيصه بحديث ضعيف، قاله ابن العربي. وقد يستدل على تخصيص هذه الآية أيضا بما
في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن أبى أوفى قال: غزونا مع رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سبع غزوات كنا نأكل الجراد معه. وظاهره أكله كيف ما
مات بعلاج أو حتف أنفه، وبهذا قال ابن نافع وابن عبد الحكم وأكثر العلماء، وهو
مذهب الشافعي وأبى حنيفة وغيرهما. ومنع مالك وجمهور أصحابه من أكله إن مات حتف
أنفه، لأنه من صيد البر، ألا ترى أن الحرم يجزئه إذا قتله، فأشبه الغزال. وقال
__________
(1). راجع ج 9 ص 352.
(2). راجع ج 7 ص 116.
(3). العنبر: سمكة كبيرة بحرية تتخذ من جلدها الاتراس، ويقال للترس: عنبر، وسمي
هذا الحوت بالعنبر لوجوده في جوفه. (عن القسطلاني واللسان).
(4). راجع ج 6 ص 318.
أشهب:
إن مات من قطع رجل أو جناح لم يؤكل، لأنها حالة قد يعيش بها وينسل. وسيأتي لحكم
الجراد مزيد بيان في" الأعراف «1»" عند ذكره، إن شاء الله تعالى.
السادسة- واختلف العلماء هل يجوز أن ينتفع بالميتة أو بشيء من النجاسات، واختلف عن
مالك في ذلك أيضا، فقال مرة: يجوز الانتفاع بها، لان النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مر على شاة ميمونة فقال: (هلا أخذتم إهابها) الحديث. وقال مرة:
جملتها محرم، فلا يجوز الانتفاع بشيء منها، ولا بشيء من النجاسات على وجه من وجوه
الانتفاع، حتى لا يجوز أن يسقى الزرع ولا الحيوان الماء النجس، ولا تعلف البهائم
النجاسات، ولا تطعم الميتة الكلاب والسباع، وإن أكلتها لم تمنع. ووجه هذا القول
ظاهر قوله تعالى:" حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ" ولم يخص
وجها من وجه، ولا يجوز أن يقال: هذا الخطاب مجمل، لان المجمل ما لا يفهم المراد من
ظاهره، وقد فهمت العرب المراد من قوله تعالى:" حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ
الْمَيْتَةُ"، وأيضا فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (لا
تنتفعوا من الميتة بشيء). وفي حديث عبد الله بن عكيم (لا تنتفعوا من الميتة بإهاب
ولا عصب). وهذا آخر ما ورد به كتابه قبل موته بشهر، وسيأتي بيان هذه الاخبار
والكلام عليها في" النحل «2»" إن شاء الله تعالى. السابعة- فأما الناقة
إذا نحرت، أو البقرة أو الشاة إذا ذبحت، وكان في بطنها جنين ميت فجائز أكله من غير
تذكية له في نفسه، إلا أن يخرج حيا فيذكى، ويكون له حكم نفسه، وذلك أن الجنين إذا
خرج منها بعد الذبح ميتا جرى مجرى العضو من أعضائها. ومما يبين ذلك أنه لو باع
الشاة وأستثنى ما في بطنها لم يجز، كما لو استثنى عضوا منها، وكان ما في بطنها
تابعا لها كسائر أعضائها. وكذلك لو أعتقها من غير أن يوقع على ما في بطنها عتقا
مبتدأ، ولو كان منفصلا عنها لم يتبعها في بيع ولا عتق. وقد روى جابر رضي الله عنه
أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل عن البقرة والشاة تذبح،
والناقة تنحر فيكون في بطنها جنين ميت، فقال: (إن شئتم فكلوه لان ذكاته ذكاة أمه).
خرجه أبو داود بمعناه من حديث
__________
(1). راجع ج 7 ص 268.
(2). في قوله تعالى:" إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ ..." آية
115 ولم يذكر المؤلف فيها شيئا، بل أحال على ما هنا، راجع ج 10 ص 195.
أبى
سعيد الخدري وهو نص لا يحتمل. وسيأتي لهذا مزيد بيان في سورة" المائدة
«1»" إن شاء الله تعالى. الثامنة- واختلفت الرواية عن مالك في جلد الميتة هل
يطهر بالدباغ أولا، فروي عنه أنه لا يطهر، وهو ظاهر مذهبه. وروي عنه أنه يطهر،
لقوله عليه السلام (أيما إهاب دبغ فقد طهر). ووجه قوله: لا يطهر، بأنه جزء من
الميتة لو أخذ منها في حال الحياة كان نجسا، فوجب ألا يطهره الدباغ قياسا على
اللحم. وتحمل لأخبار بالطهارة على أن الدباغ يزيل الأوساخ عن الجلد حتى ينتفع به
في الأشياء اليابسة وفي الجلوس عليه، ويجوز أيضا أن ينتفع به في الماء بأن يجعل
سقاء، لان الماء على أصل الطهارة ما لم يتغير له وصف على ما يأتي من حكمه في
سورة" الفرقان «2»". والطهارة في اللغة متوجهة نحو إزالة الأوساخ كما
تتوجه إلى الطهارة الشرعية، والله تعالى أعلم. التاسعة- وأما شعر الميتة وصوفها فطاهر،
لما روى عن أم سلمة رضي الله عنها عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه
قال: (لا بأس بمسك الميتة إذا دبغ وصوفها وشعرها إذا غسل). ولأنه كان طاهرا لو أخذ
منها في حال الحياة فوجب أن يكون كذلك بعد الموت، إلا أن اللحم لما كان نجسا في
حال الحياة كان كذلك بعد الموت، فيجب أن يكون الصوف خلافه في حال الموت كما كان
خلافه في حال الحياة استدلالا بالعكس. ولا يلزم على هذا اللبن والبيضة من الدجاجة
الميتة، لان اللبن عندنا طاهر بعد الموت، وكذلك البيضة، ولكنهما حصلا في وعاء نجس
فتنجسا بمجاورة الوعاء لا أنهما نجسا بالموت. وسيأتي مزيد بيان لهذه المسألة والتي
قبلها وما للعلماء فيهما من الخلاف في سورة" النحل «3»" إن شاء الله
تعالى. العاشرة- وأما ما وقعت فيه الفأرة فله حالتان: حالة تكون إن أخرجت الفأرة
حية فهو طاهر. وإن ماتت فيه فله حالتان: حالة يكون مائعا فإنه ينجس جميعه. وحالة يكون
جامدا فإنه ينجس ما جاورها، فتطرح وما حولها، وينتفع بما بقي وهو على طهارته، لما
روي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل عن الفأرة تقع في السمن
فتموت، فقال عليه السلام:
__________
(1). راجع ج 6 ص 50.
(2). راجع ج 13 ص 39 فما بعدها.
(3). راجع ج 10 ص 195.
(إن
كان جامدا فاطرحوها وما حولها وإن كان مائعا فأريقوه). واختلف العلماء فيه إذا
غسل، فقيل: لا يطهر بالغسل، لأنه مائع نجس فأشبه الدم والخمر والبول وسائر
النجاسات. وقال ابن القاسم: يطهر بالغسل، لأنه جسم تنجس بمجاورة النجاسة فأشبه
الثوب، ولا يلزم على هذا الدم، لأنه نجس بعينه، ولا الخمر والبول لان الغسل
يستهلكهما ولا يتأتى فيه. الحادية عشرة- فإذا حكمنا بطهارته بالغسل رجع إلى حالته
الاولى في الطهارة وسائر وجوه الانتفاع، لكن لا يبيعه حتى يبين، لان ذلك عيب عند
الناس تأباه نفوسهم. ومنهم من يعتقد تحريمه ونجاسته، فلا يجوز بيعه حتى يبين العيب
كسائر الأشياء المعيبة. وأما قبل الغسل فلا يجوز بيعه بحال، لان النجاسات عنده لا
يجوز بيعها، ولأنه مائع نجس فأشبه الخمر، ولان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ سئل عن ثمن الخمر فقال: (لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها «1»
فباعوها وأكلوا أثمانها). وأن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه. وهذا المائع محرم
لنجاسته فوجب أن يحرم ثمنه بحكم الظاهر. الثانية عشرة- واختلف إذا وقع في القدر
حيوان، طائر أو غيره [فمات ] فروى ابن وهب عن مالك أنه قال: لا يؤكل ما في القدر،
وقد تنجس بمخالطة الميتة إياه. وروى ابن القاسم عنه أنه قال: يغسل اللحم ويراق
المرق. وقد سئل ابن عباس عن هذه المسألة فقال: يغسل اللحم ويؤكل. ولا مخالف له في
المرق «2» من أصحابه، ذكره ابن خويز منداد. الثالثة عشرة- فأما إنفحة الميتة ولبن
الميتة فقال الشافعي: ذلك نجس لعموم قوله تعالى" حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ
الْمَيْتَةُ". وقال أبو حنيفة بطهارتهما، ولم يجعل لموضع الخلقة أثرا في تنجس
ما جاوره مما حدث فيه خلقة، قال: ولذلك يؤكل اللحم بما فيه من العروق، مع القطع
بمجاورة الدم لدواخلها من غير تطهير ولا غسل إجماعا. وقال مالك نحو قول أبي حنيفة
إن ذلك لا ينجس بالموت، ولكن ينجس بمجاورة الوعاء النجس وهو مما لا يتأتى فيه
الغسل.
__________
(1). جمل الشحم وأجمله: أذابه واستخرج دهنه.
(2). في بعض الأصول والنسخة الازهرية:" ولا مخالف له في الصحابة".
[.....]
وكذلك
الدجاجة تخرج منها البيضة بعد موتها، لان البيضة لينة في حكم المائع قبل خروجها،
وإنما تجمد وتصلب بالهواء. قال ابن خويز منداد فإن قيل: فقولكم يؤدي إلى خلاف
الإجماع، وذلك أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمسلمين بعده كانوا
يأكلون الجبن وكان مجلوبا إليهم من أرض العجم، ومعلوم أن ذبائح العجم وهم مجوس
ميتة، ولم يعتدوا بأن يكون مجمدا بإنفحة ميتة أو ذكى. قيل له: قدر ما يقع من
الإنفحة في اللبن المجبن يسير، واليسير من النجاسة معفو عنه إذا خالط الكثير من
المائع. هذا جواب على إحدى الروايتين. وعلى الرواية الأخرى إنما كان ذلك في أول
الإسلام، ولا يمكن أحد أن ينقل أن الصحابة أكلت الجبن المحمول من أرض العجم، بل
الجبن ليس من طعام العرب، فلما انتشر المسلمون في أرض العجم بالفتوح صارت الذبائح
لهم، فمن أين لنا أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والصحابة أكلت جبنا
فضلا عن أن يكون محمولا من أرض العجم ومعمولا من أنفحة ذبائحهم. وقال أبو عمر: ولا
بأس بأكل طعام عبدة الأوثان والمجوس وسائر من لا كتاب له من الكفار ما لم يكن من
ذبائحهم ولم يحتج إلى ذكاة إلا الجبن لما فيه من إنفحة الميتة. وفي سنن ابن
ماجة" الجبن والسمن" حدثنا إسماعيل بن موسى السدي حدثنا سيف بن هارون عن
سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي عن سلمان الفارسي قال: سئل رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن السمن والجبن والفراء. فقال: (الحلال ما أحل الله
في كتابه والحرام ما حرم الله في كتابه وما سكت عنه فهو مما عفا عنه). الرابعة
عشرة- قوله تعالى:" وَالدَّمَ" اتفق العلماء على أن الدم حرام نجس لا
يؤكل ولا ينتفع به. قال ابن خويز منداد: وأما الدم فمحرم ما لم تعم به البلوى،
ومعفو عما تعم به البلوى. والذي تعم به البلوى هو الدم في اللحم وعروقه، ويسيره في
البدن والثوب يصلى فيه. وإنما قلنا ذلك لان الله تعالى قال:" حُرِّمَتْ
عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ"، وقال في موضع آخر" قُلْ لا أَجِدُ
فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ
مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً «1»".
__________
(1). راجع ج 7 ص 1 51.
فحرم
المسفوح من الدم. وقد روت عائشة رضي الله عنها قالت: (كنا نطبخ البرمة على عهد
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تعلوها الصفرة من الدم فنأكل ولا
ننكره، لان التحفظ من هذا إصر وفية مشقة، والإصر والمشقة في الدين موضوع. وهذا أصل
في الشرع، أن كلما حرجت الامة في أداء العبادة فيه وثقل عليها سقطت العبادة عنها
فيه، ألا ترى أن المضطر يأكل الميتة، وأن المريض يفطر ويتيمم في نحو ذلك. قلت: ذكر
الله سبحانه وتعالى الدم هاهنا مطلقا، وقيده في الانعام بقوله" مَسْفُوحاً
«1»" وحمل العلماء هاهنا المطلق على المقيد إجماعا. فالدم هنا يراد به
المسفوح، لان ما خالط اللحم فغير محرم بإجماع، وكذلك الكبد والطحال مجمع عليه. وفي
دم الحوت المزايل له اختلاف، وروي عن القابسي أنه طاهر، ويلزم على طهارته أنه غير
محرم. وهو اختيار ابن العربي، قال: لأنه لو كان دم السمك نجسا لشرعت ذكاته. قلت:
وهو مذهب أبي حنيفة في دم الحوت، سمعت بعض الحنفية يقول: الدليل على أنه طاهر أنه
إذا يبس ابيض بخلاف سائر الدماء فإنه يسود. وهذه النكتة لهم في الاحتجاج على
الشافعية. الخامسة عشرة- قوله تعالى:" وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ" خص الله
تعالى ذكر اللحم من الخنزير ليدل على تحريم عينه ذكى أو لم يذك، وليعم الشحم وما
هنالك من الغضاريف «2» وغيرها. السادسة عشرة- أجمعت الامة على تحريم شحم الخنزير.
وقد استدل مالك وأصحابه على أن من حلف ألا يأكل شحما فأكل لحما لم يحنث بأكل
اللحم. فإن حلف ألا يأكل لحما فأكل شحما حنث لان اللحم مع الشحم يقع عليه اسم
اللحم، فقد دخل الشحم في اسم اللحم ولا يدخل اللحم في اسم الشحم. وقد حرم الله
تعالى لحم الخنزير فناب ذكر لحمه عن شحمه، لأنه دخل تحت اسم اللحم. وحرم الله
تعالى على بني إسرائيل الشحوم بقوله:" حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ
شُحُومَهُما" فلم يقع بهذا عليهم تحريم اللحم ولم يدخل في اسم الشحم، فلهذا
فرق مالك بين الحالف
__________
(1). راجع ج 7 ص 123.
(2). الغضروف والغرضوف: كل عظم لين رخص في أي موضع كان.
في
الشحم والحالف في اللحم، إلا أن يكون للحالف نية في اللحم دون الشحم فلا يحنث،
والله تعالى أعلم. ولا يحنث في قول الشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي إذا حلف ألا
يأكل لحما فأكل شحما. وقال أحمد: إذا حلف ألا يأكل لحما فأكل الشحم لا بأس به إلا
أن يكون أراد اجتناب الدسم. السابعة عشرة- لا خلاف أن جملة الخنزير محرمة إلا
الشعر فإنه يجوز الخرازة به. وقد روي أن رجلا سأل رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الخرازة بشعر الخنزير، فقال: (لا بأس بذلك) ذكره ابن خويز
منداد، قال: ولان الخرازة على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كانت، وبعده موجودة ظاهرة، لا نعلم أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أنكرها ولا أحد من الأئمة بعده. وما أجازه الرسول صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو كابتداء الشرع منه. الثامنة عشرة- لا خلاف في تحريم خنزير
البر كما ذكرنا، وفي خنزير الماء خلاف. وأبي مالك أن يجيب فيه بشيء، وقال: أنتم
تقولون خنزيرا! وقد تقدم، وسيأتي بيانه في" المائدة «1»" إن شاء الله
تعالى. التاسعة عشرة- ذهب أكثر اللغويين إلى أن لفظة الخنزير رباعية. وحكى ابن
سيده عن بعضهم أنه مشتق من خزر العين، لأنه كذلك ينظر، واللفظة على هذا ثلاثية.
وفي الصحاح: وتخازر الرجل إذا ضيق جفنه ليحدد النظر. والخزر: ضيق العين وصغرها.
رجل أخزر بين الخزر. ويقال: هو أن يكون الإنسان كأنه ينظر بمؤخرها. وجمع الخنزير
خنازير. والخنازير أيضا علة معروفة، وهي قروح صلبة تحدث في الرقبة. الموفية عشرين-
قوله تعالى:" وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ" أي ذكر عليه غير اسم
الله تعالى، وهي ذبيحة المجوسي والوثني والمعطل. فالوثني يذبح للوثن، والمجوسي
للنار، والمعطل لا يعتقد شيئا فيذبح لنفسه. ولا خلاف بين العلماء أن ما ذبحه
المجوسي لناره والوثني لوثنه لا يؤكل، ولا تؤكل ذبيحتهما عند مالك والشافعي
وغيرهما وإن لم يذبحا لناره ووثنه، وأجازهما ابن المسيب وأبو ثور إذا ذبح لمسلم
بأمره. وسيأتي لهذا مزيد بيان
__________
(1). راجع ج 6 ص 320
إن
شاء الله تعالى في سورة" المائدة «1»". والإهلال: رفع الصوت، يقال: أهل
بكذا، أي رفع صوته. قال ابن أحمر يصف فلاة:
يهل بالفريد ركبانها ... كما يهل الراكب المعتمر
وقال النابغة:
أو درة صدفية غواصها ... بهج متى يرها يهلّ ويسجد
ومنه إهلال الصبى واستهلاله، وهو صياحه عند ولادته. وقال ابن عباس وغيره: المراد
ما ذبح للأنصاب والأوثان، لا ما ذكر عليه اسم المسيح، على ما يأتي بيانه في
سورة" المائدة «2»" إن شاء الله تعالى. وجرت عادة العرب بالصياح باسم
المقصود بالذبيحة، وغلب ذلك في استعمالهم حتى عبر به عن النية التي هي علة
التحريم، ألا ترى أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه راعى النية في الإبل التي نحرها
غالب أبو الفرزدق فقال: إنها مما أهل لغير الله به، فتركها الناس. قال ابن عطية:
ورأيت في أخبار الحسن بن أبي الحسن أنه سئل عن امرأة مترفة صنعت للعبها عرسا فنحرت
جزورا، فقال الحسن: لا يحل أكلها فإنها إنما نحرت لصنم. قلت: ومن هذا المعنى ما
رويناه عن يحيى بن يحيى التميمي شيخ مسلم قال: أخبرنا جرير عن قابوس قال: أرسل أبي
امرأة إلى عائشة رضي الله عنها وأمرها أن تقرأ عليها السلام منه، وتسألها أية صلاة
كانت أعجب إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدوم عليها. قالت: كان
يصلى قبل الظهر أربع ركعات يطيل فيهن القيام ويحسن الركوع والسجود، فأما ما لم يدع
قط، صحيحا ولا مريضا ولا شاهدا، ركعتين قبل صلاة الغداة. قالت امرأة عند ذلك من
الناس: يا أم المؤمنين، إن لنا أظآرا من العجم لا يزال يكون لهم عيد فيهدون لنا
منه، أفنأكل منه شيئا؟ قالت: أما ما ذبح لذلك اليوم فلا تأكلوا ولكن كلوا من
أشجارهم. الحادية والعشرون- قوله تعالى:" فَمَنِ اضْطُرَّ" قرئ بضم
النون للاتباع وبالكسر وهو الأصل لالتقاء الساكنين، وفية إضمار، أي فمن اضطر إلى
شي من هذه
__________
(1). راجع ج 6 ص 76.
(2). راجع ج 6 ص 76.
المحرمات
أي أحوج إليها، فهو افتعل من الضرورة. وقرا ابن محيصن" فمن أطر" بإدغام
الضاد في الطاء. وأبو السمال" فمن اضطر" بكسر الطاء. وأصله أضطر فلما
أدغمت نقلت حركة الراء إلى الطاء. الثانية والعشرون- الاضطرار لا يخلو أن يكون
بإكراه من ظالم أو بجوع في مخمصة. والذي عليه الجمهور من الفقهاء والعلماء في معنى
الآية هو من صيره العدم والغرث وهو الجوع إلى ذلك، وهو الصحيح. وقيل: معناه أكره
وغلب على أكل هذه المحرمات. قال مجاهد: يعني أكره عليه كالرجل يأخذه العدو
فيكرهونه على أكل لحم الخنزير وغيره من معصية الله تعالى، إلا أن الإكراه يبيح ذلك
إلى آخر الإكراه. وأما المخمصة فلا يخلو أن تكون دائمة أو لا، فإن كانت دائمة فلا
خلاف في جواز الشبع من الميتة، إلا أنه لا يحل له أكلها وهو يجد مال مسلم لا يخاف
فيه قطعا، كالتمر المعلق وحريسة «1» الجبل، ونحو ذلك مما لا قطع فيه ولا أذى. وهذا
مما لا اختلاف فيه، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: بينما نحن مع رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سفر إذ رأينا إبلا مصرورة «2» بعضاه الشجر
فثبنا إليهما فنادانا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرجعنا إليه
فقال: (إن هذه الإبل لأهل بيت من المسلمين هو قوتهم ويمنهم «3» بعد الله أيسركم لو
رجعتم إلى مزاودكم فوجدتم ما فيها قد ذهب به أترون ذلك عدلا) قالوا لا، فقال: (إن
هذه كذلك). قلنا: أفرأيت إن احتجنا إلى الطعام والشراب؟ فقال: (كل ولا تحمل واشرب
ولا تحمل). خرجه ابن ماجة رحمه الله، وقال: هذا الأصل عندي. وذكره ابن المنذر قال:
قلنا يا رسول الله، ما يحل لأحدنا من مال أخيه إذا اضطر إليه؟ قال: (يأكل ولا يحمل
ويشرب ولا يحمل). قال ابن المنذر: وكل مختلف فيه بعد ذلك فمردود إلى تحريم الله
الأموال. قال أبو عمر: وجملة القول في ذلك أن المسلم إذا تعين عليه رد رمق مهجة
المسلم، وتوجه
__________
(1). الحريسة: الشاة تسرق ليلا. وفى الحديث (لا قطع في حريسة الجبل) أي ليس فيما
حرس بالجبل قطع، لأنه ليس بحرز.
(2). مصرورة: مربوطة الضروع، وكان عادة العرب أنهم إذا أرسلوا الحلويات إلى
المراعى ربطوا ضروعها.
(3). كذا في سنن ابن ماجة، أي بركتهم وخيرهم. وفى الأصول" قيمهم".
الفرض
في ذلك بألا يكون هناك غيره قضى عليه بنرميق تلك المهجة الآدمية. وكان للممنوع منه
ماله من ذلك محاربة من منعه ومقاتلته، وإن أتى ذلك على نفسه، وذلك عند أهل العلم
إذا لم يكن هناك إلا واحد لا غير، فحينئذ يتعين عليه الفرض. فإن كانوا كثيرا أو
جماعة وعددا كان ذلك عليهم فرضا على الكفاية. والماء في ذلك وغيره مما يرد نفس
المسلم ويمسكها سواء. إلا أنهم اختلفوا في وجوب قيمة ذلك الشيء على الذي ردت به
مهجته ورمق به نفسه، فأوجبها موجبون، وأباها آخرون، وفي مذهبنا القولان جميعا. ولا
خلاف بين أهل العلم متأخريهم ومتقدميهم في وجوب رد مهجة المسلم عند خوف الذهاب
والتلف بالشيء اليسير الذي لا مضرة فيه على صاحبه وفية البلغة. الثالثة والعشرون-
خرج ابن ماجة أنبأنا أبو بكر بن أبي شيبة أنبأنا شبابة (ح) «1» وحدثنا محمد ابن
بشار ومحمد بن الوليد قالا حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن أبي بشر جعفر بن إياس
قال: سمعت عباد بن شرحبيل- رجلا من بني غبر- قال: أصابنا عام مخمصة فأتيت المدينة
فأتيت حائطا «2» من حيطانها فأخذت سنبلا ففركته وأكلته وجعلته في كسائي، فجاء صاحب
الحائط فضربني واخذ ثوبي، فأتيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فأخبرته، فقال للرجل: (ما أطعمه إذ كان جائعا أو ساغبا ولا علمته إذ كان جاهلا)
فأمره النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرد إليه ثوبه، وأمر له بوسق من
طعام أو نصف وسق. قلت: هذا حديث صحيح اتفق على رجاله البخاري ومسلم، إلا ابن أبي
شيبة فإنه لمسلم وحده. وعباد بن شرحبيل الغبري اليشكري لم يخرج له البخاري ومسلم
شيئا، وليس له عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غير هذه القصة فما ذكر
أبو عمر رحمه الله، وهو ينفي القطع والأدب في المخمصة. وقد روى أبو داود عن الحسن
عن سمرة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (إذا أتى أحدكم على
ماشية فإن كان فيها صاحبها فليستأذنه فإن أذن له فليحتلب وليشرب وإن لم يكن فيها
فليصوت ثلاثا فإن أجاب فليستأذنه فإن أذن له فليحتلب وليشرب
__________
(1). إذا كان للحديث إسنادان أو أكثر كتبوا عند الانتقال من إسناد إلى
إسناد:" ح" وهى مأخوذة من التحول ... إلخ. راجع كتب المصطلح.
(2). الحائط: البستان من النخيل وغيره إذا كان عليه جدار.
ولا
يحمل (. وذكر الترمذي عن يحيى بن سليم عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر عن النبي
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:) من دخل حائطا فليأكل ولا يتخذ خبنة (.
قال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث يحيى بن سليم. وذكر من حديث عمرو بن شعيب
عن أبيه عن جده أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل عن الثمر المعلق،
فقال: (من أصاب منه من ذي حاجة غير متخذ خبنة فلا شي عليه). قال فيه: حديث حسن.
وفي حديث عمر رضي الله عنه: (إذا مر أحدكم بحائط فليأكل ولا يتخذ ثبانا). قال أبو
عبيد قال أبو عمر: وهو الوعاء الذي يحمل فيه الشيء، فإن حملته بين يديك فهو ثبان،
يقال: قد تثبنت ثبانا، فإن حملته على ظهرك فهو الحال، يقال منه: قد تحولت كسائي
إذا جعلت فيه شيئا ثم حملته على ظهرك. فإن جعلته في حضنك فهو خبنة، ومنه حديث عمرو
بن شعيب المرفوع (ولا يتخذ خبنة). يقال منه: خبنت أخبن خبنا. قال أبو عبيد: وإنما
يوجه هذا الحديث أنه رخص فيه للجائع المضطر الذي لا شي معه يشتري به ألا يحمل إلا
ما كان في بطنه قدر قوته. قلت: لان الأصل المتفق عليه تحريم مال الغير إلا بطيب
نفس منه، فإن كانت هناك عادة بعمل ذلك كما كان في أول الإسلام، أو كما هو ألان في
بعض البلدان، فذلك جائز. ويحمل ذلك على أوقات المجاعة والضرورة، كما تقدم والله
أعلم. وإن كان الثاني «1» وهو النادر في وقت من الأوقات، فاختلف العلماء فيها على
قولين: أحدهما- أنه يأكل حتى يشبع ويتضلع «2»، ويتزود إذا خشي الضرورة فيما بين
يديه من مفازة وقفر، وإذا وجد عنها غنى طرحها. قال معناه مالك في موطئة، وبه قال
الشافعي وكثير من العلماء. والحجة في ذلك أن الضرورة ترفع التحريم فيعود مباحا.
ومقدار الضرورة إنما هو في حالة عدم القوت إلى حالة وجوده. وحديث العنبر نص في
ذلك، فإن أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما رجعوا من سفرهم وقد
ذهب عنهم الزاد، انطلقوا إلى ساحل البحر فرفع
__________
(1). يريد بالثاني أحد فرضي المخمصة الذي تقدم في المسألة" الثانية
والعشرين" وهو غير الدائمة.
(2). تضلع: أمثلا شعبا أوربا.
لهم على ساحله كهيئة الكثيب الضخم، فلما أتوه إذا هي دابة تدعى العنبر، فقال أبو عبيدة أميرهم: ميتة. ثم قال: لا، بل نحن رسل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفي سبيل الله، وقد اضطررتم فكلوا. قال: فأقمنا عليها شهرا ونحن ثلاثمائة حتى سمنا، الحديث. فأكلوا وشبعوا- رضوان الله عليهم- مما اعتقدوا أنه ميتة وتزودوا منها إلى المدينة، وذكروا ذلك للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبرهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه حلال وقال: (هل معكم من لحمه شي فتطعمونا) فأرسلوا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منه فأكله. وقالت طائفة. يأكل بقدر سد الرمق. وبه قال ابن الماجشون وابن حبيب وفرق أصحاب الشافعي بين حالة المقيم والمسافر فقالوا: المقيم يأكل بقدر ما يسد رمقه، والمسافر يتضلع ويتزود: فإذا وجد غنى عنها طرحها، وإن وجد مضطرا أعطاه إياها ولا يأخذ منه عوضا، فإن الميتة لا يجوز بيعها. الرابعة والعشرون- فإن اضطر إلى خمر فإن كان بإكراه شرب بلا خلاف، وإن كان بجوع أو عطش فلا يشرب، وبه قال مالك في العتبية قال: ولا يزيده الخمر إلا عطشا. وهو قول الشافعي، فإن الله تعالى حرم الخمر تحريما مطلقا، وحرم الميتة بشرط عدم الضرورة. وقال الأبهري: إن ردت الخمر عنه جوعا أو عطشا شربها، لان الله تعالى قال في الخنزير" فَإِنَّهُ رِجْسٌ" ثم أباحه للضرورة. وقال تعالى في الخمر إنها" رِجْسٌ" فتدخل في إباحة الخنزير للضرورة بالمعنى الجلي الذي هو أقوى من القياس، ولا بد أن تروي ولو ساعة، وترد الجوع ولو مدة. الخامسة والعشرون- روى أصبغ عن ابن القاسم أنه قال: يشرب المضطر الدم ولا يشرب الخمر، ويأكل الميتة ولا يقرب ضوال الإبل- وقاله ابن وهب- ويشرب البول ولا يشرب الخمر، لان الخمر يلزم فيها الحد فهي أغلظ. نص عليه أصحاب الشافعي. السادسة والعشرون- فإن غص بلقمة فهل يسيغها بخمر أو لا، فقيل. لا، مخافة أن يدعي ذلك. وأجاز ذلك ابن حبيب، لأنها حالة ضرورة. ابن العربي:" أما الغاص بلقمة
فإنه
يجوز له فيما بينه وبين الله تعالى، وأما فيما بيننا فإن شاهدناه فلا تخفى علينا
بقرائن الحال صورة الغصة من غيرها، فيصدق إذا ظهر ذلك، وإن لم يظهر حددناه ظاهرا
وسلم من العقوبة عند الله تعالى باطنا. ثم إذا وجد المضطر ميتة وخنزيرا ولحم ابن
آدم أكل الميتة، لأنها حلال في حال. والخنزير وابن آدم لا يحل بحال. والتحريم
المخفف أولى أن يقتحم من التحريم المثقل، كما لو أكره أن يطأ أخته أو أجنبية، وطئ
الأجنبية لأنها تحل له بحال. وهذا هو الضابط لهذه الأحكام. ولا يأكل ابن آدم ولو
مات، قاله علماؤنا، وبه قال أحمد وداود. احتج أحمد بقوله عليه السلام: (كسر عظم
الميت ككسره حيا). وقال الشافعي: يأكل لحم ابن آدم. ولا يجوز له أن يقتل ذميا لأنه
محترم الدم، ولا مسلما ولا أسيرا لأنه مال الغير. فإن كان حربيا أو زانيا محصنا
جاز قتله والأكل منه. وشنع داود على المزني بأن قال: قد أبحت أكل لحوم الأنبياء!
فغلب عليه ابن شريح بأن قال: فأنت قد تعرضت لقتل الأنبياء إذ منعتهم من أكل
الكافر. قال ابن العربي: الصحيح عندي ألا يأكل الأدمي إلا إذا تحقق أن ذلك ينجيه
ويحييه، والله أعلم. السابعة والعشرون- سئل مالك عن المضطر إلى أكل الميتة وهو يجد
مال الغير تمرا أو زرعا أو غنما، فقال: إن أمن الضرر على بدنه بحيث لا يعد سارقا
ويصدق في قوله، أكل من أي ذلك وجد ما يرد جوعه ولا يحمل منه شيئا، وذلك أحب إلى من
أن يأكل الميتة، وقد تقدم هذا المعنى مستوفى. وإن هو خشي ألا يصدقوه وأن يعدوه
سارقا فإن أكل الميتة أجوز عندي، وله في أكل الميتة على هذه المنزلة سعة. الثامنة
والعشرون- روى أبو داود قال حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا حماد عن سماك بن حرب
عن جابر بن سمرة أن رجلا نزل الحرة «1» ومعه أهله وولده، فقال رجل: إن ناقة لي ضلت
فإن وجدتها فأمسكها، فوجدها فلم يجد صاحبها فمرضت، فقالت امرأته: أنحرها، فأبى
فنفقت. فقالت: اسلخها حتى نقدد لحمها وشحمها ونأكله، فقال: حتى أسأل
__________
(1). الحرة (بفتح الحاء والراء المشددة): أرض بظاهر المدينة بها حجارة سود.
[.....]
رسول
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأتاه فسأله، فقال: (هل عندك غنى يغنيك)
قال لا، قال: (فكلوها) قال: فجاء صاحبها فأخبره الخبر، فقال: هلا كنت نحرتها فقال:
استحييت منك. قال ابن خويز منداد: في هذا الحديث دليلان: أحدهما: أن المضطر يأكل
من الميتة وإن لم يخف التلف، لأنه سأله عن الغنى ولم يسأله عن خوفه على نفسه.
والثاني- يأكل ويشبع ويدخر ويتزود، لأنه أباحه الادخار ولم يشترط عليه ألا يشبع.
قال أبو داود: وحدثنا هارون بن عبد الله قال حدثنا الفضل بن دكين قال أنبأنا عقبة
بن وهب بن عقبة العامري قال: سمعت أبى يحدث عن الفجيع العامري أنه أتى رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: ما يحل لنا الميتة؟ قال: (ما طعامكم)
قلنا: نغتبق ونصطبح. قال أبو نعيم «1»: فسره لي عقبة: قدح غدوة وقدح عشية. قال:
(ذاك وأبي الجوع). قال: فأحل لهم الميتة على هذه الحال. قال أبو داود: الغبوق من
آخر النهار والصبوح من أول النهار. وقال الخطابي: الغبوق العشاء، والصبوح الغداء،
والقدح من اللبن بالغداة، والقدح بالعشي يمسك الرمق ويقيم النفس، وإن كان لا يغذي
البدن ولا يشبع الشبع التام، وقد أباح لهم مع ذلك تناول الميتة، فكان دلالته أن
تناول الميتة مباح إلى أن تأخذ النفس حاجتها من القوت. وإلى هذا ذهب مالك وهو أحد
قولي الشافعي. قال ابن خويز منداد: إذا جاز أن يصطبحوا ويغتبقوا جاز أن يشبعوا
ويتزودوا. وقال أبو حنيفة والشافعي في القول الأخر: لا يجوز له أن يتناول من
الميتة إلا قدر ما يمسك رمقه، وإليه ذهب المزني. قالوا: لأنه لو كان في الابتداء
بهذه الحال لم يجز له أن يأكل منها شيئا، فكذلك إذا بلغها بعد تناولها. وروى نحوه
عن الحسن. وقال قتادة: لا يتضلع منها بشيء. وقال مقاتل بن حيان: لا يزداد على ثلاث
لقم. والصحيح خلاف هذا، كما تقدم. التاسعة والعشرون- وأما التداوي بها فلا يخلو أن
يحتاج إلى استعمالها قائمة العين أو محرقة، فإن تغيرت بالإحراق فقال ابن حبيب:
يجوز التداوي بها والصلاة. وخففه ابن الماجشون
__________
(1). أبو نعيم: كنية الفضل بن دكين.
بناء
على أن الحرق تطهير لتغير الصفات. وفي العتبية من رواية مالك في المرتك «1» يصنع
من عظام الميتة إذا وضعه في جرحه لا يصلي به حتى يغسله. وإن كانت الميتة قائمة
بعينها فقد قال سحنون: لا يتداوى بها بحال ولا بالخنزير، لان منها عوضا حلالا
بخلاف المجاعة. ولو وجد منها عوض في المجاعة لم تؤكل. وكذلك الخمر لا يتداوى بها،
قاله مالك، وهو ظاهر مذهب الشافعي، وهو اختيار ابن أبي هريرة من أصحابه. وقال أبو
حنيفة: يجوز شربها للتداوي دون العطش، وهو اختيار القاضي الطبري من أصحاب الشافعي،
وهو قول الثوري. وقال بعض البغداديين من الشافعية: يجوز شربها للعطش دون التداوي، لان
ضرر العطش عاجل بخلاف التداوي. وقيل: يجوز شربها للأمرين جميعا. ومنع بعض أصحاب
الشافعي التداوي بكل محرم إلا بأبوال الإبل خاصة، لحديث العرنيين. ومنع بعضهم
التداوي بكل محرم، لقوله عليه السلام: (إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم
عليهم)، ولقوله عليه السلام لطارق بن سويد وقد سأله عن الخمر فنهاه أو كره أن
يصنعها فقال، إنما اصنعها للدواء، فقال: (إنه ليس بدواء ولكنه داء). رواه مسلم في
الصحيح. وهذا يحتمل أن يقيد بحالة الاضطرار، فإنه يجوز التداوي بالسم ولا يجوز
شربه، والله أعلم. الموفية ثلاثين- قوله تعالى:" غَيْرَ باغٍ""
غير" نصب على الحال، وقيل: على الاستثناء. وإذا رأيت" غير" يصلح في
موضعه" في" فهي حال، وإذا صلح موضعها" إلا" فهي استثناء، فقس
عليه. و" باغ" أصله باغي، ثقلت الضمة على الياء فسكنت والتنوين ساكن، فحذفت
الياء والكسرة تدل عليها. والمعنى فيما قال قتادة والحسن والربيع وابن زيد
وعكرمة" غَيْرَ باغٍ" في أكله فوق حاجته،" وَلا عادٍ" بأن يجد
عن هذه المحرمات مندوحة ويأكلها. وقال السدي:" غَيْرَ باغٍ" في أكلها
شهوة وتلذذا،" وَلا عادٍ" باستيفاء الأكل إلى حد الشبع. وقال مجاهد وابن
جبير وغيرهما: المعنى" غَيْرَ باغٍ" على المسلمين" وَلا عادٍ"
عليهم، فيدخل في الباغي والعادي قطاع الطريق والخارج على السلطان والمسافر في قطع
الرحم والغارة على
__________
(1). المرتك (كمقعد): ضرب من الأدوية.
المسلمين
وما شاكله. وهذا صحيح، فإن أصل البغي في اللغة قصد الفساد، يقال: بغت المرأة تبغي
بغاء إذا فجرت، قال الله تعالى:" وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى
الْبِغاءِ «1»" [النور: 33]. وربما استعمل البغي في طلب غير الفساد. والعرب
تقول: خرج الرجل في بغاء إبل له، أي في طلبها، ومنه قول الشاعر:
لا يمنعك من بغا ... ء الخير تعقاد الرتائم
إن الأشائم كالأيا ... من والأيامن كالأشائم
الحادية والثلاثون- قوله تعالى:" وَلا عادٍ" أصل" عاد" عائد،
فهو من المقلوب، كشاكي السلاح وهار ولاث. والأصل شائك وهائر ولائت، من لثت
العمامة. فأباح الله في حالة الاضطرار أكل جميع المحرمات لعجزه عن جميع المباحات
كما بينا، فصار عدم المباح شرطا في استباحة المحرم. الثانية والثلاثون- واختلف
العلماء إذا اقترن بضرورته معصية، بقطع طريق وإخافة سبيل، فحظرها عليه مالك
والشافعي في أحد قوليه لأجل معصيته، لان الله سبحانه أباح ذلك عونا، والعاصي لا
يحل أن يعان، فإن أراد الأكل فليتب وليأكل. وأباحها له أبو حنيفة والشافعي في
القول الأخر له، وسويا في استباحته بين طاعته ومعصيته. قال ابن العربي: وعجبا ممن
يبيح له ذلك مع التمادي على المعصية، وما أظن أحدا يقوله، فإن قاله فهو مخطئ قطعا.
قلت: الصحيح خلاف هذا، فإن إتلاف المرء نفسه في سفر المعصية أشد معصية مما هو فيه،
قال الله تعالى:" وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ «2»" [النساء: 29] وهذا
عام، ولعله يتوب في ثاني حال فتمحو التوبة عنه ما كان. وقد قال مسروق: من اضطر إلى
أكل الميتة والدم ولحم الخنزير فلم يأكل حتى مات دخل النار، إلا أن يعفو الله عنه.
قال أبو الحسن الطبري المعروف بالكيا: وليس أكل الميتة عند الضرورة رخصة بل هو
عزيمة واجبة، ولو امتنع من أكل الميتة كان عاصيا،
__________
(1). راجع ج 12 ص 254.
(2). راجع ج 5 ص 156.
وليس
[تناول «1»] الميتة من رخص السفر أو متعلقا بالسفر بل هو من نتائج الضرورة سفرا
كان أو حضرا، وهو كالافطار للعاصي المقيم إذا كان مريضا، وكالتيمم للعاصي المسافر
عند عدم الماء. قال: وهو الصحيح عندنا. قلت: واختلفت الروايات عن مالك في ذلك،
فالمشهور من مذهبه فيما ذكره الباجي في المنتقى: أنه يجوز له الأكل في سفر المعصية
ولا يجوز له القصر والفطر. وقال ابن خويز منداد: فأما الأكل عند الاضطرار فالطائع
والعاصي فيه سواء، لان الميتة يجوز تناولها في السفر والحضر، وليس بخروج الخارج
إلى المعاصي يسقط عنه حكم المقيم بل أسوأ حالة من أن يكون مقيما، وليس كذلك الفطر
والقصر، لأنهما رخصتان متعلقتان بالسفر. فمتى كان السفر سفر معصية لم يجز أن يقصر
فيه، لان هذه الرخصة تختص بالسفر، ولذلك قلنا: إنه يتيمم إذا عدم الماء في سفر
المعصية، لان التيمم في الحضر والسفر سواء. وكيف يجوز منعه من أكل الميتة والتيمم
لأجل معصية ارتكبها، وفي تركه الأكل تلف نفسه، وتلك أكبر المعاصي، وفي تركه التيمم
إضاعة للصلاة. أيجوز أن يقال له: ارتكبت معصية فارتكب أخرى! أيجوز أن يقال لشارب
الخمر: ازن، وللزاني: اكفر! أو يقال لهما: ضيعا الصلاة؟ ذكر هذا كله في أحكام
القرآن له، ولم يذكر خلافا عن مالك ولا عن أحد من أصحابه. وقال الباجي:" وروى
زياد بن عبد الرحمن الأندلسي أن العاصي بسفره يقصر الصلاة، ويفطر في رمضان. فسوى
بين ذلك كله، وهو قول أبي حنيفة. ولا خلاف أنه لا يجوز له قتل نفسه بالإمساك عن
الأكل، وأنه مأمور بالأكل على وجه الوجوب، ومن كان في سفر معصية لا تسقط عنه
الفروض والواجبات من الصيام والصلاة، بل يلزمه الإتيان بها، فكذلك ما ذكرناه. وجه
القول الأول أن هذه المعاني إنما أبيحت في الاسفار لحاجة الناس إليها، فلا يباح له
أن يستعين بها على المعاصي وله سبيل إلى ألا يقتل نفسه. قال ابن حبيب: وذلك بأن
يتوب ثم يتناول لحم الميتة بعد توبته. وتعلق ابن حبيب في ذلك بقوله تعالى:" فَمَنِ
اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ" فاشترط في إباحة الميتة للضرورة ألا يكون
باغيا. والمسافر
__________
(1). الزيادة عن كتاب" أحكام القرآن" للكيا الهراسى.
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174)
على
وجه الحرابة أو القطع، أو في قطع رحم أو طالب إثم- باغ ومعتد، فلم توجد فيه شروط
الإباحة، والله أعلم". قلت: هذا استدلال بمفهوم الخطاب، وهو مختلف فيه بين
الأصوليين، ومنظوم الآية أن المضطر غير باغ ولا عاد لا إثم عليه، وغيره مسكوت عنه،
والأصل عموم الخطاب، فمن ادعى زواله لأمر ما فعليه الدليل. الرابعة وثلاثون «1»-
قوله تعالى:" إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ" أي يغفر المعاصي، فأولى لا
يؤاخذ بما رخص فيه، ومن رحمته أنه رخص.
[سورة البقرة (2): آية 174]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ
بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ
وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ
أَلِيمٌ (174)
قوله تعالى:" إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ
الْكِتابِ" يعني علماء اليهود، كتموا ما أنزل الله في التوراة من صفة محمد
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصحة رسالته. ومعنى" أَنْزَلَ":
أظهر، كما قال تعالى:" وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ
«2»" [الانعام: 93] أي سأظهر. وقيل: هو على بابه من النزول، أي ما أنزل به
ملائكته على رسله." وَيَشْتَرُونَ بِهِ" أي بالمكتوم" ثَمَناً
قَلِيلًا" يعني أخذ الرشاء. وسماه قليلا لانقطاع مدته وسوء عاقبته. وقيل: لان
ما كانوا يأخذونه من الرشاء كان قليلا. قلت: وهذه الآية وإن كانت في الاخبار فإنها
تتناول من المسلمين من كتم الحق مختارا لذلك بسبب دنيا يصيبها، وقد تقدم «3» هذا
المعنى. قوله تعالى:" فِي بُطُونِهِمْ" ذكر البطون دلالة وتأكيدا على
حقيقة الأكل، إذ قد يستعمل مجازا في مثل أكل فلان أرضى ونحوه. وفي ذكر البطون أيضا
تنبيه على جشعهم
__________
(1). يلاحظ أن نسخ الأصل اضطربت في عد هذه المسائل.
(2). راجع ج 7 ص 40.
(3). راجع ج 1 ص 334، ص 9 من هذا الجزء.
وأنهم
باعوا آخرتهم بحظهم من المطعم الذي لا خطر له. ومعنى" إِلَّا النَّارَ"
أي إنه حرام يعذبهم الله عليه بالنار، فسمي ما أكلوه من الرشاء نارا لأنه يؤديهم
إلى النار، هكذا قال أكثر المفسرين. وقيل: أي إنه يعاقبهم على كتمانهم بأكل النار
في جهنم حقيقة. فأخبر عن المآل بالحال، كما قال تعالى:" إِنَّ الَّذِينَ
يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ
ناراً «1»" [النساء: 10] أي أن عاقبته تؤول إلى ذلك، ومنه قولهم:
لدوا للموت وابنوا للخراب «2»
قال:
فللموت ما تلد الوالده
آخر:
ودورنا لخراب الدهر نبنيها
وهو في القرآن والشعر كثير. قوله تعالى:" وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ"
عبارة عن الغضب عليهم وإزالة الرضا عنهم، يقال: فلان لا يكلم فلانا إذا غضب عليه.
وقال الطبري: المعنى" وَلا يُكَلِّمُهُمُ" بما يحبونه. وفي
التنزيل:" اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ «3»" [المؤمنون: 108].
وقيل: المعنى ولا يرسل إليهم الملائكة بالتحية." وَلا يُزَكِّيهِمْ" أي
لا يصلح أعمالهم الخبيثة فيطهرهم. وقال الزجاج: لا يثني عليهم خيرا ولا يسميهم
أزكياء. و" أَلِيمٌ" بمعنى مؤلم، وقد تقدم «4». وفي صحيح مسلم عن أبي
هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ثلاثة
لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ ولا ينظر إليهم
وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ شيخ زان وملك كذاب وعائل مستكبر (. وإنما خص هؤلاء بأليم
العذاب وشدة العقوبة لمحض المعاندة والاستخفاف الحامل لهم على تلك المعاصي، إذ لم
يحملهم على ذلك حاجة، ولا دعتهم إليه ضرورة كما تدعو من لم يكن مثلهم. ومعنى"
لا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ" لا يرحمهم ولا يعطف عليهم. وسيأتي في" آل عمران
«5»" إن شاء الله تعالى.
__________
(1). راجع ج 5 ص 53.
(2). اختلف في أنه حديث أو غير حديث. راجع كشف الخفاء ج 2 ص 140.
(3). راجع ج 12 ص 153.
(4). راجع ج 1 ص 198.
(5). راجع ج 4 ص 119.
أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175)
[سورة
البقرة (2): آية 175]
أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ
فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175)
قوله تعالى:" أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى
وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ" تقدم «1» القول فيه. ولما كان العذاب تابعا للضلالة
وكانت المغفرة تابعة للهدى الذي اطرحوه دخلا في تجوز الشراء. قوله تعالى:"
فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ" مذهب الجمهور- منهم الحسن ومجاهد-
أن" ما" معناه التعجب، وهو مردود إلى المخلوقين، كأنه قال: اعجبوا من
صبرهم على النار ومكثهم فيها. وفي التنزيل:" قُتِلَ الْإِنْسانُ ما
أَكْفَرَهُ «2»" [عبس: 17] و" أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ «3»"
[مريم: 38]. وبهذا المعنى صدر أبو علي. قال الحسن وقتادة وابن جبير والربيع: ما
لهم والله عليها من صبر، ولكن ما أجرأهم على النار! وهي لغة يمنية معروفة. قال
الفراء: أخبرني الكسائي قال: أخبرني قاضي اليمن أن خصمين اختصما إليه فوجبت اليمين
على أحدهما فحلف، فقال له صاحبه: ما أصبرك على الله؟ أي ما أجرأك عليه. والمعنى:
ما أشجعهم على النار إذ يعملون عملا يؤدي إليها. وحكى الزجاج أن المعنى ما أبقاهم
على النار، من قولهم: ما أصبر فلانا على الحبس! أي ما أبقاه فيه. وقيل: المعنى فما
أقل جزعهم من النار، فجعل قلة الجزع صبرا. وقال الكسائي وقطرب: أي ما أدومهم على
عمل أهل النار. وقيل:" ما" استفهام معناه التوبيخ، قاله ابن عباس والسدي
وعطاء وأبو عبيدة معمر بن المثنى، ومعناه: أي أي شي صبرهم على عمل أهل النار؟!
وقيل: هذا على وجه الاستهانة بهم والاستخفاف بأمرهم.
[سورة البقرة (2): آية 176]
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ
اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (176)
__________
(1). يراجع ج 1 ص 210 طبعه ثانية. [.....]
(2). راجع ج 19 ص 215.
(3). راجع ج 11 ص 108.
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)
قوله
تعالى:" ذلِكَ"" ذلك" في موضع رفع، وهو إشارة إلى الحكم، كأنه
قال: ذلك الحكم بالنار. وقال الزجاج: تقديره الامر ذلك، أو ذلك الامر، أو ذلك
العذاب لهم. قال الأخفش: وخبر" ذلك" مضمر، معناه ذلك معلوم لهم. وقيل:
محله نصب، معناه فعلنا ذلك بهم." بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ"
يعني القرآن في هذا الموضع" بِالْحَقِّ" أي بالصدق. وقيل بالحجة."
وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ" يعني التوراة، فادعى النصارى
أن فيها صفة عيسى، وأنكر اليهود صفته. وقيل: خالفوا آباءهم وسلفهم في التمسك بها.
وقيل: خالفوا ما في التوراة من صفة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
واختلفوا فيها. وقيل: المراد القرآن، والذين اختلفوا كفار قريش، يقول بعضهم: هو
سحر، وبعضهم يقول: أساطير الأولين، وبعضهم: مفترى، إلى غير ذلك. وقد تقدم القول في
معنى الشقاق، والحمد لله «1».
[سورة البقرة (2): آية 177]
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ
وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ
وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى
وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ
وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا
وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ
الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)
فيه ثمان مسائل: الاولى- قوله تعالى:" لَيْسَ الْبِرَّ" اختلف من المراد
بهذا الخطاب، فقال قتادة: ذكر لنا أن رجلا سأل نبي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عن البر، فأنزل الله هذه الآية. قال: وقد كان الرجل قبل الفرائض إذا شهد
أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، ثم مات على ذلك وجبت له الجنة، فأنزل
الله هذه الآية. وقال الربيع وقتادة أيضا: الخطاب لليهود
__________
(1). راجع ص 143 من هذا الجزء.
والنصارى
لأنهم اختلفوا في التوجه والتولي، فاليهود إلى المغرب قبل بيت المقدس، والنصارى
إلى المشرق مطلع الشمس، وتكلموا في تحويل القبلة وفضلت كل فرقة توليتها، فقيل لهم:
ليس البر ما أنتم فيه، وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ. الثانية- قرأ حمزة
وحفص" الْبِرَّ" بالنصب، لان ليس من أخوات كان، يقع بعدها المعرفتان
فتجعل أيهما شئت الاسم أو الخبر، فلما وقع بعد" ليس":" البر"
نصبه، وجعل" أَنْ تُوَلُّوا" الاسم، وكان المصدر أولى بأن يكون اسما
لأنه لا يتنكر، والبر قد يتنكر والفعل أقوى في التعريف. وقرا الباقون"
البر" بالرفع على أنه اسم ليس، وخبره" أَنْ تُوَلُّوا"، تقديره:
ليس البر توليتكم وجوهكم، وعلى الأول ليس توليتكم وجوهكم البر، كقوله:" ما
كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا «1»" [الجاثية: 25]،" ثُمَّ كانَ
عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا «2»" [الروم: 10]"
فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ «3»" [الحشر: 17] وما كان مثله.
ويقوي قراءة الرفع أن الثاني معه الباء إجماعا في قوله:" وَلَيْسَ الْبِرُّ
بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها" [البقرة: 189] ولا يجوز فيه إلا
الرفع، فحمل الأول على الثاني أولى من مخالفته له. وكذلك هو في مصحف أبي
بالباء" ليس البر بأن تولوا" وكذلك في مصحف ابن مسعود أيضا، وعليه أكثر
القراء، والقراءتان حسنتان. الثالثة- قوله تعالى:" وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ
آمَنَ بِاللَّهِ" البر ها هنا اسم جامع للخير، والتقدير: ولكن البر بر من
آمن، فحذف المضاف، كقوله تعالى:" وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ «4»" [يوسف:
82]،" وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ «5»" [البقرة: 93] قاله
الفراء وقطرب والزجاج. وقال الشاعر:
فإنما هي إقبال وإدبار
أي ذات إقبال وذات إدبار. وقال النابغة:
وكيف تواصل من أصبحت ... خلالته كأبي مرحب «6»
__________
(1). راجع ج 16 ص 173.
(2). راجع ج 14 ص 10.
(3). راجع ج 18 ص 42.
(4). راجع ج 9 ص 246.
(5). راجع ص 31 من هذا الجزء.
(6). الخلالة: (بفتح الخاء وكسرها وضمها، جمع الخلة): الصداقة. وأبو مرحب: كنية
الظل، ويقال: هو كنية عرقوب. يقول: خلة هذه المرأة ووصالها لا يثبت كما لا تثبت خلة
أبى مرحب، فلا ينبغي أن نستأنس إليها ويعتد بها. (عن اللسان وشرح الشواهد).
أي
كخلالة أبي مرحب، فحذف. وقيل: المعنى ولكن ذا البر، كقوله تعالى:" هُمْ
دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ «1»" [آل عمران: 163] أي ذوو درجات. وذلك أن النبي
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما هاجر إلى المدينة وفرضت الفرائض وصرفت
القبلة إلى الكعبة وحدت الحدود أنزل الله هذه الآية فقال: ليس البر كله أن تصلوا
ولا تعملوا غير ذلك، ولكن البر- أي ذا البر- من آمن بالله، إلى آخرها، قاله ابن
عباس ومجاهد والضحاك وعطاء وسفيان والزجاج أيضا. ويجوز أن يكون"
الْبِرَّ" بمعنى البار والبر، والفاعل قد يسمى بمعنى المصدر، كما يقال: رجل
عدل، وصوم وفطر. وفي التنزيل:" إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً «2»"
[الملك: 30] أي غائرا، وهذا اختيار أبي عبيدة. وقال المبرد: لو كنت ممن يقرأ
القرآن لقرأت" وَلكِنَّ الْبِرَّ" بفتح الباء. الرابعة- قوله
تعالى:" وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ"
فقيل: يكون" الْمُوفُونَ" عطفا على" مَنْ" لان من في موضع جمع
ومحل رفع، كأنه قال: ولكن البر المؤمنون والموفون، قاله الفراء والأخفش."
وَالصَّابِرِينَ" نصب على المدح، أو بإضمار فعل. والعرب تنصب على المدح وعلى
الذم كأنهم يريدون بذلك إفراد الممدوح والمذموم ولا يتبعونه أول الكلام، وينصبونه.
فأما المدح فقوله:" وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ «3»" [النساء: 162].
وأنشد الكسائي:
وكل قوم أطاعوا أمر مرشدهم ... إلا نميرا أطاعت أمر غاويها
الظاعنين ولما يظعنوا أحدا ... والقائلون لمن دار نخليها
وأنشد أبو عبيدة:
لا يبعدن قومي الذين هم ... سم العداة وآفة الجزر «4»
النازلين بكل معترك ... والطيبون معاقد الأزر
وقال آخر:
نحن بني ضبة أصحاب الجمل
__________
(1). راجع ج 4 ص 263.
(2). راجع ج 18 ص 222.
(3). راجع ج 6 ص 13.
(4). راجع كتاب سيبويه وتوجيه الاعراب فيه (ج 1 ص 104، 246، 249) طبع بولاق.
فنصب
على المدح. وأما الذم فقوله تعالى:" مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا
«1»" [الأحزاب: 61] الآية. وقال عروة ابن الورد:
سقوني الخمر ثم تكنفوني ... عداة الله من كذب وزور
وهذا مهيع «2» في النعوت، لا مطعن فيه من جهة الاعراب، موجود في كلام العرب كما
بينا. وقال بعض من تعسف في كلامه: إن هذا غلط من الكتاب حين كتبوا مصحف الامام،
قال: والدليل على ذلك ما روي عن عثمان أنه نظر في المصحف فقال: أرى «3» فيه لحنا
وستقيمه العرب بألسنتها. وهكذا قال في سورة النساء" وَالْمُقِيمِينَ
الصَّلاةَ" [النساء: 162]، وفي سورة المائدة" وَالصَّابِئُونَ" [
«4» المائدة: 69]. والجواب ما ذكرناه. وقيل:" الْمُوفُونَ" رفع على
الابتداء والخبر محذوف، تقديره وهم الموفون. وقال الكسائي:"
وَالصَّابِرِينَ" عطف على" ذَوِي الْقُرْبى " كأنه قال: وآتى
الصابرين. قال النحاس:" وهذا القول خطأ وغلط بين، لأنك إذا نصبت"
والصابرين" ونسقته على" ذَوِي الْقُرْبى " دخل في صلة"
مَنْ" وإذا رفعت" وَالْمُوفُونَ" على أنه نسق على" من"
فقد نسقت على" من" من قبل أن تتم الصلة، وفرقت بين الصلة والموصول
بالمعطوف". وقال الكسائي: وفي قراءة عبد الله" والموفين،
والصَّابِرِينَ". وقال النحاس:" يكونان منسوقين على" ذَوِي
الْقُرْبى " أو على المدح. قال الفراء: وفي قراءة عبد الله في النساء"
والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة «5»" [النساء: 162]. وقرا يعقوب
والأعمش" والموفون والصابرون" بالرفع فيهما. وقرا
__________
(1). راجع ج 14 ص 247. [.....]
(2). المهيع: الطريق الواسع البين.
(3). هذا القول من أخبث ما وضع الوضاعون على عثمان رضى الله عنه، وقد أنكر العلماء
صحة نسبته إليه. على أن عثمان لم يستقل بجمع المصحف بل شاركه؟؟ الصحابة في جمعه
وكتابته ولم ينشروه بين المسلمين حتى قابلوه على الصحف التي جمع القرآن فيها على
عهد أبى بكر رضى الله عنه، فلم يتداوله المسلمون إلا وهو بإجماع الصحابة موافق
تمام الموافقة للعرضة الأخيرة التي عرض فيها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ القرآن على جبريل عليه السلام. وهل يظن ظان أن عثمان رضى الله عنه وهو
ثالث الخلفاء الراشدين يرى في المصحف لحنا يخالف ما أنزل الله ويتركه ويقول:
ستقيمه العرب بألسنتها! وكيف يفعل أن يقول ذلك في حضرة الصحابة ولا يقفون في وجهه
ويردون عليه قوله وهم أنصار الدين وحماته. وممن أنكر نسبة هذا القول إلى عثمان
المصنف والزمخشري وأبو حيان والآلوسي في سورة" النساء" عند قوله
تعالى:" وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ" آية 162، راجع ج 6 ص 13.
(4). راجع ج 6 ص 246.
(5). كذا في كتاب" إعراب القرآن" للنحاس، وما يدل عليه سياق الكلام في
البحر المحيط لابي حيان في سورة" النساء". وفى الأصول:" والمقيمين
... والمؤتين".
الجحدري"
بعهودهم". وقد قيل: إن" وَالْمُوفُونَ" عطف على الضمير الذي
في" آمَنَ". وأنكره أبو علي وقال: ليس المعنى عليه، إذ ليس المراد أن
البر بر من آمن بالله هو والموفون، أي آمنا جميعا. كما تقول: الشجاع من أقدم هو
وعمرو، وإنما الذي بعد قوله" مَنْ آمَنَ" تعداد لأفعال من آمن وأوصافهم.
الخامسة- قال علماؤنا: هذه آية عظيمة من أمهات الأحكام، لأنها تضمنت ست عشرة
قاعدة: الايمان بالله وبأسمائه وصفاته- وقد أتينا عليها في" الكتاب
الأسنى"- والنشر والحشر والميزان والصراط والحوض والشفاعة والجنة والنار- وقد
أتينا عليها في كتاب" التذكرة"- والملائكة والكتب المنزلة وأنها حق من
عند الله- كما تقدم- والنبيين وإنفاق المال فيما يعن من الواجب والمندوب وإيصال
القرابة وترك قطعهم وتفقد اليتيم وعدم إهماله والمساكين كذلك، ومراعاة ابن السبيل-
قيل المنقطع به، وقيل: الضيف- والسؤال وفك الرقاب. وسيأتي بيان هذا في آية الصدقات
«1»، والمحافظة على الصلاة وإيتاء الزكاة والوفاء بالعهود والصبر في الشدائد. وكل
قاعدة من هذه القواعد تحتاج إلى كتاب وتقدم التنبيه على أكثرها، ويأتي بيان باقيها
بما فيها في مواضعها إن شاء الله تعالى. واختلف هل يعطى اليتيم من صدقة التطوع
بمجرد اليتم على وجه الصلة وإن كان غنيا، أو لا يعطى حتى يكون فقيرا، قولان
للعلماء. وهذا على أن يكون إيتاء المال غير الزكاة الواجبة، على ما نبينه آنفا
«2». السادسة- قوله تعالى:" وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ" استدل به من
قال: إن في المال حقا سوى الزكاة وبها كمال البر. وقيل: المراد الزكاة المفروضة،
والأول أصح، لما خرجه الدارقطني عن فاطمة بنت قيس قالت قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن في المال حقا سوى الزكاة) ثم تلا هذه الآية" لَيْسَ
الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ" إلى آخر الآية. وأخرجه ابن ماجة في
سننه والترمذي في جامعه وقال:" هذا حديث ليس إسناده بذاك، وأبو حمزة
__________
(1). راجع ج 8 ص 167.
(2). آنفا: أي ألان. (2- 16)
ميمون
الأعور يضعف. وروى بيان وإسماعيل بن سالم عن الشعبي هذا الحديث قوله وهو
أصح". قلت: والحديث وإن كان فيه مقال فقد دل على صحته معنى ما في الآية نفسها
من قوله تعالى:" وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ" فذكر الزكاة مع
الصلاة، وذلك دليل على أن المراد بقوله:" وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ"
ليس الزكاة المفروضة، فإن ذلك كان يكون تكرارا، والله أعلم. واتفق العلماء على أنه
إذا نزلت بالمسلمين حاجة بعد أداء الزكاة فإنه يجب صرف المال إليها. قال مالك رحمه
الله: يجب على الناس فداء أسراهم وإن استغرق ذلك أموالهم. وهذا إجماع أيضا، وهو
يقوى ما اخترناه، والموفق الاله. السابعة- قوله تعالى:" عَلى حُبِّهِ"
الضمير في" حُبِّهِ" اختلف في عوده، فقيل: يعود على المعطى للمال، وحذف
المفعول وهو المال. ويجوز نصب" ذَوِي الْقُرْبى " بالحلب، فيكون التقدير
على حب المعطى ذوى القربى. وقيل: يعود على المال، فيكون المصدر مضافا إلى المفعول.
قال ابن عطية: ويجيء قوله" عَلى حُبِّهِ" اعتراضا بليغا أثناء القول.
قلت: ونطيره قوله الحق:" وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً
«1»" فإنه جمع المعنيين، الاعتراض وإضافة المصدر إلى المفعول، أي على حب
الطعام. ومن الاعتراض قوله الحق:" وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ
ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ «2»" وهذا عندهم يسمى
التتميم، وهو نوع من البلاغة، ويسمى أيضا الاحتراس والاحتياط، فتمم بقوله"
عَلى حُبِّهِ" وقوله:" وَهُوَ مُؤْمِنٌ"، ومنه قول زهير:
من يلق يوما على علاته هرما ... يلق السماحة منه والندى خلقا
وقال امرؤ القيس:
على هيكل يعطيك قبل سؤاله ... أفانين جرى غير كز ولا وان
فقوله:" على علاته" و" قبل سؤاله" تتميم حسن، ومنه قول عنترة:
أثنى علي بما علمت فإنني ... سهل مخالفتي إذا لم أظلم
__________
(1). راجع ج 19 ص 126.
(2). راجع ج 5 ص 399.
فقوله:"
إذا لم أظلم" تتميم حسن. وقال طرفة:
فسقى ديارك غير مفسدها ... صوب الربيع وديمة تهمى
وقال الربيع بن ضبع الفزاري:
فنيت وما يفنى صنيعي ومنطقي ... وكل امرئ إلا أحاديثه فان
فقوله:" غير مفسدها"، و" إلا أحاديثه" تتميم واحتراس. وقال
أبو هفان:
فأفنى الردى أرواحنا غير ظالم ... وأفنى الندى أموالنا غير عائب
فقوله:" غير ظالم، و" غير عائب" تتميم واحتياط، وهو في الشعر كثير.
وقيل: يعود على الإيتاء، لان الفعل يدل على مصدره، وهو كقوله تعالى:" وَلا
يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ
خَيْراً لَهُمْ «1»" أي البخل خيرا لهم، فإذا أصابت الناس حاجة أو فاقة
فإيتاء المال حبيب إليهم. وقيل يعود على اسم الله تعالى في قوله:" مَنْ آمَنَ
بِاللَّهِ". والمعنى المقصود أن يتصدق المرء في هذه الوجوه وهو صحيح شحيح
يخشى الفقر ويأمن البقاء. الثامنة- قوله تعالى:" وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ
إِذا عاهَدُوا" أي فيما بينهم وبين الله تعالى وفيما بينهم وبين الناس."
وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ" البأساء: الشدة والفقر. والضراء:
المرض والزمانة، قاله ابن مسعود. وقال عليه السلام: (يقول الله تعالى أيما عبد من
عبادي ابتليته ببلاء في فراشه فلم يشك إلى عواده أبدلته لحما خيرا من لحمه ودما
خيرا من دمه فإن قبضته فإلى رحمتي وإن عافيته عافيته وليس له ذنب) قيل: يا رسول
الله، ما لحم خير من لحمه؟ قال: (لحم لم يذنب) قيل: فما دم خير من دمه؟ قال: (دم
لم يذنب) ووالبأساء والضراء اسمان بنيا على فعلاء، ولا فعل لهما، لأنهما اسمان
وليسا بنعت." وَحِينَ الْبَأْسِ" أي وقت الحزب «2». قوله تعالى:"
أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ" وصفهم بالصدق
والتقوى في أمورهم والوفاء بها، وأنهم كانوا جادين في الدين، وهذا غاية الثناء.
والصدق: خلاف
__________
(1). راجع ج 4 ص 290.
(2). في ب:" وقت الجدب".
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178)
الكذب.
ويقال: صدقوهم القتال. والصديق: الملازم للصدق، وفي الحديث: (عليكم بالصدق فإن
الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق
حتى يكتب عند الله صديقا).
[سورة البقرة (2): آية 178]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى
الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ
عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ
بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ
ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (178)
فيه سبع عشرة مسألة: الاولى- روى البخاري والنسائي والدارقطني عن ابن عباس
قال:" كان في بني إسرائيل القصاص ولم تكن فيهم الدية، فقال الله لهذه
الامة:" كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى
بالأنثى فمن عفى له من أخيه شي" فالعفو أن يقبل الدية في العمد" فاتباع
بالمعروف وأداء إليه بإحسان" يتبع بالمعروف ويؤدي بإحسان" ذلِكَ
تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ" مما كتب على من كان قبلكم" فَمَنِ
اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ" قتل بعد قبول الدية". هذا
لفظ البخاري: حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثنا عمرو [قال «1»] سمعت مجاهدا [قال
«2»] سمعت ابن عباس [يقول «3»]. وقال الشعبي في قوله تعالى:" الْحُرُّ
بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى " قال: أنزلت في
قبيلتين من قبائل العرب اقتتلتا فقالوا، نقتل بعبدنا فلان بن فلان، وبأمتنا فلانة
بنت فلان، ونحوه عن قتادة. الثانية- قوله تعالى:" كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الْقِصاصُ"" كتب" معناه فرض وأثبت، ومنه قول عمر بن أبي ربيعة:
كتب القتل والقتال علينا ... وعلى الغانيات جر الذيول
__________
(1). الزيادة عن صحيح البخاري.
(2). الزيادة عن صحيح البخاري.
(3). الزيادة عن صحيح البخاري.
وقد
قيل: إن" كتب" هنا إخبار عما كتب في اللوح المحفوظ وسبق به القضاء.
والقصاص مأخوذ من قص الأثر وهو اتباعه، ومنه القاص لأنه يتبع الآثار والأخبار. وقص
الشعر اتباع أثره، فكأن القاتل سلك طريقا من القتل فقص أثره فيها ومشى على سبيله
في ذلك، ومنه" فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً" [الكهف: 64]. وقيل:
القص القطع، يقال: قصصت ما بينهما. ومنه أخذ القصاص، لأنه يجرحه مثل جرحه أو يقتله
به، يقال: أقص الحاكم فلانا من فلان وإباءه به فأمثله فامتثل منه، أي اقتص منه.
الثالثة- صورة القصاص هو أن القاتل فرض عليه إذا أراد الولي القتل الاستسلام لأمر
الله والانقياد لقصاصه المشروع، وأن الولي فرض عليه الوقوف عند قاتل وليه وترك
التعدي على غيره، كما كانت العرب تتعدى فتقتل غير القاتل، وهو معنى قوله عليه
السلام: (إن من أعتى الناس على الله يوم القيامة ثلاثة رجل قتل غير قاتله ورجل قتل
في الحرم ورجل أخذ بذحول «1» الجاهلية). قال الشعبي وقتادة وغيرهما: إن أهل
الجاهلية كان فيهم بغي وطاعة للشيطان، فكان الحي إذا كان فيه عز ومنعة فقتل لهم
عبد، قتله عبد قوم آخرين قالوا: لا نقتل به إلا حرا، وإذا قتلت منهم امرأة قالوا:
لا نقتل بها إلا رجلا، وإذا قتل لهم وضيع قالوا: لا نقتل به إلا شريفا، ويقولون:
(القتل أوقى للقتل) بالواو والقاف، ويروي (أبقى) بالباء والقاف، ويروى (أنفى)
بالنون والفاء، فنهاهم الله عن البغي فقال:" كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي
الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ" الآية، وقال"
وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ" [البقرة: 179]. وبين الكلامين في الفصاحة
والجزل بون عظيم. الرابعة- لا خلاف أن القصاص في القتل لا يقيمه إلا أولو الامر،
فرض عليهم النهوض بالقصاص وإقامة الحدود وغير ذلك، لان الله سبحانه خاطب جميع
المؤمنين بالقصاص، ثم لا يتهيأ للمؤمنين جميعا أن يجتمعوا على القصاص، فأقاموا
السلطان مقام أنفسهم
__________
(1). الذحل (بفتح فسكون): قيل هو العداوة والحقد، وقيل: النار وطلب المكافأة
بجناية جنيت عليه من قتل أو جرح، ونحو ذلك. [.....]
في
إقامة القصاص وغيره من الحدود. وليس القصاص بلازم إنما اللازم ألا يتجاوز القصاص
وغيره من الحدود إلى الاعتداء، فأما إذا وقع الرضا بدون القصاص من دية أو عفو فذلك
مباح، على ما يأتي بيانه. فإن قيل: فان قوله تعالى" كُتِبَ عَلَيْكُمُ"
معناه فرض وألزم، فكيف يكون القصاص غير واجب؟ قيل له: معناه إذا أردتم، فأعلم أن
القصاص هو الغاية عند التشاح. والقتلى جمع قتيل، لفظ مؤنث تأنيث الجماعة، وهو مما
يدخل على الناس كرها، فلذلك جاء على هذا البناء كجرحى وزمنى وحمقى وصرعى وغرقي،
وشبههن. الخامسة- قوله تعالى:" الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ
وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى " الآية. اختلف في تأويلها، فقالت طائفة: جاءت الآية
مبينة لحكم النوع إذا قتل نوعه، فبينت حكم الحر إذا قتل حرا، والعبد إذا قتل عبدا،
والأنثى إذا قتلت أنثى، ولم تتعرض لاحد النوعين إذا قتل الأخر، فالآية محكمة وفيها
إجمال يبينه قوله تعالى:" وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ
بِالنَّفْسِ" [المائدة: 45]، وبينه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بسنته لما قتل اليهودي بالمرأة، قاله مجاهد، وذكره أبو عبيد عن ابن عباس. وروي عن
ابن عباس أيضا أنها منسوخة بآية" المائدة «1»" وهو قول أهل العراق.
السادسة- قال الكوفيون والثوري: يقتل الحر بالعبد، والمسلم بالذمي، واحتجوا بقوله
تعالى:" يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي
الْقَتْلى " فعم، وقوله:" وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ
بِالنَّفْسِ" [المائدة: 45]، قالوا: والذمي مع المسلم «2» متساويان في الحرمة
التي تكفي في القصاص وهي حرمة الدم الثابتة على التأبيد، فإن الذمي محقون الدم على
التأبيد، والمسلم كذلك، وكلاهما قد صار من أهل دار الإسلام، والذي يحقق ذلك أن
المسلم يقطع بسرقة مال الذمي، وهذا يدل على أن مال الذمي قد ساوى مال المسلم، فدل
على مساواته لدمه إذ المال إنما يحرم بحرمة مالكه. واتفق أبو حنيفة وأصحابه
والثوري وابن أبي ليلى على أن الحر يقتل بالعبد كما يقتل العبد به، وهو قول داود،
وروي ذلك عن علي وابن مسعود
__________
(1). راجع ج 6 ص 191.
(2). في ب، ج، ز:" مع الحر".
رضي
الله عنهما، وبه قال سعيد بن المسيب وقتادة وإبراهيم النخعي والحكم بن عيينة.
والجمهور من العلماء لا يقتلون الحر بالعبد، للتنويع والتقسيم في الآية. وقال أبو
ثور: لما اتفق جميعهم على أنه لا قصاص بين العبيد والأحرار فيما دون النفوس كانت
النفوس أحرى بذلك، ومن فرق منهم بين ذلك فقد ناقض. وأيضا فالإجماع فيمن قتل عبدا
خطأ أنه ليس عليه إلا القيمة، فكما لم يشبه الحر في الخطأ لم يشبهه في العمد.
وأيضا فإن العبد سلعة من السلع يباع ويشترى، ويتصرف فيه الحر كيف شاء، فلا مساواة
بينه وبين الحر ولا مقاومة. قلت: هذا الإجماع صحيح، وأما قوله أولا:" ولما
اتفق جميعهم- إلى قوله- فقد ناقض" فقد قال ابن أبي ليلى وداود بالقصاص بين
الأحرار والعبيد في النفس وفي جميع الأعضاء، واستدل داود بقوله عليه السلام:
(المسلمون تتكافأ دماؤهم) فلم يفرق بين حر وعبد. وسيأتي بيانه في" النساء
«1»" إن شاء الله تعالى. السابعة- والجمهور أيضا على أنه لا يقتل مسلم بكافر،
لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا يقتل مسلم بكافر) أخرجه البخاري عن
علي بن أبي طالب. ولا يصح لهم ما رووه من حديث ربيعة أن النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قتل يوم خيبر مسلما بكافر، لأنه منقطع، ومن حديث ابن البيلماني
وهو ضعيف عن ابن عمر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرفوعا. قال
الدارقطني:" لم يسنده غير إبراهيم بن أبي يحيى وهو متروك الحديث. والصواب عن
ربيعة عن ابن البيلماني مرسل عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وابن
البيلماني ضعيف الحديث لا تقوم به حجة إذا وصل الحديث، فكيف بما يرسله". قلت:
فلا يصح في الباب إلا حديث البخاري، وهو يخصص عموم قوله تعالى:" كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى " الآية، وعموم قوله:" النَّفْسَ
بِالنَّفْسِ" [المائدة: 45]. الثامنة- روي عن علي بن أبي طالب والحسن بن أبي
الحسن البصري أن الآية نزلت مبينة حكم المذكورين، ليدل ذلك على الفرق بينهم وبين
أن يقتل حر عبدا أو عبد حرا، أو ذكر أنثى أو أنثى ذكرا، وقالا: إذا قتل رجل امرأة
فإن أراد أولياؤها قتلوا صاحبهم ووفوا
__________
(1). راجع ج 5 ص 314.
أولياءه نصف الدية، وإن أرادوا استحيوه وأخذوا منه دية المرأة. وإذا قتلت امرأة رجلا فإن أراد أولياؤه قتلها قتلوها وأخذوا نصف الدية، وإلا أخذوا دية صاحبهم واستحيوها. روى هذا الشعبي عن علي، ولا يصح، لان الشعبي لم يلق عليا. وقد روى الحكم عن علي وعبد الله قالا: إذا قتل الرجل المرأة متعمدا فهو بها قود، وهذا يعارض رواية الشعبي عن علي. وأجمع العلماء على أن الأعور والأشل إذا قتل رجلا سالم الأعضاء أنه ليس لوليه أن يقتل الأعور، ويأخذ منه نصف الدية من أجل أنه قتل ذا عينين وهو أعور، وقتل ذا يدين وهو أشل، فهذا يدل على أن النفس مكافيه للنفس، ويكافئ الطفل فيها الكبير. ويقال لقائل ذلك: إن كان الرجل لا تكافئه المرأة ولا تدخل تحت قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (المسلمون تتكافأ دماؤهم) فلم قتلت الرجل بها وهي لا تكافئه ثم تأخذ نصف الدية، والعلماء قد أجمعوا أن الدية لا تجتمع مع القصاص، وأن الدية إذا قبلت حرم الدم وارتفع القصاص، فليس قولك هذا بأصل ولا قياس، قاله أبو عمر رضي الله عنه. وإذا قتل الحر العبد، فإن أراد سيد العبد قتل وأعطى دية الحر إلا قيمة العبد، وإن شاء استحيا وأخذ قيمة العبد، هذا مذكور عن، علي والحسن، وقد أنكر ذلك عنهم أيضا. التاسعة- وأجمع العلماء على قتل الرجل بالمرأة والمرأة بالرجل، والجمهور لا يرون الرجوع بشيء. وفرقة ترى الاتباع بفضل الديات. قال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق والثوري وأبو ثور: وكذلك القصاص بينهما فيما دون النفس. وقال حماد بن أبي سليمان وأبو حنيفة: لا قصاص بينهما فيما دون النفس بالنفس وإنما هو في النفس بالنفس، وهما محجوجان بإلحاق ما دون النفس بالنفس على طريق الأخرى والاولى، على ما تقدم. العاشرة- قال ابن العربي: ولقد بلغت الجهالة بأقوام إلى أن قالوا: يقتل الحر بعبد نفسه، ورووا في ذلك حديثا عن الحسن عن سمرة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (من قتل عبده قتلناه) وهو حديث ضعيف. ودليلنا قوله تعالى:" وَمَنْ قُتِلَ
مَظْلُوماً
فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ
«1»" [الاسراء: 33] والولي ها هنا السيد، فكيف يجعل له سلطان على نفسه".
وقد اتفق الجميع على أن السيد لو قتل عبده خطأ أنه لا تؤخذ منه قيمته لبيت المال،
وقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلا قتل عبده متعمدا فجلده النبي صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونفاه سنة ومحا سهمه من المسلمين ولم يقده به. فإن
قيل: فإذا قتل الرجل زوجته لم لم تقولوا: ينصب النكاح شبهة في درء القصاص عن
الزوج، إذ النكاح ضرب من الرق، وقد قال ذلك الليث بن سعد. قلنا: النكاح ينعقد لها
عليه، كما ينعقد له عليها، بدليل أنه لا يتزوج أختها ولا أربعا سواها، وتطالبه في
حق الوطي بما يطالبها، ولكن له عليها فضل القوامة التي جعل الله له عليها بما أنفق
من ماله، أي بما وجب عليه من صداق ونفقة، فلو أورث شبهة لاورثها في الجانبين. قلت:
هذا الحديث الذي ضعفه ابن العربي وهو صحيح، أخرجه النسائي وأبو داود، وتتميم متنه:
(ومن جدعه جدعناه ومن أخصاه أخصيناه). وقال البخاري عن علي بن المديني: سماع الحسن
من سمرة صحيح، واخذ بهذا الحديث. وقال البخاري: وأنا أذهب إليه، فلو لم يصح الحديث
لما ذهب إليه هذان الإمامان، وحسبك بهما!. ويقتل الحر بعبد نفسه. قال النخعي
والثوري في أحد قوليه وقد قيل: إن الحسن لم يسمع من سمرة إلا حديث العقيقة، والله
أعلم. [واختلفوا «2» في القصاص بين العبيد فيما دون النفس، هذا قول عمر بن عبد
العزيز وسالم بن عبد الله والزهري وقران «3» ومالك والشافعي وأبو ثور. وقال الشعبي
والنخعي والثوري وأبو حنيفة: لا قصاص بينهم إلا في النفس. قال ابن المنذر: الأول
أصح [. الحادية عشرة- روى الدارقطني وأبو عيسى الترمذي عن سراقة بن مالك قال: حضرت
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقيد الأب من ابنه، ولا يقيد الابن
من أبيه. قال أبو عيسى:" هذا حديث لا نعرفه من حديث سراقة إلا من هذا الوجه،
وليس إسناده بصحيح، رواه إسماعيل بن عياش عن المثنى
بن الصباح، والمثنى يضعف في الحديث، وقد روى هذا
__________
(1). راجع ج 10 ص 254.
(2). ما بين المربعين ساقط من ب، ج، ز.
(3). قران (بضم القاف وتشديد الراء) بن تمام الأسدي، توفى سنة إحدى وثمانين ومائة.
الحديث
أبو خالد الأحمر عن الحجاج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن عمر عن النبي صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقد روي هذا الحديث عن عمرو بن شعيب مرسلا، وهذا
الحديث فيه اضطراب، والعمل على هذا عند أهل العلم أن الأب إذا قتل ابنه لا يقتل
به، وإذا قذفه لا يحد". وقال ابن المنذر: اختلف أهل العلم في الرجل يقتل ابنه
عمدا، فقالت طائفة: لا قود عليه وعليه ديته، وهذا قول الشافعي وأحمد وإسحاق وأصحاب
الرأي، وروي ذلك عن عطاء ومجاهد. وقال مالك وابن نافع وابن عبد الحكم: يقتل به.
وقال ابن المنذر: وبهذا نقول لظاهر الكتاب والسنة، فأما ظاهر الكتاب فقوله
تعالى:" كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ
وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ"، والثابت عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: (المؤمنون تتكافأ دماؤهم) ولا نعلم خبرا ثابتا يجب به استثناء الأب من
جملة الآية، وقد روينا فيه أخبارا غير ثابتة. وحكى الكيا الطبري عن عثمان البتي
أنه يقتل الوالد بولده، للعمومات في القصاص. وروي مثل ذلك عن مالك، ولعلهما لا
يقبلان أخبار الآحاد في مقابلة عمومات القرآن. قلت: لا خلاف في مذهب مالك أنه إذا
قتل الرجل ابنه متعمدا مثل أن يضجعه ويذبحه أو يصبره «1» مما لا عذر له فيه ولا
شبهة في ادعاء الخطأ، أنه يقتل به قولا واحدا. فأما إن رماه بالسلاح أدبا أو حنقا
فقتله، ففيه في المذهب قولان: يقتل به، ولا يقتل به وتغلظ الدية، وبه قال جماعة
العلماء. ويقتل الا جني بمثل هذا. ابن العربي «2»:" سمعت شيخنا فخر الإسلام
الشاشي يقول في النظر: لا يقتل الأب بابنه، لان الأب كان سبب وجوده، فكيف يكون هو
سبب عدمه؟ وهذا يبطل بما إذا زنى بابنته فإنه يرجم، وكان سبب وجودها وتكون هي سبب
عدمه، [ثم أي فقه تحت هذا، ولم لا يكون سبب عدمه إذا عصى الله تعالى في ذلك «3» [.
وقد أثروا عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: (لا يقاد
الوالد
__________
(1). صبر الإنسان وغيره على القتل: أن يحبس ويرمى حتى يموت. وفى أ، ج:" أو
يضربه".
(2). أثبتنا كلام ابن العربي هنا كما ورد في كتابه" أحكام القرآن"، وقد
ورد في الأصول بنقص وتحريف من النساخ.
(3). زيادة عن ابن العربي.
بولده)
وهو حديث باطل، ومتعلقهم أن عمر رضي الله عنه قضى بالدية مغلظة في قاتل ابنه ولم
ينكر أحد من الصحابة عليه، فأخذ سائر الفقهاء رضي الله عنهم المسألة مسجلة «1»،
[وقالوا «2»: لا يقتل الوالد بولده [، وأخذها مالك محكمة مفصلة فقال: إنه لو حذفه
بالسيف وهذه حالة محتملة لقصد القتل وعدمه، وشفقة الأبوة شبهة منتصبة شاهدة بعدم
القصد إلى القتل تسقط القود، فإذا أضجعه كشف الغطاء عن قصده فالتحق بأصله".
قال ابن المنذر: وكان مالك والشافعي وأحمد وإسحاق يقولون: إذا قتل الابن الأب قتل
به. الثانية عشرة- وقد استدل الامام أحمد بن حنبل بهذه الآية على قوله: لا تقتل
الجماعة بالواحد، قال: لان الله سبحانه شرط المساواة ولا مساواة بين الجماعة
والواحد. وقد قال تعالى:" وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ
بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ" [المائدة: 45]. والجواب أن المراد
بالقصاص في الآية قتل من قتل كائنا من كان، ردا على العرب التي كانت تريد أن تقتل
بمن قتل من لم يقتل، وتقتل في مقابلة الواحد مائة، افتخارا واستظهارا بالجاه
والمقدرة، فأمر الله سبحانه بالعدل والمساواة، وذلك بأن يقتل من قتل، وقد قتل عمر
رضي الله عنه سبعة برجل بصنعاء وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به جميعا.
وقتل علي رضي الله عنه الحرورية «3» بعبد الله بن خباب، فإنه توقف عن قتالهم حتى
يحدثوا، فلما ذبحوا عبد الله بن خباب كما تذبح الشاة، وأخبر على بذلك قال: الله
أكبر! نادوهم أن أخرجوا إلينا قاتل عبد الله بن خباب، فقالوا: كلنا قتله، ثلاث
مرات، فقال علي لأصحابه: دونكم القوم، فما لبث أن قتلهم على وأصحابه) خرج الحديثين
الدارقطني في سننه. وفي الترمذي عن أبي سعيد وأبي هريرة عن رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن
لأكبهم الله في النار). وقال فيه: حديث غريب. وأيضا فلو علم الجماعة أنهم إذا
قتلوا الواحد لم يقتلوا لتعاون الاعداء على قتل أعدائهم بالاشتراك في قتلهم وبلغوا
الأمل من التشفي،
__________
(1). أي مرسلة مطلقة.
(2). زيادة عن ابن العربي.
(3). الحرورية: طائفة من الخوارج نسبوا إلى حروراء (موضع قريب من الكوفة) لان أول
مجتمعهم وتحكيمهم فيها.
ومراعاة
هذه القاعدة أولى من مراعاة الألفاظ، والله أعلم. [وقال «1» ابن المنذر: وقال
الزهري وحبيب بن أبي ثابت وابن سيرين: لا يقتل اثنان بواحد. روينا ذلك عن معاذ بن
جبل وابن الزبير وعبد الملك، قال ابن المنذر: وهذا أصح، ولا حجة مع من أباح قتل
جماعة بواحد. وقد ثبت عن ابن الزبير ما ذكرناه «2» [. التاسعة عشرة- روى الأئمة عن
أبي شريح الكعبي قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ألا إنكم
معشر خزاعة قتلتم هذا القتيل من هذيل وإني عاقلة فمن قتل له بعد مقالتي هذه قتيل
فأهله بين خيرتين أن يأخذوا العقل أو يقتلوا (، لفظ أبي داود. وقال الترمذي: حديث
حسن صحيح. وروي عن أبي شريح الخزاعي «3» عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قال: (من قتل له قتيل فله أن يقتل أو يعفو أو يأخذ الدية). وذهب إلى هذا بعض أهل
العلم، وهو قول أحمد وإسحاق. الرابعة عشرة- اختلف أهل العلم في أخذ الدية من قاتل
العمد، فقالت طائفة: ولي المقتول بالخيار إن شاء اقتص وإن شاء أخذ الدية وإن لم
يرض القاتل. يروى هذا عن سعيد ابن المسيب وعطاء والحسن، ورواه أشهب عن مالك، وبه
قال الليث والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور. وحجتهم حديث أبي شريح وما
كان في معناه، وهو نص في موضع الخلاف، وأيضا من طريق النظر فإنما لزمته الدية بغير
رضاه، لان فرضا عليه إحياء نفسه، وقد قال الله تعالى:" وَلا تَقْتُلُوا
أَنْفُسَكُمْ «4»" [النساء: 29]. وقوله:" فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ
أَخِيهِ شَيْءٌ" أي ترك له دمه، في أحد التأويلات، ورضي منه بالدية"
فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ" أي فعلى صاحب الدم اتباع بالمعروف في المطالبة
بالدية، وعلى القاتل أداء إليه بإحسان، أي من غير مماطلة وتأخير عن الوقت"
ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ" أي أن من كان قبلنا لم يفرض الله
عليهم غير النفس بالنفس، فتفضل الله على هذه الامة بالدية إذا رضي بها ولي الدم،
على ما يأتي بيانه. وقال
__________
(1). ما بين المربعين ساقط من ب، ج، ز.
(2). ما بين المربعين ساقط من ب، ج، ز. [.....]
(3). أبو شريح الخزاعي: هو أبو شريح الكعبي، واختلف في اسمه، والمشهور أنه خويلد
بن عمرو بن صخر، أسلم يوم الفتح.
(4). راجع ج 5 ص 156.
آخرون:
ليس لولي المقتول إلا القصاص، ولا يأخذ الدية إلا إذا رضي القاتل، رواه ابن القاسم
عن مالك وهو المشهور عنه، وبه قال الثوري والكوفيون. واحتجوا بحديث أنس في قصة
الربيع «1» حين كسرت ثنية المرأة، رواه الأئمة قالوا: فلما حكم رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالقصاص وقال: (القصاص كتاب الله، القصاص كتاب الله)
ولم يخبر المجني عليه بين القصاص والديه ثبت بذلك أن الذي يجب بكتاب الله وسنة
رسوله في العمد هو القصاص، والأول أصح، لحديث أبي شريح المذكور. وروى الربيع عن
الشافعي قال: أخبرني أبو حنيفة ابن سماك بن الفضل الشهابي قال: وحدثني ابن أبي ذئب
عن المقبري عن أبي شريح الكعبي أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قال عام الفتح: (من قتل له قتيل فهو بخير النظرين إن أحب أخذ العقل وإن أحب فله
القود). فقال أبو حنيفة: فقلت لابن أبي ذئب: أتأخذ بهذا يا أبا الحارث فضرب صدري
وصاح علي صياحا كثيرا ونال مني وقال: أحدثك عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وتقول: تأخذ به! نعم آخذ به، وذلك الفرض على وعلى من سمعه، إن الله عز
وجل ثناؤه اختار محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الناس فهداهم به وعلى
يديه، واختار لهم ما اختاره له وعلى لسانه، فعلى الخلق أن يتبعوه طائعين أو
داخرين، لا مخرج لمسلم من ذلك، قال: وما سكت عني حتى تمنيت أن يسكت. الخامسة عشرة-
قوله تعالى:" فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ
بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ" اختلف العلماء في تأويل"
من" و" عفي" على تأويلات خمس: أحدها- أن" من" يراد بها
القاتل، و" عفي" تتضمن عافيا هو ولي الدم، والأخ هو المقتول، و"
شي" هو الدم الذي يعفى عنه ويرجع إلى أخذ الدية، هذا قول ابن عباس وقتادة
ومجاهد وجماعة من العلماء. والعفو في هذا القول على بابه الذي هو الترك. والمعنى:
أن القاتل إذا عفا عنه ولي المقتول عن دم مقتول وأسقط القصاص فإنه يأخذ الدية
ويتبع بالمعروف، ويؤدي إليه القاتل بإحسان.
__________
(1). الربيع (بضم الراء وفتح الموحدة وتشديد المثناة المكسورة بعدها عين مهملة)
وهى عمة أنس بن مالك.
الثاني:
وهو قول مالك أن" من" يراد به الولي" وعفي" يسر، لا على بابها
في العفو، والأخ يراد به القاتل، و" شيء" هو الدية، أي أن الولي إذا جنح
إلى العفو عن القصاص على أخذ الدية فإن القاتل مخير بين أن يعطيها أو يسلم نفسه،
فمرة تيسر ومرة لا تيسر. وغير مالك يقول: إذا رضي الأولياء بالدية فلا خيار للقاتل
بل تلزمه. وقد روي عن مالك هذا القول، ورجحه كثير من أصحابه. وقال أبو حنيفة: إن
معنى" عفي" بذل، والعفو في اللغة: البذل، ولهذا قال الله تعالى:"
خُذِ الْعَفْوَ «1»" [الأعراف: 199] أي ما سهل. وقال أبو الأسود الدؤلي:
خذي العفو مني تستديمي مودتي
[وقال «2» صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أول الوقت رضوان الله وآخره عفو
الله) يعني شهد الله على عباده. فكأنه قال: من بذل له شي من الدية فليقبل وليتبع
بالمعروف. وقال قوم: وليؤد إليه القاتل بإحسان، فندبه تعالى إلى أخذ المال إذا سهل
ذلك من جهة القاتل، وأخبر أنه تخفيف منه ورحمة، كما قال ذلك عقب ذكر القصاص في
سورة المائدة فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ «3»" [المائدة:
45] فندب إلى رحمة العفو والصدقة، وكذلك ندب فيما ذكر في هذه الآية إلى قبول الدية
إذا بذلها الجاني بإعطاء الدية، ثم أمر الولي باتباع وأمر الجاني بالأداء بالإحسان.
وقد قال قوم: إن هذه الألفاظ في المعينين الذين نزلت فيهم الآية كلها وتساقطوا
الديات فيما بينهم مقاصة. ومعنى الآية: فمن فضل له من الطائفتين على الأخرى شي من
تلك الديات، ويكون" عفي" بمعنى فضل. [روى «4» سفيان بن حسين بن شوعة عن
الشعبي قال: كان بين حيين من العرب قتال، فقتل من هؤلاء وهؤلاء. وقال أحد الحيين:
لا نرضى حتى يقتل بالمرأة الرجل وبالرجل المرأة، فارتفعوا إلى رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال عليه السلام: (القتل سواء) فاصطلحوا على الديات،
ففضل أحد الحيين على الأخر، فهو قوله:" كُتِبَ" إلى قوله:" فَمَنْ
عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ" يعني فمن فضل له على أخيه فضل فليؤده
بالمعروف، فأخبر الشعبي عن السبب في نزول الآية، وذكر سفيان العفو هنا الفضل، وهو
معنى يحتمله اللفظ].
__________ (1). راجع ج 7 ص 344.
(2). ما بين المربعين في ح، وساقط من سائر النسخ.
(3). ج 6 ص 208.
(4). ما بين المربعين في ح، وساقط من سائر النسخ.
وتأويل
خامس «1»- وهو قول علي رضي الله عنه والحسن في الفضل بين دية الرجل والمرأة والحر
والعبد، أي من كان له ذلك الفضل فاتباع بالمعروف، و" عُفِيَ" في هذا
الموضع أيضا بمعنى فضل. السادسة عشرة- هذه الآية حض من الله تعالى على حسن
الاقتضاء من الطالب، وحسن القضاء من المؤدي، وهل ذلك على الوجوب أو الندب. فقراءة
الرفع تدل على الوجوب، لان المعنى فعليه اتباع بالمعروف. قال النحاس:" فَمَنْ
عُفِيَ لَهُ" شرط والجواب،" فَاتِّباعٌ" وهو رفع بالابتداء،
والتقدير فعليه اتباع بالمعروف. ويجوز في غير القرآن" فاتباعا"، و"
أداء" بجعلهما مصدرين. قال ابن عطية: وقرا إبراهيم بن أبي عبلة"
فاتباعا" بالنصب. والرفع سبيل للواجبات، كقوله تعالى:" فَإِمْساكٌ
بِمَعْرُوفٍ «2»" [البقرة: 229]. وأما المندوب إليه فيأتي منصوبا،
كقوله:" فَضَرْبَ الرِّقابِ «3»" [محمد: 4]. السابع عشرة- قوله
تعالى:" ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ" لان أهل التوراة
كان لهم القتل ولم يكن لهم غير ذلك، وأهل الإنجيل كان لهم العفو ولم يكن لهم قود
ولا دية، فجعل الله تعالى ذلك تخفيفا لهذه الامة، فمن شاء قتل، ومن شاء أخذ الدية،
ومن شاء عفا. قوله تعالى:" فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ" شرط
وجوابه، أي قتل بعد أخذ الدية وسقوط [الدم «4»] قاتل وليه." فَلَهُ عَذابٌ
أَلِيمٌ" قال الحسن: كان الرجل في الجاهلية إذا قتل قتيلا فر إلى قومه فيجيء قومه
فيصالحون بالدية فيقول ولي المقتول: إني أقبل الدية، حتى يأمن القاتل ويخرج،
فيقتله ثم يرمي إليهم بالدية. واختلف العلماء فيمن تقل بعد أخذ الدية، فقال جماعة
من العلماء منهم مالك والشافعي: هو كمن قتل ابتداء، إن شاء الولي قتله وإن شاء عفا
عنه وعذابه في الآخرة. وقال قتادة وعكرمة والسدي وغيرهم: عذابه أن يقتل البتة، ولا
يمكن الحاكم الولي من العفو. وروى أبو داود عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا أعفى «5» من قتل بعد أخذ
__________
(1). يلاحظ أن المؤلف رحمه الله لم يذكر التأويل الثالث والرابع.
(2). راجع ج 3 ص 127.
(3). راجع ج 16 ص 225.
(4). زيادة يقتضيها السياق.
(5). أعفى: من عفا الشيء إذا كثر وزاد، وهذا دعاء عليه، أي لا كثر ماله ولا
استغنى.
وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)
الدية).
وقال الحسن: عذابه أن يرد الدية فقط ويبقى إثمه إلى عذاب الآخرة. وقال عمر بن عبد
العزيز: أمره إلى الامام يصنع فيه ما يرى. وفي سنن الدارقطني عن أبي شريح الخزاعي
قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: (من أصيب بدم أو
خبل- والخبل عرج- فهو بالخيار بين إحدى ثلاث فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه بين
أن يقتص أو يعفو أو يأخذ العقل فإن قبل شيئا من ذلك ثم عدا بعد ذلك فله النار
خالدا فيها مخلدا).
[سورة البقرة (2): آية 179]
وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
(179)
فيه أربع مسائل: الاولى- قوله تعالى:" وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ"
هذا من الكلام البليغ الوجيز كما تقدم. ومعناه: لا يقتل بعضكم بعضا، رواه سفيان عن
السدي عن أبي مالك. والمعنى: أن القصاص إذا أقيم وتحقق الحكم فيه ازدجر من يريد
قتل آخر، مخافة أن يقتص منه فحييا بذلك معا. وكانت العرب إذا قتل الرجل الأخر حمي
قبيلاهما وتقاتلوا، وكان ذلك داعيا إلى قتل العدد الكثير، فلما شرع الله القصاص
قنع الكل به وتركوا الاقتتال، فلهم في ذلك حياة. الثانية- اتفق أئمة الفتوى على
أنه لا يجوز لاحد أن يقتص من أحد حقه دون السلطان، وليس للناس أن يقتص بعضهم من
بعض، وإنما ذلك لسلطان أو من نصبه السلطان لذلك، ولهذا جعل الله السلطان ليقبض
أيدي الناس بعضهم عن بعض. الثالثة- وأجمع العلماء على أن على السلطان أن يقتص من
نفسه إن تعدى على أحد من رعيته، إذ هو واحد منهم، وإنما له مزية النظر لهم كالوصي
والوكيل، وذلك لا يمنع القصاص، وليس بينهم وبين العامة فرق في أحكام الله عز وجل،
لقوله جل ذكره:" كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى "، وثبت عن
أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال لرجل شكا إليه أن عاملا قطع يده: لئن كنت
صادقا لأقيدنك منه. وروى النسائي عن أبي سعيد الخدري
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180)
قال:
بينا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقسم شيئا إذ أكب عليه رجل،
فطعنه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعرجون كان معه، فصاح الرجل،
فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [تعال [فاستقد (. قال: بل
عفوت يا رسول الله. وروى أبو داود الطيالسي عن أبي فراس قال: خطب عمر بن الخطاب
رضي الله عنه فقال: ألا من ظلمه أميره فليرفع ذلك إلي أقيده منه. فقام عمرو بن
العاص فقال: يا أمير المؤمنين، لئن أدب رجل منا رجلا من أهل رعيته لتقصنه منه؟
قال: كيف لا أقصه منه وقد رأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقص
من نفسه!. ولفظ أبي داود السجستاني عنه قال: خطبنا عمر بن الخطاب فقال: إني لم
أبعث عمالي ليضربوا أبشاركم ولا ليأخذوا أموالكم، فمن فعل ذلك به فليرفعه إلي أقصه
منه. وذكر الحديث بمعناه. الرابعة- قوله تعالى:" لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ" تقدم «1» معناه. والمراد هنا تتقون القتل فتسلمون من القصاص، ثم
يكون ذلك داعية لأنواع التقوى في غير ذلك، فإن الله يثيب بالطاعة على الطاعة. وقرا
أبو الجوزاء أوس بن عبد الله الربعي" وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ".
قال النحاس: قراءة أبي الجوزاء شاذة. قال غيره: يحتمل أن يكون مصدرا كالقصاص.
وقيل: أراد بالقصص القرآن، أي لكم في كتاب الله الذي شرع فيه القصص حياة، أي نجاة.
[سورة البقرة (2): آية 180]
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً
الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى
الْمُتَّقِينَ (180)
فيه إحدى وعشرون مسألة: الاولى- قوله تعالى:" كُتِبَ عَلَيْكُمْ" هذه
آية الوصية، ليس في القرآن ذكر للوصية إلا في هذه الآية، [وفي «2»"
النساء":" مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ «3»" [النساء: 12] وفي"
المائدة":" حِينَ الْوَصِيَّةِ «4»". [المائدة: 106]. والتي في
البقرة أتمها وأكملها [ونزلت قبل نزول الفرائض والمواريث، على ما يأتي
__________
(1). يراجع ج 1 ص 226 وما بعدها، طبعه ثانية.
(2). ما بين المربعين ساقط في ب، ج، ز. [.....]
(3). راجع ج 5 ص 73.
(4). راجع ج 6 ص 348.
بيانه.
وفي الكلام تقدير واو العطف، أي وكتب عليكم، فلما طال الكلام أسقطت الواو. ومثله
في بعض الأقوال:" لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى. الَّذِي كَذَّبَ
وَتَوَلَّى" «1» [الليل: 16- 15] أي والذي، فحذف. وقيل: لما ذكر أن لولي الدم
أن يقتص، فهذا الذي أشرف على من يقتص منه وهو سبب الموت فكأنما حضره الموت، فهذا
أوان الوصية، فالآية مرتبطة بما قبلها ومتصلة بها فلذلك سقطت واو العطف. و"
كُتِبَ" معناه فرض وأثبت، كما تقدم «2». وحضور الموت: أسبابه، ومتى حضر السبب
كنت به العرب عن المسبب، قال شاعرهم:
يا أيها الراكب المزجي مطيته ... سائل بني أسد ما هذه الصوت «3»
وقل لهم بادروا بالعذر والتمسوا ... قولا يبرئكم إني أنا الموت
وقال عنترة:
وإن الموت طوع يدي إذا ما ... وصلت بنانها بالهندوان
وقال جرير في مهاجاة الفرزدق:
أنا الموت الذي حدثت عنه ... فليس لهارب مني نجاء
الثانية- إن قيل: لم قال" كُتِبَ" ولم يقل كتبت، والوصية مؤنثة؟ قيل له:
إنما ذلك لأنه أراد بالوصية الإيصاء. وقيل: لأنه تخلل فاصل، فكان الفاصل كالعوض من
تاء التأنيث، تقول العرب: حضر القاضي اليوم امرأة. وقد حكى سيبويه: قام امرأة.
ولكن حسن ذلك إنما هو مع طول الحائل. الثالثة- قوله تعالى:" إِنْ تَرَكَ
خَيْراً"" إن" شرط، وفي جوابه لابي الحسن الأخفش قولان، قال الأخفش:
التقدير فالوصية، ثم حذفت الفاء، كما قال الشاعر:
من يفعل الحسنات الله يشكرها ... والشر بالشر عند الله مثلان
والجواب الأخر: أن الماضي يجوز أن يكون جوابه قبله وبعده، فيكون التقدير الوصية
للوالدين والأقربين إن ترك خيرا. فإن قدرت الفاء فالوصية رفع بالابتداء، وإن لم
تقدر
__________
(1). راجع ج 20 ص 86.
(2). راجع ص 244 من هذا الجزء.
(3). الصوت مذكر، وإنما أنثه ها هنا لأنه أراد به الضوضاء والجلبة، على معنى
الصيحة. (عن اللسان).
الفاء
جاز أن ترفعها بالابتداء، وأن ترفعها على ما لم يسم فاعله، أي كتب عليكم الوصية. ولا
يصح عند جمهور النحاة أن تعمل" الْوَصِيَّةُ" في" إِذا" لأنها
في حكم الصلة للمصدر الذي هو الوصية وقد تقدمت، فلا يجوز أن تعمل فيها متقدمة.
ويجوز أن يكون العامل في" إِذا":" كُتِبَ" والمعنى: توجه
إيجاب الله إليكم ومقتضى كتابه إذا حضر، فعبر عن توجه الإيجاب بكتب لينتظم إلى هذا
المعنى أنه مكتوب في الأزل. ويجوز أن يكون العامل في" إِذا" الإيصاء
يكون مقدرا دل على الوصية، المعنى: كتب عليكم الإيصاء إذا. الرابعة- قوله
تعالى:" خَيْراً" الخير هنا المال من غير خلاف، واختلفوا في مقداره،
فقيل: المال الكثير، روي ذلك عن علي وعائشة وابن عباس وقالوا سبعمائة دينار إنه
قليل. قتادة عن الحسن: الخير ألف دينار فما فوقها. الشعبي ما بين خمسمائة دينار
إلى ألف. والوصية عبارة عن كل شي يؤمر بفعله ويعهد به في الحياة وبعد الموت.
وخصصها العرف بما يعهد بفعله وتنفيذه بعد الموت، والجمع وصايا كالقضايا جمع قضية.
والوصي يكون الموصي والموصى إليه، وأصله من وصى مخففا. وتواصى النبت تواصيا إذا
اتصل. وأرض واصية: متصلة النبات. وأوصيت له بشيء وأوصيت إليه إذا جعلته وصيك.
والاسم الوصاية والوصاية (بالكسر والفتح). وأوصيته ووصيته أيضا توصية بمعنى،
والاسم الوصاة. وتواصى القوم أوصى بعضهم بعضا. وفي الحديث: (استوصوا بالنساء خيرا
فإنهن عوان «1» عندكم). ووصيت الشيء بكذا إذا وصلته به. الخامسة- اختلف العلماء في
وجوب الوصية على من خلف مالا، بعد إجماعهم على أنها واجبة على من قبله ودائع وعليه
ديون. وأكثر العلماء على أن الوصية غير واجبة على من ليس قبله شي من ذلك، وهو قول
مالك والشافعي والثوري، موسرا كان الموصى أو فقيرا. وقالت طائفة: الوصية واجبة على
ظاهر القرآن، قال الزهدي وأبو مجلز، قليلا كان المال أو كثيرا. وقال أبو ثور: ليست
الوصية واجبة إلا على رجل عليه دين أو عنده مال
__________
(1). عوان (جمع عانة): وهى الأسيرة. يقول: إنما هن عندكم بمنزلة الأسرى.
لقوم،
فواجب عليه أن يكتب وصيته ويخبر بما عليه. فأما من لا دين عليه ولا وديعة عنده
فليست بواجبة عليه إلا أن يشاء. قال ابن المنذر: وهذا حسن، لان الله فرض أداء
الأمانات إلى أهلها، ومن لا حق عليه ولا أمانة قبله فليس واجب عليه أن يوصي. احتج
الأولون بما رواه الأئمة عن ابن عمر أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قال: (ما حق امرئ مسلم له شي يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته
مكتوبة عنده) وفي رواية (يبيت ثلاث ليال) وفيها قال عبد الله بن عمر: ما مرت على
ليلة منذ سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال ذلك إلا وعندي
وصيتي. احتج من لم يوجبها بأن قال: لو كانت واجبة لم يجعلها إلى إرادة الموصي،
ولكان ذلك لازما على كل حال، ثم لو سلم أن ظاهره الوجوب فالقول بالموجب يرده، وذلك
فيمن كانت عليه حقوق للناس يخاف ضياعها عليهم، كما قال أبو ثور. وكذلك إن كانت له
حقوق عند الناس يخاف تلفها على الورثة، فهذا يجب عليه الوصية ولا يختلف فيه. فإن
قيل: فقد قال الله تعالى:" كُتِبَ عَلَيْكُمْ" وكتب بمعنى فرض، فدل على
وجوب الوصية. قيل لهم: قد تقدم الجواب عنه في الآية قبل، والمعنى: إذا أردتم
الوصية، والله أعلم. وقال النخعي: مات رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ولم يوص، وقد أوصى أبو بكر، فإن أوصى فحسن، وإن لم يوص فلا شي عليه.
السادسة- لم يبين الله تعالى في كتابه مقدار ما يوصى به من المال، وإنما
قال:" إِنْ تَرَكَ خَيْراً" والخير المال، كقوله:" وَما تُنْفِقُوا
مِنْ «1» خَيْرٍ" [البقرة: 272]،" وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ
«2»" [العاديات: 8] فاختلف العلماء في مقدار ذلك، فروي عن أبي بكر الصديق رضي
الله عنه أنه أوصى بالخمس. وقال علي رضي الله عنه من غنائم المسلمين بالخمس. وقال
معمر عن قتادة. أوصى عمر بالربع. وذكره البخاري عن ابن عباس. وروي عن علي رضي الله
عنه أنه قال: (لان أوصي بالخمس أحب إلي من أن أوصي بالربع، ولان أوصي بالربع أحسن
إلي من أوصي بالثلث). واختار جماعة لمن ماله قليل وله ورثة ترك الوصية، روي ذلك عن
علي وابن عباس وعائشة رضوان الله عليهم أجمعين. روى ابن أبي شيبة من حديث ابن أبي
مليكة عن
__________
(1). راجع ج 3 ص 339.
(2). راجع ج 20 ص 162.
عائشة قال لها: إني أريد أن أوصي: قالت: وكم مالك؟ قال: ثلاثة آلاف. قالت: فكم عيالك؟ قال أربعة. قالت: إن الله تعالى يقول:" إِنْ تَرَكَ خَيْراً" وهذا شي يسير فدعه لعيالك فإنه أفضل لك. السابعة- ذهب الجمهور من العلماء إلى أنه لا يجوز لاحد أن يوصي بأكثر من الثلث إلا أبا حنيفة وأصحابه فإنهم قالوا: إن لم يترك الموصي ورثة جاز له أن يوصي بماله كله. وقالوا: إن الاقتصار على الثلث في الوصية إنما كان من أجل أن يدع ورثته أغنياء، لقوله عليه السلام: (إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس) الحديث، رواه الأئمة. ومن لا وارث له فليس ممن عني بالحديث، روي هذا القول عن ابن عباس، وبه قال أبو عبيدة ومسروق، وإليه ذهب إسحاق ومالك في أحد قوليه، وروي عن علي. وسبب الخلاف مع ما ذكرنا، الخلاف في بيت المال هل هو وارث أو حافظ لما يجعل فيه؟ قولان. الثامنة- أجمع العلماء على أن من مات وله ورثة فليس له أن يوصي بجميع ماله. وروي عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه قال حين حضرته الوفاة لابنه عبد الله: إني قد أردت أن أوصي، فقال له: أوص ومالك في مالي، فدعا كاتبا فأملى، فقال عبد الله: فقلت له ما أراك إلا وقد أتيت على مالي ومالك، ولو دعوت إخوتي فاستحللتهم. التاسعة- وأجمعوا أن للإنسان أن يغير وصيته ويرجع فيما شاء منها، إلا أنهم اختلفوا من ذلك في المدبر، فقال مالك رحمه الله: الامر المجمع عليه عندنا أن الموصي إذا أوصى في صحته أو مرضه بوصية فيها عتاقة رقيق من رقيقه أو غير ذلك فإنه يغير من ذلك ما بدا له ويصنع من ذلك ما شاء حتى يموت، وإن أحب أن يطرح تلك الوصية ويسقطها فعل، إلا أن يدبر فإن دبر مملوكا فلا سبيل له إلى تغيير ما دبر، وذلك أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (ما حق امرئ مسلم له شي يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده). قال أبو الفرج المالكي: المدبر في القياس كالمعتق إلى شهر، لأنه أجل آت
لا
محالة. وأجمعوا ألا يرجع في اليمين بالعتق والعتق إلى أجل فكذلك المدبر، وبه قال
أبو حنيفة. وقال الشافعي وأحمد وإسحاق: هو وصية، لإجماعهم أنه في الثلث كسائر
الوصايا. وفي إجازتهم وطئ المدبرة ما ينقض قياسهم المدبر على العتق إلى أجل، وقد
ثبت أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باع مدبرا، وأن عائشة دبرت جارية
لها ثم باعتها، وهو قول جماعة من التابعين. وقالت طائفة: يغير الرجل من وصيته ما
شاء إلا العتاقة. وكذلك قال الشعبي وابن سيرين وابن شبرمة والنخعي، وهو قول سفيان
الثوري. العاشرة- واختلفوا في الرجل يقول لعبده: أنت حر بعد موتي، وأراد الوصية،
فله الرجوع عند مالك في ذلك. وإن قال: فلان مدبر بعد موتي، لم يكن له الرجوع فيه.
وإن أراد التدبير بقوله الأول لم يرجع أيضا عند أكثر أصحاب مالك. وأما الشافعي
وأحمد وإسحاق وأبو ثور فكل هذا عندهم وصية، لأنه في الثلث، وكل ما كان في الثلث فهو
وصية، إلا أن الشافعي قال: لا يكون الرجوع في المدبر إلا بأن يخرجه عن ملكه ببيع
أو هبة. وليس قوله: (قد رجعت) رجوعا، وإن لم يخرج المدبر عن ملكه حثى يموت فإنه
يعتق بموته. وقال في القديم: يرجع في المدبر كما يرجع في الوصية. واختاره المزني
قياسا على إجماعهم على الرجوع فيمن أوصى بعتقه. وقال أبو ثور: إذا قال قد رجعت في
مدبري فقد بطل التدبير، فإن مات لم يعتق. واختلف ابن القاسم وأشهب فيمن قال: عبدي
حر بعد موتي، ولم يرد الوصية ولا التدبير، فقال ابن القاسم: هو وصية. وقال أشهب:
هو مدبر وإن لم يرد الوصية. الحادية- اختلف العلماء في هذه الآية هل هي منسوخة أو
محكمة، فقيل: هي محكمة، ظاهرها العموم ومعناها الخصوص في الوالدين اللذين لا يرثان
كالكافرين والعبدين وفي القرابة غير الورثة، قاله الضحاك وطاوس والحسن، واختاره
الطبري. وعن الزهري أن الوصية واجبة فيما قل أو كثر. وقال ابن المنذر: أجمع كل من
يحفظ عنه من أهل العلم على أن الوصية للوالدين اللذين لا يرثان والأقرباء الذين لا
يرثون جائزة. وقال ابن عباس
والحسن أيضا وقتادة: الآية عامة، وتقرر الحكم بها برهة من الدهر، ونسخ منها كل من
كان يرث بآية
الفرائض.
وقد قيل: إن آية الفرائض لم تستقل بنسخها بل بضميمة أخرى، وهي قوله عليه السلام:
(إن الله قد أعطى لكل ذي حق حقه فلا وصية لوارث). رواه أبو أمامة، أخرجه الترمذي
وقال: هذا حديث حسن صحيح. فنسخ الآية إنما كان بالسنة الثابتة لا بالإرث، على
الصحيح من أقوال العلماء. ولولا هذا الحديث لأمكن الجمع بين الآيتين بأن يأخذوا
المال عن المورث بالوصية، وبالميراث إن لم يوص، أو ما بقي بعد الوصية، لكن منع من
ذلك هذا الحديث والإجماع. والشافعي وأبو الفرج وإن كانا منعا من نسخ الكتاب بالسنة
فالصحيح جوازه بدليل أن الكل حكم الله تبارك وتعالى ومن عنده وإن اختلفت في الأسماء،
وقد تقدم هذا المعنى «1». ونحن وإن كان هذا الخبر بلغنا آحادا لكن قد انضم إليه
إجماع المسلمين أنه لا تجوز وصية لوارث. فقد ظهر أن وجوب الوصية للأقربين الوارثين
منسوخ بالسنة وأنها مستند المجمعين. والله أعلم. وقال ابن عباس والحسن: نسخت
الوصية للوالدين بالفرض في سورة" النساء" وثبتت للأقربين الذين لا
يرثون، وهو مذهب الشافعي وأكثر المالكيين وجماعة من أهل العلم. وفي البخاري عن ابن
عباس قال: كان المال للولد وكانت الوصية للوالدين، فنسخ من ذلك ما أحب، فجعل للذكر
مثل حظ الأنثيين، وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس، وجعل للمرأة الثمن والربع،
وللزوج الشطر والربع. وقال ابن عمر وابن عباس وابن زيد: الآية كلها منسوخة، وبقيت
الوصية ندبا، ونحو هذا قول مالك رحمه الله، وذكره النحاس عن الشعبي والنخعي. وقال
الربيع بن خثيم «2»: لا وصية. قال عروة بن ثابت: قلت للربيع بن خثيم أوص لي
بمصحفك، فنظر إلى ولده وقرا" وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى
بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ «3»" [الأنفال: 75]. ونحو هذا صنع ابن عمر رضي
الله عنه.
__________
(1). يراجع 65 من هذا الجزء.
(2). خثيم: بضم أوله وفتح المثلة، كذا في التقريب. وفى الخلاصة بفتح المعجمة
والمثلثة بينهما تحتانية ساكنة.
(3). راجع ج 8 ص 58.
الثانية
عشرة- قوله تعالى:" وَالْأَقْرَبِينَ" الأقربون جمع أقرب. قال قوم:
الوصية للأقربين أولى من الأجانب، لنص الله تعالى عليهم، حتى قال الضحاك: إن أوصى
لغير قرابته فقد ختم عمله بمعصية. وروي عن ابن عمر «1» أنه أوصى لأمهات أولاده لكل
واحدة بأربعة آلاف. وروي أن عائشة وصت لمولاة لها بأثاث البيت. وروي عن سالم ابن
عبد الله بمثل ذلك. وقال الحسن: إن أوصى لغير الأقربين ردت الوصية للأقربين، فإن
كانت لأجنبي فمعهم، ولا تجوز لغيرهم مع تركهم. وقال الناس حين مات أبو العالية:
عجبا له! أعتقته امرأة من رياح «2» وأوصى بماله لبني هاشم. وقال الشعبي: لم يكن له
ذلك ولا كرامة. وقال طاوس: إذا أوص لغير قرابته ردت الوصية إلى قرابته ونقض فعله،
وقاله جابر بن زيد، وقد روي مثل هذا عن الحسن أيضا، وبه قال إسحاق بن راهويه. وقال
مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم والأوزاعي وأحمد بن حنبل: من أوصى لغير قرابته
وترك قرابته محتاجين فبئسما صنع! وفعله مع ذلك جائز ماض لكل من أوصى له من غني
وفقير، قريب وبعيد، مسلم وكافر. وهو معنى ما روي عن ابن عمر وعائشة، وهو قول ابن
عمر وابن عباس. قلت: القول الأول أحسن، وأما أبو العالية رضي الله عنه فلعله نظر
إلى أن بني هاشم أولى من معتقته لصحبته ابن عباس وتعليمه إياه وإلحاقه بدرجة
العلماء في الدنيا والأخرى. وهذه الأبوة وإن كانت معنوية فهي الحقيقية، ومعتقته
غايتها أن ألحقته بالأحرار في الدنيا، فحسبها ثواب عتقها، والله أعلم. الثالثة
عشرة- ذهب الجمهور من العلماء إلى أن المريض يحجر عليه في ماله، وشذ أهل الظاهر
فقالوا: لا يحجر عليه وهو كالصحيح، والحديث والمعنى يرد عليهم. قال سعد: عادني
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حجة الوداع من وجع أشفيت «3» منه
على الموت فقلت يا رسول الله، بلغ بي ما ترى من الوجع، وأنا ذو مال ولا يرثني إلا
بنت واحدة،
__________
(1). في ب، ج:" عن عمر". والمعروف أن سيدنا عمر مات مدينا.
(2). رياح (ككتاب): قبيلة.
(3). أشفى على الشيء: أشرف. [.....]
أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: (لا)، قلت: أفأتصدق بشطره؟ قال: (لا، الثلث والثلث كثير إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس) الحديث. ومنع أهل الظاهر أيضا الوصية بأكثر من الثلث وإن أجازها الورثة. وأجاز ذلك الكافة إذا أجازا الورثة، وهو الصحيح، لان المريض إنما منع من الوصية بزيادة على الثلث لحق الوارث، فإذا أسقط الورثة حقهم كان ذلك جائزا صحيحا، وكان كالهبة من عندهم. وروى الدارقطني عن ابن عباس، قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا تجوز الوصية لوارث إلا أن يشاء الورثة). وروي عن عمرو بن خارجة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا وصية لوارث إلا أن تجيز الورثة). الرابعة عشرة- واختلفوا في رجوع المجيزين للوصية للوارث في حياة الموصي بعد وفاته، فقالت طائفة: ذلك جائز عليهم وليس لهم الرجوع فيه. هذا قول عطاء بن أبي رباح وطاوس والحسن وابن سيرين وابن أبي ليلى والزهري وربيعة والأوزاعي. وقالت طائفة: لهم الرجوع في ذلك إن أحبوا. هذا قول ابن مسعود وشريح والحكم وطاوس والثوري والحسن بن صالح وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وأبي ثور، واختاره ابن المنذر. وفرق مالك فقال: إذا أذنوا في صحته فلهم أن يرجعوا، وإن أذنوا له في مرضه حين يحجب عن ماله فذلك جائز عليهم، وهو قول إسحاق. احتج أهل المقالة الاولى بأن المنع إنما وقع من أجل الورثة، فإذا أجازوه جاز. وقد اتفقوا أنه إذا أوصى بأكثر من ثلثه لأجنبي جاز بإجازتهم، فكذلك ها هنا. واحتج أهل القول الثاني بأنهم أجازوا شيئا لم يملكوه في ذلك الوقت، وإنما يملك المال بعد وفاته، وقد يموت الوارث المستأذن قبله ولا يكون وارثا وقد يرثه غيره، فقد أجاز من لا حق له فيه فلا يلزمه شي. واحتج مالك بأن قال: إن الرجل إذا كان صحيحا فهو أحق بماله كله يصنع فيه ما شاء، فإذا أذنوا له في صحته فقد تركوا شيئا لم يجب لهم، وإذا أذنوا له في مرضه فقد تركوا ما وجب لهم من الحق، فليس لهم أن يرجعوا فيه إذا كان قد أنفذه لأنه قد فات. الخامسة عشرة- فإن لم ينفذ المريض ذلك كان للوارث الرجوع فيه لأنه لم يفت بالتنفيذ، قاله الأبهري. وذكر ابن المنذر عن إسحاق بن راهويه أن قول مالك في هذه المسألة
أشبه
بالسنة من غيره. قال ابن المنذر: واتفق قول مالك والثوري والكوفيين والشافعي وأبي
ثور أنهم إذا أجازوا ذلك بعد وفاته لزمهم. السادسة عشرة- واختلفوا في الرجل يوصي
لبعض ورثته بمال، ويقول في وصيته: إن أجازها الورثة فهي له، وإن لم يجيزوه فهو في
سبيل الله، فلم يجيزوه. فقال مالك: إن لم تجز الورثة ذلك رجع إليهم. وفي قول
الشافعي وأبي حنيفة ومعمر صاحب عبد الرزاق يمضي في سبيل الله. السابعة عشرة- لا
خلاف في وصية البالغ العاقل غير المحجور عليه، واختلف في غيره، فقال مالك: الامر
المجمع عليه عندنا أن الضعيف في عقله والسفيه والمصاب الذي يفيق أحيانا تجوز
وصاياهم إذا كان معهم من عقولهم ما يعرفون ما يوصون به. وكذلك الصبي الصغير إذا
كان يعقل ما أوصى به ولم يأت بمنكر من القول فوصيته جائزة ماضية. وقال أبو حنيفة
وأصحابه: لا تجوز وصية الصبي. وقال المزني: وهو قياس قول الشافعي، ولم أجد للشافعي
في ذلك شيئا ذكره ونص عليه. واختلف أصحابه على قولين: أحدهما كقول مالك، والثاني
كقول أبي حنيفة. وحجتهم أنه لا يجوز طلاقه ولا عتاقه ولا يقتص منه في جناية ولا
يحد في قذف، فليس كالبالغ المحجور عليه، فكذلك وصيته. قال أبو عمر: قد اتفق هؤلاء على
أن وصية البالغ المحجور عليه جائزة. ومعلوم أن من يعقل من الصبيان ما يوصي به
فحاله حال المحجور عليه في ماله، وعلة الحجر تبذير المال وإتلافه، وتلك علة مرتفعة
عنه بالموت، وهو بالمحجور عليه في ماله أشبه منه بالمجنون الذي لا يعقل، فوجب أن
تجوز وصيته مع الامر الذي جاء فيه عن عمر رضي الله عنه. وقال مالك: إنه الامر
المجمع عليه عندهم بالمدينة، وبالله التوفيق. وقال محمد بن شريح: من أوصى من صغير
أو كبير فأصاب الحق فالله قضاه على لسانه ليس للحق مدفع. الثامنة عشرة
- قوله تعالى:" بِالْمَعْرُوفِ" يعني بالعدل، لا وكس فيه ولا شطط، وكان
هذا موكولا إلى اجتهاد الميت ونظر الموصي، ثم تولى الله سبحانه تقدير ذلك على لسان
نبيه
عليه السلام، فقال عليه السلام: (الثلث والثلث كثير)، وقد تقدم ما للعلماء في هذا.
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتكم
زيادة لكم في حسناتكم ليجعلها لكم زكاة (. أخرجه الدارقطني عن أبي أمامة عن معاذ
بن جبل عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقال الحسن: لا تجوز وصية إلا
في الثلث، وإليه ذهب البخاري واحتج بقوله تعالى:" وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ
بِما أَنْزَلَ اللَّهُ «1»" [المائدة: 49] وحكم النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن الثلث كثير هو الحكم بما أنزل الله. فمن تجاوز ما حده رسول
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وزاد على الثلث فقد أتى ما نهى النبي
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عنه، وكان بفعله ذلك عاصيا إذا كان بحكم رسول
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عالما. وقال الشافعي: وقوله (الثلث كثير)
يريد أنه غير قليل. التاسعة عشرة- قوله تعالى:" حَقًّا" يعني ثابتا ثبوت
نظر وتحصين، لا ثبوت فرض ووجوب، بدليل قوله:" عَلَى الْمُتَّقِينَ" وهذا
يدل على كونه ندبا، لأنه لو كان فرضا لكان على جميع المسلمين، فلما خص الله من
يتقي، أي يخاف تقصيرا، دل على أنه غير لازم إلا فيما يتوقع تلفه إن مات، فيلزمه
فرضا المبادرة بكتبه والوصية به، لأنه إن سكت عنه كان تضييعا له وتقصيرا منه، وقد
تقدم هذا المعنى. وانتصب" حَقًّا" على المصدر المؤكد، ويجوز في غير
القرآن" حق" بمعنى ذلك حق. الموفية عشرين- قال العلماء: المبادرة بكتب
الوصية ليست مأخوذة من هذه الآية وإنما هي من حديث ابن عمر. وفائدتها: المبالغة في
زيادة الاستيثاق وكونها مكتوبة مشهودا بها وهي الوصية المتفق على العمل بها، فلو
أشهد العدول وقاموا بتلك الشهادة لفظا لعمل بها وإن لم تكتب خطا، فلو كتبها بيده
ولم يشهد فلم يختلف قول مالك أنه لا يعمل بها إلا فيما يكون فيها من إقرار بحق لمن
لا يتهم عليه فيلزمه تنفيذه. الحادية والعشرون- روى الدارقطني عن أنس بن مالك قال:
كانوا يكتبون في صدور وصاياهم (هذا ما أوصى به فلان بن فلان أنه يشهد أن لا إله
إلا الله وحده لا شريك له،
__________
(1). راجع ج 6 ص 212.
فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181)
وأن
محمدا عبده ورسوله، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور.
وأوصى من ترك بعده من أهله بتقوى الله حق تقاته وأن يصلحوا ذات بينهم، ويطيعوا
الله ورسوله إن كانوا مؤمنين، وأوصاهم بما وصى به إبراهيم بنيه ويعقوب: يا بني إن
الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون).
[سورة البقرة (2): آية 181]
فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ
يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181)
فيه أربع مسائل: الاولى- قوله تعالى:" فَمَنْ بَدَّلَهُ" شرط،
وجوابه" فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ" و"
ما" كافة ل" إن" عن العمل. و" إِثْمُهُ" رفع
بالابتداء،" عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ" موضع الخبر. والضمير
في" بَدَّلَهُ" يرجع إلى الإيصاء، لان الوصية في معنى الإيصاء، وكذلك
الضمير في" سَمِعَهُ"، وهو كقوله:" فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ
رَبِّهِ «1»" [البقرة: 275] أي وعظ، وقوله:" إِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ
«2»" [النساء: 8] أي المال، بدليل قوله" مِنْهُ". ومثله قول
الشاعر:
ما هذه الصوت
أي الصيحة. وقال امرؤ القيس:
برهرهة رودة رخصة ... كخرعوبة البانة المنفطر «3»
والمنفطر المنتفخ بالورق، وهو أنعم ما يكون، ذهب إلى القضيب وترك لفظ الخرعوبة.
و" سَمِعَهُ" يحتمل أن يكون سمعه من الوصي نفسه، ويحتمل أن يكون سمعه
ممن يثبت به ذلك عنده، وذلك عدلان. والضمير في" إِثْمُهُ" عائد على
التبديل، أي إثم التبديل عائد على المبدل لا على الميت، فإن الموصي خرج بالوصية عن
اللوم وتوجهت على الوارث أو الولي. وقيل: إن هذا الموصي إذا غير فترك الوصية أو لم
يجزها على ما رسم له في الشرع فعليه الإثم.
__________
(1). راجع ج 3 ص 359.
(2). راجع ج 5 ص 48.
(3). البرهرهة: الرقيقة الجلد، أو هي الملساء المترجمة. الرؤدة والرءودة: الشابة
الحسنة، السريعة الشباب مع حسن غذا، والرخصة: اللينة الخلق. والخرعوبة: القضيب
الغض اللدن. والبانة: يريد شجر البان.
فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)
الثانية-
في هذه الآية دليل على أن الدين إذا أوصى به الميت خرج به عن ذمته وحصل الولي
مطلوبا به، له الأجر في قضائه، وعليه الوزر في تأخيره. وقال القاضي أبو بكر ابن
العربي:" وهذا إنما يصح إذا كان الميت لم يفرط في أدائه، وأما إذا قدر عليه
وتركه ثم وصى به فإنه لا يزيله عن ذمته تفريط الولي فيه". الثالثة- ولا خلاف
أنه إذا أوصى بما لا يجوز، مثل أن يوصي بخمر أو خنزير أو شي من المعاصي أنه يجوز
تبديله ولا يجوز إمضاؤه، كما لا يجوز إمضاء ما زاد على الثلث، قاله أبو عمر.
الرابعة- قوله تعالى:" إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ" صفتان لله تعالى
لا يخفى معهما شي من جنف الموصين وتبديل المعتدين.
[سورة البقرة (2): آية 182]
فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ
عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)
فيه ست مسائل: الاولى- قوله تعالى:" فَمَنْ خافَ"" من" شرط،
و" خاف" بمعنى خشي. وقيل: علم. والأصل خوف، قلبت الواو ألفا لتحركها
وتحرك ما قبلها. وأهل الكوفة يميلون" خاف" ليدلوا على الكسرة من
فعلت." مِنْ مُوصٍ" بالتشديد قراءة أبي بكر عن عاصم وحمزة والكسائي،
وخفف الباقون، والتخفيف أبين، لان أكثر النحويين يقولون" موص" للتكثير.
وقد يجوز أن يكون مثل كرم وأكرم." جَنَفاً" من جنف يجنف إذا جار، والاسم
منه جنف وجانف، عن النحاس. وقيل: الجنف الميل. قال الأعشى:
تجانف عن حجر «1» اليمامة ناقتي ... وما قصدت من أهلها لسوائكا
وفي الصحاح:" الجنف" الميل. وقد جنف بالكسر يجنف جنفا إذا مال، ومنه
قوله تعالى:" فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً". قال الشاعر «2»:
هم المولى وإن جنفوا علينا ... وإنا من لقائهم لزور
__________
(1). في الصحيح المنير واللسان:" جو".
(2). هو عامر الخصفى.
قال
أبو عبيدة: المولى ها هنا في موضع الموالي، أي بني العم، كقوله تعالى:" ثُمَّ
يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا" «1». وقال لبيد:
إني امرؤ منعت أرومة عامر ... ضيمي وقد جنفت علي خصومي
قال أبو عبيدة: وكذلك الجانئ (بالهمز) وهو المائل أيضا. ويقال: أجنف الرجل، أي جاء
بالجنف. كما يقال: ألام، أي أتى بما يلام عليه. وأخس، أي أتى بخسيس. وتجانف لإثم،
أي مال. ورجل أجنف، أي منحني الظهر. وجنفى (على فعلى بضم الفاء وفتح العين":
اسم موضع، عن ابن السكيت. وروي عن على أنه قرأ" حيفا" بالحاء والياء، أي
ظلما. وقال مجاهد:" فَمَنْ خافَ" أي من خشي أن يجنف الموصي ويقطع ميراث
طائفة ويتعمد الأذية «2»، أو يأتيها دون تعمد، وذلك هو الجنف دون إثم، فإن تعمد
فهو الجنف في إثم. فالمعنى من وعظ في ذلك ورد عنه فأصلح بذلك ما بينه وبين ورثته
وبين الورثة في ذاتهم فلا إثم عليه." إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ" عن الموصى
إذا عملت فيه الموعظة ورجع عما أراد من الأذية. وقال ابن عباس وقتادة والربيع
وغيرهم: معنى الآية من خاف أي علم وراي وأتى علمه بعد موت الموصى أن الموصى جنف
وتعمد أذية بعض ورثته فأصلح ما وقع بين الورثة من الاضطراب والشقاق" فَلا
إِثْمَ عَلَيْهِ"، أي لا يلحقه إثم المبدل المذكور قبل. وإن كان في فعله
تبديل ما ولا بد، ولكنة تبديل لمصلحة. والتبديل الذي فيه الإثم إنما هو تبديل
الهوى. الثانية- الخطاب بقوله: فَمَنْ خافَ" لجميع المسلمين. قيل لهم: إن
خفتم من موص ميلا في الوصية وعدولا عن الحق ووقوعا في إثم ولم يخرجها بالمعروف،
وذلك بأن يوصى بالمال إلى زوج ابنته أو لولد ابنته لينصرف المال إلى ابنته، أو إلى
ابن ابنه والغرض أن ينصرف المال إلى ابنه، أو أوصى لبعيد وترك القريب، فبادروا إلى
السعي في الإصلاح بينهم، فإذا وقع الصلح سقط الإثم عن المصلح. والإصلاح فرض على
الكفاية، فإذا قام أحدهم به سقط عم الباقين، وإن لم يفعلوا أثم الكل.
__________
(1). راجع ج 15 ص 330.
(2). في الأصول هنا وفيما سيأتي" الاذاية".
الثالثة-
في هذه الآية دليل على الحكم بالظن، لأنه إذا ظن قصد الفساد وجب السعي في الصلاح.
وإذا تحقق الفساد لم يكن صلحا إنما يكون حكما بالدفع وإبطالا للفساد وحسما له.
قوله تعالى:" فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ" عطف على" خافَ"،
والكناية عن الورثة، ولم يجر لهم ذكر لأنه قد عرف المعنى، وجواب الشرط" فَلا
إِثْمَ عَلَيْهِ". الرابعة- لا خلاف أن الصدقة في حال الحياة والصحة أفضل
منها عند الموت، لقوله عليه السلام وقد سئل: أي الصدقة أفضل؟ فقال: (أن تصدق وأنت
صحيح شحيح) الحديث، أخرجه أهل الصحيح. وروى الدارقطني عن أبي سعيد الخدري أن رسول
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (لان يتصدق المرء في حياته بدرهم خير
له من أن يتصدق عند موته بمائة). وروى النسائي عن أبي الدرداء عن النبي صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (مثل الذي ينفق أو يتصدق عند موته مثل الذي يهدي
بعد ما يشبع). الخامسة- من لم يضر في وصيته كانت كفارة لما ترك من زكاته. روى
الدارقطني عن معاوية بن قرة عن أبيه قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: (من حضرته الوفاة فأوصى فكانت وصيته على كتاب الله كانت كفارة لما ترك
من زكاته). فإن ضر في الوصية وهي: السادسة- فقد روى الدارقطني أيضا عن ابن عباس عن
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" الإضرار في الوصية من
الكبائر (. وروى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (إن الرجل أو المرأة ليعمل بطاعة الله ستين سنة ثم
يحضرهما الموت فيضاران في الوصية فتجب لهما النار). وترجم النسائي" الصلاة
على من جنف «1» في وصيته" أخبرنا علي بن حجر أنبأنا هشيم عن منصور وهو ابن
زاذان عن الحسن «2» عن عمران بن حصين رضي الله عنه أن رجلا أعتق ستة مملوكين له
عند موته ولم يكن له مال
__________
(1). في سنن النسائي:" حيف" بالحاء والياء.
(2). كذا في النسائي. وفى الأصول:" عن الحسن عن سمرة عن عمران".
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)
غيرهم،
فبلغ ذلك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فغضب من ذلك وقال: (لقد هممت
ألا أصلي عليه) [ثم دعا مملوكيه «1»] فجزأهم ثلاثة أجزاء ثم أقرع بينهم فأعتق
اثنين وأرق أربعة. وأخرجه مسلم بمعناه إلا أنه قال في آخره: وقال له قولا شديدا،
بدل قوله: (لقد هممت ألا أصلي عليه).
[سورة البقرة (2): الآيات 183 الى 184]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ
فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ
وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ
خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ (184)
فيه ست مسائل: الاولى- قوله تعالى:" يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الصِّيامُ" لما ذكر ما كتب على المكلفين من القصاص والوصية ذكر
أيضا أنه كتب عليهم الصيام وألزمهم إياه وأوجبه عليهم، ولا خلاف فيه، قال صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن
محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان والحج) رواه ابن عمر.
ومعناه في اللغة: الإمساك، وترك التنقل من حال إلى حال. ويقال للصمت صوم، لأنه.
إمساك عن الكلام. قال الله تعالى مخبرا عن مريم:" إِنِّي نَذَرْتُ
لِلرَّحْمنِ صَوْماً «2»" [مريم: 26] أي سكوتا عن الكلام. والصوم: ركود
الريح، وهو إمساكها عن الهبوب. وصامت الدابة على أريها «3»
: قامت وثبتت فلم تعتلف. وصام النهار: اعتدل. ومصام الشمس حيث تستوي في منتصف
النهار، ومنه قول النابغة:
خيل صيام وخيل غير صائمة ... تحت العجاج وخيل تعلك اللجما
__________
(1). الزيادة عن سنن النسائي.
(2). راجع ج 11 ص 97.
(3). الأري: حبل تشد به الداية في محبسها، ويسمى الأخية.
أي
خيل ثابتة ممسكة عن الجري والحركة، كما قال «1»:
كأن الثريا علقت في مصامها
أي هي ثابتة في مواضعها فلا تنتقل، وقوله:
والبكرات شرهن الصائمة «2»
يعني التي لا تدور. وقال امرؤ القيس:
فدعها «3» وسلّ الهمّ عنك بجسرة ... ذمول إذا صام النهار وهجرا
أي أبطأت الشمس عن الانتقال والسير فصارت بالإبطاء كالممسكة. وقال آخر:
حتى إذا صام النهار واعتدل ... وسال للشمس لعاب فنزل
وقال آخر:
نعاما بوجرة صفر الخدود ... دما تطعم النوم إلا صياما «4»
أي قائمة. والشعر في هذا المعنى كثير. والصوم في الشرع: الإمساك عن المفطرات مع
اقتران النية به من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وتمامه وكماله باجتناب المحظورات
وعدم الوقوع في المحرمات، لقوله عليه السلام: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس
لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه). الثانية- فضل الصوم عظيم، وثوابه جسيم، جاءت
بذلك أخبار كثيرة صحاح وحسان ذكرها الأئمة في مسانيدهم، وسيأتي بعضها، ويكفيك ألان
منها في فضل الصوم أن خصه الله بالإضافة إليه، كما ثبت في الحديث عن النبي صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال مخبرا عن ربه:
__________
(1). هو امرؤ القيس، كما في اللسان والمعلقات، وتمام البيت:
بأمراس كان على صم جندل
[.....]
(2). قبله:
شر الدلاء الولغة الملازمة
(3). في الأصول:" فدع ذا" والتصويب عن الديوان واللسان.
(4). تقدم الكلام على هذا البيت ج 1 ص 423 طبعه ثانية، فليراجع.
(يقول الله تبارك وتعالى كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به) الحديث. وإنما خص الصوم بأنه له وإن كانت العبادات كلها له لأمرين باين الصوم بهما سائر العبادات. أحدهما أن الصوم يمنع من ملاذ النفس وشهواتها ما لا يمنع منه سائر العبادات. الثاني أن الصوم سر بين العبد وبين ربه لا يظهر إلا له، فلذلك صار مختصا به. وما سواه من العبادات ظاهر، ربما فعله تصنعا ورياء، فلهذا صار أخص بالصوم من غيره. وقيل غير هذا. الثالثة- قوله تعالى:" كَما كُتِبَ" الكاف في موضع نصب على النعت، التقدير كتابا كما، أو صوما كما. أو على الحال من الصيام، أي كتب عليكم الصيام مشبها كما كتب على الذين من قبلكم. وقال بعض النحاة: الكاف في موضع رفع نعتا للصيام، إذ ليس تعريفه بمحض، لمكان الإجمال الذي فيه بما فسرته الشريعة، فلذلك جاز نعته ب" كما" إذ لا ينعت بها إلا النكرات، فهو بمنزلة كتب عليكم صيام، وقد ضعف هذا القول. و" ما" في موضع خفض، وصلتها:" كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ". والضمير في" كتب" يعود على" ما". واختلف أهل التأويل في موضع التشبيه وهى: الرابعة- فقال الشعبي وقتادة وغيرهما: التشبيه يرجع إلى وقت الصوم وقدر الصوم، فإن الله تعالى كتب على قوم موسى وعيسى صوم رمضان فغيروا، وزاد أحبارهم عليهم عشرة أيام ثم مرض بعض أحبارهم فنذر إن شفاه الله أن يزيد في صومهم عشرة أيام ففعل، فصار صوم النصارى خمسين يوما، فصعب عليهم في الحر فنقلوه إلى الربيع. واختار هذا القول النحاس وقال: وهو الأشبه بما في الآية. وفية حديث يدل على صحته أسنده عن دغفل ابن حنظلة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (كان على النصارى صوم شهر فمرض رجل منهم فقالوا لئن شفاه الله لنزيدن عشرة ثم كان آخر فأكل لحما فأوجع فاه فقالوا لئن شفاه الله لنزيدن سبعة ثم كان ملك آخر فقالوا لنتمّنّ هذه السبعة الأيام ونجعل صومنا في الربيع قال فصار خمسين (. وقال مجاهد: كتب الله عز وجل صوم شهر رمضان على كل أمة. وقيل:
أخذوا
بالوثيقة «1» فصاموا قبل الثلاثين يوما وبعدها يوما، قرنا بعد قرن، حتى بلغ صومهم
خمسين يوما، فصعب عليهم في الحر فنقلوه إلى الفصل الشمسي. قال النقاش: وفي ذلك
حديث عن دغفل بن حنظلة والحسن البصري والسدي. قلت: ولهذا- والله أعلم- كره ألان
صوم يوم الشك والستة من شوال بأثر يوم الفطر متصلا به. قال الشعبي: لو صمت السنة
كلها لأفطرت يوم الشك، وذلك أن النصارى فرض عليهم صوم شهر رمضان كما فرض علينا،
فحولوه إلى الفصل الشمسي، لأنه قد كان يوافق القيظ فعدوا ثلاثين يوما، ثم جاء
بعدهم قرن فأخذوا بالوثيقة لأنفسهم فصاموا قبل الثلاثين يوما وبعدها يوما، ثم لم
يزل الأخر يستن بسنة من كان قبله حتى صاروا إلى خمسين يوما فذلك قوله تعالى:"
كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ". وقيل: التشبيه راجع إلى أصل
وجوبه على من تقدم، لا في الوقت والكيفية. وقيل: التشبيه واقع على صفة الصوم الذي
كان عليهم من منعهم من الأكل والشرب والنكاح، فإذا حان الإفطار فلا يفعل هذه
الأشياء من نام. وكذلك كان في النصارى أولا وكان في أول الإسلام، ثم نسخه الله
تعالى بقوله:" أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى
نِسائِكُمْ" [البقرة: 187] على ما يأتي بيانه «2»، قاله السدي وأبو العالية والربيع.
وقال معاذ بن جبل وعطاء: التشبيه واقع على الصوم لا على الصفة ولا على العدة وإن
اختلف الصيامان بالزيادة والنقصان. المعنى:" كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الصِّيامُ" أي في أول الإسلام ثلاثة أيام من كل شهر ويوم عاشوراء،" كَما
كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ" وهم اليهود- في قول ابن عباس- ثلاثة
أيام ويوم عاشوراء. ثم نسخ هذا في هذه الامة بشهر رمضان. وقال معاذ بن جبل: نسخ
ذلك" ب أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ" ثم نسخت الأيام برمضان. الخامسة- قوله
تعالى:" لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ"" لعل" ترج في حقهم، كما تقدم
«3». و" تَتَّقُونَ" قيل: معناه هنا تضعفون، فإنه كلما قل الأكل ضعفت
الشهوة، وكلما ضعفت
__________
(1). الوثيقة في الامر: إحكامه والأخذ بالثقة.
(2). راجع ص 314 من هذا الجزء.
(3). يراجع ج 1 ص 226 طبعه ثانية.
الشهوة
قلت المعاصي. وهذا وجه مجازي حسن. وقيل: لتتقوا المعاصي. وقيل: هو على العموم، لان
الصيام كما قال عليه السلام: (الصيام جنة ووجاء) «1» وسبب تقوى، لأنه يميت
الشهوات. السادسة- قوله تعالى:" أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ""
أَيَّاماً" مفعول ثان ب" كُتِبَ"، قاله الفراء. وقيل: نصب على
الظرف ل" كُتِبَ"، أي كتب عليكم الصيام في أيام. والأيام المعدودات: شهر
رمضان، وهذا يدل على خلاف ما روي عن معاذ، والله أعلم. قوله تعالى:" فَمَنْ
كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ"
فيه ست عشرة مسألة: الاولى- قوله تعالى:" مَرِيضاً" للمريض حالتان:
إحداهما ألا يطيق الصوم بحال، فعليه الفطر واجبا. الثانية- أن يقدر على الصوم بضرر
ومشقة، فهذا يستحب له الفطر ولا يصوم إلا جاهل. قال ابن سيرين: متى حصل الإنسان في
حال يستحق بها اسم المرض صح الفطر، قياسا على المسافر لعلة السفر، وإن لم تدع إلى
الفطر ضرورة. قال طريف ابن تمام العطاردي: دخلت على محمد بن سيرين في رمضان وهو
يأكل، فلما فرغ قال: إنه وجعت إصبعي هذه. وقال جمهور من العلماء: إذا كان به مرض
يؤلمه ويؤذيه أو يخاف تماديه أو يخاف تزيده صح له الفطر. قال ابن عطية: وهذا مذهب
حذاق أصحاب مالك وبه يناظرون. وأما لفظ مالك فهو المرض الذي يشق على المرء ويبلغ
به. وقال ابن خويز منداد: واختلفت الرواية عن مالك في المرض المبيح للفطر، فقال
مرة: هو خوف التلف من الصيام. وقال مرة: شدة المرض والزيادة فيه والمشقة الفادحة.
وهذا صحيح مذهبه وهو مقتضى الظاهر، لأنه لم يخص مرضا من مرض فهو مباح في كل مرض،
إلا ما خصه الدليل من الصداع والحمى والمرضى اليسير الذي لا كلفة معه في الصيام.
وقال الحسن: إذا لم يقدر من المرض على الصلاة قائما أفطر، وقاله النخعي. وقالت
فرقة: لا يفطر بالمرض إلا من
__________
(1). الوجاء: أن ترض أنثيا الفحل رضا شديدا يذهب شهوة الجماع، وينزل في قطعة منزلة
الخصى. أراد أن الصوم يقطع النكاح كما يقطعه الوجاء.
دعته ضرورة المرض نفسه إلى الفطر، ومتى احتمل الضرورة معه لم يفطر. وهذا قول الشافعي رحمه الله تعالى. قلت: قول ابن سيرين أعدل شي في هذا الباب إن شاء الله تعالى. قال البخاري: اعتللت بنيسابور علة خفيفة وذلك في شهر رمضان، فعادني إسحاق بن راهويه نفر من أصحابه فقال لي: أفطرت يا أبا عبد الله؟ فقلت نعم. فقال: خشيت أن تضعف عن قبول الرخصة. قلت: حدثنا عبدان عن ابن المبارك عن ابن جريج قال قلت لعطاء: من أي المرض أفطر؟ قال: من أي مرض كان، كما قال الله تعالى:" فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً" قال البخاري: وهذا الحديث لم يكن عند إسحاق. وقال أبو حنيفة: إذا خاف الرجل على نفسه وهو صائم إن لم يفطر أن تزداد عينه وجعا أو حماه شدة أفطر. الثانية- قوله تعالى:" أَوْ عَلى سَفَرٍ" اختلف العلماء في السفر الذي يجوز فيه الفطر والقصر، بعد إجماعهم على سفر الطاعة كالحج والجهاد، ويتصل بهذين سفر صلة الرحم وطلب المعاش الضروري. أما سفر التجارات والمباحات فمختلف فيه بالمنع والإجازة، والقول بالجواز أرجح. وأما سفر العاصي فيختلف فيه بالجواز والمنع، والقول بالمنع أرجح، قاله ابن عطية. ومسافة الفطر عند مالك حيث تقصر الصلاة. واختلف العلماء في قدر ذلك، فقال مالك: يوم وليلة، ثم رجع فقال: ثمانية وأربعون ميلا، قال ابن خويز منداد: وهو ظاهر مذهبه، وقال مرة: اثنان وأربعون ميلا، وقال مرة ستة وثلاثون ميلا، وقال مرة: مسيرة يوم وليلة، وروى عنه يومان، وهو قول الشافعي. وفصل مرة بين البر والبحر، فقال في البحر مسيرة يوم وليلة، وفي البر ثمانية وأربعون ميلا، وفي المذهب ثلاثون ميلا، وفي غير المذهب ثلاثة أميال. وقال ابن عمرو وابن عباس والثوري: الفطر في سفر ثلاثة أيام، حكاه ابن عطية. قلت: والذي في البخاري: وكان ابن عمر وابن عباس يفطران ويقصران في أربعة برد وهي ستة عشر فرسخا.
الثالثة- اتفق العلماء على أن المسافر في رمضان لا يجوز له أن يبيت الفطر، لان المسافر لا يكون مسافرا بالنية بخلاف المقيم، وإنما يكون مسافرا بالعمل والنهوض، والمقيم لا يفتقر إلى عمل، لأنه إذا نوى الإقامة كان مقيما في الحين، لان الإقامة لا تفتقر إلى عمل فافترقا. ولا خلاف بينهم أيضا في الذي يؤمل السفر أنه لا يجوز له أن يفطر قبل أن يخرج، فإن أفطر فقال ابن حبيب: إن كان قد تأهب لسفره واخذ في أسباب الحركة فلا شي عليه، وحكى ذلك عن أصبغ وابن الماجشون، فإن عاقه عن السفر عائق كان عليه الكفارة، وحسبه أن ينجو إن سافر؟. وروى عيسى عن ابن القاسم أنه ليس عليه إلا قضاء يوم، لأنه متأول في فطره. وقال أشهب: ليس عليه شي من الكفارة سافر أو لم يسافر. وقال سحنون: عليه الكفارة سافر أو لم يسافر، وهو بمنزلة المرأة تقول: غدا تأتيني حيضتي، فتفطر لذلك، ثم رجع إلى قول عبد الملك وأصبغ وقال: ليس مثل المرأة، لان الرجل يحدث السفر إذا شاء، والمرأة لا تحدث الحيضة. قلت: قول ابن القاسم وأشهب في نفي الكفارة حسن، لأنه فعل ما يجوز له فعله، والذمة بريئة، فلا يثبت فيها شي إلا بيقين ولا يقين مع الاختلاف، ثم إنه مقتضى قوله تعالى:" أَوْ عَلى سَفَرٍ". وقال أبو عمر: هذا أصح أقاويلهم في هذه المسألة، لأنه غير منتهك لحرمة الصوم بقصد إلى ذلك وإنما هو متأول، ولو كان الأكل مع نية السفر يوجب عليه الكفارة لأنه كان قبل خروجه ما أسقطها عنه خروجه، فتأمل ذلك تجده كذلك، إن شاء الله تعالى. وقد روى الدارقطني: حدثنا أبو بكر النيسابوري حدثنا إسماعيل بن إسحاق بن سهل بمصر قال حدثنا ابن أبي مريم حدثنا محمد بن جعفر أخبرني زيد بن أسلم قال: أخبرني محمد بن المنكدر عن محمد ابن كعب أنه قال: أتيت أنس بن مالك في رمضان وهو يريد السفر وقد رحلت دابته ولبس ثياب السفر وقد تقارب غروب الشمس، فدعا بطعام فأكل منه ثم ركب. فقلت له: سنة؟ قال نعم. وروي عن أنس أيضا قال قال لي أبو موسى: ألم أنبئنك إذا خرجت خرجت صائما، وإذا دخلت دخلت صائما، فإذا خرجت فاخرج مفطرا، وإذا دخلت فادخل
مفطرا.
وقال الحسن البصري: يفطر إن شاء في بيته يوم يريد أن
يخرج. وقال أحمد: يفطر إذا برز عن البيوت. وقال إسحاق: لا، بل حين يضع رجله في
الرحل. قال ابن المنذر: قول أحمد صحيح، لأنهم يقولون لمن أصبح صحيحا ثم اعتل: إنه
يفطر بقية يومه، وكذلك إذا أصبح في الحضر ثم خرج إلى السفر فله كذلك أن يفطر. وقالت
طائفة: لا يفطر يومه ذلك وإن نهض في سفره، كذلك قال الزهري ومكحول ويحيى الأنصاري
ومالك والأوزاعي والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي. واختلفوا إن فعل، فكلهم قال يقضي
ولا يكفر. قال مالك: لان السفر عذر طارئ، فكان كالمرض يطرأ عليه. وروي عن بعض
أصحاب مالك أنه يقضي ويكفر، وهو قول ابن كنانة والمخزومي، وحكاه الباجي عن
الشافعي، واختاره ابن العربي وقال به، قال: لان السفر عذر طرأ بعد لزوم العبادة
ويخالف المرض والحيض، لان المرض يبيح له الفطر، والحيض يحرم عليها الصوم، والسفر
لا يبيح له ذلك فوجبت عليه الكفارة لهتك حرمته. قال أبو عمر: وليس هذا بشيء، لان
الله سبحانه قد أباح له الفطر في الكتاب والسنة. وأما قولهم" لا يفطر"
فإنما ذلك استحباب لما عقده فإن أخذ برخصة الله كان عليه القضاء، وأما الكفارة فلا
وجه لها، ومن أوجبها فقد أوجب ما لم يوجبه الله ولا رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ. وقد روي عن ابن عمر في هذه المسألة: يفطر إن شاء في يومه ذلك إذا خرج
مسافرا، وهو قول الشعبي وأحمد وإسحاق. قلت: وقد ترجم البخاري رحمه الله على هذه
المسألة" باب من أفطر في السفر ليراه الناس" وساق الحديث عن ابن عباس
قال: خرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المدينة إلى مكة فصام
حتى بلغ عسفان «1»، ثم دعا بماء فرفعه إلى يديه ليريه الناس فأفطر حتى قدم مكة
وذلك في رمضان. وأخرجه مسلم أيضا عن ابن عباس وقال فيه: ثم دعا بإناء فيه شراب
شربه نهارا ليراه الناس ثم أفطر حتى دخل مكة. وهذا نص في الباب فسقط ما خالفه،
وبالله التوفيق. وفية أيضا حجة على من يقول: إن الصوم لا ينعقد في السفر. روي عن
عمر وابن عباس
__________
(1). عسفان (بضم العين وسكون السين المهملتين): قرية بينها وبين مكة ثمانية
وأربعون ميلا.
وأبي هريرة وابن عمر. قال ابن عمر: من صام في السفر قضى في الحضر. وعن عبد الرحمن ابن عوف: الصائم في السفر كالمفطر في الحضر. وقال به قوم من أهل الظاهر، واحتجوا بقوله تعالى:" فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ" على ما يأتي بيانه، وبما روى كعب بن عاصم قال: سمعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: (ليس من البر الصيام في السفر). وفية أيضا حجة على من يقول: إن من بيت الصوم في السفر فله أن يفطر وإن لم يكن له عذر، وإليه ذهب مطرف، وهو أحد قولي الشافعي وعليه جماعة من أهل الحديث. وكان مالك يوجب عليه القضاء والكفارة لأنه كان مخيرا في الصوم والفطر، فلما اختار الصوم وبيته لزمه ولم يكن له الفطر، فإن أفطر عامدا من غير عذر كان عليه القضاء والكفارة. وقد روي عنه أنه لا كفارة عليه، وهو قول أكثر أصحابه إلا عبد الملك فإنه قال: إن أفطر بجماع كفر، لأنه لا يقوى بذلك على سفره ولا عذر له، لان المسافر إنما أبيح له الفطر ليقوى بذلك على سفره. وقال سائر الفقهاء بالعراق والحجاز: إنه لا كفارة عليه، منهم الثوري والأوزاعي والشافعي وأبو حنيفة وسائر فقهاء الكوفة، قال أبو عمر. الرابعة- واختلف العلماء في الأفضل من الفطر أو الصوم في السفر، فقال مالك والشافعي في بعض ما روي عنهما: الصوم أفضل لمن قوي عليه. وجل مذهب مالك التخيير وكذلك مذهب الشافعي. قال الشافعي ومن اتبعه: هو مخير، ولم يفصل، وكذلك ابن علية، لحديث أنس قال: سافرنا مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في رمضان فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم، خرجه مالك والبخاري ومسلم. وروي عن عثمان بن أبي العاص الثقفي وأنس بن مالك صاحبي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنهما قالا: الصوم في السفر أفضل لمن قدر عليه، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه. وروي عن ابن عمرو ابن عباس: الرخصة أفضل، وقال به سعيد بن المسيب والشعبي وعمر بن عبد العزيز ومجاهد وقتادة والأوزاعي وأحمد وإسحاق. كل هؤلاء يقولون الفطر أفضل، لقول الله تعالى:" يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ" [البقرة: 185].
الخامسة-
قوله تعالى:" فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ" في الكلام حذف، أي من يكن منكم
مريضا أو مسافرا فأفطر فليقض. والجمهور من العلماء على أن أهل البلد إذا صاموا
تسعة وعشرين يوما وفي البلد رجل مريض لم يصح فإنه يقضي تسعة وعشرين يوما. وقال قوم
منهم الحسن بن صالح بن حي: إنه يقضي شهرا بشهر من غير مراعاة عدد الأيام. قال
الكيا الطبري: وهذا بعيد، لقوله تعالى:" فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ
أُخَرَ" ولم يقل فشهر من أيام أخر. وقوله:" فَعِدَّةٌ" يقتضي
استيفاء عدد ما أفطر فيه، ولا شك أنه لو أفطر بعض رمضان وجب قضاء ما أفطر بعده
بعدده، كذلك يجب أن يكون حكم إفطاره جميعه في اعتبار عدده. السادسة- قوله
تعالى:" فَعِدَّةٌ" ارتفع" عدة" على خبر الابتداء، تقديره
فالحكم أو فالواجب عدة، ويصح فعليه عدة. وقال الكسائي: ويجوز فعدة، أي فليصم عدة
من أيام. وقيل: المعنى فعليه صيام عدة، فحذف المضاف وأقيمت العدة مقامة. والعدة
فعلة من العد، وهي بمعنى المعدود، كالطحن بمعنى المطحون، تقول: أسمع جعجعة ولا أرى
طحنا «1». ومنه عدة المرأة." مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ" لم ينصرف"
أخر" عند سيبويه، لأنها معدولة عن الالف واللام، لان سبيل فعل من هذا الباب
أن يأتي بالألف واللام، نحو الكبر والفضل. وقال الكسائي: هي معدولة عن آخر، كما
تقول: حمراء وحمر، فلذلك لم تنصرف. وقيل: منعت من الصرف لأنها على وزن جمع وهي صفة
لأيام، ولم تجئ أخرى لئلا يشكل بأنها صفة للعدة. وقيل: إن" أخر" جمع
أخرى كأنه أيام أخرى ثم كثرت فقيل: أيام أخر. وقيل: إن نعت الأيام يكون مؤنثا
فلذلك نعتت بآخر. السابعة- اختلف الناس في وجوب تتابعها على قولين ذكرهما
الدارقطني في" سننه"، فروي عن عائشة رضي الله عنها قالت: نزلت"
فعدة من أيام أخر متتابعات" فسقطت «2»" متتابعات" قال هذا إسناد
صحيح. وروي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله
__________
(1). مثل يضرب للرجل الذي يكثر الكلام ولا يعمل، وللذي بعد ولا يفعل.
(2). قال الزرقاني في شرح الموطأ: معنى" سقطت" نسخت، قال: وليس بين
اللوحين" متتابعات" أي ليس في المصحف كلمة" متتابعات". وقال
الدارقطني: إن كلمة" سقطت" انفرد بها عروة.
عليه
وسلم: (من كان عليه صوم من رمضان فليسرده «1» ولا يقطعه) في إسناده عبد الرحمن ابن
إبراهيم ضعيف الحديث. وأسنده عن ابن عباس في قضاء رمضان" صمه كيف شئت".
وقال ابن عمر:" صمه كما أفطرته". وأسند عن أبي عبيدة بن الجراح وابن
عباس وأبي هريرة ومعاذ بن جبل وعمرو بن العاص. وعن محمد بن المنكدر قال: بلغني أن
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل عن تقطيع صيام رمضان فقال: (ذلك
إليك أرأيت لو كان على أحدكم دين فقضى الدرهم والدرهمين ألم يكن قضاه فالله أحق أن
يعفو ويغفر (. إسناده حسن إلا أنه مرسل ولا يثبت متصلا. وفي موطأ مالك عن نافع أن
عبد الله بن عمر كان يقول: يصوم رمضان متتابعا من أفطره متتابعا من مرض أو في سفر
«2». قال الباجي في" المنتقى":" يحتمل أن يريد الاخبار عن الوجوب،
ويحتمل أن يريد الاخبار عن الاستحباب، وعلى الاستحباب جمهور الفقهاء. وإن فرقه
أجزأه، وبذلك قال مالك والشافعي. والدليل على صحة هذا قوله تعالى:" فَعِدَّةٌ
مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ" ولم يخص متفرقة من متتابعة، وإذا أتى بها متفرقة فقد
صام عدة من أيام أخر، فوجب أن يجزيه". ابن العربي: إنما وجب التتابع في الشهر
لكونه معينا، وقد عدم التعيين في القضاء فجاز التفريق. الثامنة- لما قال
تعالى:" فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ" دل ذلك على وجوب القضاء من غير
تعيين لزمان، لان اللفظ مسترسل على الأزمان لا يختص ببعضها دون بعض. وفي الصحيحين
عن عائشة رضي الله عنها قالت: يكون على الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضيه إلا في
شعبان، الشغل «3» من رسول الله، أو برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
في رواية: وذلك لمكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وهذا نص
وزيادة بيان للآية. وذلك يرد على داود قوله: إنه يجب عليه قضاؤه ثاني شوال. ومن لم
يصمه ثم مات فهو آثم عنده، وبنى عليه أنه لو وجب عليه عتق رقبة فوجد رقبة تباع
بثمن فليس له أن يتعداها ويشتري غيرها، لان الفرض عليه أن يعتق أول رقبة يجدها فلا
يجزيه غيرها. ولو كانت عنده رقبة فلا يجوز له أن يشتري
__________
(1). أي يتابعه.
(2). عبارة الموطأ:" يصوم قضاء رمضان متتابعا من أفطره من مرض أو سفر".
(3). قال النووي: هو مرفوع على أنه فاعل لفعل مقدر، أي يمنعني الشغل.
غيرها، ولو مات الذي عنده فلا يبطل العتق، كما يبطل فيمن نذر أن يعتق رقبة بعينها فماتت يبطل نذره، وذلك يفسد قوله. وقال بعض الأصوليين: إذا مات بعد مضي اليوم الثاني من شوال لا يعصي على شرط العزم. والصحيح أنه غير آثم ولا مفرط، وهو قول الجمهور، غير أنه يستحب له تعجيل القضاء لئلا تدركه المنية فيبقى عليه الفرض. التاسعة- من كان عليه قضاء أيام من رمضان فمضت عليه عدتها من الأيام بعد الفطر أمكنه فيها صيامه فأخر ذلك ثم جاءه مانع منعه من القضاء إلى رمضان آخر فلا إطعام عليه، لأنه ليس بمفرط حين فعل ما يجوز له من التأخير. هذا قول البغداديين من المالكيين، ويرونه قول ابن القاسم في المدونة. العاشرة- فإن أخر قضاءه عن شعبان الذي هو غاية الزمان الذي يقضى فيه رمضان فهل يلزمه لذلك كفارة أو لا، فقال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق: نعم. وقال أبو حنيفة والحسن والنخعي وداود: لا. قلت: وإلى هذا ذهب البخاري لقوله، ويذكر عن أبي هريرة مرسلا وابن عباس أنه يطعم، ولم يذكر الله الإطعام، إنما قال:" فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ". قلت: قد جاء عن أبي هريرة مسندا فيمن فرط في قضاء رمضان حتى أدركه رمضان آخر قال: يصوم هذا مع الناس، ويصوم الذي فرط فيه ويطعم لكل يوم مسكينا. خرجه الدارقطني وقال: إسناد صحيح. وروي عنه مرفوعا إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في رجل أفطر في شهر رمضان من مرض ثم صح ولم يصم حتى أدركه رمضان آخر قال: (يصوم الذي أدركه ثم يصوم الشهر الذي أفطر فيه ويطعم لكل يوم مسكينا). في إسناده ابن نافع وابن وجيه ضعيفان. الحادية عشرة- فإن تمادى به المرض فلم يصح حتى جاء رمضان آخر، فروى الدارقطني عن ابن عمر أنه يطعم مكان كل يوم مسكينا مدا من حنطة، ثم ليس عليه قضاء. وروي أيضا عن أبي هريرة أنه قال: إذا لم يصح بين الرمضانين صام عن هذا وأطعم عن الثاني
ولا
قضاء عليه، وإذا صح فلم يصم حتى إذا أدركه رمضان آخر صام عن هذا وأطعم عن الماضي،
فإذا أفطر قضاه، إسناد صحيح. قال علماؤنا: وأقوال الصحابة على خلاف القياس قد يحتج
بها. وروي عن ابن عباس أن رجلا جاء إليه فقال: مرضت رمضانين؟ فقال له ابن عباس:
استمر بك مرضك، أو صححت بينهما؟ فقال: بل صححت، قال: صم رمضانين وأطعم ستين
مسكينا. وهذا بدل من قوله: إنه لو تمادى به مرضه لا قضاء عليه. وهذا يشبه مذهبهم
في الحامل والمرضع أنهما يطعمان ولا قضاء عليهما، على ما يأتي «1». الثانية عشرة-
واختلف من أوجب عليه الإطعام في قدر ما يجب أن يطعم، فكان أبو هريرة والقاسم بن
محمد ومالك والشافعي يقولون: يطعم عن كل يوم مدا. وقال الثوري: يطعم نصف صاع عن كل
يوم. الثالثة- واختلفوا فيمن أفطر أو جامع في قضاء رمضان ماذا يجب عليه، فقال
مالك: من أفطر يوما من قضاء رمضان ناسيا لم يكن عليه شي غير قضائه، ويستحب له أن
يتمادى فيه للاختلاف ثم يقضيه، ولو أفطره عامدا أثم ولم يكن عليه غير قضاء ذلك
اليوم ولا يتمادى، لأنه لا معنى لكفه عما يكف الصائم ها هنا إذ هو غير صائم عند
جماعة العلماء لإفطاره عامدا. وأما الكفارة فلا خلاف عند مالك وأصحابه أنها لا تجب
في ذلك، وهو قول جمهور العلماء. قال مالك: ليس على من أفطر يوما من قضاء رمضان
بإصابة أهله أو غير ذلك كفارة، وإنما عليه قضاء ذلك اليوم. وقال قتادة: على من
جامع في قضاء رمضان القضاء والكفارة. وروى ابن القاسم عن مالك أن من أفطر في قضاء
رمضان فعليه يومان، وكان ابن القاسم يفتي به ثم رجع عنه ثم قال: إن أفطر عمدا في
قضاء القضاء كان عليه مكانه صيام يومين، كمن أفسد حجه بإصابة أهله، وحج قابلا
فأفسد حجه أيضا بإصابة أهله كان عليه حجتان. قال أبو عمر: قد خالفه في الحج ابن
وهب وعبد الملك، وليس يجب القياس على أصل مختلف فيه. والصواب عندي- والله أعلم-
أنه ليس عليه في الوجهين إلا قضاء يوم واحد، لأنه يوم واحد أفسده مرتين.
__________
(1). راجع ص 288 من هذا الجزء. [.....]
قلت:
وهو مقتضى قوله تعالى:" فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ" فمتى أتى بيوم
تام بدلا عما أفطره في قضاء رمضان فقد أتى بالواجب عليه، ولا يجب عليه غير ذلك،
والله أعلم. الرابعة عشرة- والجمهور على أن من أفطر في رمضان لعلة فمات من علته
تلك، أو سافر فمات في سفره ذلك أنه لا شي عليه. وقال طاوس وقتادة في المريض يموت
قبل أن يصح: يطعم عنه. الخامسة عشرة- واختلفوا فيمن مات وعليه صوم من رمضان لم
يقضه، فقال مالك والشافعي والثوري: لا يصوم أحد عن أحد. وقال أحمد وإسحاق وأبو ثور
والليث وأبو عبيد وأهل الظاهر: يصام عنه، إلا أنهم خصصوه بالنذر، وروي مثله عن
الشافعي. وقال أحمد وإسحاق في قضاء رمضان: يطعم عنه. احتج من قال بالصوم بما رواه
مسلم عن عائشة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (من مات وعليه
صيام صام عنه وليه). إلا أن هذا عام في الصوم، يخصصه ما رواه مسلم أيضا عن ابن
عباس قال: جاءت امرأة إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت: يا
رسول الله، إن أمي قد ماتت وعليها صوم نذر- وفي رواية صوم شهر- أفأصوم عنها؟ قال:
(أرأيت لو كان على أمك دين فقضيتيه أكان يؤدي ذلك عنها) قالت: نعم، قال: (فصومي عن
أمك). احتج مالك ومن وافقه بقوله سبحانه:" وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ
أُخْرى «1»" [الانعام: 164] وقوله:" وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا
ما سَعى " «2» [النجم: 39] وقوله:" وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا
عَلَيْها" [الانعام: 164] وبما خرجه النسائي عن ابن عباس عن النبي صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: (لا يصلي أحد عن أحد ولا يصوم أحد عن أحد
ولكن يطعم عنه مكان كل يوم مدا من حنطة). قلت: وهذا الحديث عام، فيحتمل أن يكون
المراد بقوله: (لا يصوم أحد عن أحد) صوم رمضان. فأما صوم النذر فيجوز، بدليل حديث
ابن عباس وغيره، فقد جاء في صحيح مسلم أيضا من حديث بريدة نحو حديث ابن عباس، وفي
بعض طرقه: صوم شهرين أفأصوم عنها؟ قال: (صومي عنها) قالت: إنها لم تحج قط أفأحج
عنها؟ قال:
__________
(1). راجع ج 7 ص 156، 157.
(2). راجع ج 17 ص 114.
(جي
عنها). فقولها: شهرين، يبعد أن يكون رمضان، والله أعلم. وأقوى ما يحتج به لمالك
أنه عمل أهل المدينة، ويعضده القياس الجلي، وهو أنه عبادة بدنية لا مدخل للمال
فيها فلا تفعل عمن وجبت عليه كالصلاة. ولا ينقص هذا بالحج لان للمال فيه مدخلا.
السادسة عشرة- استدل بهذه الآية من قال: إن الصوم لا ينعقد في السفر وعليه القضاء
أبدا، فإن الله تعالى يقول:" فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ
فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ" أي فعليه عدة، ولا حذف في الكلام ولا إضمار.
[وبقوله «1» عليه الصلاة والسلام: (ليس من البر الصيام في السفر) قال: ما لم يكن
من البر فهو من الإثم، فيدل ذلك على أن صوم رمضان لا يجوز في السفر [. والجمهور
يقولون: فيه محذوف فأفطر، كما تقدم. وهو الصحيح، لحديث أنس قال: (سافرنا مع رسول
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في رمضان فلم يعب الصائم على المفطر ولا
المفطر على الصائم، رواه مالك عن حميد الطويل عن أنس. وأخرجه مسلم عن أبي سعيد
الخدري قال: (غزونا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لست عشرة مضت من
رمضان فمنا من صام ومنا من أفطر، فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم
(. قوله تعالى:" وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ
فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ
كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ" فيه خمس مسائل: الاولى قوله تعالى:" وَعَلَى
الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ" قرأ الجمهور بكسر الطاء وسكون الياء، وأصله يطوقونه
نقلت الكسرة إلى الطاء وانقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها. وقرا حميد على الأصل
من غير اعتلال، والقياس الاعتلال. ومشهور قراءة ابن عباس" يطوقونه" بفتح
الطاء مخففة وتشديد الواو بمعنى يكلفونه. وقد روى مجاهد" يطيقونه"
بالياء بعد الطاء على لفظ" يكيلونه" وهي باطلة ومحال، لان الفعل مأخوذ
من الطوق، فالواو لازمة واجبة فيه ولا مدخل للياء في هذا المثال. قال أبو بكر
الأنباري: وأنشدنا أحمد بن يحيى النحوي لابي ذؤيب: فقيل تحمل فوق طوقك إنها مطبعة
«2» من يأتها لا يضيرها
__________
(1). ما بين المربعين في ج. وسائط من سائر نسخ الأصل.
(2). مطبعة: مملوءة.
فأظهر
الواو في الطوق، وصح بذلك أن واضع الياء مكانها يفارق الصواب. وروى ابن الأنباري
عن ابن عباس" يطيقونه" بفتح الياء وتشديد الطاء والياء مفتوحتين بمعنى
يطيقونه، يقال: طاق وأطاق وأطيق بمعنى. وعن ابن عباس أيضا وعائشة وطاوس وعمرو بن
دينار" يطوقونه" بفتح الياء وشد الطاء مفتوحة، وهي صواب في اللغة، لان
الأصل يتطوقونه فأسكنت التاء وأدغمت في الطاء فصارت طاء مشددة، وليست من القرآن،
خلافا لمن أثبتها قرآنا، وإنما هي قراءة على التفسير. وقرا أهل المدينة
والشام" فدية طعام" مضافا،" مساكين" جمعا. وقرا ابن
عباس" طعام مسكين" بالإفراد فيما ذكر البخاري وأبو داود والنسائي عن
عطاء عنه. وهي قراءة حسنة، لأنها بينت الحكم في اليوم، واختارها أبو عبيد، وهي
قراءة أبي عمرو وحمزة والكسائي. قال أبو عبيد: فبينت أن لكل يوم إطعام واحد،
فالواحد مترجم عن الجميع، وليس الجميع بمترجم عن واحد. وجمع المساكين لا يدري كم
منهم في اليوم الأمن غير الآية. وتخرج قراءة الجمع في" مساكين" لما كان
الذين يطيقونه جمع وكل واحد منهم يلزمه مسكين فجمع لفظه، كما قال تعالى:"
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ
فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً «1»" [النور: 4] أي اجلدوا كل واحد منهم
ثمانين جلدة، فليست الثمانون متفرقة في جميعهم، بل لكل واحد ثمانون، قال معناه أبو
علي. واختار قراءة الجمع النحاس قال: وما اختاره أبو عبيد مردود، لان هذا إنما
يعرف بالدلالة، فقد علم أن معنى وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مساكين" أن لكل
يوم مسكينا، فاختيار هذه القراءة لترد جمعا على جمع. قال النحاس: واختار أبو عبيد
أن يقرأ" فِدْيَةٌ طَعامُ" قال: لان الطعام هو الفدية، ولا يجوز أن يكون
الطعام نعتا لأنه جوهر ولكنه يجوز على البدل، وأبين من أن يقرأ" فِدْيَةٌ
طَعامُ" بالإضافة، لان" فِدْيَةٌ" مبهمة تقع للطعام وغيره، فصار
مثل قولك: هذا ثوب خز. الثانية- واختلف العلماء في المراد بالآية، فقيل: هي
منسوخة. روى البخاري:" وقال ابن نمير حدثنا [الأعمش حدثنا] عمرو بن مرة حدثنا
ابن أبي ليلى حدثنا أصحاب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نزل رمضان فشق
عليهم فكان من أطعم كل يوم مسكينا ترك الصوم ممن
__________
(1). راجع ج 12 ص 171.
يطيقه ورخص لهم في ذلك فنسختها" وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ". وعلى هذا قراءة الجمهور" يُطِيقُونَهُ" أي يقدرون عليه، لان فرض الصيام هكذا: من أراد صام ومن أراد أطعم مسكينا. وقال ابن عباس: نزلت هذه الآية رخصة للشيوخ والعجزة خاصة إذا أفطروا وهم يطيقون الصوم، ثم نسخت بقوله" فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ" [البقرة: 185] فزالت الرخصة إلا لمن عجز منهم. قال الفراء: الضمير في" يُطِيقُونَهُ" يجوز أن يعود على الصيام، أي وعلى الذين يطيقون الصيام أن يطعموا إذا أفطروا، ثم نسخ بقوله:"، وَأَنْ تَصُومُوا". ويجوز أن يعود على الفداء، أي وعلى الذين يطيقون الفداء فدية. وأما قراءة" يطوقونه" على معنى يكلفونه مع المشقة اللاحقة لهم، كالمريض والحامل فإنهما يقدران عليه لكن بمشقة تلحقهم في أنفسهم، فإن صاموا أجزأهم وإن افتدوا فلهم ذلك. ففسر ابن عباس- إن كان الاسناد عنه صحيحا-" يُطِيقُونَهُ" بيطوقونه ويتكلفونه فأدخله بعض النقلة في القرآن. روى أبو داود عن ابن عباس" وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ" قال: أثبتت للحبلى والمرضع. وروي عنه أيضا" وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ" قال: كانت رخصة للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة وهما يطيقان الصوم أن يفطرا ويطعما مكان كل يوم مسكينا، والحبلى والمرضع إذا خافتا على أولادهما أفطرتا وأطعمتا. وخرج الدارقطني عنه أيضا قال: رخص للشيخ الكبير أن يفطر ويطعم عن كل يوم مسكينا ولا قضاء عليه، هذا إسناد صحيح. وروي عنه أنه قال:" وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ" ليست بمنسوخة، هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما، فيطعما مكان كل يوم مسكينا، وهذا صحيح. وروي عنه أيضا أنه قال لام ولد له حبلى أو مرضع: أنت من الذين لا يطيقون الصيام، عليك الجزاء ولا عليك القضاء، وهذا إسناد صحيح. وفي رواية: كانت له أم ولد ترضع- من غير شك- فأجهدت فأمرها أن تفطر ولا تقضي، هذا صحيح. قلت: فقد ثبت بالأسانيد الصحاح عن ابن عباس أن الآية ليست بمنسوخة وأنها محكمة في حق من ذكر. والقول الأول صحيح أيضا، إلا أنه يحتمل أن يكون النسخ هناك
بمعنى التخصيص، فكثيرا ما يطلق المتقدمون النسخ بمعناه، والله أعلم. وقال الحسن البصري وعطاء بن أبي رباح والضحاك والنخعي والزهري وربيعة والأوزاعي وأصحاب الرأي: الحامل والمرضع يفطران ولا إطعام عليهما، بمنزلة المريض يفطر ويقضي، وبه قال أبو عبيد وأبو ثور. وحكى ذلك أبو عبيد عن أبي ثور، واختاره ابن المنذر، وهو قول مالك في الحبلى إن أفطرت، فأما المرضع إن أفطرت فعليها القضاء والإطعام. وقال الشافعي وأحمد: يفطران ويطعمان ويقضيان، وأجمعوا على أن المشايخ والعجائز الذين لا يطيقون الصيام أو يطيقونه على مشقة شديدة أن يفطروا. واختلفوا فيما عليهم، فقال ربيعة ومالك: لا شي عليهم، غير أن مالكا قال: لو أطعموا عن كل يوم مسكينا كان أحب إلى. وقال أنس وابن عباس وقيس بن السائب وأبو هريرة: عليهم الفدية. وهو قول الشافعي وأصحاب الرأي وأحمد وإسحاق، اتباعا لقول الصحابة رضي الله عن جميعهم، وقوله تعالى:" فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ" ثم قال:" وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ" وهؤلاء ليسوا بمرضى ولا مسافرين، فوجبت عليهم الفدية. والدليل لقول مالك: أن هذا مفطر لعذر موجود فيه وهو الشيخوخة والكبر فلم يلزمه إطعام كالمسافر والمريض. وروي هذا عن الثوري ومكحول، واختاره ابن المنذر. الثالثة- واختلف من أوجب الفدية على من ذكر في مقدارها، فقال مالك: مد بمد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن كل يوم أفطره، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: كفارة كل يوم صاع تمر أو نصف صاع بر. وروي عن ابن عباس نصف صاع من حنطة، ذكره الدارقطني. وروي عن أبي هريرة قال: من أدركه الكبر فلم يستطع أن يصوم فعليه لكل يوم مد من قمح. وروي عن أنس بن مالك أنه ضعف عن الصوم عاما فصنع جفنة من طعام ثم دعا بثلاثين مسكينا فأشبعهم. الرابعة- قوله تعالى:" فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ" قال ابن شهاب: من أراد الإطعام مع الصوم. وقال مجاهد: من زاد في الإطعام على المد. ابن عباس:" فَمَنْ تَطَوَّعَ
شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)
خَيْراً
" قال: مسكينا آخر فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ. ذكره
الدارقطني وقال: إسناد صحيح ثابت. و" خَيْرٌ" الثاني صفة تفضيل، وكذلك
الثالث و" خَيْراً" الأول. وقرا عيسى بن عمرو ويحيى بن وثاب وحمزة
والكسائي" يطوع خيرا" مشددا وجزم العين على معنى يتطوع. الباقون"
تَطَوَّعَ" بالتاء وتخفيف الطاء وفتح العين على الماضي. الخامسة- قوله
تعالى:" وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ" أي والصيام خير لكم. وكذا قرأ
أبي، أي من الإفطار مع الفدية وكان هذا قبل النسخ. وقيل:" وَأَنْ
تَصُومُوا" في السفر والمرض غير الشاق والله أعلم. وعلى الجملة فإنه يقتضي
الحض على الصوم، أي فاعلموا ذلك وصوموا.
[سورة البقرة (2): آية 185]
شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ
مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ
كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ
بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ
وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)
فيه إحدى وعشرون مسألة: الاولى- قوله تعالى:" شَهْرُ رَمَضانَ" قال أهل
التاريخ: أول من صام رمضان نوح عليه السلام لما خرج من السفينة. وقد تقدم قول
مجاهد: كتب الله رمضان على كل أمة «1»، ومعلوم أنه كان قبل نوح أمم، والله أعلم.
والشهر مشتق من الإشهار لأنه مشتهر لا يتعذر علمه على أحد يريده، ومنه يقال: شهرت
السيف إذا سللته. ورمضان مأخوذ من رمض الصائم يرمض إذا حر جوفه من شدة العطش.
والرمضاء (ممدودة): شدة الحر، ومنه الحديث: (صلاة «2» الأوابين إذا رمضت الفصال).
خرجه مسلم. ورمض الفصال أن تحرق الرمضاء أخفافها فتبرك من شدة حرها. فرمضان- فيما
ذكروا- وافق شدة الحر، فهو مأخوذ من الرمضاء. قال
__________
(1). راجع ص 274 من هذا الجزء.
(2). هي الصلاة التي سنها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في وقت
الضحى ..
الجوهري:
وشهر رمضان يجمع على رمضانات وأرمضاء، يقال إنهم لما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة
القديمة سموها بالأزمنة التي وقعت فيها، فوافق هذا الشهر أيام رمض الحر فسمي بذلك.
وقيل: إنما سمي رمضان لأنه يرمض الذنوب أي يحرقها بالأعمال الصالحة، من الارماض
وهو الإحراق، ومنه رمضت قدمه من الرمضاء أي احترقت. وأرمضتني الرمضاء أي أحرقتني،
ومنه قيل: أرمضني الامر. وقيل: لان القلوب تأخذ فيه من حرارة الموعظة والفكرة في
أمر الآخرة كما يأخذ الرمل والحجارة من حر الشمس. والرمضاء: الحجارة المحماة.
وقيل: هو من رمضت النصل أرمضه وأرمضه رمضا إذا دققته بين حجرين ليرق. ومنه نصل
رميض ومرموض- عن ابن السكيت-، وسمي الشهر به لأنهم كانوا يرمضون أسلحتهم في رمضان
ليحاربوا بها في شوال قبل دخول الأشهر الحرم. وحكى الماوردي أن اسمه في
الجاهلية" ناتق" وأنشد للمفضل:
وفي ناتق أجلت لدى حومة الوغى ... وولت على الأدبار فرسان خثعما
و" شَهْرُ" بالرفع قراءة الجماعة على الابتداء، والخبر" الَّذِي
أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ". أو يرتفع على إضمار مبتدأ، المعنى: المفروض
عليكم صومه شهر رمضان، أو فيما كتب عليكم شهر رمضان. ويجوز أن يكون"
شَهْرُ" مبتدأ، و" الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ" صفة، والخبر"
فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ". وأعيد ذكر الشهر تعظيما، كقوله
تعالى:" الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ". [الحاقة: 2- 1]. وجاز أن يدخله
معنى الجزاء، لان شهر رمضان وإن كان معرفة فليس معرفة بعينها لأنه شائع في جميع
القابل، قاله أبو علي. وروي عن مجاهد وشهر بن حوشب نصب" شهر"، ورواها
هارون الأعور عن أبي عمرو، ومعناه: الزموا شهر رمضان أو صوموا. و" الَّذِي
أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ" نعت له، ولا يجوز أن ينتصب بتصوموا، لئلا يفرق
بين الصلة والموصول بخبر أن وهو" خَيْرٌ لَكُمْ". الرماني: يجوز نصبه
على البدل من قوله" أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ" [البقرة: 184]. الثانية-
واختلف هل يقال" رمضان" دون أن يضاف إلى شهر، فكره ذلك مجاهد وقال: يقال
كما قال الله تعالى. وفي الخبر: (لا تقولوا رمضان بل انسبوه كما نسبه الله في
القرآن
فقال
شَهْرُ رَمَضانَ (. وكان يقول: بلغني أنه اسم من أسماء الله. وكان يكره أن يجمع
لفظه لهذا المعنى. ويحتج بما روي: رمضان اسم من أسماء الله تعالى، وهذا ليس بصحيح
فإنه من حديث أبي معشر نجيح وهو ضعيف. والصحيح جواز إطلاق رمضان من غير إضافة كما
ثبت في الصحاح وغيرها. روى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (إذا جاء رمضان فتحت أبواب الرحمة وغلقت أبواب النار
وصفدت الشياطين). وفي صحيح البستي عنه قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: (إذا كان رمضان فتحت له أبواب الرحمة وغلقت أبواب جهنم وسلسلت
الشياطين). وروي عن ابن شهاب عن أنس بن أبي أنس أن أباه حدثه أنه سمع أبا هريرة
يقول ...، فذكره. قال البستي: أنس بن أبي أنس هذا هو والد مالك بن أنس، واسم أبي
أنس مالك بن أبي عامر من ثقات أهل المدينة، وهو مالك ابن أبي عامر بن عمرو بن
الحارث بن عثمان «1» بن جثيل بن عمرو من ذي أصبح من أقيال اليمن. وروى النسائي عن
أبي هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أتاكم رمضان شهر
مبارك فرض الله عز وجل عليكم صيامه تفتح فيه أبواب السماء وتغلق فيه أبواب الجحيم
وتغل فيه مردة الشياطين لله فيه ليلة خير من ألف شهر من حرم خيرها فقد حرم (.
وأخرجه أبو حاتم البستي أيضا وقال: فقوله (مردة الشياطين) تقييد لقوله: (صفدت
الشياطين وسلسلت). وروى النسائي أيضا عن ابن عباس قال قال رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لامرأة من الأنصار: (إذا كان رمضان فاعتمري فإن عمرة
فيه تعدل حجة). وروى النسائي أيضا عن عبد الرحمن بن عوف قال قال رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن الله تعالى فرض صيام رمضان [عليكم ] وسننت لكم
قيامه فمن صامه وقامه إيمانا واحتسابا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه (. والإثار في
هذا كثيرة، كلها بإسقاط شهر. وربما أسقطت العرب ذكر الشهر من رمضان.
__________
(1). الذي في ابن خلكان:" غيمان- بغين معجمة وياء تحتها نقطتان- ويقال عثمان-
بعين مهملة وثاء مثلثة-، ابن جثيل- بجيم وثاء مثلثة وياء ساكتة تحتها نقطتان. وقال
ابن سعد: هو خثيل بخاء معجمة". وقد ورد هذا النسب في الأصول محرفا.
قال
الشاعر:
جارية في درعها الفضفاض ... أبيض من أخت بني إباض
جارية في رمضان الماضي ... تقطع الحديث بالايماض
وفضل رمضان عظيم، وثوابه جسيم، يدل على ذلك معنى الاشتقاق من كونه محرقا للذنوب،
وما كتبناه من الأحاديث. الثالثة- فرض الله صيام شهر رمضان أي مدة هلاله، وبه سمي
الشهر، كما جاء في الحديث: (فإن غمي عليكم الشهر) أي الهلال، وسيأتي، وقال الشاعر:
أخوان من نجد على ثقة ... والشهر مثل قلامة الظفر
حتى تكامل في استدارته ... في أربع زادت على عشر
وفرض علينا عند غمة الهلال إكمال عدة شعبان ثلاثين يوما، وإكمال عدة رمضان ثلاثين
يوما، حتى ندخل في العبادة بيقين ونخرج عنها بيقين، فقال في كتابه"
وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ
«1»" [النحل: 44]. وروى الأئمة الإثبات عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قال: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا العدد) في
رواية (فإن غمي عليكم الشهر فعدوا ثلاثين). وقد ذهب مطرف بن عبد الله بن الشخير
وهو من كبار التابعين وابن قتيبة من اللغويين فقالا: يعول على الحساب عند الغيم
بتقدير المنازل واعتبار حسابها في صوم رمضان، حتى إنه لو كان صحوا لروى، لقوله
عليه السلام: (فإن أغمي عليكم فاقدروا له) أي استدلوا عليه بمنازله، وقدروا إتمام
الشهر بحسابه. وقال الجمهور: معنى (فاقدروا له) فأكملوا المقدار، يفسره حديث أبي
هريرة (فأكملوا العدة). وذكر الداودي أنه قيل في معنى قوله" فاقدروا
له": أي قدروا المنازل. وهذا لا نعلم أحدا قال به إلا بعض أصحاب الشافعي أنه
يعتبر في ذلك بقول المنجمين، والإجماع حجة عليهم. وقد روى ابن نافع عن مالك في
الامام لا يصوم لرؤية الهلال ولا يفطر لرؤيته، وإنما يصوم ويفطر على الحساب: إنه
لا يقتدى به
__________ (1). راجع ج 10 ص 108
ولا
يتبع. قال ابن العربي: وقد زل بعض أصحابنا فحكى عن الشافعي أنه قال: يعول على
الحساب، وهي عثرة" لا لعاد لها «1»". الرابعة- واختلف مالك والشافعي هل
يثبت هلال رمضان بشهادة واحد أو شاهدين، فقال مالك: لا يقبل فيه شهادة الواحد
لأنها شهادة على هلال فلا يقبل فيها أقل من اثنين، أصله الشهادة على هلال شوال وذي
الحجة. وقال الشافعي وأبو حنيفة: يقبل الواحد، لما رواه أبو داود عن ابن عمر قال:
تراءى الناس الهلال فأخبرت به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أني
رأيته، فصام وأمر الناس بصيامه. وأخرجه الدارقطني وقال: تفرد به مروان بن محمد عن
ابن وهب وهو ثقة. روى الدارقطني" أن رجلا شهد عند علي بن أبي طالب على رؤية
هلال رمضان فصام، أحسبه قال: وأمر الناس أن يصوموا، وقال: أصوم يوما من شعبان أحب
إلى من أن أفطر يوما من رمضان. قال الشافعي: فإن لم تر العامة هلال شهر رمضان ورآه
رجل عدل رأيت أن أقبله للأثر والاحتياط. وقال الشافعي بعد: لا يجوز على رمضان إلا
شاهدان. قال الشافعي وقال بعض أصحابنا: لا أقبل عليه إلا شاهدين، وهو القياس على
كل مغيب". الخامسة- واختلفوا فيمن رأى هلال رمضان وحده أو هلال شوال، فروى
الربيع عن الشافعي: من رأى هلال رمضان وحده فليصمه، ومن رأى هلال شوال وحده فليفطر،
وليخف ذلك. وروى ابن وهب عن مالك في الذي يرى هلال رمضان وحده أنه يصوم، لأنه لا
ينبغي له أن يفطر وهو يعلم أن ذلك اليوم من شهر رمضان. ومن رأى هلال شوال وحده فلا
يفطر، لان الناس يتهمون على أن يفطر منهم من ليس مأمونا، ثم يقول أولئك إذا ظهر
عليهم: قد رأينا الهلال. قال ابن المنذر: وبهذا قال الليث بن سعد وأحمد بن حنبل.
وقال عطاء وإسحاق: لا يصوم ولا يفطر. قال ابن المنذر: يصوم ويفطر.
__________
(1). كذا في أ، ب، ج، ز، و" لعا" بالتنوين: كلمة يدعى بها للعاثر،
معناها الارتفاع والإقالة من العثرة، فإذا أريد الدعاء عليه قيل: لا لعا. وفى
ح:" لا يقال بها". وفى أحكام القرآن لابن العربي:" لا
يقالها".
السادسة- واختلفوا إذا أخبر مخبر عن رؤية بلد، فلا يخلو أن يقرب أو يبعد، فإن قرب فالحكم واحد، وإن بعد فلأهل كل بلد رؤيتهم، روي هذا عن عكرمة والقاسم وسالم، وروي عن ابن عباس، وبه قال إسحاق، وإليه أشار البخاري حيث بوب:" لأهل كل بلد رؤيتهم". وقال آخرون. إذا ثبت عند الناس أن أهل بلد قد رأوه فعليهم قضاء ما أفطروا، هكذا قال الليث بن سعد والشافعي. قال ابن المنذر: ولا أعلمه إلا قول المزني والكوفي. قلت: ذكر الكيا الطبري في كتاب أحكام القرآن له: وأجمع أصحاب أبي حنيفة على أنه إذا صام أهل بلد ثلاثين يوما للرؤية، وأهل بلد تسعة وعشرين يوما أن على الذين صاموا تسعة وعشرين يوما قضاء يوم. وأصحاب الشافعي لا يرون ذلك، إذ كانت المطالع في البلدان يجوز أن تختلف. وحجة أصحاب أبي حنيفة قوله تعالى:" وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ" وثبت برؤية أهل بلد أن العدة ثلاثون فوجب على هؤلاء إكمالها. ومخالفهم يحتج بقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته) الحديث، وذلك يوجب اعتبار عادة كل قوم في بلدهم. وحكى أبو عمر الإجماع على أنه لا تراعى الرؤية فيما بعد من البلدان كالاندلس من خراسان، قال: ولكل بلد رؤيتهم، إلا ما كان كالمصر الكبير وما تقاربت أقطاره من بلدان المسلمين. روى مسلم عن كريب أن أم الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية بالشام قال: فقدمت الشام فقضيت حاجتها واستهل على رمضان وأنا بالشام فرأيت الهلال ليلة الجمعة ثم قدمت المدينة في آخر الشهر فسألني عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، ثم ذكر الهلال فقال: متى رأيتم الهلال؟ فقلت: رأيناه ليلة الجمعة. فقال: أنت رأيته؟ فقلت نعم، ورآه الناس وصاموا وصام معاوية. فقال: لكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه. فقلت: أولا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقال لا، هكذا أمرنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال علماؤنا: قول ابن عباس (هكذا أمرنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) كلمة تصريح برفع ذلك إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبأمره. فهو حجة على أن البلاد إذا تباعدت كتباعد الشام من الحجاز فالواجب على أهل كل بلد أن تعمل على رؤيته دون رؤية غيره، وإن ثبت ذلك
عند
الامام الأعظم، ما لم يحمل الناس على ذلك، فإن حمل فلا تجوز مخالفته. وقال الكيا
الطبري: قوله (هكذا أمرنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يحتمل أن
يكون تأول فيه قول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (صوموا لرؤيته
وأفطروا لرؤيته). وقال ابن العربي:" واختلف في تأويل [قول «1» [ابن عباس [هذا
«2» [فقيل: رده لأنه خبر واحد، وقيل: رده لان الأقطار مختلفة في المطالع، وهو
الصحيح، لان كريبا لم يشهد وإنما أخبر عن حكم ثبت بالشهادة، ولا خلاف في الحكم
الثابت أنه يجزي فيه خبر الواحد. ونظيره ما لو ثبت أنه أهل ليلة الجمعة بأغمات «3»
وأهل بإشبيلية «4» ليلة السبت فيكون لأهل كل بلد رؤيتهم، لان سهيلا «5» يكشف من أغمات
ولا يكشف من أشبيلية، وهذا يدل على اختلاف المطالع. قلت: وأما مذهب مالك رحمه الله
في هذه المسألة فروى ابن وهب وابن القاسم عنه في المجموعة أن أهل البصرة إذا رأوا
هلال رمضان ثم بلغ ذلك إلى أهل الكوفة والمدينة واليمن أنه يلزمهم الصيام أو
القضاء إن فات الأداء. وروي القاضي أبو إسحاق عن ابن الماجشون أنه إن كان ثبت
بالبصرة بأمر شائع ذائع يستغنى عن الشهادة والتعديل له فإنه يلزم غيرهم من أهل
البلاد القضاء، وإن كان إنما ثبت عند حاكمهم بشهادة شاهدين لم يلزم ذلك من البلاد
إلا من كان يلزمه حكم ذلك الحاكم ممن هو في ولايته، أو يكون ثبت ذلك عند أمير
المؤمنين فيلزم القضاء جماعة المسلمين. قال: وهذا قول مالك. السابعة- قرأ جمهور
الناس" شَهْرُ" بالرفع على أنه خبر ابتداء مضمر، أي ذلكم شهر، أو
المفترض عليكم صيامه شهر رمضان. أو الصوم أو الأيام. وقيل: ارتفع على أنه مفعول لم
يسم فاعله ب" كُتِبَ" أي كتب عليكم شهر رمضان. و" رَمَضانَ"
لا ينصرف لان النون فيه زائدة. ويجوز أن يكون مرفوعا على الابتداء، وخبره"
الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ". وقيل: خبره" فَمَنْ شَهِدَ"،
و" الَّذِي أُنْزِلَ" نعت له. وقيل: ارتفع على البدل من الصيام. فمن قال:
إن الصيام
في قوله" كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ" هي ثلاثة أيام وعاشوراء قال هنا
__________
(1). الزيادة عن" أحكام القرآن" لابن العربي.
(2). الزيادة عن" أحكام القرآن" لابن العربي.
(3). أغمات: ناحية في بلاد البربر من أرض المغرب قرب مراكش.
(4). أشبيلية: مدينة كبيرة عظيمة بالأندلس. [.....]
(5). سهيل: كوكب.
بالابتداء.
ومن قال: إن الصيام هناك رمضان قال هنا بالابتداء أو بالبدل من الصيام، أي كتب
عليكم شهر رمضان. وقرا مجاهد وشهر بن حوشب" شهر" بالنصب. قال الكسائي:
المعنى كتب عليكم الصيام، وأن تصوموا شهر رمضان. وقال الفراء: أي كتب عليكم الصيام
أي أن تصوموا شهر رمضان. قال النحاس:" لا يجوز أن ينتصب" شَهْرُ
رَمَضانَ" ب تَصُومُوا، لأنه يدخل في الصلة ثم يفرق بين الصلة والموصول،
وكذلك إن نصبته بالصيام، ولكن يجوز أن تنصبه على الإغراء، أي الزموا شهر رمضان، وصوموا
شهر رمضان، وهذا بعيد أيضا لأنه لم يتقدم ذكر الشهر فيغرى به". قلت:
قوله" كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ" يدل على الشهر فجاز الإغراء، وهو
اختيار أبي عبيد. وقال الأخفش: انتصب على الظرف. وحكي عن الحسن وأبي عمرو إدغام
الراء في الراء، وهذا لا يجوز لئلا يجتمع ساكنان، ويجوز أن تقلب حركة الراء على
الهاء فتضم الهاء ثم تدغم، وهو قول الكوفيين. الثامنة- قوله تعالى:" الَّذِي
أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ" نص في أن القرآن نزل في شهر رمضان، وهو يبين قوله
عز وجل:" حم. وَالْكِتابِ الْمُبِينِ. إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ"
«1» [الدخان: 3- 1] يعني ليلة القدر، ولقوله:" إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي
لَيْلَةِ الْقَدْرِ «2»" [القدر: 1]. وفي هذا دليل على أن ليلة القدر إنما
تكون في رمضان لا في غيره. ولا خلاف أن القرآن أنزل من اللوح المحفوظ ليلة القدر-
على ما بيناه «3»- جملة واحدة، فوضع في بيت العزة في سماء الدنيا، ثم كان جبريل
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينزل به نجما نجما في الأوامر والنواهي
والأسباب، وذلك في عشرين سنة. وقال ابن عباس: أنزل القرآن من اللوح المحفوظ جملة
واحدة إلى الكتبة في سماء الدنيا، ثم نزل به جبريل عليه السلام نجوما- يعني الآية
والآيتين- في أوقات مختلفة في إحدى وعشرين سنة. وقال مقاتل في قوله تعالى:"
شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ" قال أنزل من اللوح
المحفوظ كل عام في ليلة القدر إلى سماء الدنيا، ثم نزل إلى السفرة «4» من اللوح
المحفوظ في عشرين شهرا، ونزل به جبريل في عشرين سنة.
__________
(1). راجع ج 16 ص 125.
(2). راجع ج 20 ص 129.
(3). يراجع ج 1 ص 60.
(4). السفرة: الملائكة.
قلت:
وقول مقاتل هذا خلاف ما نقل من الإجماع" أن القرآن أنزل جملة واحدة"
والله أعلم. وروى واثلة بن الأسقع عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه
قال: (أنزلت صحف إبراهيم أول ليلة من شهر رمضان والتوراة لست مضين منه والإنجيل
لثلاث عشرة والقرآن لأربع وعشرين). قلت: وفي هذا الحديث دلالة على ما يقول الحسن
أن ليلة القدر تكون ليلة أربع وعشرين. وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان «1» هذا.
التاسعة- قوله تعالى:" الْقُرْآنُ"" القرآن": اسم لكلام الله
تعالى، وهو بمعنى المقروء، كالمشروب يسمى شرابا، والمكتوب يسمى كتابا، وعلى هذا
قيل: هو مصدر قرأ يقرأ قراءة وقرآنا بمعنى. قال الشاعر:
ضحوا بأشمط عنوان السجود به ... يقطع الليل تسبيحا وقرآنا
أي قراءة. وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر أن في البحر شياطين مسجونة أوثقها
سليمان عليه السلام يوشك أن تخرج فتقرأ على الناس قرآنا، أي قراءة. وفي
التنزيل:" وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً
«2»" [الاسراء: 78] أي قراءة الفجر. ويسمى المقروء قرآنا على عادة العرب في
تسميتها المفعول باسم المصدر، كتسميتهم للمعلوم علما وللمضروب ضربا وللمشروب شربا،
كما ذكرنا، ثم اشتهر الاستعمال في هذا واقترن به العرف الشرعي، فصار القرآن اسما
لكلام الله، حتى إذا قيل: القرآن غير مخلوق، يراد به المقروء لا القراءة لذلك. وقد
يسمى المصحف الذي يكتب فيه كلام الله قرآنا توسعا، وقد قال صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو) أراد به المصحف. وهو مشتق
من قرأت الشيء جمعته. وقيل: هو اسم علم لكتاب الله، غير مشتق كالتوراة والإنجيل،
وهذا يحكى عن الشافعي. والصحيح الاشتقاق في الجميع، وسيأتي. العاشرة- قوله
تعالى:" هُدىً لِلنَّاسِ"" هُدىً" في موضع نصب على الحال من
القرآن، أي هاديا لهم." وَبَيِّناتٍ" عطف عليه. و" الْهُدى "
الإرشاد والبيان، كما تقدم «3»،
__________
(1). راجع ج 20 ص 134.
(2). راجع ج 10 ص 305.
(3). يراجع ج 1 ص 160 طبعه ثانية.
أي
بيانا لهم وإرشادا. والمراد القرآن بجملته من محكم ومتشابه وناسخ ومنسوخ، ثم شرف
بالذكر والتخصيص البينات منه، يعني الحلال والحرام والمواعظ والأحكام."
وَبَيِّناتٍ" جمع بينة، من بان الشيء يبين إذا وضح."
وَالْفُرْقانِ" ما فرق بين الحق والباطل، أي فصل، وقد «1» تقدم. الحادية
عشرة- قوله تعالى:" فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ"
قراءة العامة بجزم اللام. وقرا الحسن والأعرج بكسر اللام، وهي لام الامر وحقها
الكسر إذا أفردت، فإذا وصلت بشيء ففيها وجهان: الجزم والكسر. وإنما توصل بثلاثة أحرف:
بالفاء كقوله" فَلْيَصُمْهُ""لْيَعْبُدُوا
" [قريش: 3]. والواو كقوله:" وَلْيُوفُوا" [الحج: 29]. وثم
كقوله:" ثُمَّ لْيَقْضُوا" [الحج: 29] و" شَهِدَ" بمعنى حضر،
وفية إضمار، أي من شهد منكم المصر في الشهر عاقلا بالغا صحيحا مقيما فليصمه، وهو
يقال عام فيخصص بقوله:" فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى
سَفَرٍ" الآية. وليس الشهر بمفعول وإنما هو ظرف زمان. وقد اختلف العلماء في
تأويل هذا، فقال علي بن أبي طالب وابن عباس وسويد بن غفلة وعائشة- أربعة من
الصحابة- وأبو مجلز لاحق بن حميد وعبيدة السلماني: من شهد أي من حضر دخول الشهر
وكان مقيما في أوله في بلده واهلة فليكمل صيامه، سافر بعد ذلك أو أقام، وإنما يفطر
في السفر من دخل عليه رمضان وهو في سفر. والمعنى عندهم: من أدركه رمضان مسافرا
أفطر وعليه عدة من أيام أخر، ومن أدركه حاضرا فليصمه. وقال جمهور الامة: من شهد
أول الشهر وآخره فليصم ما دام مقيما، فإن سافر أفطر، وهذا هو الصحيح وعليه تدل
الاخبار الثابتة. وقد ترجم البخاري رحمه الله ردا على القول الأول" باب إذا
صام أياما من رمضان ثم سافر" حدثنا عبد الله بن يوسف قال أنبأنا مالك عن ابن
شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج إلى مكة في رمضان فصام حتى بلغ الكديد «2» أفطر فأفطر
الناس. قال أبو عبد الله: والكديد ما بين عسفان وقديد «3».
__________
(1). يراجع ج 1 ص 387 طبعه ثانية.
(2). الكديد (بفتح الكاف وكسر الدال): موضع بينه وبين المدينة سبع مراحل أو نحوها،
وبينه وبين مكة نحو مرحلتين.
(3). عسفان: قرية بها مزارع ونخيل على مرحلتين من مكة، وقديد (بضم القاف): اسم
موضع قرب مكة.
قلت: قد يحتمل أن يحمل قول على رضي الله عنه ومن وافقه على السفر المندوب كزيارة الاخوان من الفضلاء والصالحين، أو المباح في طلب الرزق الزائد على الكفاية. وأما السفر الواجب في طلب القوت الضروري، أو فتح بلد إذا تحقق ذلك، أو دفع عدو، فالمرء فيه مخير ولا يجب عليه الإمساك، بل الفطر فيه أفضل للتقوى، وإن كان شهد الشهر في بلده وصام بعضه فيه، لحديث ابن عباس وغيره، ولا يكون في هذا خلاف إن شاء الله، والله أعلم. وقال أبو حنيفة وأصحابه: من شهد الشهر بشروط التكليف غير مجنون ولا مغمى عليه فليصمه، ومن دخل عليه رمضان وهو مجنون وتمادى به طول الشهر فلا قضاء عليه، لأنه لم يشهد الشهر بصفة يجب بها الصيام. ومن جن أول الشهر وآخره فإنه يقضي أيام جنونه. ونصب الشهر على هذا التأويل هو على المفعول الصريح ب" شَهِدَ". الثانية عشرة- قد تقرر أن فرض الصوم مستحق بالإسلام والبلوغ والعلم بالشهر، فإذا أسلم الكافر أو بلغ الصبي قبل الفجر لزمهما الصوم صبيحة اليوم، وإن كان بعد الفجر استحب لهما الإمساك، وليس عليهما قضاء الماضي من الشهر ولا اليوم الذي بلغ فيه أو أسلم. وقد اختلف العلماء في الكافر يسلم في آخر يوم من رمضان، هل يجب عليه قضاء رمضان كله أو لا؟ وهل يجب عليه قضاء اليوم الذي أسلم فيه؟ فقال الامام مالك والجمهور: ليس عليه قضاء ما مضى، لأنه إنما شهد الشهر من حين إسلامه. قال مالك: وأحب إلي أن يقضي اليوم الذي أسلم فيه. وقال عطاء والحسن: يصوم ما بقي ويقضي ما مضى. وقال عبد الملك بن الماجشون: يكف عن الأكل في ذلك اليوم ويقضيه. وقال أحمد وإسحاق مثله. وقال ابن المنذر: ليس عليه أن يقضي ما مضى من الشهر ولا ذلك اليوم. وقال الباجي: من قال من أصحابنا أن الكفار مخاطبون بشرائع الإسلام- وهو مقتضى قول مالك وأكثر أصحابه- أوجب عليه الإمساك في بقية يومه. ورواه في المدونة ابن نافع عن مالك، وقاله الشيخ أبو القاسم. ومن قال من أصحابنا ليسوا مخاطبين قال: لا يلزمه الإمساك في بقية يومه، وهو مقتضى قول أشهب وعبد الملك بن الماجشون، وقاله ابن القاسم.
قلت:
وهو الصحيح لقوله تعالى:" يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا" فخاطب
المؤمنين دون غيرهم، وهذا واضح، فلا يجب عليه الإمساك في بقية اليوم ولا قضاء ما
مضى. وتقدم الكلام في معنى قوله:" وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ
فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ «1»" والحمد لله. الثالثة عشرة- قوله
تعالى:" يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ" قراءة جماعة"
الْيُسْرَ" بضم السين لغتان، وكذلك" الْعُسْرَ". قال مجاهد
والضحاك:" الْيُسْرَ" الفطر في السفر، و" الْعُسْرَ" الصوم في
السفر. والوجه عموم اللفظ في جميع أمور الدين، كما قال تعالى:" وَما جَعَلَ
عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ" «2» [الحج: 78]، وروي عن النبي صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (دين الله يسر)، وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(يسروا ولا تعسروا). واليسر من السهولة، ومنه اليسار للغنى. وسميت اليد اليسرى
تفاؤلا، أو لأنه يسهل له الامر بمعاونتها لليمنى، قولان. وقوله:" وَلا
يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ" هو بمعنى قوله" يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ
الْيُسْرَ" فكرر تأكيدا. الرابعة عشرة- دلت الآية على أن الله سبحانه مريد
بإرادة قديمة أزلية زائدة على الذات. هذا مذهب أهل السنة، كما أنه عالم بعلم، قادر
بقدرة، حي بحياة، سميع بسمع، بصير ببصر، متكلم بكلام. وهذه كلها معان وجودية أزلية
زائدة على الذات. وذهب الفلاسفة والشيعة إلى نفيها، تعالى الله عن قول الزائغين
وإبطال المبطلين. والذي يقطع دابر أهل التعطيل أن يقال: لو لم يصدق كونه ذا إرادة
لصدق أنه ليس بذي إرادة، ولو صح ذلك لكان كل ما ليس بذي إرادة ناقصا بالنسبة إلى
من له إرادة، فإن من كانت له الصفات الإرادية فله أن يخصص الشيء وله ألا يخصصه،
فالعقل السليم يقضي بأن ذنك كمال له وليس بنقصان، حتى أنه لو قدر بالوهم سلب ذلك
الامر عنه لقد كان حاله أولا أكمل بالنسبة إلى حاله ثانيا، فلم يبق إلا أن يكون ما
لم يتصف أنقص مما هو متصف به، ولا يخفي ما فيه من المحال، فإنه كيف يتصور أن يكون
المخلوق أكمل من الخالق، والخالق أنقص منه، والبديهة تقضي برده
وإبطاله. وقد وصف نفسه جل جلاله وتقدست أسماؤه بأنه مريد فقال تعالى:
__________
(1). تراجع المسألة الاولى وما بعدها ص 276 من هذا الجزء.
(2). راجع ج 12 ص 100.
"
فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ «1»" [هود: 107] وقال سبحانه:" يُرِيدُ اللَّهُ
بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ" [البقرة: 185] وقال:"
يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ «2»" [النساء: 28]، إذا أراد أمرا
فإنما يقول له كن فيكون. ثم إن هذا العالم على غاية من الحكمة والإتقان والانتظام
والأحكام، وهو مع ذلك جائز وجوده وجائز عدمه، فالذي خصصه بالوجود يجب أن يكون
مريدا له قادرا عليه عالما به، فإن لم يكن عالما قادرا لا يصح منه صدور شي، ومن لم
يكن عالما وإن كان قادرا لم يكن ما صدر منه على نظام الحكمة والإتقان، ومن لم يكن
مريدا لم يكن تخصيص بعض الجائزات بأحوال وأوقات دون البعض بأولى من العكس، إذ
نسبتها إليه نسبة واحدة. قالوا: وإذ ثبت كونه قادرا مريدا وجب أن يكون حيا، إذ
الحياة شرط هذه الصفات، ويلزم من كونه حيا أن يكون سميعا بصيرا متكلما، فإن لم
تثبت له هذه الصفات فإنه لا محالة متصف بأضدادها كالعمى والطرش والخرس على ما عرف
في الشاهد، والبارئ سبحانه وتعالى يتقدس عن أن يتصف بما يوجب في ذاته نقصا.
الخامسة عشرة- قوله تعالى:" وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ" فيه تأويلان:
أحدهما- إكمال عدة الأداء لمن أفطر في سفره أو مرضه. الثاني- عدة الهلال سواء كانت
تسعا وعشرين أو ثلاثين. قال جابر بن عبد الله قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: (إن الشهر يكون تسعا وعشرين). وفي هذا رد لتأويل من تأول قوله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (شهرا عيد لا ينقصان رمضان وذو الحجة) أنهما لا
ينقصان عن ثلاثين يوما، أخرجه أبو داود. وتأوله جمهور العلماء على معنى أنهما لا
ينقصان في الأجر وتكفير الخطايا، سواء كانا من تسع وعشرين أو ثلاثين. السادسة
عشرة- ولا اعتبار برؤية هلال شوال يوم الثلاثين من رمضان نهارا بل هو لليلة التي
تأتي، هذا هو الصحيح. وقد اختلف الرواة عن عمر في هذه المسألة فروى الدارقطني عن
شقيق قال: جاءنا كتاب عمر ونحن بخانقين قال في كتابه: (إن الأهلة بعضها أكبر من
بعض، فإذا رأيتم الهلال نهارا فلا تفطروا حتى يشهد شاهدان أنهما رأياه بالأمس.
__________
(1). راجع ج 19 ص 295. [.....]
(2). راجع ج 5 ص 148.
وذكره
أبو عمر من حديث عبد الرزاق عن معمر عن الأعمش عن أبي وائل «1» قال: كتب إلينا عمر
...، فذكره. قال أبو عمر: وروي عن علي بن أبي طالب مثل ما ذكره عبد الرزاق أيضا،
وهو قول ابن مسعود وابن عمر وأنس بن مالك، وبه قال مالك والشافعي وأبو حنيفة ومحمد
ابن الحسن والليث والأوزاعي، وبه قال أحمد وإسحاق. وقال سفيان الثوري وأبو يوسف.
إن رؤي بعد الزوال فهو لليلة التي تأتي، وإن رؤي قبل الزوال فهو لليلة الماضية.
وروي مثل ذلك عن عمر، ذكره عبد الرزاق عن الثوري عن مغيرة عن شباك عن إبراهيم قال:
كتب عمر إلى عتبة بن فرقد" إذا رأيتم الهلال نهارا قبل أن تزول الشمس لتمام
ثلاثين فأفطروا، وإذا رأيتموه بعد ما تزول الشمس فلا تفطروا حتى تمسوا"، وروي
عن على مثله. ولا يصح في هذه المسألة شي من جهة الاسناد عن على. وروي عن سليمان بن
ربيعة مثل قول الثوري، وإليه ذهب عبد الملك بن حبيب، وبه كان يفتي بقرطبة. واختلف
عن عمر بن عبد العزيز في هذه المسألة، قال أبو عمر: والحديث عن عمر بمعنى ما ذهب
إليه مالك والشافعي وأبو حنيفة متصل، والحديث الذي روي عنه بمذهب الثوري منقطع،
والمصير إلى المتصل أولى. وقد احتج من ذهب مذهب الثوري بأن قال: حديث الأعمش مجمل
لم يخص فيه قبل الزوال ولا بعده، وحديث إبراهيم مفسر، فهو أولى أن يقال به. قلت: قد
روي مرفوعا معنى ما روي عن عمر متصلا موقوفا روته عائشة زوج النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالت: أصبح رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صائما
صبح ثلاثين يوما، فرأى هلال شوال نهارا فلم يفطر حتى أمسى. أخرجه الدارقطني من
حديث الواقدي وقال: قال الواقدي حدثنا معاذ بن محمد الأنصاري قال: سألت الزهري عن
هلال شوال إذا رؤي باكرا، قال سمعت سعيد بن المسيب يقول: إن رؤي هلال شوال بعد أن
طلع الفجر إلى العصر أو إلى أن تغرب الشمس فهو من الليلة التي تجئ، قال أبو عبد
الله: وهذا مجمع عليه.
__________
(1). أبو وائل: كنية شقيق السابق ذكره.
السابعة
عشرة- روى الدارقطني عن ربعي بن حراش عن رجل من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: اختلف الناس في آخر يوم من رمضان فقدم أعرابيان فشهدا عند
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأهلا «1» الهلال أمس عشية، فأمر رسول
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [الناس «2»] أن يفطروا وأن يغدوا إلى
مصلاهم. قال الدارقطني: هذا إسناد حسن ثابت. قال أبو عمر: لا خلاف عن مالك وأصحابه
أنه لا تصلى صلاة العيد في غير يوم العيد ولا في يوم العيد بعد الزوال، وحكي عن
أبي حنيفة. واختلف قول الشافعي في هذه المسألة، فمرة قال بقول مالك، واختاره
المزني وقال: إذا لم يجز أن تصلى في يوم العيد بعد الزوال فاليوم الثاني أبعد من
وقتها وأحرى ألا تصلى فيه. وعن الشافعي رواية أخرى أنها تصلى في اليوم الثاني ضحى.
وقال البويطي: لا تصلى إلا أن يثبت في ذلك حديث. قال أبو عمر: لو قضيت صلاة العيد
بعد خروج وقتها لاشبهت الفرائض، وقد أجمعوا في سائر السنن أنها لا تقضى، فهذه
مثلها. وقال الثوري والأوزاعي وأحمد بن حنبل: يخرجون من الغد، وقال أبو يوسف في
الاملاء. وقال الحسن بن صالح بن حي: لا يخرجون في الفطر ويخرجون في الأضحى. قال
أبو يوسف: وأما في الأضحى فيصليها بهم في اليوم الثالث. قال أبو عمر: لان الأضحى
أيام عيد وهى صلاة عيد، وليس الفطر يوم عيد إلا يوم واحد، فإذا لم تصل فيه لم تقض
في غيره، لأنها ليست بفريضة فتقضى. وقال الليث بن سعد: يخرجون في الفطر والأضحى من
الغد. قلت: والقول بالخروج إن شاء الله أصح، للسنة الثابتة في ذلك، ولا يمتنع أن
يستثني الشارع من السنن ما شاء فيأمر بقضائه بعد خروج وقته. وقد روى الترمذي عن
أبي هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (من لم يصل ركعتي
الفجر فليصلهما بعد ما تطلع الشمس). صححه أبو محمد. قال الترمذي: والعمل على هذا
عند بعض أهل العلم، وبه يقول سفيان الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وابن المبارك.
وروي عن عمر أنه فعله.
__________
(1). أهل الرجل الهلال: رآه.
(2). زيادة عن سنن الدارقطني.
قلت:
وقد قال علماؤنا: من ضاق عليه الوقت وصلي الصبح وترك ركعتي الفجر فإنه يصليهما بعد
طلوع الشمس إن شاء. وقيل: لا يصليهما حينئذ. ثم إذا قلنا: يصليهما فهل ما يفعله
قضاء، أو ركعتان ينوب له ثوابهما عن ثواب ركعتي الفجر. قال الشيخ أبو بكر: وهذا
الجاري على أصل المذهب، وذكر القضاء تجوز. قلت: ولا يبعد أن يكون حكم صلاة الفطر
في اليوم الثاني على هذا الأصل، لا سيما مع كونها مرة واحدة في السنة مع ما ثبت من
السنة. روى النسائي قال: أخبرني عمرو بن علي قال حدثنا يحيى قال حدثنا شعبة قال
حدثني أبو بشر عن أبي عمير بن أنس عن عمومة له: أن قوما رأوا الهلال فأتوا النبي
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأمرهم أن يفطروا بعد ما ارتفع النهار وأن
يخرجوا إلى العيد من الغد. في رواية: ويخرجوا لمصلاهم من الغد. الثامنة عشرة- قرأ
أبو بكر عن عاصم وأبو عمروفي بعض ما روي عنه- والحسن وقتادة والأعرج"
ولتكملوا العدة" بالتشديد. والباقون بالتخفيف. واختار الكسائي التخفيف، كقوله
عز وجل:" الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ «1»" [المائدة: 3]. قال
النحاس: وهما لغتان بمعنى واحد، كما قال عز وجل:" فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ
أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً «2»" [الطارق: 17]. ولا يجوز" ولتكملوا"
بإسكان اللام، والفرق بين هذا وبين ما تقدم أن التقدير: ويريد لان تكملوا، ولا
يجوز حذف أن والكسرة، هذا قول البصريين، ونحوه قول كثير أبو صخر:
أريد لأنسي ذكرها
أي لأن أنسي، وهذه اللام هي الداخلة على المفعول، كالتي في قولك: ضربت لزيد،
المعنى ويريد إكمال العدة. وقيل: هي متعلقة بفعل مضمر بعد، تقديره: ولان تكملوا
العدة رخص لكم هذه الرخصة. وهذا قول الكوفيين وحكاه النحاس عن الفراء. قال النحاس:
وهذا قول حسن، ومثله:" وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ «3»" [الانعام: 75] أي وليكون من
الموقنين فعلنا ذلك. وقيل: الواو مقحمة. وقيل: يحتمل أن تكون هذه اللام لام الامر
والواو عاطفة جملة كلام على جملة كلام. وقال أبو إسحاق إبراهيم
__________
(1). راجع ج 6 ص 61.
(2). راجع ج 20 ص 12.
(3). راجع ج 7 ص 2- 23. (20)
ابن
السري: هو محمول على المعنى، والتقدير: فعل الله ذلك ليسهل عليكم ولتكملوا العدة،
قال: ومثله ما أنشده سيبويه:
بادت وغيّر آيهن مع البلى ... إلا رواكد جمرهن هباء
ومشجج أما سواء قذاله ... فبدا وغيب «1» ساره «2» المعزاء
شاده يشيده شيدا جصصه، لان معناه بادت إلا رواكد بها رواكد، فكأنه قال: وبها مشجج
أو ثم مشجج. التاسعة عشرة- قوله تعالى:" وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ" عطف
عليه، ومعناه الحض على التكبير في آخر رمضان في قول جمهور أهل التأويل. واختلف
الناس في حده، فقال الشافعي: روي عن سعيد بن المسيب وعروة وأبي سلمة أنهم كانوا يكبرون
ليلة الفطر ويحمدون، قال: وتشبه ليلة النحر بها. وقال ابن عباس: حق على المسلمين
إذا رأوا هلال شوال أن يكبروا وروي عنه: يكبر المرء من رؤية الهلال إلى انقضاء
الخطبة، ويمسك وقت خروج الامام ويكبر بتكبيره. وقال قوم: يكبر من رؤية الهلال إلى
خروج الامام للصلاة. وقال سفيان: هو التكبير يوم الفطر. زيد بن أسلم: يكبرون إذا
خرجوا إلى المصلى فإذا انقضت الصلاة انقضى العيد. وهذا مذهب مالك، قال مالك: هو من
حين يخرج من داره إلى أن يخرج الامام. وروى ابن القاسم وعلي بن زياد: أنه إن خرج
قبل طلوع الشمس فلا يكبر في طريقه
__________
(1). في نسخ الأصل وكتاب سيبويه وإعراب القرآن للنحاس:" غير" بالراء.
والتصويب عن اللسان مادة" شجج".
(2). كذا في كتاب سيبويه وإعراب القرآن للنحاس واللسان. وساره يريد"
سائره" فخفف بحذف الهمزة، ومثله هار وأصله هائر، وشاك وأصله شائك. وفى
الأصول" شاده" بالشين المعجمة والدال وهو تصحيف. وبهذا يعلم أن تفسير
المؤلف وقع لكلمة مصحفة. والآي (جمع آية) وهى علامات الديار. والرواكد: الاثاق.
والهباء هنا: الغبار. وأراد بالمشجج وتدا من أوتاد الخيام، وتشجيجه ضرب رأسه
ليثبت. وسواء قذاله: وسطه. ويروى: سواد قذاله، وسواد كل شي شخصه. وأراد بالقذال
أعلاه، وهو أيضا جماع مؤخر الرأس من الإنسان. والمعزاء: أرض صلبة ذات حصى. (راجع
شرح الشواهد للشنتمري).
ولا
جلوسه حتى تطلع الشمس، وإن غدا بعد الطلوع فليكبر في طريقه إلى المصلى وإذا جلس
حتى يخرج الامام. والفطر والأضحى في ذلك سواء عند مالك، وبه قال الشافعي. وقال أبو
حنيفة: يكبر في الأضحى ولا يكبر في الفطر، والليل عليه قوله تعالى:"
وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ" ولان هذا يوم عيد لا يتكرر في العام فسن الكبير في
الخروج إليه كالاضحى. وروى الدارقطني عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: كانوا في
التكبير في الفطر أشد منهم في الأضحى. وروي عن ابن عمر: (أن رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يكبر يوم الفطر من حين يخرج من بيته حتى يأتي
المصلى) وروي عن ابن عمر: أنه كان إذا غدا يوم الأضحى ويوم الفطر يجهر بالتكبير
حتى يأتي المصلى ثم يكبر حتى يأتي الامام. وأكثر أهل العلم على التكبير في عيد
الفطر من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وغيرهم فيما ذكر ابن
المنذر قال: وحكى ذلك الأوزاعي عن إلياس. وكان الشافعي يقول إذا رأى هلال شوال:
أحببت أن يكبر الناس جماعة وفرادى، ولا يزالون يكبرون ويظهرون التكبير حتى يغدوا
إلى المصلى وحين يخرج الامام إلى الصلاة، وكذلك أحب ليلة الأضحى لمن لم يحج.
وسيأتي حكم صلاة العيدين والتكبير فيهما في" سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ
الْأَعْلَى" [الأعلى [و" الكوثر «1»" [الكوثر [إن شاء الله تعالى.
الموفية عشرين- ولفظ التكبير عند مالك وجماعة من العلماء: الله أكبر الله أكبر
الله أكبر، ثلاثا، وروي عن جابر بن عبد الله. ومن العلماء من يكبر ويهلل ويسبح
أثناء التكبير. ومنهم من يقول: الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله
بكرة وأصيلا. وكان ابن المبارك يقول إذا خرج من يوم الفطر: الله أكبر الله أكبر،
لا إله إلا الله، والله أكبر ولله الحمد، الله أكبر على ما هدانا. قال ابن المنذر:
وكان مالك لا يحد فيه حدا. وقال أحمد: هو واسع. قال ابن العربي:" واختار
علماؤنا التكبير المطلق، وهو ظاهر القرآن وإليه أميل". الحادية والعشرون-
قوله تعالى:" عَلى ما هَداكُمْ" قيل: لما ضل فيه النصارى من تبديل
صيامهم «2». وقيل: بدلا عما كانت الجاهلية تفعله من التفاخر بالآباء والتظاهر
__________
(1). راجع ج 20 ص 22 وص 218.
(2). في بعض الأصول:" كتابهم".
وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)
بالأحساب
وتعديد المناقب. وقيل: لتعظموه على ما أرشدكم إليه من الشرائع، فهو عام. وتقدم
معنى" وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ «1»".
[سورة البقرة (2): آية 186]
وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا
دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)
فيه أربع مسائل: الاولى- قوله تعالى:" وَإِذا سَأَلَكَ" المعنى وإذا
سألوك عن المعبود فأخبرهم أنه قريب يثيب على الطاعة ويجيب الداعي، ويعلم ما يفعله
العبد من صوم وصلاة وغير ذلك. واختلف في سبب نزولها، فقال مقاتل: إن عمر رضي الله
عنه واقع امرأته بعد ما صلى العشاء فندم على ذلك وبكى، وجاء إلى رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبره بذلك ورجع مغنما، وكان ذلك قبل نزول الرخصة،
فنزلت هذه الآية:" وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ".
وقيل: لما وجب عليهم في الابتداء ترك الأكل بعد النوم فأكل بعضهم ثم ندم، فنزلت
هذه الآية في قبول التوبة ونسخ ذلك الحكم، على ما يأتي بيانه «2». وروى الكلبي عن
أبي صالح عن ابن عباس قال: قالت اليهود كيف يسمع ربنا دعاءنا، وأنت تزعم أن بيننا
وبين السماء خمسمائة عام، وغلظ كل سماء مثل ذلك؟ فنزلت هذه الآية. وقال الحسن:
سببها أن قوما قالوا للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أقريب ربنا
فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فنزلت. وقال عطاء وقتادة: لما نزلت:" وَقالَ رَبُّكُمُ
ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ «3»" [غافر: 60] قال قوم: في أي ساعة ندعوه؟
فنزلت. الثانية- قوله تعالى:" فَإِنِّي قَرِيبٌ" أي بالإجابة. وقيل
بالعلم. وقيل: قريب من أوليائي بالإفضال والانعام. الثالثة- قوله تعالى:"
أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ" أي أقبل عبادة من عبدني، فالدعاء
بمعنى العبادة، والإجابة بمعنى القبول. دليله ما رواه أبو داود عن النعمان بن بشير
عن
__________
(1). يراجع ج 1 ص 227، 397 طبعه ثانية.
(2). راجع ص 314 من هذا الجزء.
(3). راجع ج 15 ص 326. [.....]
النبي
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (الدعاء هو العبادة قال ربكم ادعوني أستجب
لكم) فسمي الدعاء عبادة، ومنه قوله تعالى:" إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ
عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ «1»" [غافر: 60] أي دعائي.
فأمر تعالى بالدعاء وخص عليه وسماه عبادة، ووعد بأن يستجيب لهم. روى ليث عن شهر بن
حوشب عن عبادة بن الصامت قال سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يقول: (أعطيت أمتي ثلاثا لم تعط إلا الأنبياء كان الله إذا بعث نبيا قال ادعني
أستجب لك وقال لهذه الامة ادعوني أستجب لكم وكان الله إذا بعث النبي قال له ما جعل
عليك في الدين من حرج وقال لهذه الامة ما جعل عليكم في الدين من حرج وكان الله إذا
بعث النبي جعله شهيدا على قومه وجعل هذه الامة شهداء على الناس (. وكان خالد
الربعي يقول: عجبت لهذه الامة في" ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ" [غافر:
60] أمرهم بالدعاء ووعدهم بالإجابة، وليس بينهما شرط. قال له قائل: مثل ماذا؟ قال
مثل قوله:" وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ «2»"
[البقرة: 25] فها هنا شرط، وقوله:" وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ
قَدَمَ صِدْقٍ «3»" [يونس: 2] فليس فيه شرط العمل، ومثل قوله:" فَادْعُوا
اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ «4»" [غافر: 14] فها هنا شرط،
وقوله:" ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ" ليس فيه شرط. وكانت الأمم تفزع
إلى أنبيائها في حوائجهم حتى تسأل الأنبياء لهم ذلك. فإن قيل: فما للداعي قد يدعو
فلا يجاب؟ فالجواب أن يعلم أن قوله الحق في الآيتين" أُجِيبُ""
أَسْتَجِبْ" لا يقتضي الاستجابة مطلقا لكل داع على التفصيل، ولا بكل مطلوب
على التفصيل، فقد قال ربنا تبارك وتعالى في آية أخرى:" ادْعُوا رَبَّكُمْ
تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ «5»" [الأعراف: 55]
وكل مصر على كبيرة عالما بها أو جاهلا فهو معتد، وقد أخبر أنه لا يحب المعتدين
فكيف يستجيب له. وأنواع الاعتداء كثيرة، يأتي بيانها هنا وفي" الأعراف"
إن شاء الله تعالى. وقال بعض العلماء: أجيب إن شئت، كما قال:" فَيَكْشِفُ ما
تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ «6»" [الانعام: 41] فيكون هذا من باب المطلق
والمقيد. وقد دعا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ثلاث فأعطي اثنتين
ومنع واحدة، على ما يأتي بيانه في" الانعام" إن شاء الله تعالى. وقيل:
إنما مقصود هذا الاخبار
__________
(1). راجع ج 15 ص 326.
(2). راجع ج 1 ص 238.
(3). راجع ج 8 ص 306.
(4). راجع ج 15 ص 299.
(5). راجع ج 7 ص 322.
(6). راجع ج 6 ص 423.
تعريف
جميع المؤمنين أن هذا وصف ربهم سبحانه أن يجيب دعاء الداعين في الجملة، وأنه قريب
من العبد يسمع دعاءه ويعلم اضطراره فيجيبه بما شاء وكيف شاء" وَمَنْ أَضَلُّ
مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ «1»"
[الأحقاف: 5] الآية. وقد يجيب السيد عبده والوالد ولده ثم لا يعطيه سؤله. فالاجابة
كانت حاصلة لا محالة عند وجود الدعوة، لان أجيب وأستجب خبر لا ينسخ فيصير المخبر
كذابا. يدل على هذا التأويل ما روى ابن عمر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قال: (من فتح له في الدعاء فتحت له أبواب الإجابة). وأوحى الله تعالى
إلى داود: أن قل للظلمة من عبادي لا يدعوني فإني أوجبت على نفسي أن أجيب من دعاني
وإني إذا أجبت الظلمة لعنتهم. وقال قوم: إن الله يجيب كل الدعاء، فإما أن تظهر
الإجابة في الدنيا، وإما أن يكفر عنه، وإما أن يدخر له في الآخرة، لما رواه أبو
سعيد الخدري قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ما من مسلم
يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث إما أن يعجل
له دعوته وإما أن يدخر له وإما أن يكف عنه من السوء بمثلها (. قالوا: إذن نكثر؟
قال:) لله أكثر (. خرجه أبو عمر بن عبد البر، وصححه أبو محمد عبد الحق، وهو في
الموطأ منقطع السند. قال أبو عمر: وهذا الحديث يخرج في التفسير المسند لقول الله
تعالى" ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ" [غافر: 60] فهذا كله من الإجابة.
وقال ابن عباس: كل عبد دعا أستجيب له، فإن كان الذي يدعو به رزقا له في الدنيا
أعطيه، وإن لم يكن رزقا له في الدنيا ذخر له. قلت: وحديث أبي سعيد الخدري وإن كان
إذنا بالإجابة في إحدى ثلاث فقد دلك على صحة ما تقدم من اجتناب الاعتداء المانع من
الإجابة حيث قال فيه: (ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم) وزاد مسلم: (ما لم يستعجل).
رواه عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: (لا يزال
يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ما لم يستعجل- قيل: يا رسول الله، ما
الاستعجال؟ قال- يقول قد دعوت وقد دعوت فلم أر يستجيب لي فيستحسر «2» عند ذلك ويدع
الدعاء (. وروى البخاري ومسلم وأبو داود عن أبي هريرة أن رسول
__________
(1). راجع ج 16 ص 183.
(2). يستحسر: ينقطع عن الدعاء ويمله.
الله
صلى الله عيه وسلم قال: (يستجاب لأحدكم ما لم يعجل يقول دعوت فلم يستجب لي). قال
علماؤنا رحمة الله عليهم: يحتمل قوله (يستجاب لأحدكم) الاخبار عن [وجوب «1»] وقوع
الإجابة، والاخبار عن جواز وقوعها، فإذا كان بمعنى الاخبار عن الوجوب والوقوع فإن
الإجابة تكون بمعنى الثلاثة الأشياء المتقدمة. فإذا قال: قد دعوت فلم يستجب لي،
بطل وقوع أحد هذه الثلاثة الأشياء وعري الدعاء من جميعها. وإن كان بمعنى جواز
الإجابة فإن الإجابة حينئذ تكون بفعل ما دعا به خاصة، ويمنع من ذلك قول الداعي: قد
دعوت فلم يستجب، لي، لان ذلك من باب القنوط وضعف اليقين والسخط. قلت: ويمنع من
إجابة الدعاء أيضا أكل الحرام وما كان في معناه، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: (الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه
حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأني يستجاب لذلك) وهذا استفهام على
جهة الاستبعاد من قبول دعاء من هذه صفته، فإن إجابة الدعاء لا بد لها من شروط في
الداعي وفي الدعاء وفي الشيء المدعو به. فمن شرط الداعي أن يكون عالما بأن لا قادر
على حاجته إلا الله، وأن الوسائط في قبضته ومسخرة بتسخيره، وأن يدعو بنية صادقة
وحضور قلب، فإن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه، وأن يكون مجتنبا لأكل
الحرام، وألا يمل من الدعاء. ومن شرط المدعو فيه أن يكون من الأمور الجائزة الطلب
والفعل شرعا، كما قال: (ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم) فيدخل في الإثم كل ما يأثم
به من الذنوب، ويدخل في الرحم جميع حقوق المسلمين ومظالمهم. وقال سهل بن عبد الله
التستري: شروط الدعاء سبعة: أولها التضرع والخوف والرجاء والمداومة والخشوع
والعموم واكل الحلال. وقال ابن عطاء: إن للدعاء أركانا وأجنحة وأسبابا وأوقاتا،
فإن وافق أركانه قوي، وإن وافق أجنحته طار في السماء، وإن وافق مواقيته فاز، وإن
وافق أسبابه أنجح. فأركانه حضور القلب والرأفة والاستكانة والخشوع، وأجنحته الصدق،
ومواقيته الأسحار، وأسبابه الصلاة على محمد صلى الله عليه
__________
(1). زيادة عن الموطأ يقتضيها السياق.
وسلم.
وقيل: شرائطه أربع- أولها حفظ القلب عند الوحدة، وحفظ اللسان مع الخلق، وحفظ العين
عن النظر إلى ما لا يحل، وحفظ البطن من الحرام. وقد قيل: إن من شرط الدعاء أن يكون
سليما من اللحن، كما أنشد بعضهم:
ينادي ربه باللحن ليث ... كذاك إذا دعاه لا يجيب
وقيل لإبراهيم بن أدهم: ما بالنا ندعو فلا يستجاب لنا؟ قال: لأنكم عرفتم الله فلم
تطيعوه، وعرفتم الرسول فلم تتبعوا سنته، وعرفتم القرآن فلم تعملوا به، وأكلتم نعم
الله فلم تؤدوا شكرها، وعرفتم الجنة فلم تطلبوها، وعرفتم النار فلم تهربوا منها،
وعرفتم الشيطان فلم تحاربوه ووافقتموه، وعرفتم الموت فلم تستعدوا له، ودفنتم
الأموات فلم تعتبروا، وتركتم عيوبكم واشتغلتم بعيوب الناس. قال علي رضي الله عنه
لنوف البكالي: يا نوف، إن الله أوحى إلى داود أن مر بني إسرائيل ألا يدخلوا بيتا
من بيوتي إلا بقلوب طاهرة، وأبصار خاشعة، وأيد نقية، فإني لا أستجيب لاحد منهم، ما
دام لاحد من خلقي مظلمة. يا نوف، لا تكونن شاعرا ولا عريفا ولا شرطيا ولا جابيا
ولا عشارا «1»، فإن داود قام في ساعة من الليل فقال: إنها ساعة لا يدعو عبد إلا
استجيب له فيها، إلا أن يكون عريفا أو شرطيا أو جابيا أو عشارا، أو صاحب عرطبة،
وهي الطنبور، أو صاحب كوبة، وهي الطبل. قال علماؤنا: ولا يقل الداعي: اللهم أعطني
إن شئت، اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، بل يعري سؤاله ودعاءه من لفظ
المشيئة، ويسأل سؤال من يعلم أنه لا يفعل إلا أن يشاء. وأيضا فإن في قوله:"
إن شئت" نوع من الاستغناء عن مغفرته وعطائه ورحمته، كقول القائل: إن شئت أن
تعطيني كذا فافعل، لا يستعمل هذا إلا مع الغني عنه، وأما المضطر إليه فإنه يعزم في
مسألته ويسأل سؤال فقير مضطر إلى ما سأله. روى الأئمة واللفظ للبخاري عن أنس بن
مالك قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إذا دعا أحدكم فليعزم
المسألة ولا يقولن
__________
(1). العريف: الذي يلي أمور طائفة من الناس ويتعرف أمورهم ويبلغها للأمير. والشرطي
(كتركي وكجهني): هم أعوان الحاكم. والعشار: من يتولى أخذ أعشار الأموال.
اللهم
إن شئت فأعطني فإنه لا مستكره له (. وفي الموطأ:) اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم
ارحمني إن شئت (. قال علماؤنا: قوله (فليعزم المسألة) دليل على أنه ينبغي للمؤمن
أن يجتهد في، الدعاء ويكون على رجاء من الإجابة، ولا يقنط من رحمة الله، لأنه يدعو
كريما. قال سفيان ابن عيينة: لا يمنعن أحدا من الدعاء ما يعلمه من نفسه فإن الله
قد أجاب دعاء شر الخلق إبليس، قال: رب فأنظرني إلى يوم يبعثون، قال فإنك من
المنظرين. وللدعاء أوقات وأحوال يكون الغالب فيها الإجابة، وذلك كالسحر ووقت
الفطر، وما بين الأذان والإقامة، وما بين الظهر والعصر في يوم الأربعاء، وأوقات
الاضطرار وحالة السفر والمرض، وعند نزول المطر والصف في سبيل الله. كل هذا جاءت به
الإثار، ويأتي بيانها في مواضعها. وروى شهر بن حوشب أن أم الدرداء قالت له: يا
شهر، ألا تجد القشعريرة؟ قلت نعم. قالت: فادع الله فإن الدعاء مستجاب عند ذلك.
وقال جابر بن عبد الله: دعا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مسجد
الفتح ثلاثا يوم الاثنين ويوم الثلاثاء فاستجيب له يوم الأربعاء بين الصلاتين.
فعرفت السرور في وجهه. قال جابر: ما نزل بي أمر مهم غليظ إلا توخيت تلك الساعة
فأدعو فيها فأعرف الإجابة. الرابعة- قوله تعالى:" فَلْيَسْتَجِيبُوا
لِي" قال أبو رجاء الخراساني: فليدعوا لي. وقال ابن عطية: المعنى فليطلبوا أن
أجيبهم. وهذا هو باب" استفعل" أي طلب الشيء إلا ما شذ، مثل استغنى الله.
وقال مجاهد وغيره: المعنى فليجيبوا إلي فيما دعوتهم إليه من الايمان، أي الطاعة
والعمل. ويقال: أجاب واستجاب بمعنى، ومنه قول الشاعر:
فلم يستجبه عند ذاك مجيب
أي لم يجبه. والسين زائدة واللام لام الامر. وكذا" وَلْيُؤْمِنُوا"
وجزمت لام الامر لأنها تجعل الفعل مستقبلا لا غير فأشبهت إن التي للشرط. وقيل:
لأنها لا تقع إلا على الفعل. والرشاد خلاف الغي. وقد رشد يرشد رشدا. ورشد (بالكسر)
يرشد رشدا، لغة فيه. وأرشده الله. والمراشد: مقاصد الطرق. والطريق الأرشد: نحو
الأقصد. وتقول:
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)
هو
لرشدة «1». خلاف قولك: لزنية. وام راشد: كنية للفأرة: وبنو رشدان: بطن من العرب،
عن الجوهري. وقال الهروي: الرشد والرشد والرشاد: الهدى والاستقامة، ومنه
قوله:" لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ".
[سورة البقرة (2): آية 187]
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ
وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ
أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ
وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ
لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ
أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ
فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ
اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)
فيه ست وثلاثون مسألة: الاولى- قوله تعالى:" أُحِلَّ لَكُمْ" لفظ"
أُحِلَّ" يقتضي أنه كان محرما قبل ذلك ثم نسخ. روى أبو داود عن ابن أبي ليلى
قال وحدثنا أصحابنا قال: وكان الرجل إذا أفطر «2» فنام قبل أن يأكل لم يأكل حتى
يصبح، قال: فجاء عمر فأراد امرأته فقالت: إني قد نمت، فظن أنها تعتل فأتاها. فجاء
رجل من الأنصار فأراد طعاما فقالوا: حتى نسخن لك شيئا فنام، فلما أصبحوا أنزلت هذه
الآية، وفيها (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى
نِسائِكُمْ". وروى البخاري عن البراء قال: كان أصحاب محمد صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا كان الرجل صائما فحضر الإفطار فنام قبل أن يفطر لم يأكل
ليلته ولا يومه حتى يمسي، وأن قيس ابن صرمة الأنصاري كان صائما- وفي رواية: كان
يعمل في النخيل بالنهار وكان صائما- فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال لها: أعندك
طعام؟ قالت لا، ولكن أنطلق فأطلب لك، وكان يومه يعمل، فغلبته عيناه، فجاءته امرأته
فلما رأته قالت: خيبة لك! فلما
__________
(1). بكسر الراء وقد تفتح، ومعناه: إذا كان لنكاح صحيح.
(2). الذي في مسند أبى داود:" إذا صام فنام ...".
انتصف
النهار غشى عليه، فذكر ذلك للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنزلت هذه
الآية:" أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ"
ففرحوا فرحا شديدا، ونزلت:" وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ
الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ". وفي
البخاري أيضا عن البراء قال: لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله،
وكان رجال يخونون أنفسهم، فأنزل الله تعالى:" عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ
كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ".
يقال: خان واختان بمعنى من الخيانة، أي تخونون أنفسكم بالمباشرة في ليالي الصوم.
ومن عصى الله فقد خان نفسه إذ جلب إليها العقاب. وقال القتبي: أصل الخيانة أن
يؤتمن الرجل على شي فلا يؤدي الأمانة فيه. وذكر الطبري: أن عمر رضي الله تعالى عنه
رجع من عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد سمر عنده ليلة فوجد
امرأته قد نامت فأرادها فقالت له: قد نمت، فقال لها: ما نمت، فوقع بها. وصنع كعب
بن مالك مثله، فغدا عمر على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: أعتذر
إلى الله وإليك، فإن نفسي زينت لي فواقعت أهلي، فهل تجد لي من رخصة؟ فقال لي: (لم
تكن حقيقا يا عمر) فلما بلغ بيته أرسل إليه فأنبأه بعذره في آية من القرآن. وذكره
النحاس ومكي، وأن عمر نام ثم وقع بامرأته، وأنه أتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فأخبره بذلك فنزلت:" عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ
تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ
بَاشِرُوهُنَّ ..." الآية. الثانية- قوله تعالى:" لَيْلَةَ الصِّيامِ
الرَّفَثُ"" ليلة" نصب على الظرف، وهي اسم جنس فلذلك أفردت.
والرفث: كناية عن الجماع لان الله عز وجل كريم يكني، قاله ابن عباس والسدي. وقال
الزجاج: الرفث كلمة جامعة لكل ما يريد الرجل من امرأته، وقاله الأزهري أيضا. وقال
ابن عرفة: الرفث ها هنا الجماع. والرفث: التصريح بذكر الجماع والاعراب به. قال
الشاعر:
ويرين من أنس الحديث زوانيا ... وبهن عن رفث الرجال
نفار وقيل: الرفث أصله قول الفحش، يقال: رفث وأرفث إذا تكلم بالقبيح، ومنه قول
الشاعر:
ورب أسراب حجيج كظّم ... عن اللغا ورفث التكلم
وتعدى"
الرفث" بإلى في قوله تعالى جده:" الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ". وأنت
لا تقول: رفثت إلى النساء، ولكنه جئ به محمولا على الإفضاء الذي يراد به الملابسة
في مثل قوله:" وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ «1»". [النساء:
21]. ومن هذا المعنى:" وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ" [البقرة: 14]
كما تقدم «2». وقوله:" يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها" [التوبة: 35] أي يوقد،
لأنك تقول: أحميت الحديدة في النار، وسيأتي «3»، ومنه قوله:" فَلْيَحْذَرِ
الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ «4»" [النور: 63] حمل على معنى ينحرفون
عن أمره أو يروغون عن أمره، لأنك تقول: خالفت زيدا. ومثله قوله تعالى:"
وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً «5»" [الأحزاب: 43] حمل على معنى رءوف في
نحو" بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ «6»" [التوبة: 128]، ألا ترى أنك
تقول: رؤفت به، ولا تقول رحمت به، ولكنه لما وافقه في المعنى نزل منزلته في
التعدية. ومن هذا الضرب قول أبي كبير الهذلي:
حملت به في ليلة مزءودة «7» ... كرها وعقد نطاقها لم يحلل
عدى" حملت" بالباء، وحقه أن يصل إلى المفعول بنفسه، كما جاء في
التنزيل:" حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً «8»"
[الأحقاف: 15]، ولكنه قال: حملت به، لأنه في معنى حبلت به. الثالثة- قوله
تعالى:" هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ" ابتداء وخبر، وشددت النون من"
هُنَّ" لأنها بمنزلة الميم والواو في المذكر." وَأَنْتُمْ لِباسٌ
لَهُنَّ" أصل اللباس في الثياب، ثم سمي امتزاج كل واحد من الزوجين بصاحبه
لباسا، لانضمام الجسد وامتزاجهما وتلازمهما تشبيها بالثوب. وقال النابغة الجعدي:
إذا ما الضجيع ثنى جيدها ... تداعت فكانت عليه لباسا
وقال أيضا:
لبست أناسا فأفنيتهم ... وأفنيت بعد أناس أناسا
وقال بعضهم: يقال لما ستر الشيء وداراه: لباس. فجائز أن يكون كل واحد منهما سترا
لصاحبه عما لا يحل، كما ورد في الخبر. وقيل: لان كل واحد منهما ستر لصاحبه فيما
يكون بينهما من الجماع من أبصار الناس. وقال أبو عبيد وغيره: يقال للمرأة هي لباسك
وفراشك وإزارك. قال رجل لعمر بن الخطاب:
__________
(1). راجع ج 5 ص 102.
(2). ج 1 ص 206. [.....]
(3). ج 8 ص 129.
(4). ج 12 ص 322.
(5). ج 14 ص 198.
(6). ج 8 ص 302.
(7). مزءودة: فزعة.
(8). ج 16 ص 193.
ألا
أبلغ أبا حفص رسولا ... فدى لك من أخي ثقة إزاري
قال أبو عبيد: أي نسائي. وقيل نفسي. وقال الربيع: هن فراش لكم، وأنتم لحاف لهن.
مجاهد: أي سكن لكم، أي يسكن بعضكم إلى بعض. الرابعة- قوله تعالى:" عَلِمَ
اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ" يستأمر بعضكم بعضا في
مواقعة المحظور من الجماع والأكل بعد النوم في ليالي الصوم، كقوله تعالى:"
تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ" [البقرة: 85] يعني يقتل بعضكم بعضا. ويحتمل أن
يريد به كل واحد منهم في نفسه بأنه يخونها، وسماه خائنا لنفسه من حيث كان ضرره
عائدا عليه، كما تقدم. وقوله تعالى:" فَتابَ عَلَيْكُمْ" يحتمل معنيين:
أحدهما- قبول التوبة من خيانتهم لأنفسهم. والآخر- التخفيف عنهم بالرخصة والإباحة،
كقوله تعالى:" عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ «1»"
[المزمل: 20] يعني خفف عنكم. وقوله عقيب القتل الخطأ:" فَمَنْ لَمْ يَجِدْ
فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ «2»" [النساء: 92]
يعني تخفيفا، لان القاتل خطأ لم يفعل شيئا تلزمه التوبة منه، وقال تعالى:"
لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ
اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ «3»" [التوبة: 117] وإن لم يكن من النبي
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما يوجب التوبة منه. وقوله تعالى:" وَعَفا
عَنْكُمْ" يحتمل العفو من الذنب، ويحتمل التوسعة والتسهيل، كقول النبي صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أول الوقت رضوان الله وآخره عفو الله) يعني تسهيله
وتوسعته. فمعنى" عَلِمَ اللَّهُ" أي علم وقوع هذا منكم مشاهدة"
فَتابَ عَلَيْكُمْ" بعد ما وقع، أي خفف عنكم" وَعَفا" أي سهل.
و" تَخْتانُونَ" من الخيانة، كما تقدم. قال ابن العربي:" وقال
علماء الزهد: وكذا فلتكن العناية وشرف المنزلة، خان نفسه عمر رضي الله عنه فجعلها
الله تعالى شريعة، وخفف من أجله عن الامة فرضي الله عنه وأرضاه". قوله
تعالى:" فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ" كناية عن الجماع، أي قد أحل لكم ما حرم
عليكم. وسمي الوقاع مباشرة لتلاصق البشرتين فيه. قال ابن العربي:" وهذا يدل
على أن سبب الآية جماع عمر رضي الله عنه لا جوع قيس، لأنه لو كان السبب جوع قيس
لقال: فالان كلوا، ابتدأ به لأنه المهم الذي نزلت الآية لأجله.
__________
(1). راجع ج 19 ص 51.
(2). راجع ج 5 ص 327.
(3). راجع ج 8 ص 277.
الخامسة-
قوله تعالى:" وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ" قال ابن عباس
ومجاهد والحكم ابن عيينة وعكرمة والحسن والسدي والربيع والضحاك: معناه وابتغوا
الولد، يدل عليه أنه عقيب قوله:" فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ". وقال ابن
عباس: ما كتب الله لنا هو القرآن. الزجاج: أي ابتغوا القرآن بما أبيح لكم فيه
وأمرتم به. وروي عن ابن عباس ومعاذ بن جبل أن المعنى وابتغوا ليلة القدر. وقيل:
المعنى اطلبوا الرخصة والتوسعة، قاله قتادة. قال ابن عطية: وهو قول حسن.
وقيل:" ابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ" من الإماء والزوجات. وقرا
الحسن البصري والحسن بن قرة" واتبعوا" من الاتباع، وجوزها ابن عباس،
ورجح" ابْتَغُوا" من الابتغاء. السادسة- قوله تعالى:" وَكُلُوا
وَاشْرَبُوا" هذا جواب نازلة قيس، والأول جواب عمر، وقد ابتدأ بنازلة عمر
لأنه المهم فهو المقدم. السابعة- قوله تعالى:" حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ
الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ
"" حتى" غاية للتبيين، ولا يصح أن يقع التبيين لاحد ويحرم عليه
الأكل إلا وقد مضى لطلوع الفجر قدر. واختلف في الحد الذي بتبينه يجب الإمساك، فقال
الجمهور: ذلك الفجر المعترض في الأفق يمنه ويسرة، وبهذا جاءت الاخبار ومضت عليه
الأمصار. روى مسلم عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا يغرنكم من سحوركم أذان بلال ولا بياض الأفق المستطيل هكذا
حتى يستطير «1» هكذا). وحكاه حماد «2» بيديه قال: يعني معترضا. وفي حديث ابن
مسعود: (إن الفجر ليس الذي يقول «3» هكذا- وجمع أصابعه ثم نكسها إلى الأرض- ولكن
الذي يقول هكذا- ووضع المسبحة على المسبحة ومد يديه). وروى الدارقطني عن عبد
الرحمن بن عباس أنه بلغه أن رسول الله
__________
(1). يستطير: أي ينتشر ضوءه ويعترض في الأفق بخلاف المستطيل، والاستطارة هذه تكون
بعد غيبوبة ذلك المستطيل.
(2). حماد هذا هو حماد بن زيد أحد رجال سند هذا الحديث.
(3). قال ابن الأثير في النهاية:" العرب تجعل القول عبارة عن جميع الافعال
وتطلقه على غير الكلام واللسان، فتقول: قال بيده، أي أخذ. وقال برجله، أي مشى.
وقال بثوبه، أي رفعه، وكل ذلك على المجاز والاتساع" فمعنى يقول هنا: يظهر.
صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (هما فجران فأما الذي كأنه ذنب السرحان «1» فإنه
لا يحل شيئا ولا يحرمه وأما المستطيل الذي عارض الأفق ففيه تحل الصلاة ويحرم
الطعام) هذا مرسل. وقالت طائفة: ذلك بعد طلوع الفجر وتبينه في الطرق والبيوت، روي
ذلك عن عمر «2» وحذيفة وابن عباس وطلق بن علي وعطاء بن أبي رباح والأعمش سليمان
وغيرهم أن الإمساك يجب بتبيين الفجر في الطرق وعلى رءوس الجبال. وقال مسروق: لم
يكن يعدون الفجر فجركم إنما كانوا يعدون الفجر الذي يملأ البيوت. وروى النسائي عن
عاصم عن زر قال قلنا لحذيفة: أي ساعة تسحرت مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ؟ قال: هو النهار إلا أن الشمس لم تطلع. وروى الدارقطني عن طلق بن علي أن
نبي الله قال: (كلوا واشربوا ولا يغرنكم الساطع المصعد وكلوا واشربوا حتى يعرض لكم
الأحمر). قال الدارقطني: [قيس بن طلق «3» [ليس بالقوي. وقال أبو داود: هذا مما
تفرد به أهل اليمامة. قال الطبري: والذي قادهم إلى هذا أن الصوم إنما هو في
النهار، والنهار عندهم من طلوع الشمس، وآخره غروبها، وقد مضى «4» الخلاف في هذا
بين اللغويين. وتفسير رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك بقوله:
(إنما هو سواد الليل وبياض النهار) الفيصل في ذلك، وقوله" أَيَّاماً
مَعْدُوداتٍ" [البقرة: 184]. وروى الدارقطني عن عائشة رضي الله عنها عن النبي
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (من لم يبيت الصيام قبل طلوع الفجر فلا
صيام له). تفرد به عبد الله بن عباد عن المفضل بن فضالة بهذا الاسناد، وكلهم ثقات.
وروي عن حفصة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (من لم يجمع الصيام
قبل الفجر فلا صيام له). رفعه عبد الله بن أبي بكر وهو من الثقات الرفعاء، وروي عن
حفصة مرفوعا من قولها. ففي هذين الحديثين دليل على ما قاله الجمهور في الفجر، ومنع
من الصيام دون نية قبل الفجر، خلافا لقول أبي حنيفة، وهي: الثامنة- وذلك أن الصيام
من جملة العبادات فلا يصح إلا بنية، وقد وقتها الشارع قبل الفجر، فكيف يقال: إن
الأكل والشرب بعد الفجر جائز. وروى البخاري ومسلم عن
__________
(1). السرحان (بكسر فسكون): الذئب، وقيل: الأسد، وجمعه سراح وسراحين.
(2). في بعض النسخ (عثمان). [.....]
(3). التكملة عن سنن الدارقطني يقتضيها السياق.
(4). تراجع المسألة الثانية ص 192 من هذا الجزء.
سهل
بن سعد قال: نزلت" وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ
الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ" ولم ينزل" مِنَ
الْفَجْرِ" وكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض
والخيط الأسود، ولا يزال يأكل ويشرب حتى يتبين له رؤيتهما، فأنزل الله بعد"
مِنَ الْفَجْرِ" فعلموا أنه إنما يعني بذلك بياض النهار. وعن عدي بن حاتم قال
قلت: يا رسول الله، ما الخيط الأبيض من الخيط الأسود، أهما الخيطان؟ قال: (إنك
لعريض القفا «1» إن أبصرت الخيطين- ثم قال- لا بل هو سواد الليل وبياض النهار).
أخرجه البخاري. وسمي الفجر خيطا لان ما يبدو من البياض يرى ممتدا كالخيط. قال
الشاعر:
الخيط الأبيض ضوء الصبح منفلق ... والخيط الأسود جنح الليل مكتوم
والخيط في كلامهم عبارة عن اللون. والفجر مصدر فجرت الماء أفجره فجرا إذا جرى
وانبعث، وأصله الشق، فلذلك قيل للطالع من تباشير ضياء الشمس من مطلعها: فجرا
لانبعاث ضوئه، وهو أول بياض النهار الظاهر المستطير في الأفق المنتشر، تسميه العرب
الخيط الأبيض، كما بينا. قال أبو دواد الايادي:
فلما أضاءت لنا سدفة «2» ... ولاح من الصبح خيط أنارا
وقال آخر:
قد كاد يبدو وبدت تباشره ... وسدف الليل البهيم ساتره
وقد تسميه أيضا الصديع، ومنه قولهم: انصدع الفجر، قال بشر بن أبي خازم أو عمرو بن
معديكرب:
ترى السرحان مفترشا يديه ... كأن بياض لبته صديع
وشبهه الشماخ بمفرق الرأس فقال:
إذا ما الليل كان الصبح فيه ... أشق كمفرق الرأس الدهين
__________
(1). القفا العريض يستدل به على قلة فطنة الرحل.
(2). السدفة (بضم السين وفتحها وسكون الدال): في لغة نجد ظلمة الليل، وفى لغة
غيرهم الضوء. وهو من الأضداد.
ويقولون
في الامر الواضح: هذا كفلق الصبح، وكانبلاج الفجر، وتباشير الصبح. قال الشاعر:
فوردت قبل انبلاج الفجر ... وابن ذكاء كامن في كفر «1»
التاسعة- قوله تعالى:" ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ" جعل
الله جل ذكره الليل ظرفا للأكل والشرب والجماع، والنهار ظرفا للصيام، فبين أحكام
الزمانين وغاير بينهما. فلا يجوز في اليوم شي مما أباحه بالليل إلا لمسافر أو
مريض، كما تقدم بيانه. فمن أفطر في رمضان من غير من ذكر فلا يخلو إما أن يكون
عامدا أو ناسيا، فإن كان الأول فقال مالك: من أفطر في رمضان عامدا بأكل أو شرب أو
جماع فعليه القضاء والكفارة، لما رواه مالك في موطئة، ومسلم في صحيحه عن أبي هريرة
أن رجلا أفطر في رمضان فأمره رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يكفر
بعتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكينا، الحديث. وبهذا قال
الشعبي. وقال الشافعي وغيره: إن هذه الكفارة إنما تختص بمن أفطر بالجماع، لحديث
أبي هريرة أيضا قال: جاء رجل إلى رسول الله فقال: هلكت يا رسول الله! قال: (وما
أهلكك) قال: وقعت على امرأتي في رمضان، الحديث. وفية ذكر للكفارة على الترتيب،
أخرجه مسلم. وحملوا هذه القضية على القضية الاولى فقالوا: هي واحدة، وهذا غير مسلم
به بل هما قضيتان مختلفتان، لان مساقهما مختلف، وقد علق الكفارة على من أفطر مجردا
عن القيوم فلزم مطلقا. وبهذا قال مالك وأصحابه والأوزاعي وإسحاق وأبو ثور والطبري
وابن المنذر، وروي ذلك عن عطاء في رواية، وعن الحسن والزهري. ويلزم الشافعي القول
به فإنه يقول: ترك الاستفصال مع تعارض الأحوال يدل على هموم الحكم. وأوجب الشافعي
عليه مع القضاء العقوبة لانتهاك حرمة الشهر. العاشرة- واختلفوا أيضا فيما يجب على
المرأة يطؤها زوجها في شهر رمضان، فقال مالك وأبو يوسف وأصحاب الرأي: عليها مثل ما
على الزوج. وقال الشافعي: ليس عليها
__________
(1). قائل هذا البيت هو حميد الأرقط، كما في الصحاح. وذكاء (بالضم): اسم الشمس،
ويقال للصبح: ابن ذكاء لأنه من ضوئها. والكفر (بالفتح): ظلمة الليل وسواده.
إلا كفارة واحدة، وسواء طاوعته أو أكرهها، لان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أجاب السائل بكفارة واحدة ولم يفصل. وروي عن أبي حنيفة: إن طاوعته فعلى كل واحد منهما كفارة، وإن أكرهها فعليه كفارة واحدة لا غير. وهو قول سحنون بن سعيد المالكي. وقال مالك: عليه كفارتان، وهو تحصيل مذهبه عند جماعة أصحابه. الحادية عشرة- واختلفوا أيضا فيمن جامع ناسيا لصومه أو أكل، فقال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابه وإسحاق: ليس عليه في الوجهين شي، لا قضاء ولا كفارة. وقال مالك والليث والأوزاعي: عليه القضاء ولا كفارة، وروي مثل ذلك عن عطاء. وقد روي عن عطاء أن عليه الكفارة إن جامع، وقال: مثل هذا لا ينسى. وقال قوم من أهل الظاهر: سواء وطئ ناسيا أو عامدا فعليه القضاء والكفارة، وهو قول ابن الماجشون عبد الملك، وإليه ذهب أحمد بن حنبل، لان الحديث الموجب للكفارة لم يفرق فيه بين الناسي والعامد. قال ابن المنذر: لا شي عليه. الثانية عشرة- قال مالك والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي: إذا أكل ناسيا فظن أن ذلك قد فطره فجامع عامدا أن عليه القضاء ولا كفارة عليه. قال ابن المنذر: وبه نقول. وقيل في المذهب: عليه القضاء والكفارة إن كان قاصدا لهتك حرمة صومه جرأة وتهاونا. قال أبو عمر: وقد كان يجب على أصل مالك ألا يكفر، لان من أكل ناسيا فهو عنده مفطر يقضي يومه ذلك، فأي حرمة هتك وهو مفطر. وعند غير مالك: ليس بمفطر كل من أكل ناسيا لصومه. قلت: وهو الصحيح، وبه قال الجمهور: إن من أكل أو شرب ناسيا فلا قضاء عليه وإن صومه تام، لحديث أبي هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إذا أكل الصائم ناسيا أو شرب ناسيا فإنما هو رزق ساقه الله تعالى [إليه ] ولا قضاء عليه- في رواية- وليتم صومه فإن الله أطعمه وسقاه (. أخرجه الدارقطني. وقال: إسناد صحيح وكلهم ثقات. قال أبو بكر الأثرم: سمعت أبا عبد الله يسئل عمن أكل ناسيا في رمضان،
قال:
ليس عليه شي على حديث أبي هريرة. ثم قال أبو عبد الله مالك: وزعموا أن مالكا يقول
عليه القضاء! وضحك. وقال ابن المنذر: لا شي عليه، لقول النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمن أكل أو شرب ناسيا: (يتم صومه) وإذا قال (يتم صومه) فأتمه
فهو صوم تام كامل. قلت: وإذا كان من أفطر ناسيا لا قضاء عليه وصومه صوم تام فعليه
إذا جامع عامدا القضاء والكفارة- والله أعلم- كمن لم يفطر ناسيا. وقد احتج علماؤنا
على إيجاب القضاء بأن قالوا: المطلوب منه صيام يوم تام لا يقع فيه خرم، لقوله
تعالى:" ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ" وهذا لم يأت به على
التمام فهو باق عليه، ولعل الحديث في صوم التطوع لخفته. وقد جاء في صحيحي البخاري
ومسلم: (من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه) فلم يذكر قضاء ولا تعرض له، بل
الذي تعرض له سقوط المؤاخذة والامر بمضيه على صومه وإتمامه، هذا إن كان واجبا فدل
على ما ذكرناه من القضاء. وأما صوم التطوع فلا قضاء فيه لمن أكل ناسيا، لقوله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا قضاء عليه). قلت: هذا ما احتج به علماؤنا
وهو صحيح، لولا ما صح عن الشارع ما ذكرناه، وقد جاء بالنص الصريح الصحيح وهو ما
رواه أبو هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (من أفطر في شهر
رمضان ناسيا فلا قضاء عليه ولا كفارة) أخرجه الدارقطني وقال: تفرد به ابن مرزوق
وهو ثقة عن الأنصاري، فزال الاحتمال وارتفع الاشكال، والحمد لله ذي الجلال
والكمال. الثالثة عشرة- لما بين سبحانه محظورات الصيام وهي الأكل والشرب والجماع،
ولم يذكر المباشرة التي هي اتصال البشرة بالبشرة كالقبلة والجسة وغيرها، دل ذلك
على صحة صوم من قبل وباشر، لان فحوى الكلام إنما يدل على تحريم ما أباحه الليل وهو
الأشياء الثلاثة، ولا دلالة فيه على غيرها بل هو موقوف على الدليل، ولذلك شاع
الاختلاف فيه، واختلف علماء السلف فيه، فمن ذلك المباشرة. قال علماؤنا: يكره لمن
لا يأمن على نفسه ولا يملكها، لئلا يكون سببا إلى ما يفسد الصوم. روى مالك عن نافع
أن عبد
الله بن عمر رضي الله عنهما كان
ينهى عن القبلة والمباشرة للصائم، وهذا- والله أعلم- خوف ما يحدث عنهما، فإن قبل وسلم فلا جناح عليه، وكذلك إن باشر. وروى البخاري عن عائشة قالت: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقبل ويباشر وهو صائم. وممن كره القبلة للصائم عبد الله بن مسعود وعروة ابن الزبير. وقد روي عن ابن مسعود أنه يقضي يوما مكانه، والحديث حجة عليهم. قال أبو عمر: ولا أعلم أحدا رخص فيها لمن يعلم أنه يتولد عليه منها ما يفسد صومه، فإن قبل فأمنى فعليه القضاء ولا كفارة، قاله أبو حنيفة وأصحابه والثوري والحسن والشافعي، واختاره ابن المنذر وقال: ليس لمن أوجب عليه الكفارة حجة. قال أبو عمر: ولو قبل فأمذى لم يكن عليه شي عندهم. وقال أحمد: من قبل فأمذى أو أمنى فعليه القضاء ولا كفارة عليه، إلا على من جامع فأولج عامدا أو ناسيا. وروى ابن القاسم عن مالك فيمن قبل أو باشر فأنعظ ولم يخرج منه ماء جملة عليه القضاء. وروى ابن وهب عنه لا قضاء عليه حتى يمذي. قال القاضي أبو محمد: واتفق أصحابنا على أنه لا كفارة عليه. وإن كان منيا فهل تلزمه الكفارة مع القضاء، فلا يخلو أن يكون قبل قبلة واحدة فأنزل، أو قبل فالتذ فعاود فأنزل، فإن كان قبل قبلة واحدة أو باشر أو لمس مرة فقال أشهب وسحنون: لا كفارة عليه حتى يكرر. وقال ابن القاسم: يكفر في ذلك كله، إلا في النظر فلا كفارة عليه حتى يكرر. وممن قال بوجوب الكفارة عليه إذا قبل أو باشر أو لاعب امرأته أو جامع دون الفرج فأمنى: الحسن البصري وعطاء وابن المبارك وأبو ثور وإسحاق، وهو قول مالك في المدونة. وحجة قول أشهب: أن اللمس والقبلة والمباشرة ليست تفطر في نفسها، وإنما يبقى أن تؤول إلى الامر الذي يقع به الفطر، فإذا فعل مرة واحدة لم يقصد الانزال وإفساد الصوم فلا كفارة عليه كالنظر إليها، وإذا كرر ذلك فقد قصد إفساد صومه فعليه الكفارة كما لو تكرر النظر. قال اللخمي: واتفق جميعهم في الانزال عن النظر أن لا كفارة عليه إلا أن يتابع. والأصل أنه لا تجب الكفارة إلا على من قصد الفطر وانتهاك حرمة الصوم، فإذا كان ذلك وجب أن ينظر إلى عادة من نزل به ذلك، فإذا كان ذلك شأنه أن ينزل عن قبلة أو مباشرة مرة، أو كانت عادته مختلفة: مرة ينزل،
ومرة لا ينزل، رأيت عليه الكفارة، لان فاعل ذلك قاصد لانتهاك صومه أو متعرض له. وإن كانت عادته السلامة فقدر أن كان منه خلاف العادة لم يكن عليه كفارة، وقد يحتمل قول مالك في وجوب الكفارة، لن ذلك لا يجري إلا ممن يكون ذلك طبعه واكتفي بما ظهر منه. وحمل أشهب الامر على الغالب من الناس أنهم يسلمون من ذلك، وقولهم في النظر دليل على ذلك. قلت: ما حكاه من الاتفاق في النظر وجعله أصلا ليس كذلك، فقد حكى الباجي في المنتقى" فإن نظر نظرة واحدة يقصد بها اللذة [فأنزل ] «1» فقد قال الشيخ أبو الحسن: عليه القضاء والكفارة. قال الباجي: وهو الصحيح عندي، لأنه إذا قصد بها الاستمتاع كانت كالقبلة وغير ذلك من أنواع الاستمتاع، والله أعلم". وقال جابر بن زيد والثوري والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي فيمن ردد النظر إلى المرأة حتى أمنى: فلا قضاء عليه ولا كفارة، قاله ابن المنذر. قال الباج