21. : مجلد21. الجامع لأحكام القرآن = تفسير القرطبي
المؤلف : أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين
القرطبي (المتوفى : 671هـ)
جميع
ما في الأرض، وعهد الله إليه عهدا فيه أمره ونهيه وحله وحرامه، وزعم أنه أمره أن
يعرض ذلك على السماوات والأرض والجبال، فما تصنع السماوات والأرض والجبال بالحلال
والحرام؟ وما التسليط «1» على الانعام والطير والوحش! وكيف إذا عرضه على ولده
فقبله في أعناق ذريته من بعده. وفي مبتدأ الخبر في التنزيل أنه عرض الأمانة على
السماوات والأرض والجبال حتى ظهر الإباء منهم، ثم ذكر أن الإنسان حصلها، أي من قبل
نفسه لا أنه حمل ذلك، فسماه" ظَلُوماً" أي لنفسه،" جَهُولًا"
بما فيها. وأما الآثار التي هي بخلاف ما ذكر، فحدثني أبي رحمه الله قال حدثنا
الفيض بن الفضل الكوفي حدثنا السري بن إسماعيل عن عامر الشعبي عن مسروق عن عبد
الله بن مسعود قال: لما خلق الله الأمانة مثلها صخرة، ثم وضعها حيث شاء ثم دعا لها
السماوات والأرض والجبال ليحملنها، وقال لهن: إن هذه" الْأَمانَةَ"،
ولها ثواب وعليها عقاب، قالوا: يا رب، لا طاقة لنا بها، وأقبل الإنسان من قبل أن
يدعي فقال للسموات والأرض والجبال: ما وقوفكم؟ قالوا: دعانا ربنا أن نحمل هذه
فأشفقن منها ولم نطقها، قال: فحركها بيده وقال: والله لو شئت أن أحملها لحملتها،
فحملها حتى بلغ بها إلى ركبتيه، ثم وضعها وقال: والله لو شئت أن أزداد لازددت،
قالوا: دونك! فحملها حتى بلغ بها حقويه «2»، ثم وضعها وقال: والله لو شئت أن أزداد
لازددت، قالوا: دونك، فحملها حتى وضعها على عاتقه، فلما أهوى ليضعها، قالوا:
مكانك! إن هذه" الْأَمانَةَ" ولها ثواب وعليها عقاب وأمرنا ربنا أن
نحملها فأشفقن منها، وحملتها أنت من غير أن تدعى لها، فهي في عنقك وفي أعناق ذريتك
إلى يوم القيامة، إنك كنت ظلوما جهولا. وذكر أخبارا عن الصحابة والتابعين تقدم
أكثرها." وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ" أي التزم القيام بحقها، وهو في ذلك
ظلوم لنفسه. وقال قتادة: للأمانة، جهول بقدر ما دخل فيه. وهذا تأويل ابن عباس وابن
جبير. وقال الحسن: جهول بربه. قال: ومعنى" حَمَلَهَا" خان فيها. وقال
الزجاج والآية في الكافر والمنافق والعصاة على قدرهم على هذا التأويل. وقال ابن
عباس وأصحابه
__________
(1). في ا: (وما تسليطه).
(2). الحقو (بفتح الحاء وكسرها): الخاصرة. [.....]
والضحاك
وغيره:" الْإِنْسانُ" آدم، تحمل الأمانة فما تم له يوم حتى عصى المعصية
التي أخرجته من الجنة. وعن ابن عباس أن الله تعالى قال له: أتحمل هذه الأمانة بما
فيها. قال وما فيها؟ قال: إن أحسنت جزيت وإن أسأت عوقبت. قال: أنا أحملها بما فيها
بين أذني وعاتقي. فقال الله تعالى له: إني سأعينك، قد جعلت لبصرك حجابا فأغلقه عما
لا يحل لك، ولفرجك لباسا فلا تكشفه إلا على ما أحللت لك. وقال قوم:"
الْإِنْسانُ" النوع كله. وهذا حسن مع عموم الأمانة كما ذكرناه أولا. وقال السدي:
الإنسان قابيل. فالله أعلم. (لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ)
اللام في" لِيُعَذِّبَ" متعلقة ب"- حمل" أي حملها ليعذب
العاصي ويثيب المطيع، فهي لام التعليل، لان العذاب نتيجة حمل الأمانة. وقيل
ب"- عَرَضْنَا"، أي عرضنا الأمانة على الجميع ثم قلدناها الإنسان ليظهر
شرك المشرك ونفاق المنافق ليعذبهم: الله، وإيمان المؤمن ليثيبه الله. (وَيَتُوبَ
اللَّهُ) قراءة الحسن بالرفع، يقطعه من الأول، أي يتوب الله عليهم بكل حال.
(وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً) خبر بعد خبر ل"- كانَ". ويجوز أن
يكون نعتا لغفور، ويجوز أن يكون حالا من المضمر. والله أعلم بالصواب.
[سورة سبإ]
سورة سبإ مكية في قول الجميع، إلا آية واحدة اختلف فيها، وهي قوله تعالى:"
وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ" الآية. فقالت فرقة: هي مكية، والمراد
المؤمنون أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قاله ابن عباس. وقالت
فرقة: هي مدنية، والمراد بالمؤمنين من أسلم بالمدينة، كعبد الله بن سلام وغيره،
قاله مقاتل. وقال قتادة: هم أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المؤمنون
به كائنا من كان. وهي أربع وخمسون آية.
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1)
بِسْمِ
اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة سبإ (34): آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ
الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1)
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ)"
الَّذِي" في موضع خفض على النعت أو البدل. ويجوز أن يكون في موضع رفع على
إضمار مبتدأ، وأن يكون في موضع نصب بمعنى أعني. وحكى سيبويه" الحمد لله أهل
الحمد" بالرفع والنصب والخفض. والحمد الكامل والثناء الشامل كله لله، إذ
النعم كلها منه. وقد مضى الكلام فيه في أول الفاتحة «1». (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي
الْآخِرَةِ) قيل: هو قوله تعالى:" وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي
صَدَقَنا وَعْدَهُ" «2» [الزمر: 47]. وقيل: هو قوله" وَآخِرُ دَعْواهُمْ
أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ" «3» [يونس: 10] فهو المحمود في
الآخرة كما أنه المحمود في الدنيا، وهو المالك للآخرة كما أنه المالك للأولى.
(وَهُوَ الْحَكِيمُ) في فعله. (الْخَبِيرُ) بأمر خلقه.
[سورة سبإ (34): آية 2]
يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ
السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2)
قوله تعالى: (يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ) أي ما يدخل فيها من قطر وغيره،
كما قال:" فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ" «4» [الزمر: 21] من
الكنوز والدفائن والأموات وما هي له كفات «5». (وَما يَخْرُجُ مِنْها) من نبات
وغيره. (وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ) من الأمطار والثلوج والبرد والصواعق
والأرزاق والمقادير والبركات. وقرا علي بن أبي طالب" وما ننزل" بالنون
والتشديد. (وَما يَعْرُجُ فِيها) من الملائكة وأعمال العباد، قاله الحسن وغيره
(وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ).
__________
(1). راجع ج 1 ص 131.
(2). راجع ج 15 ص 284 فما بعد.
(3). راجع ج 8 ص 313.
(4). راجع ج 15 ص 245.
(5). الكفات: الموضع الذي يضم إليه الشيء ويقبض.
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)
[سورة
سبإ (34): الآيات 3 الى 4]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي
لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي
السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ
فِي كِتابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ
أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)
قوله تعالى: (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ) قيل: المراد
أهل مكة. قال مقاتل: قال أبو سفيان لكفار مكة: واللات والعزى لا تأتينا الساعة
أبدا ولا نبعث. فقال الله:" قُلْ" يا محمد" بَلى وَرَبِّي
لَتَأْتِيَنَّكُمْ" وروى هارون عن طلق المعلم قال: سمعت أشياخنا يقرءون"
قل بلى وربي ليأتينكم" بياء، حملوه على المعنى، كأنه قال: ليأتينكم البعث أو
أمره. كما قال:"لْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ
يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ
" «1» [الانعام: 158]. فهؤلاء الكفار مقرون بالابتداء منكرون الإعادة، وهو
نقض لما اعترفوا بالقدرة على البعث، وقالوا: وإن قدر لا يفعل. فهذا تحكم بعد أن
أخبر على ألسنة الرسل أنه يبعث الخلق، وإذا ورد الخبر بشيء وهو ممكن في الفعل
مقدور، فتكذيب من وجب صدقه محال. (عالم الغيب) بالرفع قراءة نافع وابن كثير على
الابتداء، وخبره (لا يَعْزُبُ عَنْهُ) وقرا عاصم وأبو عمرو" عالِمِ"
بالخفض، أي الحمد لله عالم، فعلى هذه القراءة لا يحسن الوقف على قوله:"
لَتَأْتِيَنَّكُمْ". وقرا حمزة والكسائي:" علام الغيب" على
المبالغة والنعت. (لا يَعْزُبُ عَنْهُ) أي لا يغيب عنه،" ويعزب" أيضا.
قال الفراء: والكسر أحب إلى. النحاس: وهي قراءة يحيى بن وثاب، وهي لغة معروفة.
يقال: عزب يعزب ويعزب إذا بعد وغاب. (مِثْقالُ ذَرَّةٍ) أي قدر نملة صغيرة. (فِي
السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ) وفي
قراءة الأعمش" وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ" بالفتح فيهما
عطفا على" ذَرَّةٍ". وقراء العامة
__________
(1). راجع ج 10 ص 102.
وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5)
بالرفع
عطفا على" مِثْقالُ". (إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) فهو العالم بما خلق
ولا يخفى عليه شي. (لِيَجْزِيَ) منصوب بلام كي، والتقدير: لتأتينكم ليجزي.
(الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) بالثواب، والكافرين بالعقاب.
(أُولئِكَ) يعني المؤمنين. (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) لذنوبهم. (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) وهو
الجنة.
[سورة سبإ (34): آية 5]
وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ
أَلِيمٌ (5)
قوله تعالى: (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا) أي في إبطال أدلتنا والتكذيب
بآياتنا. (مُعاجِزِينَ) مسابقين يحسبون أنهم يفتوننا، وأن الله لا يقدر على بعثهم
في الآخرة، وظنوا أنا نهملهم، فهؤلاء" لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ
أَلِيمٌ" يقال: عاجزة وأعجزه إذا غالبه وسبقه. و" أليم" قراءة نافع
بالكسر نعتا للرجز، فإن الرجز هو العذاب، قال الله تعالى:" فَأَنْزَلْنا
عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ" «1» [البقرة: 59]. وقرا
ابن كثير وحفص عن عاصم" عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ" برفع"
الميم" هنا وفي" الجاثية" «2» نعتا للعذاب. وقرا ابن كثير وابن
محيصن وحميد بن قيس ومجاهد وأبو عمرو" معجزين" مثبطين، أي ثبطوا الناس
عن الايمان بالمعجزات وآيات القرآن.
[سورة سبإ (34): آية 6]
وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ
الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6)
لما ذكر الذين سعوا في إبطال النبوة بين أن الذين أوتوا العلم يرون أن القرآن حق.
قال مقاتل:" الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ" هم مؤمنو أهل الكتاب. وقال
ابن عباس: هم أصحاب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقيل جميع المسلمين،
وهو أصح لعمومه. والرؤية بمعنى العلم، وهو في موضع نصب عطفا على"
لِيَجْزِيَ" أي ليجزي وليرى، قاله الزجاج والفراء. وفية نظر،
__________
(1). راجع ج 1 ص 415 فما بعد.
(2). راجع ج 16 ص 159 فما بعد.
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7)
لان
قوله:" لِيَجْزِيَ" متعلق بقوله:" لَتَأْتِيَنَّكُمْ" الساعة،
ولا يقال: لتأتينكم الساعة ليرى الذين أوتوا العلم أن القرآن حق، فإنهم يرون
القرآن حقا وإن لم تأتهم الساعة. والصحيح أنه رفع على الاستئناف، ذكره القشيري.
قلت: وإذا كان" لِيَجْزِيَ" متعلقا بمعنى أثبت ذلك في كتاب مبين، فيحسن
عطف" وَيَرَى" [عليه [، أي وأثبت أيضا ليرى «1» الذين أوتوا العلم أن
القرآن حق. ويجوز أن يكون مستأنفا." الَّذِي" في موضع نصب على أنه مفعول
أول ل"- يَرَى"" هُوَ الْحَقَّ" مفعول ثان، و"
هُوَ" فاصلة. والكوفيون يقولون" هُوَ" عماد. ويجوز الرفع على أنه
مبتدأ. و" الْحَقَّ" خبره، والجملة في موضع نصب على المفعول الثاني،
والنصب أكثر فيما كانت فيه الالف واللام عند جميع النحويين، وكذا ما كان نكرة لا
يدخله الالف واللام فيشبه المعرفة. فإن كان الخبر اسما معروفا نحو قولك: كان أخوك
هو زيد، فزعم الفراء أن الاختيار فيه الرفع. وكذا كان محمد هو عمرو. وعلته في
اختياره الرفع أنه لم تكن فيه الالف واللام أشبه النكرة في قولك: كان زيد هو جالس،
لان هذا لا يجوز فيه إلا الرفع. (وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) أي
يهدي القرآن إلى طريق الإسلام الذي هو دين الله. ودل بقوله:"
الْعَزِيزِ" على أنه لا يغالب. وبقوله:" الْحَمِيدِ" على أنه لا
يليق به صفة العجز.
[سورة سبإ (34): آية 7]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا
مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7)
قوله تعالى:" وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ"
وإن شئت أدغمت اللام في النون لقربها منها." يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ
كُلَّ مُمَزَّقٍ" هذا إخبار عمن قال:" لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ
" [سبأ: 3] أي هل نرشدكم إلى رجل ينبئكم، أي يقول لكم: إنكم تبعثون بعد البلى
في القبور. وهذا صادر عن فرط إنكارهم. الزمخشري:" فإن قلت: كان رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مشهورا علما في قريش، وكان إنباؤه بالبعث شائعا
عندهم، فما معنى قولهم:
__________
(1). في الأصول: (وأثبت أيضا رؤية الذين ..).
أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8)
"
هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ" فنكروه لهم وعرضوا عليهم
الدلالة عليه، كما يدل على مجهول في أمر مجهول. قلت: كانوا يقصدون بذلك الطنز «1»
والهزؤ والسخرية، فأخرجوه مخرج التحكي «2» ببعض الاحاجي التي يتحاجى بها للضحك
والتلهي، متجاهلين به وبأمره. و" إِذا" في موضع نصب والعامل فيها"
مُزِّقْتُمْ" قاله النحاس. ولا يجوز أن يكون العامل فيها"
يُنَبِّئُكُمْ"، لأنه ليس يخبرهم ذلك الوقت. ولا يجوز أن يكون العامل فيها ما
بعد" إن"، لأنه لا يعمل فيما قبله، وألا يتقدم عليها ما بعدها ولا
معمولها. وأجاز الزجاج أن يكون العامل فيها محذوفا، التقدير: إذا مزقتم كل ممزق
بعثتم، أو ينبئكم بأنكم تبعثون إذا مزقتم. المهدوي: ولا يعمل فيه"
مُزِّقْتُمْ"، لأنه مضاف إليه، والمضاف إليه لا يعمل في المضاف. وأجازه بعضهم
على أن يجعل" إذا" للمجازاة، فيعمل فيها حينئذ ما بعدها لأنها غير مضافة
إليه. وأكثر ما تقع" إذا" للمجازاة في الشعر. ومعنى" مزقتم كل
ممزق" فرقتم كل تفريق. والمزق خرق الأشياء، يقال: ثوب مزيق وممزوق ومتمزق
وممزق.
[سورة سبإ (34): آية 8]
أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ
بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (8)
قوله تعالى: (أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً) لما دخلت ألف الاستفهام استغنيت عن
ألف الوصل فحذفتها، وكان فتح ألف الاستفهام فرقا بينها وبين ألف الوصل. وقد مضى
هذا في سورة" مريم" عند قوله تعالى:" أَطَّلَعَ الْغَيْبَ"
«3» [مريم: 78] مستوفى. (أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) هذا مردود على ما تقدم من قول
المشركين، والمعنى: قال المشركون" أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً".
والافتراء الاختلاق." أَمْ بِهِ جِنَّةٌ" أي جنون، فهو يتكلم بما لا
يدري. ثم رد عليهم فقال: (بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي
الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ) أي ليس الامر كما قالوا، بل هو أصدق الصادقين،
ومن ينكر البعث فهو غدا في العذاب، واليوم في الضلال عن الصواب، إذ صاروا إلى
تعجيز الاله ونسبة الافتراء إلى من أيده الله بالمعجزات.
__________
(1). الطنز: السخرية.
(2). في الكشاف والبحر: (التحلي) باللام.
(3). راجع ج 11 ص 147
أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)
[سورة
سبإ (34): آية 9]
أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ
وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ
كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)
أعلم الله تعالى أن الذي قدر على خلق السماوات والأرض وما فيهن قادر على البعث
وعلى تعجيل العقوبة لهم، فاستدل بقدرته عليهم، وأن السماوات والأرض ملكه، وأنهما محيطتان
بهم من كل جانب، فكيف يأمنون الخسف والكسف كما فعل بقارون وأصحاب الأيكة. وقرا
حمزة والكسائي" إن يشأ يخسف بهم الأرض أو يسقط" بالياء في الثلاث، أي إن
يشأ الله أمر الأرض فتنخسف بهم، أو السماء فتسقط عليهم كسفا. الباقون بالنون على
التعظيم. وقرا السلمي وحفص" كسفا" بفتح السين. الباقون بالإسكان. وقد
تقدم بيانه في" سبحان" «1»" وغيرها. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) أي
في هذا الذي ذكرناه من قدرتنا" لآية" أي دلالة ظاهرة. (لِكُلِّ عَبْدٍ
مُنِيبٍ) أي تائب رجاع إلى الله بقلبه. وخص المنيب بالذكر لأنه المنتفع بالفكرة في
حجج الله وآياته.
[سورة سبإ (34): آية 10]
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ
وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10)
(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا) بين لمنكري نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن إرسال الرسل ليس أمرا بدعا، بل أرسلنا الرسل وأيدناهم
بالمعجزات، وأحللنا بمن خالفهم العقاب." آتَيْنا" أعطينا."
فضلا" أي أمرا فضلناه به على غيره. واختلف في هذا الفضل على تسعة أقوال:
الأول- النبوة. الثاني- الزبور. الثالث- العلم، قال الله تعالى:" وَلَقَدْ
آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً" «2» [النمل: 15]. الرابع- القوة، قال
الله تعالى:" وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ" «3» [ص: 71].
الخامس- تسخير
__________
(1). راجع ج 10 ص (330)
(2). راجع ج 13 ص 163 فما بعد. [.....]
(3). راجع ج 15 ص 158
الجبال
والناس، قال الله تعالى:" يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ" «1». السادس-
التوبة، قال الله تعالى:" فَغَفَرْنا «2» لَهُ ذلِكَ" [ص: 25]. السابع:
الحكم بالعدل، قال الله تعالى:" يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ «3» خَلِيفَةً
فِي الْأَرْضِ" [ص: 26] الآية. الثامن- إلانة الحديد، قال تعالى:"
وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ" «4». التاسع- حسن الصوت، وكان داود عليه السلام
ذا صوت حسن ووجه حسن. وحسن الصوت هبة من الله تعالى وتفضل منه، وهو المراد بقوله
تبارك وتعالى:" يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ" «5» [فاطر: 1] على ما
يأتي إن شاء الله تعالى. وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لابي موسى: (لقد
أوتيت مزمارا من مزامير آل داود). قال العلماء: المزمار والمزمور الصوت الحسن، وبه
سميت آلة الزمر مزمارا. وقد استحسن كثير من فقهاء الأمصار القراءة بالتزيين
والترجيع. وقد مضى هذا في مقدمة الكتاب «6» والحمد لله. قوله تعالى: (يا جِبالُ
أَوِّبِي مَعَهُ) أي وقلنا يا جبال أوبي معه، أي سبحي معه، لأنه قال تبارك
وتعالى:" إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ
وَالْإِشْراقِ" «7» [ص: 18]. قال أبو ميسرة: هو التسبيح بلسان الحبشة، ومعنى
تسبيح الجبال: هو أن الله تعالى خلق فيها تسبيحا كما خلق الكلام في الشجرة، فيسمع
منها ما يسمع من المسبح معجزة لداود عليه الصلاة والسلام. وقيل: المعنى سيرى معه
حيث شاء، من التأويب الذي هو سير النهار أجمع وينزل الليل. قال ابن مقبل:
لحقنا بحي أوبوا السير بعد ما ... دفعنا شعاع الشمس والطرف يجنح
وقرا الحسن وقتادة وغيرهما:" أوبي معه" أي رجعي معه، من آب يؤوب إذا
رجع، أوبا وأوبة وإيابا. وقيل: المعنى تصرفي معه على ما يتصرف عليه داود بالنهار،
فكان إذا قرأ الزبور صوتت الجبال معه، وأصغت إليه الطير، فكأنها فعلت ما فعل. وقال
وهب ابن منبه: المعنى نوحي معه والطير تساعده على ذلك، فكان إذا نادى بالنياحة
أجابته الجبال
__________
(1). راجع ج 15 ص 184
(2). راجع ج 15 ص 188
(3). راجع ج 15 159
(4). راجع ج 15 159
(5). راجع ص 318 فما بعد من هذا الجزء.
(6). راجع ج 1 ص 11 فما بعد.
(7). راجع ج 15 ص 159
بصداها،
وعكفت الطير عليه من فوقه. فصدى الجبال الذي يسمعه الناس إنما كان من ذلك اليوم
إلى هذه الساعة، فأيد بمساعدة الجبال والطير لئلا يجد فترة «1»، فإذا دخلت الفترة
اهتاج، أي ثار وتحرك، وقوى بمساعدة الجبال والطير. وكان قد أعطي من الصوت ما
يتزاحم الوحوش من الجبال على حسن صوته، وكان الماء الجاري ينقطع عن الجري وقوفا
لصوته." والطير" بالرفع قراءة ابن أبي إسحاق ونصر عن عاصم وابن هرمز
ومسلمة بن عبد الملك، عطفا على لفظ الجبال، أو على المضمر في" أوبي"
وحسنه الفصل بمع. الباقون بالنصب عطفا على موضع" يا جبال" أي نادينا
الجبال والطير، قاله سيبويه. وعند أبي عمرو ابن العلاء بإضمار فعل على معنى وسخرنا
له الطير. وقال الكسائي: هو معطوف، أي وآتيناه الطير، حملا على" ولقد آتينا
داود ما فضلا". النحاس: ويجوز أن يكون مفعولا معه، كما تقول: استوى الماء
والخشبة. وسمعت الزجاج يجيز: قمت وزيدا، فالمعنى أوبي معه ومع الطير. (وَأَلَنَّا
لَهُ الْحَدِيدَ) قال ابن عباس: صار عنده كالشمع. وقال الحسن: كالعجين، فكان يعمله
من غير نار. وقال السدي: كان الحديد في يده كالطين المبلول والعجين والشمع، يصرفه
كيف شاء، من غير إدخال نار ولا ضرب بمطرقة. وقاله مقاتل. وكان يفرغ من الدرع في
بعض اليوم أو بعض الليل، ثمنها ألف درهم. وقيل: أعطي قوة يثنى بها الحديد، وسبب
ذلك أن داود عليه السلام، لما ملك بني إسرائيل لقي ملكا وداود يظنه إنسانا، وداود
متنكر خرج يسأل عن نفسه وسيرته في بني إسرائيل في خفاء، فقال داود لذلك الشخص الذي
تمثل له: (ما قولك في هذا الملك داود)؟ فقال له الملك (نعم العبد لولا خلة فيه)
قال داود: (وما هي)؟ قال: (يرتزق من بيت المال ولو أكل من عمل يده لتمت فضائله).
فرجع فدعا الله في أن يعلمه صنعة ويسهلها عليه، فعلمه صنعة لبوس كما قال عز وجل في
سورة الأنبياء «2»، فألان له الحديد فصنع الدروع، فكان يصنع الدرع فيما بين يومه
وليلته يساوي ألف درهم، حتى ادخر منها كثيرا وتوسعت
__________
(1). الفترة: الضعف.
(2). راجع ج 11 ص 320
أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11)
معيشة
منزله، ويتصدق على الفقراء والمساكين، وكان ينفق ثلث المال في مصالح المسلمين، وهو
أول من اتخذ الدروع وصنعها وكانت قبل ذلك صفائح. ويقال: إنه كان يبيع كل درع منها
بأربعة آلاف. والدرع مؤنثة إذا كانت للحرب. ودرع المرأة مذكر. مسألة- في هذه الآية
دليل على تعلم أهل الفضل الصنائع، وأن التحرف بها لا ينقص من مناصبهم، بل ذلك
زيادة في فضلهم وفضائلهم، إذ يحصل لهم التواضع في أنفسهم والاستغناء عن غيرهم،
وكسب الحلال الخلي عن الامتنان. وفي الصحيح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قال: (إن خير ما أكل المرء من عمل يده وإن نبي الله داود كان يأكل من
عمل يده). وقد مضى هذا في" الأنبياء مجودا والحمد لله.
[سورة سبإ (34): آية 11]
أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11)
قوله تعالى: (أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ) أي دروعا سابغات، أي كوامل تامات واسعات،
يقال: سبغ الدرع والثوب وغيرهما إذا غطى كل ما هو عليه وفضل منه. (وَقَدِّرْ فِي
السَّرْدِ) قال قتادة: كانت الدروع قبله صفائح فكانت ثقالا، فلذلك أمر هو بالتقدير
فيما يجمع من الخفة والحصانة. أي قدر ما تأخذ من هذين المعنيين بقسطه. أي لا تقصد
الحصانة فتثقل، ولا الخفة فتزيل المنعة. وقال ابن زيد: التقدير الذي أمر به هو في
قدر الحلقة، أي لا تعملها صغيرة فتضعف فلا تقوى الدروع على الدفاع، ولا تعملها
كبيرة فينال لابسها. وقال ابن عباس: التقدير الذي أمر به هو في المسمار، أي لا
تجعل مسمار الدرع رقيقا فيقلق «1»، ولا غليظا فيفصم الحلق. روي" يقصم"
بالقاف، والفاء أيضا رواية." فِي السَّرْدِ" السرد نسج حلق الدروع، ومنه
قيل لصانع حلق الدروع: السراد والزراد، تبدل من السين الزاي، كما قيل: سراط وزراط.
والسرد: الخرز، يقال: سرد يسرد إذا خرز. والمسرد: الأشفى، ويقال سراد، قال الشماخ:
__________
(1). القلق: ألا يستقر في مكان واحد.
وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12)
فظلت
«1» تباعا خيلنا في بيوتكم ... كما تابعت سرد العنان الخوارز
والسراد: السير الذي يخرز به، قال لبيد:
يشك صفائحها بالروق شزرا ... كما خرج السراد من النقال «2»
ويقال: قد سرد الحديث والصوم، فالسرد فيهما أن يجئ بهما «3» ولاء في نسق واحد،
ومنه سرد الكلام. وفي حديث عائشة: لم يكن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يسرد الحديث كسردكم، وكان يحدث الحديث لو أراد العاد أن يعده لأحصاه. قال سيبويه:
ومنه رجل سرندي أي جريء، قال: لأنه يمضي قوما «4». واصل ذلك في سرد الدرع، وهو أن
يحكمها ويجعل نظام حلقها ولاء غير مختلف. قال لبيد:
صنع الحديد مضاعفا أسراده ... لينال طول العيش غير مروم
وقال أبو ذؤيب:
وعليهما مسرودتان قضاهما ... داود أو صنع السوابغ تبع «5»
(وَاعْمَلُوا صالِحاً) أي عملا صالحا. وهذا خطاب لداود واهلة، كما قال:"
اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً" [سبأ: 13]. (إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ
بَصِيرٌ).
[سورة سبإ (34): آية 12]
وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ
عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ
وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (12)
قوله تعالى: (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ) قال الزجاج، التقدير وسخرنا لسليمان الريح.
وقرا عاصم في رواية أبي بكر عنه:" الريح" بالرفع على الابتداء، والمعنى
له تسخير الريح، أو بالاستقرار،
__________
(1). رواية البيت كما في ديوانه:
شككن بأحشاء الذنابى على هدى ... كما تابعت ......... إلخ
(2). الروق: القرن. والنقال: جمع النقل (بالتحريك) والنقل وهو الخف الخلق.
(3). في الأصول: (به). [.....]
(4). أي لم يعرج ولم ينثن يوصف به الذكر والأنثى.
(5). قضاهما أحكمهما أو فرغ منهما. والصنع (بالتحريك): الحذق في العمل. والصنع
هاهنا تبع وهو ملك من ملوك حمير. ويروى: (أو صنع السوابغ).
أي
ولسليمان الريح ثابتة، وفية ذلك المعنى الأول. فإن قال قائل: إذا قلت أعطيت زيدا
درهما ولعمرو دينار، فرفعته فلم يكن فيه معنى الأول، وجاز أن يكون لم تعطه
الدينار. وقيل: الامر كذا ولكن الآية على خلاف هذا من جهة المعنى، لأنه قد علم أنه
لم يسخرها أحد إلا الله عز وجل. (غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ) أي مسيرة
شهر. قال الحسن: كان يغدو من دمشق فيقيل بإصطخر، وبينهما مسيرة شهر للمسرع، ثم
يروح من إصطخر ويبيت بكابل، وبينهما شهر للمسرع. قال السدي: كانت تسير به في اليوم
مسيرة شهرين. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان سليمان إذا جلس نصبت حواليه
أربعمائة ألف كرسي، ثم جلس رؤساء الانس مما يليه، وجلس سفلة الانس مما يليهم، وجلس
رؤساء الجن مما يلي سفلة الانس، وجلس سفلة الجن مما يليهم، وموكل بكل كرسي طائر
لعمل قد عرفه، ثم تقلهم الريح، والطير تظلهم من الشمس، فيغدو من بيت المقدس إلى
إصطخر، فيبيت ببيت المقدس، ثم قرأ ابن عباس:" غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها
شَهْرٌ". وقال وهب بن منبه: ذكر لي أن منزلا بناحية دجلة مكتوبا فيه- كتبه
بعض صحابة سليمان، إما من الجن وإما من الانس-: نحن نزلنا وما بنيناه، ومبنيا
وجدناه، غدونا من إصطخر فقلناه، ونحن رائحون منه إن شاء الله تعالى فبائتون في
الشام. وقال الحسن: شغلت سليمان الخيل حتى فاتته صلاة العصر، فعقر الخيل فأبدله
الله خيرا منها وأسرع، أبدل الريح تجري بأمره حيث شاء، غدوها شهر ورواحها شهر.
وقال ابن زيد: كان مستقر سليمان بمدينة تدمر، وكان أمر الشياطين قبل شخوصه من
الشام إلى العراق، فبنوها له بالصفاح «1» والعمد والرخام الأبيض والأصفر. وفية
يقول النابغة:
إلا سليمان إذ قال الاله له ... قم في البرية فاحددها «2» عن الفند
وخيس «3» الجن إنى قد أذنت لهم ... يبنون تدمر بالصفاح والعمد
__________
(1). الصفاح (كرمان): حجارة عريضة رقيقة.
(2). الحد: المنع. والفند: الخطأ.
(3). خيس: ذلل.
فمن
أطاعك فانفعه بطاعته ... كما أطاعك وأدلله على الرشد
ومن عصاك فعاقبه معاقبة ... تنهى الظلوم ولا تقعد على ضمد «1»
ووجدت هذه الأبيات منقورة في صخرة بأرض يشكر، أنشأهن بعض أصحاب سليمان عليه الصلاة
والسلام:
ونحن ولا حول سوى حول ربنا ... نروح إلى الأوطان من أرض تدمر
إذا نحن رحنا كان ريث رواحنا ... مسيرة شهر والغدو لآخر
أناس شروا لله طوعا نفوسهم ... بنصر ابن داود النبي المطهر
لهم في معالي الدين فضل ورفعة «2» ... وإن نسبوا يوما فمن خير معشر
متى يركبوا الريح المطيعة أسرعت ... مبادرة عن شهرها لم تقصر
تظلهم طير صفوف عليهم ... متى رفرفت من فوقهم لم تنفر
قوله تعالى: (وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ) القطر: النحاس، عن ابن عباس
وغيره. أسيلت له مسيرة ثلاثة أيام كما يسيل الماء، وكانت بأرض اليمن، ولم يذب
النحاس فيما روي لاحد قبله، وكان لا يذوب، ومن وقته ذاب، وإنما ينتفع الناس اليوم
بما أخرج الله تعالى لسليمان. قال قتادة: أسأل الله عينا يستعملها فيما يريد. وقيل
لعكرمة: إلى أين سألت؟ فقال: لا أدري! وقال ابن عباس ومجاهد والسدي: أجريت له عين
الصفر ثلاثة أيام بلياليهن. قال القشيري: وتخصيص الاسالة بثلاثة أيام لا يدرى ما
حده، ولعله وهم من الناقل، إذ في رواية عن مجاهد: أنها سألت من صنعاء ثلاث ليال
مما يليها، وهذا يشير إلى بيان الموضع لا إلى بيان المدة. والظاهر أنه جعل النحاس
لسليمان في معدنه عينا تسيل كعيون المياه، دلالة على نبوته. وقال الخليل: القطر:
النحاس المذاب. قلت: دليله قراءة من قرأ:" من قطران". (وَمِنَ الْجِنِّ
مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ) أي بأمره (وَمَنْ يَزِغْ
مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا) الذي أمرناه به من طاعة سليمان.
__________
(1). الضمد: الحقد.
(2). في الأصول:) رأفة) والتصويب عن البحر وروح المعاني.
يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)
(نُذِقْهُ
مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ) أي في الآخرة، قاله أكثر المفسرين. وقيل ذلك في الدنيا،
وذلك أن الله تعالى وكل بهم- فيما روى السدي- ملكا بيده سوط من نار، فمن زاغ عن
أمر سليمان ضربه بذلك السوط ضربة من حيث لا يراه فأحرقته. و" مِنَ" في
موضع نصب بمعنى وسخرنا له من الجن من يعمل. ويجوز أن يكون في موضع رفع، كما تقدم
في الريح.
[سورة سبإ (34): آية 13]
يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ
وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ
الشَّكُورُ (13)
فيه ثماني مسائل: الاولى- قوله تعالى:" مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ"
المحراب في اللغة: كل موضع مرتفع. وقيل للذي يصلي فيه: محراب، لأنه يجب أن يرفع
ومعظم. وقال الضحاك:" مِنْ مَحارِيبَ" أي من مساجد. وكذا قال قتادة.
وقال مجاهد: المحاريب دون القصور. وقال أبو عبيدة: المحراب أشرف بيوت الدار. قال:
وماذا عليه أن ذكرت أو أنسا ... كغزلان رمل في محاريب أقيال «1»
وقال عدي بن زيد:
كدمي العاج في المحاريب أو كال ... - بيض في الروض زهره مستنير
وقيل: هو ما يرقى إليه بالدرج كالغرفة الحسنة، كما قال:" إِذْ تَسَوَّرُوا
الْمِحْرابَ" «2» [ص: 21] وقوله:" فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ
الْمِحْرابِ" «3» [مريم: 11] أي أشرف عليهم. وفي الخبر (أنه أمر أن يعمل حول
كرسيه ألف محراب فيها ألف رجل عليهم المسوح يصرخون إلى الله دائبا، وهو على الكرسي
في موكبه والمحاريب حوله، ويقول لجنوده إذا ركب: سبحوا الله إلى ذلك العلم، فإذا
بلغوه قال: هللوه إلى ذلك العلم فإذا بلغوه قال: كبروه إلى ذلك العلم الآخر، فتلج
الجنود بالتسبيح والتهليل لجة واحدة.
__________
(1). البيت لامرئ القيس. والأقيال: جمع قيل وهو الملك.
(2). راجع ج 15 ص (165)
(3). راجع ج 11 ص 14
الثانية-
قوله تعالى: (وَتَماثِيلَ) جمع تمثال. وهو كل ما صور على مثل صورة من حيوان أو غير
حيوان. وقيل: كانت من زجاج ونحاس ورخام تماثيل أشياء ليست بحيوان. وذكر أنها صور
الأنبياء والعلماء، وكانت تصور في المساجد ليراها الناس فيزدادوا عبادة واجتهادا،
قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن أولئك كان إذا مات فيهم الرجل الصالح
بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور). أي ليتذكروا عبادتهم فيجتهدوا في
العبادة. وهذا يدل على أن التصوير كان مباحا في ذلك الزمان، ونسخ ذلك بشرع محمد
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وسيأتي لهذا مزيد بيان في سورة"
نوح" «1» عليه السلام. وقيل: التماثيل طلسمات كان يعملها، ويحرم على كل مصور
أن يتجاوزها فلا يتجاوزها، فيعمل تمثالا للذباب أو للبعوض أو للتماسيح في مكان،
ويأمرهم ألا يتجاوزوه فلا يتجاوزه واحد أبدا ما دام ذلك التماثل قائما. وواحد
التماثيل تمثال بكسر التاء. قال:
ويا رب يوم قد لهوت وليلة ... بآنسة كأنها خط تمثال «2»
وقيل: إن هذه التماثيل رجال اتخذهم من نحاس وسأل ربه أن ينفخ فيها الروح ليقاتلوا
في سبيل الله ولا يحيك «3» فيهم السلاح. ويقال: إن إسفنديار كان منهم، والله أعلم.
وروي أنهم عملوا له أسدين في أسفل كرسيه ونسرين فوقه، فإذا أراد أن يصعد بسط
الأسدان له ذراعيهما، وإذا قعد أطلق النسران أجنحتهما. الثالثة- حكى مكي في
الهداية له: أن فرقة تجوز التصوير، وتحتج بهذه الآية. قال ابن عطية: وذلك خطأ، وما
أحفظ عن أحد من أئمة العلم من يجوزه. قلت: ما حكاه مكي ذكره النحاس قبله، قال
النحاس: قال قوم عمل الصور جائز لهذه الآية، ولما أخبر الله عز وجل عن المسيح.
وقال قوم: قد صح النهي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عنها والتوعد
لمن عملها أو أتخذها، فنسخ الله عز وجل بهذا ما كان مباحا قبله، وكانت الحكمة في
ذلك لأنه بعث عليه السلام والصور تعبد، فكان الأصلح إزالتها.
__________
(1). راجع ج 18 ص 307 فما بعد.
(2). البيت لامرئ القيس.
(3). حاك السيف حيكا: أثر وعمل.
الرابعة-
التمثال على قسمين: حيوان وموات. والموات على قسمين: جماد ونام، وقد كانت الجن
تصنع لسليمان جميعه، لعموم قوله:" وَتَماثِيلَ". وفي الإسرائيليات: أن
التماثيل من الطير كانت على كرسي سليمان. فإن قيل: لا عموم لقوله:"
وَتَماثِيلَ" فإنه إثبات في نكره، والإثبات في النكرة لا عموم له، إنما
العموم في النفي في النكرة. قلنا: كذلك هو، بيد أنه قد اقترن بهذا الإثبات في
النكرة ما يقتضي حمله على العموم، وهو قوله:" ما يَشاءُ" فاقتران
المشيئة به يقتضي العموم له. فإن قيل: كيف استجاز الصور المنهي عنها؟ قلنا: كان
ذلك جائزا في شرعه ونسخ ذلك بشرعنا كما بينا، والله أعلم. وعن أبي العالية: لم يكن
اتخاذ الصور إذ ذاك محرما. الخامسة- ومقتضى الأحاديث يدل على أن الصور ممنوعة، ثم
جاء (إلا ما كان رقما «1» في ثوب) فخص من جملة الصور، ثم ثبتت الكراهية فيه بقوله
عليه السلام لعائشة في الثوب: (أخريه عني فإني كلما رأيته ذكرت الدنيا). ثم بهتكه
«2» الثوب المصور على عائشة منع منه، ثم بقطعها له وسادتين تغيرت الصورة وخرجت عن
هيئتها، فإن جواز ذلك إذا لم تكن الصورة فيه متصلة الهيئة، ولو كانت متصلة الهيئة
لم يجز، لقولها في النمرقة المصورة: «3» اشتريتها لك لتقعد عليها وتوسدها، فمنع
منه وتوعد عليه. وتبين بحديث الصلاة إلى الصور أن ذلك جائز في الرقم في الثوب ثم
نسخه المنع منه. فهكذا استقر الامر فيه والله أعلم، قاله ابن العربي. السادسة- روى
مسلم عن عائشة قالت: كان لنا ستر فيه تمثال طائر وكان الداخل إذا دخل استقبله،
فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (حولي هذا فإني كلما دخلت
فرأيته ذكرت الدنيا). قالت: وكانت لنا قطيفة كنا نقول علمها حرير، فكنا نلبسها.
وعنها قالت: دخل علي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنا مستترة
بقرام «4» فيه صورة، فتلون وجهه،
__________
(1). الرقم: النقش والوشي. [.....]
(2). الهتك: الخرق والشق.
(3). النمرقة (بضم النون والراء وبكسرهما وبغير هاء): الوسادة.
(4). القرام: الستر الرقيق.
ثم
تناول الستر فهتكه، ثم قال: (إن من أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يشبهون بخلق
الله عز وجل). وعنها: أنه كان لها ثوب فيه تصاوير ممدود إلى سهوة «1»، فكان النبي
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي إليه فقال: (أخريه عني) قالت: فأخرته
فجعلته وسادتين. قال بعض العلماء: ويمكن أن يكون تهتيكه عليه السلام الثوب وأمره
بتأخيره ورعا، لان محل النبوة والرسالة الكمال. فتأمله. السابعة- قال المزني عن
الشافعي: إن دعي رجل إلى عرس فرأى صورة ذات روح أو صورا ذات أرواح، لم يدخل إن
كانت منصوبة. وإن كانت توطأ فلا بأس، وإن كانت صور الشجر. ولم يختلفوا أن التصاوير
في الستور المعلقة مكروهة غير محرمة. وكذلك عندهم ما كان خرطا أو نقشا في البناء.
واستثنى بعضهم (ما كان رقما في ثوب)، لحديث سهل بن حنيف. قلت: لعن رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المصورين ولم يستثن. وقوله: (إن أصحاب هذه
الصور يعذبون يوم القيامة ويقال لهم أحيوا ما خلقتم) ولم يستثن. وفي الترمذي عن
أبي هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الله عليه وسلم:
(يخرج عنق «2» من النار يوم القيامة له عينان تبصران وأذنان تسمعان ولسان ينطق
يقول: إني وكلت بثلاث: بكل جبار عنيد، وبكل من دعا مع الله إلها آخر وبالمصورين)
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب صحيح. وفي البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود
قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أشد الناس عذابا يوم
القيامة المصورون). يدل على المنع من تصوير شي، أي شي كان. وقد قال عز وجل:"
ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها" «3» [النمل: 60] على ما تقدم بيانه
فأعلمه. الثامنة- وقد أستثني من هذا الباب لعب البنات، لما ثبت، عن عائشة رضي الله
عنها أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تزوجها وهي بنت سبع سنين، وزفت
إليه وهي بنت تسع
__________
(1). السهوة: بيت صغير منحدر في الأرض قليلا شبيه بالمخدع والخزانة. وقيل: هو
كالصفة تكون بين يدي البيت. وقيل: شبيه بالرف أو الطاق يوضع فيه الشيء.
(2). العنق: القطعة.
(3). راجع ج 13 ص 219
ولعبها
معها، ومات عنها وهي بنت ثمان عشرة سنة. وعنها أيضا قالت: كنت ألعب بالبنات عند
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان لي صواحب يلعبن معي، فكان رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا دخل ينقمعن «1» منه فيسربهن «2» إلي فيلعبن
معي. خرجهما مسلم. قال العلماء: وذلك للضرورة إلى ذلك وحاجة البنات حتى يتدربن على
تربية أولادهن. ثم إنه لا بقاء لذلك، وكذلك ما يصنع من الحلاوة أو من العجين لا
بقاء له، فرخص في ذلك، والله أعلم. قوله تعالى: (وَجِفانٍ كَالْجَوابِ) قال ابن
عرفة: الجوابي جمع الجابية، وهي حفيرة كالحوض. وقال: كحياض الإبل. وقال ابن القاسم
عن مالك: كالجوبة من الأرض، والمعنى متقارب. وكان يقعد على الجفنة الواحدة ألف
رجل. النحاس:" وَجِفانٍ كَالْجَوابِ" الاولى أن تكون بالياء، ومن حذف
الياء قال سبيل الالف واللام أن تدخل على النكرة فلا يغيرها عن حالها، فلما كان
يقال جواب ودخلت الالف واللام أقر على حاله فحذف الياء. وواحد الجوابي جابية، وهي
القدر العظيمة، والحوض العظيم الكبير الذي يجبى فيه الشيء أي يجمع، ومنه جبيت
الخراج، وجبيت الجراد، أي جعلت الكساء فجمعته فيه. إلا أن ليثا روى عن مجاهد قال:
الجوابي جمع جوبة، والجوبة الحفرة الكبيرة تكون في الجبل فيها ماء المطر. وقال
الكسائي: جبوت الماء في الحوض وجبيته أي جمعته، والجابية: الحوض الذي يجبى فيه
الماء للإبل، قال:
تروح على آل المحلق جفنة ... كجابية الشيخ العراقي تفهق «3»
ويروى أيضا.
نفي الذم عن آل المحلق جفنة ... كجابية السيح «4» ....
ذكره النحاس.
__________
(1). أي يتغيبن ويدخلن في بيت أو من وراء ستر حياء وهيبة له عليه السلام.
(2). أي يرسلهن ويبعثهن
(3). البيت للأعشى. والفهق: الامتلاء. وخص العراقي لجهله بالمياه لأنه حضري فذا
وجدها ملا جابيته واعدها ولم يدر متى يجد المياه وأما البدوي فهو عالم بالمياه فهو
لا يبالى ألا يعدها.
(4). السيح: الماء الظاهر الجاري على وجه الأرض.
قوله
تعالى: (وَقُدُورٍ راسِياتٍ) قال سعيد بن جبير: هي قدور النحاس تكون بفارس. وقال
الضحاك: هي قدور تعمل من الجبال. غيره: قد نحتت من الجبال الصم مما عملت له
الشياطين، أثافيها «1» منها منحوتة هكذا من الجبال. ومعنى" راسِياتٍ" ثوابت،
لا تحمل ولا تحرك لعظمها. قال ابن العربي: وكذلك كانت قدور عبد الله بن جدعان،
يصعد إليها في الجاهلية بسلم. وعنها عبر طرفة بن العبد بقوله:
كالجوابي لا تني مترعة ... لقرى الأضياف أو للمحتضر
قال ابن العربي: ورأيت برباط أبي سعيد قدور الصوفية على نحو ذلك، فإنهم يطبخون
جميعا ويأكلون جميعا من غير استئثار واحد منهم على أحد. قوله تعالى: (اعْمَلُوا
آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) قد مضى معنى الشكر
في" البقرة" «2» وغيرها. وروى أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ صعد المنبر فتلا هذه الآية ثم قال: (ثلاث من أوتيهن فقد أوتي مثل ما
أوتي آل داود) قال فقلنا: ما هن. فقال: (العدل في الرضا والغضب. والقصد في الفقر
والغنى. وخشية الله في السر والعلانية). خرجه الترمذي الحكيم أبو عبد الله عن عطاء
بن يسار عن أبي هريرة. وروي أن داود عليه السلام قال: (يا رب كيف أطيق شكرك على
نعمك. وإلهامي وقدرتي على شكرك نعمة لك) فقال: (يا داود الآن عرفتني). وقد مضى هذا
المعنى في سورة" إبراهيم" «3». وأن الشكر حقيقته الاعتراف بالنعمة
للمنعم واستعمالها في طاعته، والكفران استعمالها في المعصية. وقليل من يفعل ذلك، لان
الخير أقل من الشر، والطاعة أقل من المعصية، بحسب سابق التقدير. وقال مجاهد: لما
قال الله تعالى" اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً" قال داود لسليمان: أن
الله عز وجل قد ذكر الشكر فاكفني صلاة النهار أكفك صلاة الليل، قال: لا أقدر، قال:
فاكفني- قال الفاريابي، أراه قال إلى صلاة الظهر- قال نعم، فكفاه. وقال الزهري:
__________
(1). الأثافي (جمع الأثفية): ما يوضع عليه القدر.
(2). راجع ج 1 ص 397 فما بعد.
(3). راجع ج 9 ص 343.
فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)
"
اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً" أي قولوا الحمد لله. و" شُكْراً"
نصب على جهة المفعول، أي اعملوا عملا هو الشكر. وكان الصلاة والصيام والعبادات
كلها هي في نفسها الشكر إذ سدت مسدة، ويبين هذا قوله تعالى:" إِلَّا
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ" «1» [ص: 24]
وهو المراد بقوله" وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ". وقد قال سفيان
بن عيينة في تأويل قوله تعالى" أَنِ اشْكُرْ لِي" [لقمان: 14] أن المراد
بالشكر الصلوات الخمس. وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقوم من الليل حتى تفطر «2» قدماه، فقالت
له عائشة رضي الله عنها: أتصنع هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟
فقال: (أفلا أكون عبدا شكورا). انفرد بإخراجه مسلم. فظاهر القرآن والسنة أن الشكر
بعمل الأبدان دون الاقتصار على عمل اللسان، فالشكر بالأفعال عمل الأركان، والشكر
بالأقوال عمل اللسان. والله أعلم. قوله تعالى: (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ
الشَّكُورُ) يحتمل أن يكون مخاطبة لآل داود، ويحتمل أن يكون مخاطبة لمحمد صلى الله
الله عليه وسلم. قال ابن عطية: وعلى كل وجه ففيه تنبيه وتحريض. وسمع عمر بن الخطاب
رضي الله تعالى عنه رجلا يقول: اللهم اجعلني من القليل، فقال عمر: ما هذا الدعاء؟
فقال الرجل: أردت قوله تعالى" وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ".
فقال عمر رضي الله عنه: كل الناس أعلم منك يا عمر! وروي أن سليمان عليه السلام كان
يأكل الشعير ويطعم أهله الخشكار «3» ويطعم المساكين الدرمك «4». وقد قيل: إنه كان
يأكل الرماد ويتوسده، والأول أصح، إذ الرماد ليس بقوت. وروي أنه ما شبع قط، فقيل
له في ذلك فقال: أخاف إن شبعت أن أنسى الجياع. وهذا من الشكر ومن القليل، فتأمله،
والله أعلم.
[سورة سبإ (34): آية 14]
فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ
الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ
كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (14)
__________
(1). راجع ج 15 ص 165 فما بعد. [.....]
(2). تفطر: تتشقق.
(3). الخشكار: ما خشن من الطحين (فارسية).
(4). الدرمك: دقيق الحوارى. وهو الدقيق الأبيض.
قوله تعالى: (فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ) أي فلما حكمنا على سليمان بالموت حتى صار كالأمر المفروغ منه ووقع به الموت (ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ) وذلك أنه كان متكئا على المنسأة (وهي العصا بلسان الحبشة، في قول السدي. وقيل: هي بلغة اليمن، ذكره القشيري) فمات كذلك وبقي خافي الحال إلى أن سقط ميتا لانكسار العصا لأكل الأرض إياها، فعلم موته بذلك، فكانت الأرضة دالة على موته، أي سببا لظهور موته، وكان سأل الله تعالى ألا يعلموا بموته حتى تمضي عليه سنة. واختلفوا في سبب سؤاله لذلك على قو لين: أحدهما ما قاله قتادة وغيره، قال: كانت الجن تدعي علم الغيب، فلما مات سليمان عليه السلام وخفي موته عليهم" تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ" ابن مسعود: أقام حولا والجن تعمل بين يديه حتى أكلت الأرضة منسأته فسقط. ويروى أنه لما سقط لم يعلم منذ مات، فوضعت الأرضة على العصا فأكلت منها يوما وليلة ثم حسبوا على ذلك فوجدوه قد مات منذ سنة. وقيل: كان رؤساء الجن سبعة، وكانوا منقادين لسليمان عليه السلام، وكان داود عليه السلام أسس بيت المقدس فلما مات أوصى إلى سليمان في إتمام مسجد بيت المقدس، فأمر سليمان الجن به، فلما دنا وفاته قال لأهله: لا تخبروهم بموتى حتى يتموا بناء المسجد، وكان بقي لإتمامه سنة. وفي الخبر أن ملك الموت كان صديقه فسأل عن آية موته فقال: أن تخرج من موضع سجودك شجرة يقال لها الخرنوبة، فلم يكن يوم يصبح فيه إلا تنبت في بيت المقدس شجرة فيسألها: ما اسمك؟ فتقول الشجرة: اسمي كذا وكذا، فيقول: ولاي شي أنت؟ فتقول: لكذا ولكذا، فيأمر بها فتقطع، ويغرسها في بستان له، ويأمر بكتب منافعها ومضارها واسمها وما تصلح له في الطب، فبينما هو يصلي ذات يوم إذا رأى شجرة نبتت بين يديه فقال لها: ما اسمك؟ قالت: الخرنوبة، قال: ولاي شي أنت؟ قال: لخراب هذا المسجد، فقال سليمان: ما كان الله ليخربه وأنا حي، أنت التي على وجهك هلاكي وهلاك بيت المقدس! فنزعها وغرسها في حائطه ثم قال. اللهم عم عن الجن موتي حتى تعلم الانس أن
الجن
لا يعلمون الغيب. وكانت الجن تخبر أنهم يعلمون من الغيب أشياء، وأنهم يعلمون ما في
غد، ثم لبس كفنه وتحنط ودخل المحراب وقام يصلي واتكأ على عصاه على كرسيه، فمات ولم
تعلم الجن إلى أن مضت سنة وتم بناء المسجد. قال أبو جعفر النحاس: وهذا أحسن ما قيل
في الآية، ويدل على صحته الحديث المرفوع، روى إبراهيم بن طهمان عن عطاء بن السائب
عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
(كان نبي الله سليمان بن دواد عليهما السلام إذا صلى رأى شجرة نابتة بين يديه
فيسألها ما اسمك؟ فإن كانت لغرس غرست وإن كانت لدواء كتبت، فبينما هو يصلي ذات يوم
إذا شجرة نابتة بين يديه قال ما اسمك؟ قالت: الخرنوبة، فقال: لاي شي أنت؟ فقالت:
لخراب هذا البيت، فقال: اللهم عم عن الجن موتى حتى تعلم الانس أن الجن لا يعلمون
الغيب، فنحتها عصا فتوكأ عليها حولا لا يعلمون فسقطت، فعلم الانس أن الجن لا
يعلمون الغيب فنظروا مقدار ذلك فوجدوه سنة. وفي قراءة ابن مسعود وابن عباس"
تبينت الانس أن لو كان الجن يعلمون الغيب". وقرا يعقوب في رواية رويس"
تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ" غير مسمى الفاعل. ونافع وأبو عمرو" تأكل منسأته"
بألف بين السين والتاء من غير همز. والباقون بهمزة مفتوحة موضع الالف، لغتان، إلا
أن أبن ذكوان أسكن الهمزة تخفيفا، قال الشاعر في ترك الهمزة:
إذا دببت على المنسأة من كبر ... فقد تباعد عنك اللهو والغزل
وقال آخر فهمز وفتح:
ضربنا بمنسأة وجهه ... فصار بذاك مهينا ذليلا
وقال آخر:
أمن أجل حبل لا أباك ضربته ... بمنسأة قد جر حبلك أحبلا
وقال آخر فسكن همزها:
وقائم قد قام من تكأته ... كقومة الشيخ إلى منسأته
واصلها
من: نسأت الغنم أي زجرتها وسقتها، فسميت العصا بذلك لأنه يزجر بها الشيء ويساق.
وقال طرفة:
أمون كألواح الاران نسأتها ... على لاحب كأنه ظهر برجد «1»
فسكن همزها. قال النحاس: واشتقاقها يدل على أنها مهموزة، لأنها مشتقة من نسأته أي
أخرته ودفعته فقيل لها منسأة لأنها يدفع بها الشيء ويؤخر. وقال مجاهد وعكرمة
: هي العصا، ثم قرأ" منسأته" أبدل من الهمزة ألفا، فإن قيل: البدل من
الهمزة قبيح جدا وإنما يجوز في الشعر على بعد وشذوذ، وأبو عمرو بن العلاء لا يغيب
عنه مثل هذا لا سيما واهل المدينة على هذه القراءة. فالجواب على هذا أن العرب
استعملت في هذه الكلمة البدل ونطقوا بها هكذا كما يقع البدل في غير هذا ولا يقاس
عليه حتى قال أبو عمور: ولست أدري ممن هو إلا أنها غير مهموزة لان ما كان مهموزا
فقد يترك همزه وما لم يكن مهموزا لم يجز همزة بوجه. المهدوي: ومن قرأ بهمزة ساكنة
فهو شاذ بعيد، لان هاء التأنيث لا يكون ما قبلها إلا متحركا أو ألفا، لكنه يجوز أن
يكون ما سكن من المفتوح استخفافا، ويجوز أن يكون لما أبدل الهمزة ألفا على غير
قياس قلب الالف همزة كما قلبوها في قولهم العالم والخاتم، وروي عن صعيد بن
جبير" من" مفصولة" سأته" مهموزة مكسورة التاء، فقيل: إنه من
سئة القوس في لغة من همزها، وقد روي همزسية القوس عن رؤبة. قال الجوهري: سية القوس
ما عطف من طرفيها، والجمع سيات، والهاء عوض من الواو، والنسبة إليها سيوي. قال أبو
عبيدة: كان رؤبة يهمز" سية القوس" وسائر العرب لا يهمزونها. وفي دابة
الأرض قولان: أحدهما- أنها أرضة، قاله ابن عباس ومجاهد وغيرهما. وقد قرئ"
دابة الأرض" بفتح الراء، وهو «2» جمع الأرضة، ذكره الماوردي. الثاني- أنها
دابة تأكل العيدان. قال الجوهري: والأرضة (بالتحريك): دويبة تأكل الخشب، يقال:
أرضت الخشبة تؤرض أرضا (بالتسكين) فهي مأروضة إذا أكلتها.
__________
(1). الأمون: التي يؤمن عثارها. والاران: تابوت الموتى. واللاحب: الطريق الواضح
والبرجد: كساء مخطط
(2). في نسخ الأصل: (وهو واحد).
قوله
تعالى (فَلَمَّا خَرَّ) أي سقط (تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ) قال الزجاج: أي تبينت الجن
موته. وقال غيره: المعنى تبين أمر الجن، مثل:" وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ"
[يوسف: 82]. وفي التفسير- بالأسانيد الصحاح عن ابن عباس قال: أقام سليمان بن داود
عليهما الصلاة والسلام حولا لا يعلم بموته وهو متكئ على عصاه، والجن منصرفة فيما
كان أمرها به، ثم سقط بعد حول، فلما خر تبينت، الانس أن لو كان الجن يعلمون الغيب
ما لبثوا في العذاب المهين. وهذه القراءة من ابن عباس على جهة التفسير. وفي الخبر:
أن الجن شكرت ذلك للأرضة فأينما كانت، يأتونها بالماء. قال السدي: والطين، ألم تر
إلى الطين الذي يكون في جوف الخشب فإنه مما يأتيها «1» به الشياطين شكرا، وقالت:
لو كنت تأكلين الطعام والشراب لاتيناك بهما. و" أَنْ" في موضع رفع على
البدل من الجن، والتقدير: تبين أمر الجن، فحذف المضاف، أي تبين وظهر للانس وانكشف
لهم أمر الجن أنهم لا يعلمون الغيب. وهذا بدل الاشتمال. ويجوز أن تكون في موضع نصب
على تقدير حذف اللام. و(لَبِثُوا) أقاموا. و(الْعَذابِ الْمُهِينِ) السخرة والحمل
والبنيان وغير ذلك. وعمر سليمان ثلاثا وخمسين سنة، ومدة ملكه أربعون سنة، فملك وهو
ابن ثلاث عشرة سنة، وابتدأ في بنيان بيت المقدس وهو ابن سبع عشره سنة. وقال السدي
وغيره: كان عمر سليمان سبعا وستين ستة، وملك وهو ابن سبع عشرة سنة. وابتدأ في
بنيان بيت المقدس وهو ابن عشرين سنة، وكان ملكه خمسين سنة. وحكى أن سليمان عليه
السلام ابتدأ بنيان بيت المقدس في السنة الرابعة من ملكه، وقرب بعد فراغه منه أثنى
عشر ألف ثور ومائة وعشرين ألف شاة، واتخذ اليوم الذي فرغ فيه من بنائه عيدا، وقام
على الصخرة رافعا يديه إلى الله تعالى بالدعاء فقال: اللهم أنت وهبت لي هذا
السلطان وقويتني، على بناء هذا المسجد، اللهم فأوزعني شكرك على ما أنعمت علي
وتوفني على ملتك ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني، اللهم إني أسألك لمن دخل هذا المسجد
خمس خصال: لا يدخله مذنب دخل للتوبة إلا غفرت له وتبت عليه. ولا خائف إلا أمنته.
ولا سقيم
__________
(1). في ج، ح، ك: (فإنها مما يأتيها بها).
لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15)
إلا
شفيته. ولا فقير إلا أغنيته. والخامسة: ألا تصرف نظرك عمن دخله حتى يخرج منه، إلا
من أراد إلحادا أو ظلما، يا رب العالمين، ذكره الماوردي. قلت: وهذا أصح مما تقدم
أنه لم يفرغ بناؤه إلا بعد موته بسنة، والدليل على صحة هذا ما خرجه النسائي وغيره
بإسناد صحيح من حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(أن سليمان بن داود لما بنى بيت المقدس سأل الله تعالى خلالا ثلاثة: حكما يصادف
حكمه فأوتيه، وسأل الله تعالى ملكا لا ينبغي لاحد من بعده فأوتيه، وسأل الله تعالى
حين فرغ من بنائه المسجد ألا يأتيه أحد لا ينهزه «1» إلا الصلاة فيه أن يخرج من
خطيئته كيوم ولدته أمه) وقد ذكرنا هذا الحديث في" آل عمران" «2» وذكرنا
بناءه في" سبحان" «3».
[سورة سبإ (34): آية 15]
لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ
كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ
غَفُورٌ (15)
قوله تعالى: (لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ «4» آيَةٌ) قرأ نافع وغيره
بالصرف والتنوين على أنه أسم حي، وهو في الأصل أسم رجل، جاء بذلك التوقيف عن النبي
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. روى الترمذي قال: حدثنا أبو كريب وعبد بن حميد
قالا حدثنا أبو أسامة عن الحسن بن الحكم النخعي قال حدثنا أبو سبرة النخعي عن فروة
بن مسيك المرادي قال: أتيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقلت: يا رسول
الله، ألا أقاتل من أدبر من قومي بمن أقبل منهم، فأذن لي في قتالهم وأمرني، فلما
خرجت من عنده سأل عني: (ما فعل الغطيفي) «5»؟ فأخبر أني قد سرت، قال: فأرسل في أثري
فردني فأتيته وهو في نفر من أصحابه فقال: (ادع القوم فمن أسلم منهم فأقبل منه ومن
لم يسلم فلا تعجل حتى أحدث إليك، قال: وأنزل في سبإ ما أنزل، فقال رجل: يا رسول
الله، وما سبأ؟ أرض أو امرأة؟ قال: ليس بأرض ولا بامرأة
__________
(1). أي لا يحركه.
(2). راجع ج 4 ص (137)
(3). راجع ج 10 ص (211)
(4). (في مساكنهم) قراءة نافع وبها كان يقرأ المؤلف رحمة الله عليه.
(5). في الأصول والترمذي: (القطيفي) بالقاف بدل الغين وهو تحريف.
ولكنه
رجل ولد عشرة من العرب فتيامن منهم ستة وتشاءم منهم أربعة. فأما الذين تشاءموا
فلخم وجذام وغسان وعاملة. وأما الذين تيامنوا فالأزد والأشعريون وحمير وكندة ومذحج
وأنمار. فقال رجل: يا رسول الله وما أنمار؟ قال: (الذين منهم خثعم وبجيلة). وروي
هذا عن ابن عباس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال أبو عيسى: هذا
حديث حسن غريب. وقرا ابن كثير وأبو عمرو" لسبأ" بغير صرف، جعله اسما
للقبيلة، وهو اختيار أبي عبيد، واستدل على أنه أسم قبيلة بأن بعده" في
مساكنهم". النحاس: ولو كان كما قال لكان في مساكنها. وقد مضى في"
النمل" «1» زيادة بيان لهذا المعنى. وقال الشاعر في الصرف:
الواردون وتيم في ذرى سبأ ... قد عض أعناقهم جلد الجواميس
وقال آخر في غير الصرف:
من سبأ الحاضرين مأرب إذ ... يبنون من دون سيلها العرما
وقرا قنبل وأبو حنيفة والجحدري" لسبأ" بإسكان الهمزة." في
مساكنهم" قراءة العامة على الجمع، وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم، لان لهم
مساكن كثيرة وليس بمسكن واحد. وقرا إبراهيم وحمزة وحفص" مسكنهم" موحدا،
إلا أنهم فتحوا الكاف. وقرا يحيى والأعمش والكسائي موحدا كذلك، إلا أنهم كسروا
الكاف. قال النحاس: والساكن في هذا أبين، لأنه يجمع اللفظ والمعنى، فإذا قلت"
مسكنهم" كان فيه تقديران: أحدهما- أن يكون واحدا يؤدي عن الجمع. والآخر- أن
يكون مصدرا لا يثني ولا يجمع، كما قال الله تعالى:" خَتَمَ اللَّهُ عَلى
قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ" «2» [البقرة: 7] فجاء
بالسمع موحدا. وكذا" مَقْعَدِ صِدْقٍ" «3» [القمر: 55] و"
مسكن" مثل مسجد، خارج عن القياس، ولا يوجد مثله إلا سماعا." آيَةٌ"
اسم كان، أي علامة دالة على قدرة الله تعالى على أن لهم خالقا خلقهم، وأن كل
الخلائق لو اجتمعوا على أن يخرجوا من الخشبة ثمرة لم يمكنهم ذلك، ولم يهتدوا إلى
اختلاف أجناس الثمار وألوانها وطعومها وروائحها وأزهارها، وفي ذلك ما يدل على أنها
لا تكون إلا من عالم قادر. (جَنَّتانِ) يجوز
__________
(1). راجع ج 13 ص (181)
(2). راجع ج 1 ص (185)
(3). راجع ج 17 ص 149 [.....]
أن
يكون بدلا من" آيَةٌ"، ويجوز أن يكون خبر ابتداء محذوف، فوقف على هذا
الوجه على" آيَةٌ" وليس بتمام. قال الزجاج: أي الآية جنتان، فجنتان رفع
لأنه خبر ابتداء محذوف. وقال الفراء: رفع تفسيرا للآية، ويجوز أن تنصب"
آية" على أنها خبر كان، ويجوز أن تنصب الجنتين على الخبر أيضا في غير القرآن.
وقال عبد الرحمن بن زيد: إن الآية التي كانت لأهل سبأ في مساكنهم أنهم لم يروا
فيها بعوضة قط ولا ذبابا ولا برغوثا ولا قملة ولا عقربا ولا حية ولا غيرها من
الهوام، وإذا جاءهم الركب في ثيابهم القمل والدواب فإذا نظروا إلى بيوتهم ماتت
الدواب. وقيل: إن الآية هي الجنتان، كانت المرأة تمشي فيهما وعلى رأسها مكتل «1»
فيمتلئ من أنواع الفواكه من غير أن تمسها بيدها، قاله قتادة. وروى أن الجنتين
كانتا بين جبلين باليمن. قال سفيان: وجد فيهما قصران مكتوب على أحدهما: نحن بنينا
سلحين في سبعين خريفا دائبين، وعلى الآخر مكتوب: نحن بنينا صرواح، مقيل ومراح،
فكانت إحدى الجنتين عن يمين الوادي والأخرى عن شماله. قال القشيري: ولم يرد جنتين
اثنتين بل أراد من الجنتين يمنة ويسرة، أي كانت بلادهم ذات بساتين وأشجار وثمار،
تستتر الناس بظلالها." كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ" أي قيل لهم كلوا،
ولم يكن ثم أمر، ولكنهم تمكنوا من تلك النعم. وقيل: أي قالت الرسل لهم قد أباح
الله تعالى لهم ذلك، أي أباح لكم هذه النعم فاشكروه بالطاعة. (مِنْ رِزْقِ
رَبِّكُمْ) أي من ثمار الجنتين. (وَاشْكُرُوا لَهُ) يعني على ما رزقكم. (بَلْدَةٌ
طَيِّبَةٌ) هذا كلام مستأنف، أي هذه بلدة طيبة أي كثيرة الثمار. وقيل: غير سبخة.
وقيل: طيبة ليس فيها هوام لطيب هوائها. قال مجاهد: هي صنعاء. (وَرَبٌّ غَفُورٌ) أي
والمنعم بها عليكم رب غفور يستر ذنوبكم، فجمع لهم بين مغفرة ذنوبهم وطيب بلدهم ولم
يجمع ذلك لجميع خلقه. وقيل: إنما ذكر المغفرة مشيرا إلى أن الرزق قد يكون فيه
حرام. وقد مضى القول في هذا في أول" البقرة" «2». وقيل: إنما امتن عليهم
بعفوه عن عذاب الاستئصال بتكذيب من كذبوه من سالف الأنبياء إلى أن استداموا
الإصرار فاستؤصلوا.
__________
(1). المكتل: شبه الزنبيل.
(2). راجع ج 1 ص 177
فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16)
[سورة
سبإ (34): آية 16]
فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ
بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْ ءٍ مِنْ
سِدْرٍ قَلِيلٍ (16)
قوله تعالى: (فَأَعْرَضُوا) يعني عن أمره واتباع رسله بعد أن كانوا مسلمين. قال
السدي ووهب: بعث إلى أهل سبأ ثلاثة عشر نبيا فكذبوهم. قال القشيري: وكان لهم رئيس
يلقب بالحمار، وكانوا في زمن الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم. وقيل:
كان له ولد فمات فرفع رأسه إلى السماء فبزق وكفر، ولهذا يقال: أكفر من حمار. وقال
الجوهري: وقولهم" أكفر من حمار" هو رجل من عاد مات له أولاد فكفر كفرا
عظيما، فلا يمر بأرضه أحد إلا دعاه إلى الكفر، فإن أجابه وإلا قتله. ثم لما سال
السيل بجنتيهم تفرقوا في البلاد، على ما يأتي بيانه. ولهذا قيل في المثل:"
تفرقوا أيادي سبا". وقيل: الأوس والخزرج منهم. (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ
سَيْلَ الْعَرِمِ) والعرم فيما روي عن ابن عباس: السد فالتقدير: سيل السد العرم.
وقال عطاء: العرم اسم الوادي. قتادة: العرم وادي سبأ، كانت تجتمع إليه مسايل من
الأودية، قيل من البحر وأودية اليمن، فردموا ردما بين جبلين وجعلوا في ذلك الردم
ثلاثة أبواب بعضها فوق بعض، فكانوا يسقون من الأعلى ثم من الثاني ثم من الثالث على
قدر حاجاتهم، فأخصبوا وكثرت أموالهم، فلما كذبوا الرسل سلط الله عليهم الفأر فنقب
الردم. قال وهب: كانوا يزعمون أنهم يجدون في علمهم وكهانتهم أنه يخرب سدهم فأرة
فلم يتركوا فرجة بين صخرتين إلا ربطوا إلى جانبها هرة، فلما جاء ما أراد الله
تعالى بهم أقبلت فأرة حمراء إلى بعض تلك الهرر فساورتها حتى استأخرت عن الصخرة ثم
وثبت ودخلت في الفرجة التي كانت عندها ونقبت السد حتى أوهنته للسيل وهم لا يدرون،
فلما جاء السيل دخل تلك الخلل حتى بلغ السد وفاض الماء على أموالهم فغرقها ودفن
بيوتهم. وقال الزجاج: العرم اسم الجرذ الذي نقب السكر عليهم، وهو الذي يقال له
الخلد- وقاله قتادة أيضا- فنسب السيل إليه لأنه بسببه. وقد قال ابن الاعرابي أيضا:
العرم من
أسماء
الفأر. وقال مجاهد وابن أبي نجيح: العرم ماء أحمر أرسله الله تعالى في السد فشقه
وهدمه. وعن ابن عباس أيضا أن العرم المطر الشديد. وقيل العرم بسكون الراء. وعن
الضحاك كانوا في الفترة بين عيسى ومحمد عليهما السلام. وقال عمرو بن شرحبيل: العرم
المسناة، وقاله الجوهري، قال: ولا واحد لها من لفظها، ويقال واحدها عرمة. وقال
محمد بن يزيد: العرم كل شي حاجز بين شيئين، وهو الذي يسمى السكر، وهو جمع عرمة.
النحاس: وما يجتمع من مطر بين جبلين وفي وجهه مسناة فهو العرم، والمسناة هي التي
يسميها أهل مصر الجسر «1»، فكانوا يفتحونها إذا شاءوا فإذا رويت جنتاهم سدوها. قال
الهروي: المسناة الضفيرة تبني للسيل ترده، سميت مسناة لان فيها مفاتح الماء. وروي
أن العرم سد بنته بلقيس صاحبة سليمان عليه الصلاة والسلام، وهو المسناة بلغة حمير،
بنته بالصخر والقار، وجعلت له أبوابا ثلاثة ببعضها فوق بعض، وهو مشتق من العرامة وهي
الشدة، ومنه: رجل عارم، أي شديد، وعرمت العظم أعرمه وأعرمه عرما إذا عرقته، وكذلك
عرمت الإبل الشجر أي نالت منه. والعرام بالضم: العراق من العظم والشجر. وتعرمت
العظم تعرقته. وصبي عارم بين العرام (بالضم) أي شرس. وقد عرم يعرم ويعرم عرامة
(بالفتح). والعرم العارم، عن الجوهري. قوله تعالى: (وَبَدَّلْناهُمْ
بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ) وقرا أبو عمرو (أكل خمط)
بغير تنوين مضافا. قال أهل التفسير والخليل: الخمط الأراك. الجوهري: الخمط ضرب من
الأراك له حمل يؤكل. وقال أبو عبيدة: هو كل شجر ذي شوك فيه مرارة. الزجاج: كل نبت
فيه مرارة لا يمكن أكله. المبرد: الخمط كل ما تغير إلى ما لا يشتهي. واللبن خمط
إذا حمض. والاولى عنده في القراءة" ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ" بالتنوين
على أنه نعت ل"- أُكُلٍ" أو بدل منه، لان الأكل هو الخمط بعينه عنده، فأما
الإضافة فباب جوازها أن يكون
__________
(1). في ج: (الحبس) والحبس (بكسر الحاء): حجارة أو خشب تبنى في مجرى الماء لتحبسه
كي يشرب القوم ويسقوا أموالهم والجمع أحباس.
تقديرها
ذواتي أكل حموضة أو أكل مرارة. وقال الأخفش: والإضافة أحسن في كلام العرب، نحو
قولهم: ثوب خز والخمط: اللبن الحامض وذكر أبو عبيد أن اللبن إذا ذهب عنه حلاوة
الحلب ولم يتغير طعمه فهو سامط، وإن أخذ شيئا من الريح فهو خامط وخميط، فإن أخذ
شيئا من طعم فهو ممحل، فإذا كان فيه طعم الحلاوة فهو فوهة «1». وتخمط الفحل: هدر.
وتخمط فلان أي غضب وتكبر. وتخمط البحر أي التطم. وخمطت الشاة أخمطها خمطا: إذا
نزعت جلدها وشويتها فهي [خميط، فإن نزعت شعرها وشويتها فهي «2»] سميط. والخمطة:
الخمر التي قد أخذت ريح الإدراك كريح التفاح ولم تدرك بعد. ويقال هي الحامضة، قاله
الجوهري. وقال القتبي في أدب الكاتب. يقال للحامضة خمطة، ويقال: الخمطة التي قد
أخذت شيئا من الريح، وأنشد:
عقار كماء الني ليست بخمطة ... ولا خلة يكوي الشروب شهابها «3»
(وَأَثْلٍ) قال الفراء: هو شبيه بالطرفاء إلا أنه أعظم منه طولا، ومنه اتخذ منبر
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وللأثل أصول غليظة يتخذ منه الأبواب،
وورقه كورق الطرفاء، الواحدة أثلة والجمع أثلاث. وقال الحسن: الأثل الخشب. قتادة:
هو ضرب من الخشب يشبه الطرفاء رأيته بفيد. وقيل هو السمر. وقال أبو عبيدة: هو شجر
النضار. [النضار: الذهب. والنضار: خشب يعمل منه قصاع، ومنه: قدح نضار «4»].
(وَشَيْ ءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ) قال الفراء: هو السمر، ذكره النحاس. وقال
الأزهري: السدر من الشجر سدران: بري لا ينتفع به ولا يصلح ورقه للغسول وله ثمر عفص
لا يؤكل، وهو الذي يسمى الضال. والثاني- سدر ينبت على الماء وثمره النبق وورقه
غسول يشبه شجر العناب. قال قتادة: بينما شجر القوم من خير شجر إذ صيره الله تعالى
من شر الشجر بأعمالهم، فأهلك أشجارهم المثمرة
__________
(1). في المخصص لابن سيده: (.. فهو قوهة صاحب العين: فوهة بالفاء). وفي كتب اللغة
(القوهة بالضم): اللبن تغير قليلا وفيه حلاوة. والفوهة (كقبرة: اللبن فيه طعم
الحلاوة.
(2). ما بين المربعين ساقط من نسخ الأصل. وهو من كتب اللغة.
(3). الخلة: التي جاوزت القدر فخرجت من حال الخمر إلى حال الحموضة والخل. والشروب:
الندامى. يقول: هي في لون اللحم الني.
(4). ما بين المربعين ساقط من ش.
ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17)
وأنبت
بدلها الأراك والطرفاء والسدر. القشيري: وأشجار البوادي لا تسمى جنة وبستانا ولكن
لما وقعت الثانية في مقابلة الاولى أطلق لفظ الجنة، وهو كقوله تعالى:"
وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها" «1» [الشورى: 40]. ويحتمل أن يرجع
قوله" قَلِيلٍ" إلى جملة ما ذكر من الخمط والأثل والسدر.
[سورة سبإ (34): آية 17]
ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (17)
قوله تعالى: (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا) أي هذا التبديل جزاء كفرهم.
وموضع" ذلِكَ" نصب، أي جزيناهم ذلك بكفرهم. (وهل يجازى إلا الكفور)
قراءة العامة" يجازي" بياء مضمومة وزاي مفتوحة،" الكفور" رفعا
على ما لم يسم فاعله. وقرا يعقوب وحفص وحمزة والكسائي:" نُجازِي" بالنون
وكسر الزاي،" الْكَفُورَ" بالنصب، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، قالا:
لان قبله" جَزَيْناهُمْ" ولم يقل جوزوا. النحاس: والامر في هذا واسع،
والمعنى فيه بين، ولو قال قائل: خلق الله تعالى آدم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ من طين، وقال آخر: خلق آدم من طين، لكان المعنى واحدا. مسألة- في هذه
الآية سؤال ليس في هذه السورة أشد منه، وهو أن يقال: لم خص الله تعالى المجازاة
بالكفور ولم يذكر أصحاب المعاصي؟ فتكلم العلماء في هذا، فقال قوم: ليس يجازى بهذا
الجزاء الذي هو الاصطلام «2» والإهلاك إلا من كفر. وقال مجاهد: يجازى بمعنى يعاقب،
وذلك أن المؤمن يكفر الله تعالى عنه سيئاته، والكافر يجازى بكل سوء عمله، فالمؤمن
يجزى ولا يجازى لأنه يثاب «3». وقال طاوس: هو المناقشة في الحساب، وأما المؤمن فلا
يناقش الحساب. وقال قطرب خلاف هذا، فجهلها في أهل المعاصي غير الكفار، وقال:
المعنى على من كفر بالنعم وعمل بالكبائر. النحاس: وأولى ما قيل في هذه الآية وأجل
ما روي فيها: أن الحسن قال مثلا بمثل. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1). راجع ج 16 ص 38 فما بعد
(2). الاصطلام: الاستئصال.
(3). في نسخ الأصل: (لا يثاب).
وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18)
يقول:
(من حوسب هلك) فقلت: يا نبي الله، فأين قوله عز وجل:" فَسَوْفَ يُحاسَبُ
حِساباً يَسِيراً" «1» [الانشقاق: 8]؟ قال: (إنما ذلك العرض ومن نوقش الحساب
هلك). وهذا إسناد صحيح، وشرحه: أن الكافر يكافأ على أعماله ويحاسب عليها ويحبط ما
عمل من خير، ويبين هذا قوله تعالى في الأول:" ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما
كَفَرُوا" وفي الثاني: وهل يجازى إلا الكفور" ومعنى" يجازى":
يكافأ بكل عمل عمله، ومعنى" جَزَيْناهُمْ". وفيناهم، فهذا حقيقة اللغة،
وإن كان" جازى" يقع بمعنى" جزى". مجازا.
[سورة سبإ (34): آية 18]
وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً
وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (18)
قوله تعالى: (وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها
قُرىً ظاهِرَةً) قال الحسن: يعني بين اليمن والشام. والقرى التي بورك فيها: الشام
والأردن وفلسطين. والبركة: قيل إنها كانت أربعة آلاف وسبعمائة قرية بورك فيها
بالشجر والثمر والماء. ويحتمل أن يكون" بارَكْنا فِيها" بكثرة العدد.
(قُرىً ظاهِرَةً) قال ابن عباس: يريد بين المدينة والشام. وقال قتادة: معنى"
ظاهِرَةً": متصلة على طريق، يغدون فيقيلون في قرية ويروحون فيبيتون في قرية.
وقيل: كان على كل ميل قرية بسوق، وهو سبب أمن الطريق. قال الحسن: كانت المرأة تخرج
معها مغزلها وعلى رأسها مكتلها ثم تلتهي بمغزلها فلا تأتي بيتها حتى يمتلئ مكتلها
من كل الثمار، فكان ما بين الشام واليمن كذلك. وقيل" ظاهِرَةً" أي
مرتفعة، قاله المبرد. وقيل: إنما قيل لها" ظاهِرَةً" لظهورها، أي إذا
خرجت عن هذه ظهرت لك الأخرى، فكانت قرى ظاهرة أي معروفة، يقال: هذا أمر ظاهر أي
معروف. (وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ) أي جعلنا السير بين قراهم وبين القرى التي
باركنا فيها سيرا مقدرا من منزل إلى منزل، ومن قرية إلى قرية، أي جعلنا بين كل
قريتين نصف يوم حتى يكون المقيل في قرية والمبيت في قرية أخرى. وإنما يبالغ
الإنسان في السير لعدم الزاد والماء
__________
(1). راجع ج 19 ص 270.
فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)
ولخوف
الطريق، فإذا وجد الزاد والأمن لم يحمل على نفسه المشقة ونزل أينما أراد. (سِيرُوا
فِيها) أي وقلنا لهم سيروا فيها، أي في هذه المسافة فهو أمر تمكين، أي كانوا
يسيرون فيها إلى مقاصدهم إذا أرادوا آمنين، فهو أمر بمعنى الخبر، وفية إضمار
القول. (لَيالِيَ وَأَيَّاماً) ظرفان" آمِنِينَ" نصب على الحال. وقال:"
لَيالِيَ وَأَيَّاماً" بلفظ النكرة تنبيها على قصر أسفارهم، أي كانوا لا
يحتاجون إلى طول السفر لوجود ما يحتاجون إليه. قال قتادة: كانوا يسيرون غير خائفين
ولا جياع ولا ظماء، وكانوا يسيرون مسيرة أربعة أشهر في أمان لا يحرك بعضهم بعضا،
ولو لقي الرجل قاتل أبيه لا يحركه.
[سورة سبإ (34): آية 19]
فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ
فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)
قوله تعالى: (فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا) لما بطروا وطغوا وسئموا
الراحة ولم يصبروا على العافية تمنوا طول الاسفار والكدح في المعيشة، كقول بني
إسرائيل:" فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ
مِنْ بَقْلِها" «1» [البقرة: 61] الآية. وكالنضر بن الحارث حين قال:"
اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا
حِجارَةً مِنَ السَّماءِ" «2» [الأنفال: 32] فأجابه الله تبارك وتعالى، وقتل
يوم بدر بالسيف صبرا «3»، فكذلك هؤلاء تبددوا في الدنيا ومزقوا كل ممزق، وجعل
بينهم وبين الشام فلوات ومفاوز يركبون فيها الرواحل ويتزودون الأزواد. وقراءة
العامة" رَبَّنا" بالنصب على أنه نداء مضاف، وهو منصوب لأنه مفعول به،
لان معناه: ناديت ودعوت." باعِدْ" سألوا المباعدة في أسفارهم. وقرا أبن
كثير وأبو عمرو وابن محيصن وهشام عن ابن عامر:" رَبَّنا" كذلك على
الدعاء" بعد" من التبعيد. النحاس: وباعد وبعد واحد في المعنى، كما تقول:
قارب وقرب. وقرا أبو صالح ومحمد بن الحنفية وأبو العالية ونصر بن عاصم
__________ (1). راجع ج 1 ص 422 فما بعد.
(2). راجع ج 8 ص (398)
(3). يقال للرجل إذا شدت يداه ورجلاه أو أمسكه رجل آخر حتى يضرب عنقه أو حبس على
القتل حتى يقتل: قتل صبرا. [.....]
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20)
ويعقوب،
ويروى عن ابن عباس:" رَبَّنا" رفعا" باعد" بفتح العين والدال
على الخبر، تقديره: لقد باعد ربنا بين أسفارنا، كأن الله تعالى يقول: قربنا لهم
أسفارهم فقالوا أشرا وبطرا: لقد بوعدت علينا أسفارنا. واختار هذه القراءة أبو حاتم
قال: لأنهم ما طلبوا التبعيد إنما طلبوا أقرب من ذلك القرب بطرا وعجبا مع كفرهم.
وقراءة يحيى بن يعمر وعيسى بن عمر وتروى عن ابن عباس" ربنا بعد بين أسفارنا"
بشد العين من غير ألف، وفسرها ابن عباس قال: شكوا أن ربهم باعد بين أسفارهم.
وقراءة سعيد بن أبي الحسن أخى الحسن البصري" ربنا بعد بين أسفارنا."
رَبَّنا" نداء مضاف، ثم أخبروا بعد ذلك فقالوا:" بعد بين أسفارنا"
ورفع" بين" بالفعل، أي، بعد ما يتصل بأسفارنا. وروى الفراء وأبو إسحاق
قراءة سادسة مثل التي قبلها في ضم العين إلا أنك تنصب" بين" على ظرف،
وتقديره في العربية: بعد سيرنا بين أسفارنا. النحاس: وهذه القراءات إذا اختلفت
معانيها لم يجز أن يقال إحداها أجود من الأخرى، كما لا يقال ذلك في أخبار الآحاد
إذا اختلفت معانيها، ولكن خبر عنهم أنهم دعوا ربهم أن يبعد بين أسفارهم بطرا
وأشرا، وخبر عنهم أنهم لما فعل ذلك بهم خبروا به وشكوا، كما قال ابن عباس.
(وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) أي بكفرهم (فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ) أي يتحدث
بأخبارهم، وتقديره في العربية: ذوي أحاديث. (وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) أي
لما لحقهم ما لحقهم تفرقوا وتمزقوا. قال الشعبي: فلحقت الأنصار بيثرب، وغسان
بالشام، والأسد بعمان، وخزاعة بتهامة، وكانت العرب تضرب بهم المثل فتقول: تفرقوا
أيدي سبا وأيادي سبأ، أي مذاهب سبأ وطرقها. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ
شَكُورٍ) الصبار الذي يصبر عن المعاصي، وهو تكثير صابر يمدح بهذا الاسم. فإن أردت
أنه صبر عن المعصية لم يستعمل فيه إلا" صَبَّارٍ" عن كذا."
شَكُورٍ" لنعمه، وقد مضى هذا المعنى في" البقرة" «1».
[سورة سبإ (34): آية 20]
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20)
__________
(1). راجع ج 1 ص 371 و397
قوله
تعالى: (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ) فيه أربع قراءات: قرأ أبو
جعفر وشيبة ونافع وأبو عمرو وابن كثير وابن عامر ويروى عن مجاهد،" ولقد صدق
عليهم" بالتخفيف" إِبْلِيسُ" بالرفع" ظَنَّهُ" بالنصب،
أي في ظنه. قال الزجاج: وهو على المصدر أي صدق عليهم ظنا ظنه إذ صدق في ظنه، فنصب
على المصدر أو على الظرف. وقال أبو علي:" ظَنَّهُ" نصب لأنه مفعول به،
أي صدق الظن الذي ظنه إذ قال:" لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ
الْمُسْتَقِيمَ" «1» [الأعراف: 16] وقال:" لَأُغْوِيَنَّهُمْ
أَجْمَعِينَ" «2» [الحجر: 39]، ويجوز تعدية الصدق إلى المفعول به، ويقال: صدق
الحديث، أي في الحديث. وقرا ابن عباس ويحيى بن وثاب والأعمش وعاصم وحمزة
والكسائي:" صدق" بالتشديد" ظَنَّهُ" بالنصب بوقوع الفعل عليه.
قال مجاهد: ظن ظنا فكان كما ظن فصدق ظنه. وقرا جعفر بن محمد وأبو الهجهاج
«3»" صدق عليهم" بالتخفيف" إبليس" بالنصب" ظنه"
بالرفع. قال أبو حاتم: لا وجه لهذه القراءة عندي، والله تعالى أعلم. وقد أجاز هذه
القراءة الفراء وذكرها الزجاج وجعل الظن فاعل" صَدَّقَ""
إبليس" مفعول به، والمعنى: أن إبليس سول له ظنه فيهم شيئا فصدق ظنه، فكأنه
قال: ولقد صدق عليهم ظن إبليس. و" علي" متعلقة ب" صَدَّقَ"،
كما تقول: صدقت عليك فيما ظننته بك، ولا تتعلق بالظن لاستحالة تقدم شي من الصلة
على الموصول. والقراءة الرابعة:" وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ
ظَنَّهُ" برفع إبليس والظن، مع التخفيف في" صَدَّقَ" على أن يكون
ظنه بدلا من إبليس وهو بدل الاشتمال. ثم قيل: هذا في أهل سبأ، أي كفروا وغيروا
وبدلوا بعد أن كانوا مسلمين إلا قوما منهم آمنوا برسلهم. وقيل: هذا عام، أي صدق
إبليس ظنه على الناس كلهم إلا من أطاع الله تعالى، قاله مجاهد. وقال الحسن: لما
أهبط آدم عليه السلام من الجنة ومعه حواء وهبط إبليس قال إبليس: أما إذ أصبت من
الأبوين ما أصبت فالذرية أضعف وأضعف! فكان ذلك ظنا من إبليس، فأنزل الله
تعالى:" وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ". وقال ابن
عباس: إن إبليس قال: خلقت من نار وخلق آدم من طين
__________
(1). راجع ج 7 ص (174)
(2). راجع ج 10 ص (27)
(3). كذا في نسخ الأصل وكتاب إعراب القرآن للنحاس. وفي روح المعاني والبحر المحيط:
(أبو الجهجاء).
وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21)
والنار
تحرق كل شي" لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ «1» إِلَّا قَلِيلًا"
[الاسراء: 62] فصدق ظنه عليهم. وقال زيد بن أسلم: إن إبليس قال يا رب أرأيت هؤلاء
الذين كرمتهم وشرفتهم وفضلتهم علي لا تجد أكثرهم شاكرين، ظنا منه فصدق عليهم إبليس
ظنه. وقال الكلبي: إنه ظن أنه إن أغواهم أجابوه وإن أضلهم أطاعوه، فصدق ظنه."
فَاتَّبَعُوهُ" قال الحسن: ما ضربهم بسوط ولا بعصا وإنما ظن ظنا فكان كما ظن
بوسوسته. (إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) نصب على الاستثناء، وفية قولان:
أحدهما أنه يراد به بعض المؤمنين، لان كثيرا من المؤمنين من يذنب وينقاد لإبليس في
بعض المعاصي، أي ما سلم من المؤمنين أيضا إلا فريق وهو المعنى بقوله تعالى:"
إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ" «2» [الحجر: 42]. فأما ابن
عباس فعنه أنه قال: هم المؤمنون كلهم، ف"- مِنَ" على هذا للتبيين لا
للتبعيض، فإن قيل: كيف علم إبليس صدق ظنه وهو لا يعلم الغيب؟ قيل له: لما نفذ له
في آدم ما نفذ غلب على ظنه أنه ينفذ له مثل ذلك في ذريته، وقد وقع له تحقيق ما ظن.
وجواب آخر وهو ما أجيب من قوله تعالى" وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ
مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ" «3»
[الاسراء: 64] فأعطي القوة والاستطاعة، فظن أنه يملكهم كلهم بذلك، فلما رأى أنه
تاب على آدم وأنه سيكون له نسل يتبعونه إلى الجنة وقال:" إِنَّ عِبادِي
لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ"
[الحجر: 42] علم أن له تبعا ولآدم تبعا، فظن أن تبعه أكثر من تبع آدم، لما وضع في
يديه من سلطان الشهوات، ووضعت الشهوات في أجواف الآدميين، فخرج على ما ظن حيث نفخ
فيهم وزين في أعينهم تلك الشهوات، ومدهم إليها بالأماني والخدائع، فصدق عليهم الظن
الذي ظنه، والله أعلم.
[سورة سبإ (34): آية 21]
وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ
بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ
(21)
قوله تعالى: (وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ) أي لم يقهرهم إبليس على
الكفر، وإنما كان منه الدعاء والتزيين. والسلطان: القوة. وقيل الحجة، أي لم تكن له
حجة يستتبعهم
__________
(1). راجع ج 10 ص 287 فما بعد
(2). راجع ج 10 ص 287 فما بعد
(3). راجع ج 10 ص 28
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22)
بها،
وإنما اتبعوه بشهوة وتقليد وهوى نفس، لا عن حجة ودليل. (إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ
يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ) يريد علم الشهادة الذي يقع به الثواب والعقاب، فأما الغيب
فقد علمه تبارك وتعالى. ومذهب الفراء أن يكون المعنى: إلا لنعلم ذلك عندكم، كما
قال:" أَيْنَ شُرَكائِيَ" «1» [النحل: 27]، على قولكم وعندكم، وليس
قوله:" إِلَّا لِنَعْلَمَ" جواب" وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ
سُلْطانٍ" في ظاهره إنما هو محمول على المعنى، أي وما جعلنا له سلطانا إلا
لنعلم، فالاستثناء منقطع، أي لا سلطان له عليهم ولكنا ابتليناهم بوسوسته لنعلم،
ف"- إِلَّا" بمعنى لكن. وقيل هو متصل، أي ما كان له عليهم من سلطان، غير
أنا سلطناه عليهم ليتم الابتلاء. وقيل:" كانَ" زائدة، أي وما له عليهم
من سلطان، كقوله:" كُنْتُمْ خَيْرَ «2» أُمَّةٍ" [آل عمران: 110] أي
أنتم خير أمة. وقيل: لما اتصل طرف منه بقصة سبأ قال: وما كان لإبليس على أولئك
الكفار من سلطان. وقيل: وما كان له في قضائنا السابق سلطان عليهم. وقيل:"
إِلَّا لِنَعْلَمَ" إلا لنظهر، وهو كما تقول: النار تحرق الحطب، فيقول آخر لا
بل الحطب يحرق النار، فيقول الأول تعال حتى نجرب النار والحطب لنعلم أيهما يحرق
صاحبه، أي لنظهر ذلك وإن كان معلوما لهم ذلك. وقيل: إلا لتعلموا أنتم. وقيل: أي
ليعلم أولياؤنا والملائكة، كقوله:" إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ" «3» [المائدة: 33] أي يحاربون أولياء الله ورسوله.
وقيل: أي ليميز، كقوله:" لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ"
[الأنفال: 37] وقد مضى هذا المعنى في" البقرة" «4» وغيرها. وقرا
الزهري" إلا ليعلم" على ما لم يسم فاعله. (وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ
حَفِيظٌ) أي أنه عالم بكل شي. وقيل: يحفظ كل شي على العبد حتى يجازيه عليه.
[سورة سبإ (34): آية 22]
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ
ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما
لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22)
__________
(1). راجع ج 10 ص 98.
(2). راجع ج 4 ص 170.
(3). راجع ج 6 ص 147 فما بعد.
(4). راجع ج 2 ص 156 فما بعد.
وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23)
قوله
تعالى: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ) أي هذا الذي مضى
ذكره من أمر داود وسليمان وقصة سبأ من آثار قدرتي، فقل يا محمد لهؤلاء المشركين هل
عند شركائكم قدرة على شي من ذلك. وهذا خطاب توبيخ، وفية إضمار: أي ادعوا الذين
زعمتم أنهم آلهة لكم من دون الله لتنفعكم أو لتدفع عنكم ما قضاه الله تبارك وتعالى
عليكم، فإنهم لا يملكون ذلك، و(لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ
وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ
ظَهِيرٍ) أي ما لله من هؤلاء من معين على خلق شي، بل الله المنفرد بالإيجاد، فهو
الذي يعبد، وعبادة غيره محال.
[سورة سبإ (34): آية 23]
وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا
فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ماذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ
الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23)
قوله تعالى: (وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ) أي شفاعة الملائكة وغيرهم. (عِنْدَهُ) أي
عند الله. (إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) قراءة العامة" أَذِنَ" بفتح
الهمزة، لذكر الله تعالى أولا. وقرا أبو عمرو وحمزة والكسائي" أذن" بضم
الهمزة على ما لم يسم فاعله. والآذن هو الله تعالى. و" من يجوز أن ترجع إلى
الشافعين، ويجوز أن ترجع إلى المشفوع لهم. (حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ)
قال ابن عباس: خلي عن قلوبهم الفزع. قطرب: أخرج ما فيها من الخوف. مجاهد: كشف عن
قلوبهم الغطاء يوم القيامة، أي إن الشفاعة لا تكون من أحد هؤلاء المعبودين من دون
الله من الملائكة والأنبياء والأصنام، إلا أن الله تعالى يأذن للأنبياء والملائكة
في الشفاعة وهم على غاية الفزع من الله، كما قال:" وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ
مُشْفِقُونَ" «1» [الأنبياء: 28] والمعنى: أنه إذا أذن لهم في الشفاعة وورد
عليهم كلام الله فزعوا، لما يقترن بتلك الحال من الامر الهائل والخوف أن يقع في
تنفيذ ما أذن لهم فيه تقصير، فإذا سرى عنهم قالوا للملائكة فوقهم وهم الذين يوردون
عليهم الوحي بالاذن: (ماذا قالَ رَبُّكُمْ) أي ماذا أمر الله به، فيقولون لهم:
(قالُوا الْحَقَّ) هو أنه أذن لكم في الشفاعة للمؤمنين. (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ)
فله أن يحكم في عباده بما
__________
(1). راجع ج 11 ص 281.
يريد.
ثم يجوز أن يكون هذا إذنا لهم في الدنيا في شفاعة أقوام، ويجوز أن يكون في الآخرة.
وفي الكلام إضمار، أي ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له ففزع لما ورد عليه من
الاذن تهيبا لكلام الله تعالى، حتى إذا ذهب الفزع عن قلوبهم أجاب بالانقياد. وقيل:
هذا الفزع يكون اليوم للملائكة في كل أمر يأمر به الرب تعالى، أي لا تنفع الشفاعة
إلا من الملائكة الذين هم اليوم فزعون، مطيعون لله تعالى دون الجمادات والشياطين.
وفي صحيح الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إذا
قضى الله في السماء أمرا ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنها سلسلة على
صفوان «1» فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير-
قال- والشياطين بعضهم فوق بعض) قال: حديث حسن صحيح. وقال النواس بن سمعان قال
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن الله إذا أراد أن يوحي بالأمر تكلم
بالوحي أخذت السماوات منه رجفة أو رعدة شديدة خوفا من الله تعالى فإذا سمع أهل
السماوات ذلك صعقوا وخروا لله تعالى سجدا فيكون أول من يرفع رأسه جبريل فيكلمه
الله تعالى ويقول له من وحيه ما أراد ثم يمر جبريل بالملائكة كلما مر بسماء سأله
ملائكتها ماذا قال ربنا يا جبريل فيقول جبريل قال الحق وهو العلى الكبير- قال-
فيقول كلهم كما قال جبريل فينتهي جبريل بالوحي حيث أمره الله تعالى (. وذكر
البيهقي عن ابن عباس في قوله تعالى:" حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ
قُلُوبِهِمْ" قال: كان لكل قبيل من الجن مقعد من السماء يستمعون منه الوحي،
وكان إذا نزل الوحي سمع له صوت كإمرار السلسلة على الصفوان، فلا ينزل على أهل سماء
إلا صعقوا فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير،
ثم يقول يكون العام كذا ويكون كذا فتسمعه الجن فيخبرون به الكهنة والكهنة الناس
[يقولون ] يكون العام كذا وكذا فيجدونه كذلك، فلما بعث الله محمدا صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دحروا بالشهب فقالت العرب حين لم تخبرهم الجن بذلك: هلك من في
السماء، فجعل صاحب الإبل ينحر كل يوم بعيرا، وصاحب البقر ينحر كل يوم بقرة،
__________
(1). الصفوان: الصخر الأملس.
وصاحب
الغنم ينحر كل يوم شاة، حتى أسرعوا في أموالهم فقالت ثقيف وكانت أعقل العرب: أيها
الناس! أمسكوا على أموالكم، فإنه لم يمت من في السماء، وإن هذا ليس بانتثار، ألستم
ترون معالمكم من النجوم كما هي والشمس والقمر والليل والنهار! قال فقال إبليس: لقد
حدث في الأرض اليوم حدث، فأتوني من تربة كل أرض فأتوه بها، فجعل يشمها فلما شم
تربة مكة قال من هاهنا جاء الحدث، فنصتوا فإذا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قد بعث. وقد مضى هذا المعنى مرفوعا مختصرا في سورة" الحجر"
«1»، ومعنى القول أيضا في رميهم بالشهب وإحراقهم بها، ويأتي في سورة"
الجن" «2» بيان ذلك إن شاء الله تعالى. وقيل: إنما يفزعون من قيام الساعة.
وقال الكلبي وكعب: كان بين عيسى ومحمد عليهما السلام فترة خمسمائة وخمسون سنة لا
يجئ فيها الرسل، فلما بعث الله تعالى محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلم
الله تعالى جبريل بالرسالة، فلما سمعت الملائكة الكلام ظنوا أنها الساعة قد قامت،
فصعقوا مما سمعوا، فلما انحدر جبريل عليه السلام جعل يمر بكل سماء فيكشف عنهم
فيرفعون رؤوسهم ويقول بعضهم لبعض ماذا قال ربكم فلم يدروا ما قال ولكنهم قالوا قال
الحق وهو العلي الكبير، وذلك أن محمدا عليه السلام عند أهل السماوات من أشراط
الساعة. وقال الضحاك: إن الملائكة المعقبات الذين يختلفون إلى أهل الأرض يكتبون
أعمالهم، يرسلهم الرب تبارك وتعالى، فإذا انحدروا سمع لهم صوت شديد فيحسب الذين هم
أسفل من الملائكة أنه من أمر الساعة، فيخرون سجدا ويصعقون حتى يعلموا أنه ليس من
أمر الساعة. وهذا تنبيه من الله تعالى وإخبار أن الملائكة مع اصطفائهم ورفعتهم لا
يمكن أن يشفعوا لاحد حتى يؤذن لهم، فإذا أذن لهم وسمعوا صعقوا، وكان هذه حالهم،
فكيف تشفع الأصنام أو كيف تؤملون أنتم الشفاعة ولا تعترفون بالقيامة. وقال الحسن
وابن زيد ومجاهد: حتى إذا كشف الفزع عن قلوب المشركين. قال الحسن ومجاهد وابن زيد:
في الآخرة عند نزول الموت، إقامة للحجة عليهم قالت الملائكة لهم: ماذا قال ربكم في
الدنيا قالوا الحق وهو العلي الكبير، فأقروا
__________
(1). راجع ج 10 ص 10. [.....]
(2). راجع ج 19 ص 10 فما بعد.
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24)
حين
لا ينفعهم الإقرار، أي قالوا قال الحق. وقراءة العامة" فُزِّعَ عَنْ
قُلُوبِهِمْ". وقرا ابن عباس" فزع عن قلوبهم" مسمى الفاعل وفاعله
ضمير يرجع إلى اسم الله تعالى. ومن بناه للمفعول فالجار والمجرور في موضع رفع،
والفعل في المعنى لله تبارك وتعالى، والمعنى في القراءتين: أزيل الفزع عن قلوبهم،
حسبما تقدم بيانه. ومثله: أشكاه، إذا أزال عنه ما يشكوه. وقرا الحسن:"
فزع" مثل قراءة العامة، إلا أنه خفف الزاي، والجار والمجرور في موضع رفع
أيضا، وهو كقولك: انصرف عن كذا إلى كذا. وكذا معنى" فرغ" بالراء والغين
المعجمة والتخفيف، غير مسمى الفاعل، رويت عن الحسن أيضا وقتادة. وعنهما أيضا"
فرغ" بالراء والغين المعجمة مسمى الفاعل، والمعنى: فرغ الله تعالى قلوبهم أي
كشف عنها، أي فرغها من الفزع والخوف، وإلى ذلك يرجع البناء للمفعول على هذه
القراءة. وعن الحسن أيضا" فرغ" بالتشديد.
[سورة سبإ (34): آية 24]
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ
إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24)
قوله تعالى: (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) لما ذكر أن
آلهتهم لا يملكون مثقال ذرة مما يقدر عليه الرب قرر ذلك فقال: قل يا محمد
للمشركين" مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ" أي من يخلق
لكم هذه الأرزاق الكائنة من السماوات، أي عن المطر والشمس والقمر والنجوم وما فيها
من المنافع." وَالْأَرْضِ" أي الخارجة من الأرض عن الماء والنبات- أي لا
يمكنهم أن يقولوا هذا فعل آلهتنا- فيقولون لا ندري، فقل إن الله يفعل ذلك الذي
يعلم ما في نفوسكم. وإن قالوا: إن الله يرزقنا فقد تقررت الحجة بأنه الذي ينبغي أن
يعبد. (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) هذا على
وجه الانصاف في الحجة، كما يقول القائل: أحدنا كاذب، وهو يعلم أنه صادق وأن صاحبه
كاذب. والمعنى: ما نحن وأنتم على أمر واحد، بل على أمرين متضادين، واحد الفريقين
مهتد وهو نحن والآخر ضال وهو أنتم،
قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25)
فكذبهم
بأحسن من تصريح التكذيب، والمعنى: أنتم الضالون حين أشركتم بالذي يرزقكم من
السماوات والأرض." أَوْ إِيَّاكُمْ" معطوف على اسم" إن" ولو
عطف على الموضع لكان" أو أنتم" ويكون" لَعَلى هُدىً" للأول لا
غير. وإذا قلت:" أَوْ إِيَّاكُمْ" كان للثاني أولى، وحذفت من الأول،
ويجوز أن يكون للأول، وهو اختيار المبرد، قال: ومعناه معنى قول المستبصر لصاحبه
على صحة الوعيد والاستظهار بالحجة الواضحة: أحدنا كاذب، قد عرف المعنى، كما تقول:
أنا أفعل كذا وتفعل أنت كذا واحدنا مخطئ، وقد عرف أنه هو المخطئ، فهكذا"
وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ". و"
أَوْ" عند البصريين على بابها وليست للشك، ولكنها على ما تستعمله العرب في
مثل هذا إذا لم يرد المخبر أن يبين وهو عالم بالمعنى. وقال أبو عبيدة والفراء: هي
بمعنى الواو، وتقديره: وإنا على هدى وإياكم لفي ضلال مبين. وقال جرير:
أثعلبة الفوارس أو رياحا ... عدلت بهم طهية والربابا «1»
يعني أثعلبة ورياحا وقال آخر:
فلما اشتد أمر الحرب فينا ... تأملنا رياحا أو رزاما
[سورة سبإ (34): آية 25]
قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25)
قوله تعالى: (قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا) أي اكتسبنا،" وَلا
نُسْئَلُ" نحن أيضا" عَمَّا تَعْمَلُونَ" أي إنما أقصد بما أدعوكم
إليه الخير لكم، لا أنه ينالني ضرر كفركم، وهذا كما قال:" لَكُمْ دِينُكُمْ
وَلِيَ دِينِ" «2» [الكافرون: 6] والله مجازي الجميع. فهذه آية مهادنة
ومتاركة، وهي منسوخة بالسيف. وقيل: نزل هذا قبل آية السيف.
[سورة سبإ (34): آية 26]
قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ
الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26)
__________
(1). رواية الديوان وكتاب سيبويه: (والخشابا).
(2). راجع ج 20 ص 229.
قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (30)
قوله
تعالى: (قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا) يريد يوم القيامة (ثُمَّ يَفْتَحُ
بَيْنَنا بِالْحَقِّ) أي يقضي فيثيب المهتدي ويعاقب الضال (وَهُوَ الْفَتَّاحُ) أي
القاضي بالحق (الْعَلِيمُ) بأحوال الخلق. وهذا كله منسوخ بآية السيف.
[سورة سبإ (34): آية 27]
قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللَّهُ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)
قوله تعالى: (قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ) يكون"
أَرُونِيَ" هنا من رؤية القلب، فيكون" شُرَكاءَ" المفعول الثالث،
أي عرفوني الأصنام والأوثان التي جعلتموها شركاء لله عز وجل، وهل شاركت في خلق شي،
فبينوا ما هو؟ وإلا فلم تعبدونها. ويجوز أن تكون من رؤية البصر، فيكون"
شُرَكاءَ" حالا. (كَلَّا) أي ليس الامر كما زعمتم. وقيل: إن"
كَلَّا" رد لجوابهم المحذوف، كأنه قال: أروني الذين ألحقتم به شركاء. قالوا:
هي الأصنام. فقال كلا، أي ليس له شركاء (بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ).
[سورة سبإ (34): الآيات 28 الى 30]
وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ
أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (28) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ
كُنْتُمْ صادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ
ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ (30)
قوله تعالى: (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً)
أي وما أرسلناك إلا للناس كافة أي عامة، ففي الكلام تقديم وتأخير. وقال الزجاج: أي
وما أرسلناك إلا جامعا للناس بالإنذار والإبلاغ. والكافة بمعنى الجامع. وقيل:
معناه كافا للناس، تكفهم عما هم فيه من الكفر وتدعوهم إلى الإسلام. والهاء
للمبالغة. وقيل: أي إلا ذا كافة، فحذف المضاف، أي ذا منع للناس من أن يشذوا عن
تبليغك، أو ذا منع لهم من الكفر، ومنه:
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33)
كف
الثوب، لأنه ضم طرفيه. (بَشِيراً) أي بالجنة لمن أطاع. (وَنَذِيراً) من النار لمن
كفر. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ما عند الله وهم المشركون،
وكانوا في ذلك الوقت أكثر من المؤمنين عددا. (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ)
يعني موعدكم لنا بقيام الساعة. (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) فقال الله تعالى: (قُلْ)
لهم يا محمد (لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا
تَسْتَقْدِمُونَ) فلا يغرنكم تأخيره. والميعاد الميقات. ويعني بهذا الميعاد وقت
البعث وقيل وقت حضور الموت، أي لكم قبل يوم القيامة وقت معين تموتون فيه فتعلمون
حقيقة قولي. وقيل: أراد بهذا اليوم يوم بدر، لان ذلك اليوم كان ميعاد عذابهم في
الدنيا في حكم الله تعالى. وأجاز النحويون" مِيعادُ يَوْمٍ" على أن
يكون" مِيعادُ" ابتداء و" يَوْمٍ" بدل منه، والخبر"
لَكُمْ". وأجازوا" ميعاد يوما" يكون ظرفا، وتكون الهاء في"
عَنْهُ" ترجع إلى" يَوْمٍ" ولا يصح" ميعاد يوم لا
تستأخرون" بغير تنوين، وإضافة" يوم" إلى ما بعده إذا قدرت الهاء
عائدة على اليوم، لان ذلك يكون من إضافة الشيء إلى نفسه من أجل الهاء التي في
الجملة. ويجوز ذلك على أن تكون الهاء للميعاد لا لليوم.
[سورة سبإ (34): الآيات 31 الى 33]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ
يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ
بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ
اسْتَكْبَرُوا لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قالَ الَّذِينَ
اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى
بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقالَ الَّذِينَ
اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ
تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا
النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ
الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (33)
قوله تعالى: (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) يريد كفار قريش. (لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) قال سعيد عن قتادة:" وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ" من الكتب والأنبياء عليهم الصلاة والسلام. وقيل من الآخرة. وقال ابن جريج: قائل ذلك أبو جهل بن هشام. وقيل: إن أهل الكتاب قالوا للمشركين صفة محمد في كتابنا فسلوه، فلما سألوه فوافق ما قال أهل الكتاب قال المشركون: لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي أنزل قبله من التوراة والإنجيل بل نكفر بالجميع، وكانوا قبل ذلك يراجعون أهل الكتاب ويحتجون بقولهم، فظهر بهذا تناقضهم وقلة علمهم. ثم أخبر الله تبارك وتعالى عن حالهم فيما لهم فقال (وَلَوْ تَرى ) يا محمد (إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي محبوسون في موقف الحساب، يتراجعون الكلام فيما بينهم باللوم والعتاب بعد أن كانوا في الدنيا أخلاء متناصرين. وجواب" لو" محذوف، أي لرأيت أمرا هائلا فظيعا. ثم ذكر أي شي يرجع من القول بينهم فقال: (يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) في الدنيا من الكافرين (لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) وهم القادة والرؤساء (لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ) أي أغويتمونا وأضللتمونا. واللغة الفصيحة" لَوْ لا أَنْتُمْ" ومن العرب من يقول" لولاكم" حكاها سيبويه، تكون" لولا" تخفض المضمر ويرتفع المظهر بعدها بالابتداء ويحذف خبره. ومحمد بن يزيد يقول: لا يجوز" لولاكم" لان المضمر عقيب المظهر، فلما كان المظهر مرفوعا بالإجماع وجب أن يكون المضمر أيضا مرفوعا. (قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى ) هو استفهام بمعنى الإنكار، أي ما رددناكم نحن عن الهدى، ولا أكرهناكم. (بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ) أي مشركين مصرين على الكفر. (وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) المكر أصله في كلام العرب الاحتيال والخديعة، وقد مكر به يمكر فهو ماكر ومكار. قال الأخفش: هو على تقدير: هذا مكر الليل والنهار. قال النحاس: والمعنى- والله أعلم- بل مكركم في الليل والنهار، أي مسارتكم إيانا ودعاؤكم لنا إلى الكفر حملنا على هذا. وقال سفيان الثوري: بل عملكم في الليل والنهار. قتادة: بل مكركم بالليل والنهار صدنا، فأضيف المكر إليهما لوقوعه فيهما،
وهو
كقوله تعالى:" إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ" «1» [نوح:
4] فأضاف الأجل إلى نفسه، ثم قال:" فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا
يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً" «2» [الأعراف: 34] إذ كان الأجل لهم. وهذا من قبيل
قولك: ليله قائم ونهاره صائم. قال المبرد: أي بل مكركم الليل والنهار، كما تقول
العرب: نهاره صائم وليله قائم. وأنشد لجرير:
لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى ... ونمت وما ليل المطي بنائم
وأنشد سيبويه:
فنام ليلي وتجلى همي
أي نمت فيه. ونظيره:" وَالنَّهارَ مُبْصِراً" «3» [يونس: 67]. وقرا
قتادة:" بل مكر الليل والنهار" بتنوين" مكر" ونصب" الليل
والنهار"، والتقدير: بل مكر كائن في الليل والنهار، فحذف. وقرا سعيد بن
جبير" بل مكر" بفتح الكاف وشد الراء بمعنى الكرور، وارتفاعه بالابتداء
والخبر محذوف. ويجوز أن يرتفع بفعل مضمر دل عليه" أَنَحْنُ
صَدَدْناكُمْ" كأنهم لما قالوا لهم أنحن صددناكم عن الهدى قالوا بل صدنا مكر
الليل والنهار. وروي عن سعيد بن جبير" بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ
وَالنَّهارِ" قال: مر الليل والنهار عليهم فغفلوا. وقيل: طول السلامة فيهما
كقوله" فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ" «4» [الحديد: 16]. وقرا راشد"
بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ" بالنصب، كما تقول: رأيته مقدم الحاج،
وإنما يجوز هذا فيما يعرف، لو قلت: رأيته مقدم زيد، لم يجز، ذكره النحاس. (إِذْ
تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً) أي أشباها
وأمثالا ونظراء. قال محمد بن يزيد: فلان ند فلان، أي مثله. ويقال نديد، وأنشد:
أينما تجعلون إلي ندا ... وما أنتم لذي حسب نديد
وقد مضى هذا في البقرة" «5»." وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ" أي
أظهروها، وهو من الأضداد يكون بمعنى الإخفاء والإبداء. قال امرؤ القيس:
تجاوزت أحراسا وأهوال معشر ... علي حراصا لو يسرون مقتلي «6»
__________
(1). راجع ج 18 ص 299 فما بعد.
(2). راجع ج 7 ص 201 فما بعد.
(3). راجع ج 8 ص 360.
(4). راجع ج 17 ص 248 فما بعد.
(5). راجع ج 1 ص (230)
(6). هذه رواية البيت كما في نسخ الأصل والديوان وروايته كما في المعلقات:
تجاوزت أحراسا إليها ومعشرا ... على حراصا لو يشرون مقتلي
(يشرون) بالشين المعجمة: يظهرون.
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36) وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38)
وروي"
يشرون". وقيل: (وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ) أي تبينت الندامة في أسرار وجوههم.
قيل: الندامة لا تظهر، وإنما تكون في القلب، وإنما يظهر ما يتولد عنها، حسبما تقدم
بيانه في سورة" يونس «1»، وآل عمران". وقيل: إظهارهم الندامة
قولهم:" فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ" «2»
[الشعراء: 102]. وقيل: أسروا الندامة فيما بينهم ولم يجهروا القول بها، كما
قال:" وَأَسَرُّوا النَّجْوَى" «3» [الأنبياء: 3]. (وَجَعَلْنَا
الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا) الاغلال جمع غل، يقال: في رقبته غل
من حديد. ومنه قيل للمرأة السيئة الخلق: غل قمل، وأصله أن الغل كان يكون من قد
وعليه شعر فيقمل. وغللت يده إلى عنقه، وقد غل فهو مغلول، يقال: ماله أل وغل «4».
والغل أيضا والغلة: حرارة العطش، وكذلك الغليل، يقال منه: غل الرجل يغل غللا فهو
مغلول، على ما لم يسم فاعله، عن الجوهري. أي جعلت الجوامع في أعناق التابعين
والمتبوعين. قيل من غير هؤلاء الفريقين. وقيل يرجع" الَّذِينَ كَفَرُوا"
إليهم. وقيل: تم الكلال عند قوله:" لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ" ثم ابتدأ
فقال:" وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ" بعد ذلك في أعناق سائر الكفار. (هَلْ
يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) في الدنيا.
[سورة سبإ (34): الآيات 34 الى 38]
وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما
أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (34) وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً
وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ
يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (36) وَما
أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ
مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ
فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ
أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (38)
__________
(1). راجع ج 8 ص (352)
(2). راجع ج 13 ص (117)
(3). راجع ج 11 ص (215)
(4). أل: دفع في قفاه. وغل: جن فوضع في عنقه الغل.
قوله
تعالى: (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها) قال
قتادة: أي أغنياؤها ورؤساؤها وجبابرتها وقادة الشر للرسل: (إِنَّا بِما
أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ. وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً) أي
فضلنا عليكم بالأموال والأولاد، ولو لم يكن ربكم راضيا بما نحن عليه من الدين
والفضل لم يخولنا ذلك. (وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ)
لان من أحسن إليه فلا يعذبه، فرد الله عليهم قولهم وما احتجوا به من الغنى فقال
لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ
لِمَنْ يَشاءُ) أي يوسعه (وَيَقْدِرُ) أي يقتر، أي إن الله هو الذي يفاضل بين
عباده في الأرزاق امتحانا لهم، فلا يدل شي من ذلك على ما في العواقب، فسعة الرزق
في الدنيا لا تدل على سعادة الآخرة فلا تظنوا أموالكم وأولادكم تغنى عنكم غدا
شيئا. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) هذا لأنهم لا يتأملون. ثم قال
تأكيدا: (وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا
زُلْفى ) قال مجاهد: أي قربى. والزلفة القربة. وقال الأخفش: أي إزلافا، وهو اسم
المصدر، فيكون موضع" قربى" نصبا كأنه قال بالتي تقربكم عندنا تقريبا.
وزعم الفراء أن" التي" تكون للأموال والأولاد جميعا. وله قول آخر وهو
مذهب أبي إسحاق الزجاج، يكون المعنى: وما أموالكم بالتي تقربكم عندنا، ولا أولادكم
بالتي تقربكم عندنا زلفى، ثم حذف خبر الأول لدلالة الثاني عليه. وأنشد الفراء:
نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راض والرأي مختلف
ويجوز في غير القرآن: باللتين وباللاتي وباللواتي وباللذين وبالذين، للأولاد خاصة
أي لا تزيدكم الأموال عندنا رفعة ودرجة، ولا تقربكم تقريبا. (إِلَّا مَنْ آمَنَ
وَعَمِلَ صالِحاً) قال سعيد بن جبير: المعنى إلا من آمن وعمل صالحا فلن يضره ماله
وولده في الدنيا. وروى ليث عن طاوس أنه كان يقول: اللهم ارزقني الايمان والعمل،
وجنبني المال والولد، فإني سمعت فيما أوحيت" وَما أَمْوالُكُمْ وَلا
أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ
صالِحاً". قلت: قول طاوس فيه نظر، والمعنى والله أعلم: جنبني المال والولد
المطغيين أو اللذين لا خير فيهما، فأما المال الصالح والولد الصالح للرجل الصالح
فنعم هذا! وقد مضى هذا في" آل عمران
ومريم،
والفرقان" «1». و" مَنْ" في موضع نصب على الاستثناء المنقطع، أي
لكن من آمن وعمل صالحا فإيمانه وعمله يقر بانه مني. وزعم الزجاج أنه في موضع نصب
بالاستثناء على البدل من الكاف والميم التي في" تُقَرِّبُكُمْ". النحاس:
وهذا القول غلط، لان الكاف والميم للمخاطب فلا يجوز البدل، ولو جاز هذا لجاز:
رأيتك زيدا. وقول أبي إسحاق هذا هو قول الفراء. إلا أن الفراء لا يقول بدل لأنه
ليس من لفظ الكوفيين، ولكن قوله يئول إلى ذلك، وزعم أن مثله" إِلَّا مَنْ
أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ" «2» يكون منصوبا عنده ب"-
يَنْفَعُ". وأجاز الفراء أن يكون" مَنْ" في موضع رفع بمعنى: ما هو
إلا من آمن، كذا قال، ولست أحصل معناه. (فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما
عَمِلُوا) يعني قوله:" مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ
أَمْثالِها" «3» [الانعام: 160] فالضعف الزيادة، أي لهم جزاء التضعيف، وهو من
باب إضافة المصدر إلى المفعول. وقيل: لهم جزاء الاضعاف، فالضعف في معنى الجمع، وإضافة
الضعف إلى الجزاء كإضافة الشيء إلى نفسه، نحو: حق اليقين، وصلاة الاولى. أي لهم
الجزاء المضعف، للواحد عشرة إلى ما يريد الله من الزيادة. وبهذه الآية استدل من
فضل الغنى على الفقر. وقال محمد بن كعب: إن المؤمن إذا كان غنيا تقيا أتاه الله
أجره مرتين بهذه الآية. (وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ) قراءة العامة"
جَزاءُ الضِّعْفِ" بالإضافة. وقرا الزهري ويعقوب ونصر بن عاصم"
جزاء" منونا منصوبا" الضعف" رفعا، أي فأولئك لهم الضعف جزاء، على
التقديم والتأخير. و" جَزاءُ الضِّعْفِ" على أن يجازوا الضعف. و"
جزاء الضعف" مرفوعان، الضعف بدل من جزاء. وقرا الجمهور أيضا" فِي
الْغُرُفاتِ" على الجمع، وهو اختيار أبى عبيد، لقوله:"
لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً" «4» [العنكبوت: 58]. الزمخشري:
وقرى" فِي الْغُرُفاتِ" بضم الراء وفتحها وسكونها. وقرا الأعمش ويحيى بن
وثاب وحمزة وخلف" في الغرفة" على التوحيد، لقوله تعالى:" أُوْلئِكَ
يُجْزَوْنَ «5» الْغُرْفَةَ" [الفرقان: 75]. والغرفة قد يراد بها أسم الجمع
واسم الجنس. قال ابن عباس: هي غرف
__________
(1). راجع ج 4 ص 72. [.....]
(2). راجع ج 11 ص 80.
(3). راجع 7 ص 150
(4). راجع ج 13 ص 82.
(5). راجع ج 3 ص 1141 و359.
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)
من
ياقوت وزبرجد ودر. وقد مضى بيان ذلك «1». (آمِنُونَ) أي من العذاب والموت والاسقام
والأحزان. (وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا) في إبطال أدلتنا وحجتنا وكتابنا.
(مُعاجِزِينَ) معاندين، يحسبون أنهم يفوتوننا بأنفسهم. (أُولئِكَ فِي الْعَذابِ
مُحْضَرُونَ) أي في جهنم تحضرهم الزبانية فيها.
[سورة سبإ (34): آية 39]
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ
لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ
الرَّازِقِينَ (39)
قوله تعالى: (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ
وَيَقْدِرُ لَهُ) كرر تأكيدا. (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ)
أي قل يا محمد لهؤلاء المغترين بالأموال والأولاد إن الله يوسع على من يشاء ويضيق
على من يشاء، فلا تغتروا بالأموال والأولاد بل أنفقوها في طاعة الله، فإن ما
أنفقتم في طاعة الله فهو يخلفه. وفية إضمار، أي فهو يخلفه عليكم، يقال: أخلف له
وأخلف عليه، أي يعطيكم خلفه وبدله، وذلك البدل إما في الدنيا وإما في الآخرة. وفي
صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ما
من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان فيقول أحدهما اللهم أعط منفقا خلفا وأعط
ممسكا تلفا (. وفيه أيضا عن أبي هريرة عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قال،) إن الله قال لي أنفق أنفق عليك ... (الحديث. وهذه إشارة إلى الخلف
في الدنيا بمثل المنفق فيها إذا كانت النفقة في طاعة الله. وقد لا يكون الخلف في
الدنيا فيكون كالدعاء- كما «2» تقدم- سواء في الإجابة أو التكفير أو الادخار،
والادخار ها هنا مثله في الأجر. مسألة- روى الدارقطني وأبو أحمد بن عدي عن عبد
الحميد الهلالي عن محمد بن المنكدر عن جابر قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (كل معروف صدقة وما أنفق الرجل على نفسه واهلة كتب له صدقة
وما وقى به الرجل عرضه فهو صدقة وما أنفق الرجل
__________
(1). راجع ج 8 ص 204 وج 13 ص 83 و(359)
(2). راجع ج 3 ص 308 فما بعد
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41)
من
نفقة فعلى الله خلفها إلا ما كان من نفقة في بنيان أو معصية (. قال عبد الحميد:
قلت لابن المنكدر:" ما وقى الرجل عرضه"؟ قال: يعطي الشاعر وذا اللسان.
عبد الحميد وثقه ابن معين. قلت: أما ما أنفق في معصية فلا خلاف أنه غير مثاب عليه
ولا مخلوف له. وأما البنيان فما كان منه ضروريا يكن الإنسان ويحفظه فذلك مخلوف
عليه ومأجور ببنيانه. وكذلك كحفظ بنيته وستر عورته، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: (ليس لابن آدم حق في سوى هذه الخصال، بيت يسكنه وثوب يواري عورته وجلف
الخبز والماء). وقد مضى هذا المعنى في" الأعراف" «1» مستوفى. قوله
تعالى: (وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) لما كان يقال في الإنسان: إنه يرزق عياله
والأمير جنده، قال:" وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ" والرازق من الخلق
يرزق، لكن ذلك من مال يملك عليهم ثم ينقطع، والله تعالى يرزق من خزائن لا تفنى ولا
تتناهى. ومن أخرج من عدم إلى الوجود فهو الرازق على الحقيقة، كما قال:" إِنَّ
اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ" «2» [الذاريات: 58].
[سورة سبإ (34): الآيات 40 الى 41]
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ
إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (40) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ
دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41)
قوله تعالى: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ «3» جَمِيعاً) هذا متصل بقوله:" وَلَوْ
تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ" «4» [سبأ: 31]. أي لو تراهم في هذه
الحالة لرأيت أمرا فظيعا. والخطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
والمراد هو وأمته. ثم قال: ولو تراهم أيضا" يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ
جَمِيعاً" العابدين والمعبودين، أي نجمعهم للحساب (ثُمَّ يَقُولُ «5»
لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ). قال سعيد عن قتادة: هذا
__________
(1). راجع ج 7 ص (239)
(2). راجع ج 17 ص (55)
(3). قوله (نحشرهم، نقول) بالنون قراءة نافع.
(4). راجع ص 302 من هذا الجزء.
(5). قوله (نحشرهم، نقول) بالنون قراءة نافع.
فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42)
استفهام،
كقوله عز وجل لعيسى:" أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي
إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ" «1» [المائدة: 116] قال النحاس: فالمعنى أن
الملائكة صلوات الله عليهم إذا كذبتهم كان في ذلك تبكيت لهم، فهو استفهام توبيخ
للعابدين. (قالُوا سُبْحانَكَ) أي تنزيها لك. (أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ)
أي أنت ربنا الذي نتولاه ونطيعه ونعبده ونخلص في العبادة له. (بَلْ كانُوا
يَعْبُدُونَ الْجِنَّ) أي يطيعون إبليس وأعوانه. وفي التفاسير: أن حيا يقال لهم
بنو مليح من خزاعة كانوا يعبدون الجن، ويزعمون أن الجن تتراءى لهم، وأنهم ملائكة،
وأنهم بنات الله، وهو قوله:" وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ
نَسَباً" «2» [الصافات: 158].
[سورة سبإ (34): آية 42]
فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ
لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ
(42)
قوله تعالى: (فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً) أي شفاعة
ونجاة. (وَلا ضَرًّا) أي عذابا وهلاكا. وقيل: أي لا تملك الملائكة دفع ضر عن
عابديهم، فحذف المضاف (وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ
الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) يجوز أن يقول الله لهم أو الملائكة: ذوقوا.
[سورة سبإ (34): آية 43]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ
أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلاَّ إِفْكٌ
مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ
سِحْرٌ مُبِينٌ (43)
قوله تعالى: (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ) يعني القرآن. (قالُوا
ما هذا إِلَّا رَجُلٌ) يعنون محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (يُرِيدُ
أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ) أي أسلافكم من
__________ (1). راجع ج 6 ص 374.
(2). راجع ج 15 ص 134
وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45)
الآلهة
التي كانوا يعبدونها. (وَقالُوا ما هذا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً) يعنون القرآن، أي
ما هو إلا كذب مختلق. (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ
هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) فتارة قالوا سحر، وتارة قالوا إفك. ويحتمل أن يكون
منهم من قال سحر ومنهم من قال إفك.
[سورة سبإ (34): الآيات 44 الى 45]
وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ
مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما
آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (45)
قوله تعالى: (وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها) أي لم يقرءوا في كتاب
أوتوه بطلان ما جئت به، ولا سمعوه من رسول بعث إليهم، كما قال:" أَمْ
آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ" «1»
[الزخرف: 21] فليس لتكذيبهم وجه يتشبث به ولا شبهة متعلق كما يقول أهل الكتاب وإن
كانوا مبطلين: نحن أهل كتاب وشرائع ومستندون إلى رسل من رسل الله، ثم توعدهم على
تكذيبهم بقوله الحق: (وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي كذب قبلهم أقوام
كانوا أشد من هؤلاء بطشا وأكثر أموالا وأولادا وأوسع عيشا، فأهلكتهم كثمود وعاد.
(وَما بَلَغُوا) أي ما بلغ أهل مكة (مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ) تلك الأمم. والمعشار
والعشر سواء، لغتان. وقيل: المعشار عشر العشر. الجوهري: ومعشار الشيء عشره، ولا
يقولون هذا في شي سوى العشر. وقال: ما بلغ الذين من قبلهم معشار شكر ما أعطيناهم،
حكاه النقاش. وقيل: ما أعطى الله تعالى من قبلهم معشار ما أعطاهم من العلم والبيان
والحجة والبرهان. قال ابن عباس: فليس أمة أعلم من أمته، ولا كتاب أبين من كتابه.
وقيل: المعشار هو عشر العشير، والعشير هو عشر العشر فيكون جزءا من ألف جزء.
الماوردي: وهو الأظهر، لان المراد به المبالغة في التقليل. (فَكَذَّبُوا رُسُلِي
فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) أي عقابي في الأمم، وفية محذوف وتقديره: فأهلكناهم فكيف
كان نكيري.
__________
(1). راجع ج 16 ص 74 [.....]
قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46)
[سورة
سبإ (34): آية 46]
قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ
تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ
بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (46)
قوله تعالى: (قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ) تمم الحجة على المشركين، أي قل
لهم يا محمد: (إِنَّما أَعِظُكُمْ) أي أذكركم وأحذركم سوء عاقبة ما أنتم فيه.
(بِواحِدَةٍ) أي بكلمة واحدة مشتملة على جميع الكلام، تقتضي نفي الشرك لإثبات
الاله. قال مجاهد: هي لا إله إلا الله وهذا قول أبن عباس والسدي. وعن مجاهد أيضا:
بطاعة الله. وقيل: بالقرآن، لأنه يجمع كل المواعظ. وقيل: تقديره بخصلة واحدة، ثم
بينها بقوله: (أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ) فتكون" أَنْ"
في موضع خفض على البدل من" واحدة"، أو في موضع رفع على إضمار مبتدأ، أي
هي أن تقوموا. ومذهب الزجاج أنها في موضع نصب بمعنى لان تقوموا. وهذا القيام معناه
القيام إلى طلب الحق لا القيام الذي هو ضد القعود، وهو كما يقال: قام فلان بأمر
كذا، أي لوجه الله والتقرب إليه. وكما قال تعالى:" وَأَنْ تَقُومُوا
لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ" «1» [النساء: 127]." مَثْنى وَفُرادى " أي
وحدانا ومجتمعين قاله السدي. وقيل: منفردا برأيه ومشاورا لغيره، وهذا قول مأثور.
وقال القتبي: مناظرا مع غيره ومفكرا في نفسه، وكله متقارب. ويحتمل رابعا أن المثنى
عمل النهار والفرادى عمل الليل، لأنه في النهار معان وفي الليل وحيد، قاله
الماوردي. وقيل: إنما قال:" مَثْنى وَفُرادى " لان الذهن حجة الله على
العباد وهو العقل، فأوفرهم عقلا أوفرهم حظا من الله، فإذا كانوا فرادى كانت فكرة
واحدة، وإذا كانوا مثنى تقابل الذهنان فتراءى من العلم لهما ما أضعف على الانفراد،
والله أعلم. (ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ) الوقف عند أبي
حاتم وابن الأنباري على" ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا". وقيل: ليس هو بوقف لان
المعنى: ثم تتفكروا هل جربتم على صاحبكم كذبا، أو رأيتم فيه جنة، أو في أحواله من
__________
(1). راجع ج 5 ص 402
قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47)
فساد،
أو اختلف إلى أحد ممن يدعي العلم بالسحر، أو تعلم الأقاصيص وقرا الكتب، أو عرفتموه
بالطمع في أموالكم، أو تقدرون على معارضته في سورة واحدة، فإذا عرفتم بهذا الفكر
صدقه فما بال هذه المعاندة. (إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ
عَذابٍ شَدِيدٍ) وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية"
وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ". [الشعراء: 214] ورهطك منهم
المخلصين" «1»، خرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى صعد
الصفا فهتف: يا صباحاه؟ «2» فقالوا: من هذا الذي يهتف!؟ قالوا محمد، فاجتمعوا إليه
فقال: (يا بني فلان يا بني فلان يا بني عبد مناف يا بني عبد المطلب- فاجتمعوا إليه
فقال- أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا تخرج من سفح هذا الجبل أكنتم مصدقي (؟ قالوا: ما
جربنا عليك كذبا. قال:) فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد (. قال فقال أبو لهب: تبا
لك! أما جمعتنا إلا لهذا؟ ثم قال فنزلت هذه السورة:" تبت يدا أبي لهب «3» وقد
تب" [المسد: 1] كذا قرأ الأعمش إلى آخر السورة.
[سورة سبإ (34): آية 47]
قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ
وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47)
قوله تعالى: (قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ) أي جعل على تبليغ الرسالة (فَهُوَ
لَكُمْ) أي ذلك الجعل لكم إن كنت سألتكموه (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ
وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) أي رقيب وعالم وحاضر لأعمالي وأعمالكم، لا يخفى
عليه شي فهو يجازي الجميع.
[سورة سبإ (34): آية 48]
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (48)
قوله تعالى: (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ) أي يبين الحجة ويظهرها. قال
قتادة: بالحق بالوحي. وعنه: الحق القرآن. وقال ابن عباس: أي يقذف الباطل بالحق
علام الغيوب.
__________
(1). قال القسطلاني في قوله (ورهطك منهم المخلصين): هو من عطف الخاص على العام
وكان قرآنا فنسخت تلاوته.
(2). قوله: (يا صباحاه) بسكون الهاء وهي كلمة يقولها المستغيث واصلها إذا صاحوا
للغارة لأنهم أكثر ما كانوا يغيرون عند الصباح ويسمون الغارة يوم الصباح.
(3). راجع ج 20 ص 234.
قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49)
وقرا
عيسى بن عمر" علام الغيوب" على أنه بدل، أي قل إن ربي علام الغيوب يقذف
بالحق. قال الزجاج. والرفع من وجهين على الموضع، لان الموضع موضع رفع، أو على
البدل مما في يقذف. النحاس: وفي الرفع وجهان آخران: يكون خبرا بعد خبر، ويكون على
إضمار مبتدأ. وزعم الفراء أن الرفع في مثل هذا أكثر في كلام العرب إذا أتى بعد
خبر" إن" ومثله" إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ «1»
النَّارِ" [ص: 64] وقرى:" الْغُيُوبِ" بالحركات الثلاث، فالغيوب
كالبيوت «2»، والغيوب كالصبور، وهو الامر الذي غاب وخفي جدا.
[سورة سبإ (34): آية 49]
قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (49)
قوله تعالى: (قُلْ جاءَ الْحَقُّ) قال سعيد عن قتادة: يريد القرآن. النحاس:
والتقدير جاء صاحب الحق أي الكتاب الذي فيه البراهين والحجج. (وَما يُبْدِئُ
الْباطِلُ) قال قتادة: الشيطان، أي ما يخلق الشيطان أحدا (وَما يُعِيدُ) ف"-
ما" نفي. ويجوز أن يكون استفهاما بمعنى أي شي، أي جاء الحق فأي شي بقي للباطل
حتى يعيده ويبديه أي فلم يبق منه شي، كقوله:" فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ
باقِيَةٍ" «3» [الحاقة: 8] أي لا ترى.
[سورة سبإ (34): آية 50]
قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما
يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)
قوله تعالى: (قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي) وذلك أن الكفار
قالوا تركت دين آبائك فضللت. فقال له: قل يا محمد إن ضللت كما تزعمون فإنما أضل
على نفسي. وقراءة العامة" ضَلَلْتُ" بفتح اللام. وقرا يحيى بن وثاب
وغيره:" قل إن ضللت" بكسر اللام وفتح الضاد من" أضل"، والضلال
والضلالة ضد الرشاد. وقد ضللت (بفتح اللام) أضل
__________
(1). راجع ج 15 ص 225.
(2). عبارة روح المعاني: (... الغيوب (بالكسر) كالبيوت (. وعبارة البحر) ... أما
الضم فجمع غيب، وأما الكسر فكذلك استثقلوا ضمتين والواو فكسروا لتناسب الكسر مع
الياء والضمة التي على الياء مع الواو وأما الفتح فمفعول للمبالغة كالصبور.
(3). راجع ج 18 ص 216.
وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51)
(بكسر
الضاد)، قال الله تعالى:" قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى
نَفْسِي" فهذه لغة نجد وهي الفصيحة. واهل العالية يقولون" ضللت"
بالكسر" أَضِلُّ" «1»، أي إثم ضلالتي على نفسي. (وَإِنِ اهْتَدَيْتُ
فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي) من الحكمة والبيان (إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ) أي
سميع ممن دعاه قريب الإجابة. وقيل وجه النظم: قل إن ربي يقذف بالحق ويبين الحجة،
وضلال من ضل لا يبطل الحجة، ولو ضللت لاضررت بنفسي، لا أنه يبطل حجة الله، وإذا
اهتديت فذلك فضل الله إذ ثبتني على الحجة إنه سميع قريب.
[سورة سبإ (34): آية 51]
وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (51)
قوله تعالى: (وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ) ذكر أحوال الكفار في وقت ما
يضطرون فيه إلى معرفة الحق. والمعنى: لو ترى إذا فزعوا في الدنيا عند نزول الموت
أو غيره من بأس الله تعالى بهم، روي معناه عن ابن عباس. الحسن: هو فزعهم في القبور
من الصيحة. وعنه أن ذلك الفزع إنما هو إذا خرجوا من قبورهم، وقاله قتادة. وقال ابن
مغفل: إذا عاينوا عقاب الله يوم القيامة. السدي: هو فزعهم يوم بدر حين ضربت
أعناقهم بسيوف الملائكة فلم يستطيعوا فرارا ولا رجوعا إلى التوبة. سعيد بن جبير:
هو الجيش الذي يخسف بهم في البيداء فيبقى منهم رجل فيخبر الناس بما لقى أصحابه
فيفزعون، فهذا هو فزعهم." فَلا فَوْتَ" فلا نجاة، قاله ابن عباس. مجاهد:
فلا مهرب. (وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) أي من القبور. وقيل: من حيث كانوا،
فهم من الله قريب لا يعزبون عنه ولا يفوتونه. وقال ابن عباس: نزلت في ثمانين ألفا
يغزون في آخر الزمان الكعبة ليخربوها، وكما يدخلون البيداء يخسف بهم، فهو الأخذ من
مكان قريب. قلت: وفي هذا المعنى خبر مرفوع عن حذيفة وقد ذكرناه في كتاب التذكرة،
قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وذكر فتنة تكون بين أهل
المشرق والمغرب: (فبيناهم
__________
(1). في مختار الصحاح:) بالكسر فيهما) والذي في اللسان: (ضللت بالكسر أضل).
وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52)
كذلك
إذ خرج عليهم السفياني من الوادي اليابس في فورة ذلك حتى ينزل دمشق فيبعث جيشين
جيشا إلى المشرق، وجيشا إلى المدينة، فيسير الجيش نحو المشرق حتى ينزلوا بأرض بابل
في المدينة الملعونة والبقعة الخبيثة يعني مدينة بغداد، قال- فيقتلون أكثر من
ثلاثة آلاف ويفتضون أكثر من مائة امرأة ويقتلون بها ثلاثمائة كبش «1» من ولد
العباس، ثم يخرجون متوجهين إلى الشام فتخرج راية هدى من الكوفة فتلحق ذلك الجيش
منها على ليلتين «2» فيقتلونهم لا يفلت منهم مخبر ويستنقذون ما في أيديهم من السبي
والغنائم ويحل جيشه الثاني بالمدينة فينتهبونها ثلاثة أيام ولياليها ثم يخرجون
متوجهين إلى مكة حتى إذا كانوا بالبيداء بعث الله جبريل عليه السلام فيقول يا جبريل
أذهب فأبدهم فيضربها برجله ضربة يخسف الله بهم، وذلك قوله تعالى:" وَلَوْ
تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ" فلا يبقى
منهم إلا رجلان أحدهما بشير والآخر نذير وهما من جهينة، ولذلك جاء القول: وعند
جهينة الخبر اليقين وقيل:" أُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ" أي قبضت
أرواحهم في أماكنها فلم يمكنهم الفرار من الموت، وهذا على قول من يقول: هذا الفزع
عند النزع. ويحتمل أن يكون هذا من الفزع الذي هو بمعنى الإجابة، يقال: فزع الرجل
أي أجاب الصارخ الذي يستغيث به إذا نزل به خوف. ومنه الخبر إذ قال للأنصار: (إنكم
لتقلون عند الطمع وتكثرون عند الفزع). ومن قال: أراد الخسف أو القتل في الدنيا
كيوم بدر قال: أخذوا في الدنيا قبل أن يؤخذوا في الآخرة. ومن قال: هو فزع يوم
القيامة قال: أخذوا من بطن الأرض إلى ظهرها. وقيل:" أُخِذُوا مِنْ مَكانٍ
قَرِيبٍ" من جهنم فألقوا فيها.
[سورة سبإ (34): آية 52]
وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (52)
قوله تعالى: (وَقالُوا آمَنَّا بِهِ) أي القرآن. وقال مجاهد: بالله عز وجل. الحسن:
بالبعث. قتادة: بالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَأَنَّى لَهُمُ
التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) قال
__________
(1). كبش القوم: رئيسهم وسيدهم وحاميتهم والمنظور إليه فيهم.
(2). في كتاب التذكرة (على ميلين).
ابن
عباس والضحاك: التناوش الرجعة، أي يطلبون الرجعة إلى الدنيا ليؤمنوا، وهيهات من
ذلك! ومنه قول الشاعر:
تمنى أن تئووب إلي مى ... وليس إلى تناوشها سبيل
وقال السدي: هي التوبة، أي طلبوها وقد بعدت، لأنه إنما تقبل التوبة في الدنيا.
وقيل: التناوش التناول، قال ابن السكيت: يقال للرجل إذا تناول رجلا ليأخذ برأسه
ولحيته: ناشه ينوشه نوشا. وأنشد:
فهي تنوش الحوض نوشا من علا ... نوشا به تقطع أجواز الفلا «1»
أي تتناول ماء الحوض من فوق وتشرب شربا كثيرا، وتقطع بذلك الشرب فلوات فلا تحتاج
إلى ماء آخر. قال: ومنه المناوشة في القتال، وذلك إذا تدانى الفريقان. ورجل نووش
أي ذو بطش. والتناوش. التناول: والانتياش مثله. قال الراجز:
كانت تنوش العنق انتياشا
قوله تعالى:" وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ" يقول:
أنى لهم تناول الايمان في الآخرة وقد كفروا في الدنيا. وقرا أبو عمرو والكسائي
والأعمش وحمزة:" وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ" بالهمز. النحاس: وأبو
عبيدة يستبعد هذه القراءة، لان" التناؤش" بالهمز البعد، فكيف يكون: وأنى
لهم البعد من مكان بعيد. قال أبو جعفر: والقراءة جائزة حسنة، ولها وجهان في كلام
العرب، ولا يتأول بها هذا المتأول البعيد. فأحد الوجهين أن يكون الأصل غير مهموز،
ثم همزت الواو لان الحركة فيها خفية، وذلك كثير في كلام العرب. وفي المصحف الذي
نقلته الجماعة عن الجماعة" وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ" «2» [المرسلات:
11] والأصل" وقتت" لأنه مشتق من الوقت. ويقال في جمع دار: أدؤر. والوجه
الآخر ذكره أبو إسحاق قال: يكون مشتقا من النئيش وهو الحركة في إبطاء، أي من أين
لهم الحركة فيما قد بعد، يقال: نأشت الشيء أخذته
__________
(1). البيت لغيلان بن حريث: والضمير في قوله (فهي) للإبل. وتنوش الحوض: تتناول
ملاه. وقوله: (من علا) أن من فوق. يريد أنها عالية الأجسام طوال الأعناق وذلك
النوش الذي تناله هو الذي يعينها على قطع الفلوات. والاجواز: جمع جوز وهو الوسط.
(2). راجع ج 19 ص 155.
وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53)
من
بعد والنئيش: الشيء البطي. قال الجوهري: التناوش (بالهمز) التأخر والتباعد. وقد
نأشت الامر أنأشه نأشا أخرته، فانتأش. ويقال: فعله نئيشا أي أخيرا. قال الشاعر:
تمنى نئيشا أن يكون أطاعني ... وقد حدثت «1» بعد الأمور أمور
وقال آخر:
قعدت زمانا عن طلابك للعلا ... وجئت نئيشا بعد ما فاتك الخبر «2»
وقال الفراء: الهمز وترك الهمز في التناوش متقارب، مثل: ذمت «3» الرجل وذأمته أي
عبته." مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ" أي من الآخرة. وروى أبو إسحاق عن التميمي
عن ابن عباس قال:" وأنى لهم" قال: الرد، سألوه وليس بحين رد.
[سورة سبإ (34): آية 53]
وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ
(53)
قوله تعالى: (وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ) أي بالله عز وجل وقيل: بمحمد (مِنْ قَبْلُ)
يعني في الدنيا. (وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ) العرب تقول لكل من تكلم بما لا يحقه
«4»: هو يقذف ويرجم بالغيب." مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ" على جهة التمثيل لمن
يرجم ولا يصيب، أي يرمون بالظن فيقولون: لا بعث ولا نشور ولا جنة ولا نار، رجما
منهم بالظن، قال قتادة. وقيل:" يَقْذِفُونَ" أي يرمون في القرآن
فيقولون: سحر وشعر وأساطير الأولين. وقيل: في محمد، فيقولون ساحر شاعر كاهن
مجنون." مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ" أي إن الله بعد لهم أن يعلموا صدق محمد.
وقيل: أراد البعد عن القلب، أي من مكان بعيد عن قلوبهم. وقرا مجاهد" ويقذفون
بالغيب" غير مسمى الفاعل، أي يرمون به. وقيل: يقذف به إليهم من يغويهم
ويضلهم.
__________
(1). في اللسان مادة ناش: (ويحدث من بعد ..).
(2). في ش، ك: (الخير) بالياء المثناة. [.....]
(3). في اللسان: ذامه يذيمه ذيما وذاما عابه وذمته أذيمه وأذمته وذممته كله بمعنى.
(4). حق الامر يحقه وأحقه: كان منه على يقين.
وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)
[سورة
سبإ (34): آية 54]
وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ
قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)
قوله تعالى: (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ) قيل: حيل بينهم وبين
النجاة من العذاب. وقيل: حيل بينهم وبين ما يشتهون في الدنيا من أموالهم وأهليهم.
ومذهب قتادة أن المعنى أنهم كانوا يشتهون لما رأوا العذاب أن يقبل منهم أن يطيعوا
الله عز وجل وينتهوا إلى ما يأمرهم به الله فحيل بينهم وبين ذلك، لان ذلك إنما كان
في الدنيا أو قد زالت في ذلك الوقت. والأصل" حول" فقلبت حركة الواو على
الحاء فانقلبت ياء ثم حذفت حركتها لثقلها. (كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ) الأشياع
جمع شيع، وشيع جمع شيعة. (مِنْ قَبْلُ) أي بمن مضى من القرون السالفة الكافرة.
(إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ) أي من أمر الرسل والبعث والجنة والنار. وقيل: في
الدين والتوحيد، والمعنى واحد. (مُرِيبٍ) أي يستراب به، يقال: أراب الرجل أي صار ذا
ريبة، فهو مريب. ومن قال هو من الريب الذي هو الشك والتهمة قال: يقال شك مريب، كما
يقال: عجب عجيب وشعر شاعر، في التأكيد. ختمت السورة، والحمد لله رب العالمين.
[سورة فاطر]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سورة فاطر مكية في قول الجميع وهي خمس
وأربعون آية
الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)
[سورة
فاطر (35): آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً
أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ
إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)
قوله تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يجوز في"
فاطِرِ" ثلاثة أوجه: الخفض على النعت، والرفع على إضمار مبتدأ، والنصب على
المدح. وحكى سيبويه: الحمد لله أهل الحمد [مثله «1»] وكذا" جاعِلِ
الْمَلائِكَةِ". والفاطر: الخالق. وقد مضى في" يوسف" «2» وغيرها.
والفطر. الشق عن الشيء، يقال: فطرته فانفطر. ومنه: فطر ناب البعير طلع، فهو بعير
فاطر. وتفطر الشيء تشقق. وسيف فطار، أي فيه تشقق. قال عنترة:
وسيفي كالعقيقة فهو كمعي ... سلاحي لا أفل ولا فطارا «3»
والفطر: الابتداء والاختراع. قال ابن عباس: كنت لا أدري ما" فاطِرِ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ" حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما:
أنا فطرتها، أي أنا ابتدأتها. والفطر. حلب الناقة بالسبابة والإبهام. والمراد بذكر
السماوات والأرض العالم كله، ونبه بهذا على أن من قدر على الابتداء قادر على
الإعادة." جاعِلِ الْمَلائِكَةِ" لا يجوز فيه التنوين، لأنه لما
مضى." رُسُلًا" مفعول ثان، ويقال على إضمار فعل، لان" فاعلا"
إذا كان لما مضى لم يعمل فيه شيئا، وإعماله على أنه مستقبل حذف التنوين منه
تخفيفا. وقرا الضحاك" الحمد لله فطر السماوات والأرض" على الفصل الماضي.
(جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا) الرسل منهم جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت،
صلى الله عليهم أجمعين. وقرا الحسن:" جاعل الملائكة" بالرفع. وقرا خليد
بن نشيط" جعل الملائكة" وكله ظاهر. (أُولِي أَجْنِحَةٍ) نعت، أي أصحاب
أجنحة. (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) «4» أي اثنين اثنين، وثلاثة ثلاثة، وأربعة
أربعة. قال قتادة: بعضهم له جناحان، وبعضهم ثلاثة، وبعضهم أربعة، ينزلون بهما من
السماء إلى الأرض، ويعرجون من الأرض إلى السماء، وهي مسيرة كذا في وقت واحد، أي
جعلهم رسلا. قال يحيى بن سلام: إلى الأنبياء. وقال السدي: إلى العباد برحمة أو
نقمة. وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى
جبريل عليه
__________
(1). زيادة عن كتاب النحاس يقتضيها السياق.
(2). راجع ج 9 ص 279 ج 6 ص (397)
(3). عقيقة البرق: شعاعه. والكمع (بكسر فسكون) والكميع: الضجيع.
(4). في كتاب البحر: وقيل (أُولِي أَجْنِحَةٍ) معترض، و(مَثْنى ) حال والعامل فعل
محذوف يدل عليه (رُسُلًا)، أي يرسلون مثنى وثلاث ورباع (.) (
السلام
له ستمائة جناح. وعن الزهري أن جبريل عليه السلام قال له: (يا محمد، لو رأيت
إسرافيل إن له لاثني عشر ألف جناح منها جناح بالمشرق وجناح بالمغرب وإن العرش لعلى
كاهله وإنه في الأحايين ليتضاءل لعظمة الله حتى يعود مثل الوصع والوصع عصفور صغير
حتى ما يحمل عرش ربك إلا عظمته (. و" أولو" اسم جمع لذو، كما أن هؤلاء
اسم جمع لذا، ونظيرهما في المتمكنة: المخاض «1» والخلفة. وقد مضى الكلام في"
مثنى وثلاث ورباع" في" النساء" «2» وأنه غير منصرف. (يَزِيدُ فِي
الْخَلْقِ ما يَشاءُ) أي في خلق الملائكة، في قول أكثر المفسرين، ذكره المهدوي.
وقال الحسن:" يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ" أي في أجنحة الملائكة ما يشاء.
وقال الزهري وابن جريج: يعني حسن الصوت. وقد مضى القول فيه في مقدمة الكتاب «3».
وقال الهيثم الفارسي: رأيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في منامي،
فقال: (أنت الهيثم الذي تزين القرآن بصوتك جزاك الله خيرا). وقال قتادة:"
يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ" الملاحة في العينين والحسن في الأنف
والحلاوة في الفم. وقيل: الخط الحسن. وقال مهاجر الكلاعي قال النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الخط الحسن يزيد الكلام وضوحا). وقيل: الوجه الحسن. وقيل في
الخبر في هذه الآية: هو الوجه الحسن والصوت الحسن والشعر الحسن، ذكره القشيري.
النقاش: هو الشعر الجعد «4». وقيل: العقل والتمييز. وقيل: العلوم والصنائع. (إِنَّ
اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) من النقصان والزيادة. الزمخشري: والآية مطلقة
تتناول كل زيادة في الخلق، من طول قامة، واعتدال صورة، وتمام في الأعضاء، وقوه في
البطش، وحصافة في العقل، وجزالة في الرأي، وجرأة في القلب، وسماحة في النفس،
وذلاقة في اللسان، ولباقة في التكلم، وحسن تأت «5» في مزاولة الأمور، وما أشبه ذلك
مما لا يحيط به وصف.
__________
(1). المخاض: الحوامل من النوق واحدتها خلقة على غير قياس ولا واحد لها من لفظها
كما قالوا لواحدة النساء: امرأة ولواحدة الإبل: ناقة أو بعير.
(2). راجع ج 5 ص 15 فما بعد.
(3). راجع (باب كيفية التلاوة ولكتاب الله تعالى).
(4). ما فيه التواء وتقبض. أو القصير منه.
(5). تأتي فلان لحاجته: إذا ترفق لها وأتاها من وجهها.
مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)
[سورة
فاطر (35): آية 2]
ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ
فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)
وأجاز النحويون في غير القرآن" فلا ممسك له" على لفظ" ما"
و" لَها" على المعنى. وأجازوا" وما يمسك فلا مرسل لها"
وأجازوا" ما يفتح الله للناس من رحمة" (بالرفع) تكون" ما"
بمعنى الذي. أي إن الرسل بعثوا رحمة للناس فلا يقدر على إرسالهم غير الله. وقيل:
ما يأتيهم به الله من مطر أو رزق فلا يقدر أحد أن يمسكه، وما يمسك من ذلك فلا يقد
أحد على أن يرسله. وقيل: هو الدعاء: قاله الضحاك. أبن عباس: من توبة. وقيل: من
توفيق وهداية. قلت: ولفظ الرحمة يجمع ذلك إذ هي منكرة للاشاعة والإبهام، فهي
متناولة لكل رحمة على البدل، فهو عام في جميع ما ذكر. وفي موطأ مالك: أنه بلغه أن
أبا هريرة كان يقول إذا أصبح وقد مطر الناس: مطرنا بنوء الفتح، ثم يتلو هذه
الآية" ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ
لَها"." وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" تقدم «1».
[سورة فاطر (35): آية 3]
يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ
غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ
فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ معنى هذا
الذكر الشكر. (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ) يجوز في" غَيْرُ" «2»
الرفع والنصب والخفض، فالرفع من وجهين: أحدهما: بمعنى هل من خالق إلا الله، بمعنى
ما خالق إلا الله. والوجه الثاني: أن يكون نعتا على الموضع، لان المعنى: هل خالق
غير الله، و" مِنْ" زائدة. والنصب على الاستثناء.
__________
(1). راجع ج 2 ص 131
(2). في ش، وك. يجوز في القرآن الرفع ... الخ وفي ح: في غير القرآن
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4)
والخفض،
على اللفظ. قال حميد الطويل: قلت للحسن: من خلق الشر؟ فقال سبحان الله! هل من خالق
غير الله عز وجل، خلق الخير والشر. وقرا حمزة والكسائي:" هل من خالق غير
الله" بالخفض. الباقون بالرفع. أي المطر. أي النبات. من الافك (بالفتح) وهو
الصرف، يقال: ما افكك عن كذا، أي ما صرفك عنه. وقيل: من الافك (بالكسر) وهو الكذب،
ويرجع هذا أيضا إلى ما تقدم، لأنه قول مصروف عن الصدق والصواب، أي من أين يقع لكم
التكذيب بتوحيد الله. والآية حجة على القدرية لأنه نفى خالقا غير الله وهم يثبتون
معه خالقين، على ما تقدم في غير موضع.
[سورة فاطر (35): آية 4]
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ
تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4)
قوله تعالى: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ. يعني كفار قريش. يعزي نبيه ويسليه صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وليتأسى بمن قبله في الصبر. قرأ الحسن والأعرج ويعقوب
وابن عامر وأبو حيوة وابن محيصن وحميد والأعمش وحمزة ويحيى والكسائي وخلف (بفتح
التاء) على أنه مسمى الفاعل. وأختاره أبو عبيد لقول تعالى:" أَلا إِلَى
اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ" [الشورى: 53] الباقون" تُرْجَعُ" على
الفعل المجهول.
[سورة فاطر (35): آية 5]
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ
الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ
الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ. قوله تعالى: (يا
أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) هذا وعظ للمكذبين للرسول بعد إيضاح
الدليل على صحة قوله: إن البعث والثواب والعقاب حق. قال سعيد بن جبير: غرور الحياة
الدنيا أن يشتغل الإنسان بنعيمها ولذاتها عن عمل الآخرة،
إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7)
حتى
يقول: يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي. قال أبن السكيت وأبو حاتم:"
الْغَرُورُ" الشيطان. وغرور جمع غر، وغر مصدر. ويكون" الغرور"
مصدرا وهو بعيد عند غير أبي إسحاق، لان" غررته" متعد، والمصدر المتعدي
إنما هو على فعل، نحو: ضربته ضربا، إلا في أشياء يسيرة لا يقاس عليها، قالوا:
لزمته لزوما، ونهكه المرض نهوكا. فأما معنى الحرف فأحسن ما قيل فيه ما قاله سعيد
بن جبير، قال: الغرور بالله أن يكون الإنسان يعمل بالمعاصي ثم يتمنى على الله
المغفرة. وقراءة العامة" الْغَرُورُ" (بفتح الغين) وهو الشيطان، أي لا
يغرنكم بوساوسه في أنه يتجاوز عنكم لفضلكم. وقرا أبو حيوة وأبو المال العدوي ومحمد
بن المقع" الغرور" (برفع الغين) وهو الباطل، أي لا يغرنكم الباطل. وقال
أبن السكيت: والغرور (بالضم) ما اغتر به من متاع الدنيا. قال الزجاج: ويجوز أن
يكون الغرور جمع غار، مثل قاعد وقعود. النحاس: أو جمع غر، أو يشبه بقولهم: نهكه
المرض نهوكا ولزمه لزوما. الزمخشري: أو مصدر" غره" كاللزوم والنهوك.
[سورة فاطر (35): الآيات 6 الى 7]
إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا
حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ
عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ
وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7)
قوله تعالى: إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا. أي فعادوه
ولا تطيعوه. ويدلكم على عداوته إخراجه أباكم من الجنة، وضمانه إضلالكم في
قول:" وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ" [النساء: 119] الآية.
وقوله:" لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ. ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ
مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ" [الأعراف: 17- 16] الآية. فأخبرنا عز وجل أن
الشيطان لنا عدو مبين، واقتص علينا قصته، وما فعل بأبينا آدم صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكيف أنتدب لعداوتنا وغرورنا من قبل وجودنا وبعده، ونحن على
ذلك نتولاه ونطيعه فيما يريد منا مما فيه هلاكنا. وكان الفضيل بن عياض يقول: يا
كذاب
أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8)
يا
مفتر، أتق الله ولا تسب الشيطان في العلانية وأنت صديقه في السر. وقال أبن السماك:
يا عجبا لمن عصى المحسن بعد معرفته بإحسانه! وأطاع اللعين بعد معرفته بعداوته! وقد
مضى هذا المعنى في" البقرة" مجودا. و" عدو" في قوله:"
إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ" يجوز أن يكون بمعنى معاد، فيثنى ويجمع
ويؤنث. ويكون بمعنى النسب فيكون موحدا بكل حال، كما قال عز وجل:" فَإِنَّهُمْ
عَدُوٌّ لِي" [الشعراء: 77]. وفي المؤنث على هذا أيضا عدو. النحاس: فأما قول
بعض النحويين إن الواو خفية فجاءوا بالهاء فخطأ، بل الواو حرف جلد. (إِنَّما
يَدْعُوا حِزْبَهُ) كفت" ما"" إن" عن العمل فوقع بعدها
الفعل." حزبه" أي أشياعه. (لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ) فهذه
عداوته." الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ" يكون"
الَّذِينَ" بدلا من" أَصْحابِ" فيكون في موضع خفض، أو يكون بدلا
من" حِزْبَهُ" فيكون في موضع نصب، أو يكون بدلا من الواو فكون في موضع
رفع وقول رابع وهو أحسنها يكون في موضع رفع بالابتداء ويكون خبره" لَهُمْ
عَذابٌ شَدِيدٌ"، وكأنه. سبحانه بين حال موافقته ومخالفته، ويكون الكلام قد
تم في قوله:" مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ" ثم ابتدأ فقال" الَّذِينَ
كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ". في موضع رفع بالابتداء أيضا، وخبره (لَهُمْ
مَغْفِرَةٌ) أي لذنوبهم. (وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) وهو الجنة.
[سورة فاطر (35): آية 8]
أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ
مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ
إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (8)
قوله تعالى (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ)" من" في موضع رفع
بالابتداء، وخبره محذوف. قال الكسائي: والذي يدل عليه قوله تعالى:" فَلا
تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ" فالمعنى: أفمن زين له سوء عمله فرآه
حسنا ذهبت نفسك عليهم حسرات. قال: وهذا كلام
عربي طريف لا يعرفه إلا قليل. وذكره الزمخشري عن الزجاج. قال النحاس: والذي قال الكسائي أحسن ما قيل في الآية، لما ذكره من الدلالة على المحذوف، والمعنى أن الله جل وعز نهى نبيه عن شدة الاغتمام بهم والحزن عليهم، كما قال عز وجل:" فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ" [الكهف: 6] قال أهل التفسير: قاتل. قال نصر ابن علي: سألت الأصمعي عن قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أهل اليمن: (هم أرق قلوبا وأبخع طاعة) ما معنى أبخع؟ فقال: أنصح. فقلت له: إن أهل التفسير مجاهدا وغيره يقولون في قول الله عز وجل:" فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ": معناه قاتل نفسك. فقال: هو من ذاك بعينه، كأنه من شدة النصح لهم قاتل نفسه. وقال الحسين بن الفضل: فيه تقديم وتأخير، مجازه: أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات، فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء. وقيل: الجواب محذوف، المعنى أفمن زين له سوء عمله كمن هدي، ويكون يدل على هذا المحذوف" فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ، يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ". وقرا يزيد بن القعقاع:" فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ" وفي" أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ" أربعة أقوال، أحدها: أنهم اليهود والنصارى والمجوس، قال أبو قلابة. ويكون،" سُوءُ عَمَلِهِ" معاندة الرسول عليه الصلاة والسلام. الثاني: أنهم الخوارج، رواه عمر بن القاسم. يكون" سوء عمله" تحريف التأويل. الثالث: الشيطان، قال الحسن. ويكون" سُوءُ عَمَلِهِ" الإغواء. الرابع: كفار قريش، قاله الكلبي. ويكون" سُوءُ عَمَلِهِ" الشرك. وقال: إنها نزلت في العاص بن وائل السهمي والأسود بن المطلب. وقال غيره: نزلت في أبي جهل بن هشام." فَرَآهُ حَسَناً" أي صوابا، قال الكلبي. وقال: جميلا. قلت: والقول بأن المراد كفار قريش أظهر الأقوال، لقوله تعالى:" لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ" [البقرة: 272]، وقوله:" وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ" [آل عمران: 176]، وقال:" فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً" [الكهف: 6]، وقوله:" لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ"،
وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9)
وقوله
في هذه الآية: وهذا ظاهر بين، أي لا ينفع تأسفك على مقامهم على كفرهم، فإن الله
أضلهم. وهذه الآية ترد على القدرية قولهم على ما تقدم، أي أفمن زين له سوء عمله
فرآه حسنا تريد أن تهديه، وإنما ذلك إلى الله لا إليك، والذي إليك هو التبليغ.
وقرا أبو جعفر وشيبة وابن محيصن:" فلا تذهب" بضم التاء وكسر الهاء"
نَفْسُكَ" نصبا على المفعول، والمعنيان متقاربان." حَسَراتٍ" منصوب
مفعول من أجله، أي فلا تذهب نفسك للحسرات. و" عَلَيْهِمْ" صلة"
تَذْهَبْ"، كما تقول: هلك عليه حبا ومات عليه حزنا. وهو بيان للمتحسر عليه.
ولا يجوز أن يتعلق بالحسرات، لان المصدر لا يتقدم عليه صلته. ويجوز أن يكون حالا
كأن كلها صارت حسرات لفرط التحسر، كما قال جرير:
مشق الهواجر لحمهن مع السرى ... وحتى ذهبن كلاكلا وصدورا
يريد: رجعن كلاكلا وصدورا، أي لم يبق إلا كلاكلها وصدورها. ومنه قول الآخر:
فعلى إثرهم تساقط نفسي ... وحسرات وذكرهم لي سقام
أو مصدرا.
[سورة فاطر (35): آية 9]
وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ
مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (9)
قوله تعالى:" وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً
فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ" ميت وميت واحد، وكذا ميتة وميتة، هذا قول
الحذاق من النحويين. وقال محمد بن يزيد: هذا قول البصريين، ولم يستثن أحدا، واستدل
على ذلك بدلائل قاطعة. وأنشد:
ليس من مات فاستراح بميت ... وإنما الميت ميت الأحياء
إنما المت من يعيش كئيبا ... وكاسفا باله قليل الرجاء
قال: فهل ترى بين ميت وميت فرقا، وأنشد:
هينون
لينون أيسار بنو يسر ... وسواس مكرمة أبناء أيسار
قال: فقد أجمعوا على أن هينون ولينون واحد، وكذا ميت وميت، وسيد وسيد. قال:"
فَسُقْناهُ" بعد أن قال:" وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ"
وهو من باب تلوين الخطاب. وقال أبو عبيدة: سبيله" فتسوقه"، لأنه
قال:" فَتُثِيرُ سَحاباً". الزمخشري: فإن قلت: لم جاء"
فَتُثِيرُ" على المضارعة دون ما قبله وما بعده؟ قلت: لتحكي الحال التي تقع
فيها إثارة الرياح السحاب، وتستحضر تلك الصورة البديعة الدالة على القدوة
الربانية، وهكذا يفعلون بفعل فيه نوع تمييز وخصوصية بحال تستغرب، أو تهم المخاطب
أو غير ذلك، كما قال تأبط شرا:
بأني قد لقيت الغول تهوي ... وبسهب كالصحيفة صحصحان
فاضربها بلا دهش فخرت ... وصريعا لليدين وللجران
لأنه قصد أن يصور لقومه الحالة التي تشجع فيها بزعمه على ضرب الغول، كأنه يبصرهم
إياها، ويطلعهم على كنهها مشاهدة للتعجب. من جرأته على كل هول، وثباته عند كل شدة
وكذلك سوق السحاب إلى البلد الميت، لما كانا من الدلائل على القدرة الباهرة
قيل:" فسقنا" و" أحيينا" معدولا بهما عن لفظة الغيبة إلى ما
هو أدخل في الاختصاص وأدل عليه. وقراءة العامة" الرِّياحَ". وقرا ابن
محيصن وابن كثير والأعمش ويحيى وحمزة والكسائي" الريح" توحيدا. وقد مضى
بيان هذه الآية والكلام فيها مستوفي. أي كذلك تحيون بعد ما متم، من نشر الإنسان
نشورا. فالكاف في محل الرفع، أي مثل إحياء الأموات نشر الأموات. وعن أبي رزين
العقيلي قال: قلت يا رسول الله، كيف يحيي الله الموتى، وما آية ذلك في خلقه؟ قال:
(أما مررت بوادي أهلك ممحلا ثم مررت به يهتز خضرا) قلت: نعم يا رسول الله. قال
(فكذلك يحيي الله الموتى وتلك آياته في خلقه) وقد ذكرنا هذا الخبر في"
الأعراف" وغيرها
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)
[سورة
فاطر (35): آية 10]
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ
الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ
السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)
قوله تعالى: (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً)
التقدير عند الفراء: من كان يريد علم العزة. وكذا قال غيره من أهل العلم. أي من
كان يريد علم العزة التي لا ذلة معها، لان العزة إذا كانت تؤدي إلى ذلة فإنما هي
تعرض للذلة، والعزة التي لا ذل معها لله عز وجل." جَمِيعاً" منصوب على
الحال. وقدر الزجاج معناه: من كان يريد بعبادته الله عز وجل العزة والعزة له
سبحانه فإن الله عز وجل يعزه في الآخرة والدنيا. قلت وهذا أحسن وروى مرفوعا على ما
يأتي" فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً" ظاهر هذا إيئاس السامعين من عزته،
وتعريفهم أن ما وجب له من ذلك لا مطمع فيه لغيره، فتكون الالف واللام للعهد عند
العالمين به سبحانه وبما وجب له من ذلك، وهو المفهوم من قوله الحق في سورة
يونس:" وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ" [يونس:
65]. ويحتمل أن يريد سبحانه أن ينبه ذوي الاقدار والهمم من أين تنال العزة ومن أين
تستحق، فتكون الالف واللام للاستغراق، وهو المفهوم من آيات هذه السورة. فمن طلب
العزة من الله وصدقه في طلبها بافتقار وذل، وسكون وخضوع، وجدها عنده إن شاء الله
غير ممنوعة ولا محجوبة عنه، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (من تواضع لله
رفعه الله). ومن طلبها من غيره وكله إلى من طلبها عنده. وقد ذكر قوما طلبوا العزة
عند من سواه فقال:" الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ
دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ
لِلَّهِ جَمِيعاً" [النساء: 139]. فأنبأك صريحا لا إشكال فيه أن العزة له يعز
بها من يشاء ويذل من يشاء. وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مفسرا
لقوله" مَنْ كانَ يُرِيدُ
الْعِزَّةَ
فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً
": (من أراد عز الدارين فليطع العزيز. وهذا معنى قول الزجاج. ولقد أحسن من
قال:
وإذا تذللت الرقاب تواضعا ... ومنا إليك فعزها في ذلها
فمن كان يريد العزة لينال الفوز الأكبر، ويدخل دار العزة ولله العزة فليقصد بالعزة
الله سبحانه والاعتزاز به، فإنه من اعتز بالعبد أذل الله، ومن اعتز بالله أعزه
الله. قوله تعالى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ
يَرْفَعُهُ فيه مسألتان الاولى: قوله تعالى:" إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ
الطَّيِّبُ" وتم الكلام. ثم تبتدئ" وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ
يَرْفَعُهُ" على معنى: يرفعه الله، أو يرفع صاحبه. ويجوز أن يكون المعنى:
والعمل الصالح يرفع الكلم الطيب، فيكون الكلام متصلا على ما يأتي بيانه. والصعود
هو الحركة إلى فوق، وهو العروج أيضا. ولا يتصور ذلك في الكلام لأنه عرض، لكن ضرب
صعوده مثلا لقبوله، لان موضع الثواب فوق، وموضع العذاب أسفل. وقال الزجاج: يقال
ارتفع الامر إلى القاضي أي علمه، فهو بمعنى العلم. وخص الكلام والطب بالذكر لبيان
الثواب عليه. وقوله" إِلَيْهِ" أي إلى الله يصعد. وقيل: يصعد إلى سمائه
والمحل الذي لا يجري فيه لاحد غيره حكم. وقيل: أي يحمل الكتاب الذي كتب فيه طاعات
العبد إلى السماء. و" الْكَلِمُ الطَّيِّبُ" هو التوحيد الصادر عن عقيدة
طيبة. وقيل: هو التحميد والتمجيد، وذكر الله ونحوه. وأنشدوا:
لا ترض من رجل حلاوة قوله ... وحتى يزين ما يقول فعال
فإذا وزنت فعاله بمقاله ... فتوازنا فإخاء ذاك جمال
وقال أبن المقفع: قول بلا عمل، كثريد بلا دسم، وسحاب بلا مطر، وقوس بلا وتر. وفية
قيل:
لا يكون المقال إلا بفعل ... وكل قول بلا فعال هباء
إن قولا بلا فعال جميل ... وونكاحا بلا ولي سواء
وقرا
الضحاك" يصعد" بضم الياء. وقرا. جمهور الناس" الْكَلِمُ" جمع
كلمة. وقرا أبو عبد الرحمن" الكلام". قلت: فالكلام على هذا قد يطلق
بمعنى الكلم وبالعكس، وعليه يخرج قول أبي القاسم: أقسام الكلام ثلاثة، فوضع الكلام
موضع الكلم، والله أعلم." وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ" قال أبن
عباس ومجاهد وغيرهما: المعنى والعمل الصالح يرفع الكلم الطيب. وفي الحديث (لا يقبل
الله قولا إلا بعمل، ولا يقبل قولا وعملا إلا بنية، ولا يقبل قولا وعملا ونية إلا
بإصابة السنة). قال أبن عباس: فإذا ذكر العبد الله وقال كلاما طيبا وادي فرائضه،
ارتفع قوله مع عمله وإذا قال ابن قوله على عمله. قال أبن عطية: وهذا قول يرده
معتقد أهل السنة ولا يصح عن أبن عباس. والحق أن العاصي التارك للفرائض
إذا ذكر الله وقال كلاما طيبا فإنه مكتوب له متقبل منه، وله حسناته وعليه سيئاته،
والله تعالى يتقبل من كل من أتقى الشرك. وأيضا فإن الكلام الطيب عمل صالح، وإنما
يستقيم قول من يقول: إن العمل هو الرافع للكلم، بأن يتأول أنه يزيده في رفعه وحسن
موقعه إذا تعاضد معه. كما أن صاحب الأعمال من صلاة وصيام وغير ذلك، إذا تخلل
أعماله كلم طيب وذكر الله تعالى كانت الأعمال أشرف، فيكون قول:" وَالْعَمَلُ
الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ" موعظة وتذكرة وحضا على الأعمال. وأما الأقوال التي هي
أعمال في نفوسها، كالتوحيد والتسبيح فمقبولة. قال أبن العربي:" إن كلام المرء
بذكر الله إن لم يقترن به عمل صالح لم ينفع، لان من خالف قوله فعله فهو وبال عليه.
وتحقيق هذا: أن العمل إذا وقع شرطا في قبول القول أو مرتبطا، فإنه لا قبول له إلا
به وإن لم يكن شرطا فيه فإن كلمه الطيب يكتب له، وعمله السيئ يكتب عليه، وتقع
الموازنة بينهما، ثم يحكم الله بالفوز والربح والخسران". قلت: ما قال أبن
العربي تحقيق. والظاهر أن العمل الصالح شرط في قبول القول الطيب. وقد جاء في
الآثار (أن العبد إذا قال: لا إله إلا الله بنية صادقة نظرت الملائكة
إلى عمله، فإن كان العمل موافقا لقوله صعدا جميعا، وإن كان عمله. مخالفا وقف قوله حتى يتوب من عمله (. فعلى هذا العمل الصالح يرفع الكلم الطيب إلى الله. والكناية في" يَرْفَعُهُ" ترجع إلى الكلم الطيب. وهذا قول أبن عباس وشهر بن حوشب وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة وأبي العالية والضحاك. وعلي أن" الْكَلِمُ الطَّيِّبُ" هو التوحيد، فهو الرافع للعمل الصالح، لأنه لا يقبل العمل الصالح إلا مع الايمان والتوحيد. أي والعمل الصالح يرفعه الكلم الطيب، فالكناية تعود على العمل الصالح. وروي هذا القول عن شهر بن حوشب قال:" الْكَلِمُ الطَّيِّبُ" القرآن" وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ" القرآن. وقيل: تعود على الله جل وعز، أي أن العمل الصالح يرفعه الله على الكلم الطيب، لان العمل تحقيق الكلم، والعامل أكثر تعبا من القائل، وهذا هو حقيقة الكلام، لان الله هو الرافع الخافض. والثاني والأول مجاز، ولكنه سائغ جائز. قال النحاس: القول الأول أولاها وأصحها لعلو من قال به، وأنه في العربية أولى، لان القراء على رفع العمل. ولو كان المعنى: والعمل الصالح يرفعه الله، أو العمل الصالح يرفعه الكلم الطيب، لكان الاختيار نصف العمل. ولا نعلم أحدا قرأه منصوبا إلا شيئا روي عن عيسى، بن عمر أنه قال: قرأه أناس" والعمل الصالح يرفعه الله". وقيل: والعمل الصالح يرفع صاحبه، وهو الذي أراد العزة وعلم أنها تطلب من الله تعالى، ذكره القشيري. الثانية: ذكروا عند أبن عباس أن الكلب يقطع الصلاة، فقرأ هذه الآية:" إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ". وهذا استدلال بعموم على مذهب السلف في القول بالعموم، (وقد دخل في الصلاة بشروطها، فلا يقطعها عليه شي إلا بثبوت ما يوجب ذلك، من مثل ما انعقدت به من قرآن أو سنة أو إجماع. وقد تعلق من رأى، ذلك بقوله عليه السلام: (يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب الأسود) فقلت: ما بال الكلب الأسود من الكلب الأبيض من الكلب الأحمر؟ فقال: (إن الأسود شيطان) خرجه مسلم. وقد
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11)
جاء
ما يعارض هذا، وهو ما خرجه البخاري عن ابن أخي ابن شهاب أنه سأل عمه عن الصلاة
يقطعها شي؟ فقال: لا يقطعها شي، أخبرني عروة بن الزبير أن عائشة زوج النبي صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالت: لقد كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يقوم فيصلي من الليل، وإني لمعترضة بينه وبين القبلة على فراش أهله.
قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ) ذكر الطبري في، (كتاب آداب
النفوس): حدثني يونس بن عبد الأعلى قال حدثنا سفيان عن ليث بن أبي سليم عن شهر بن
حوشب الأشعري في قوله عز وجل:" وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ
عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ" قال: هم أصحاب الرياء، وهو
قول أبن عباس ومجاهد وقتادة. وقال أبو العالية: هم الذين مكروا بالنبي صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما اجتمعوا في دار الندوة. وقال الكلبي: يعني الذين
يعملون السيئات في السيئات في الدنيا مقاتل: يعني الشرك، فتكون"
السَّيِّئاتِ" مفعولة. ويقال: بار يبور إذا هلك وبطل. وبارت السوق
أي كسدت، ومنه: نعوذ بالله من بوار الأيم «1»
. وقول:" وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً «2»
" [الفتح: 12] أي هلكى. والمكر: ما عمل على سبيل احتيال وخديعة. وقد مضى
في" سبأ" «3».
[سورة فاطر (35): آية 11]
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً
وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ
مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى
اللَّهِ يَسِيرٌ (11)
قوله تعالى (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) قال سعيد عن
قتادة قال: يعني آدم عليه السلام، والتقدير على هذا: خلق أصلكم من تراب. قال: أي
التي أخرجها من ظهور آبائكم. قال: أي زوج بعضكم بعضا، فالذكر زوج الأنثى ليتم
البقاء في الدنيا إلى انقضاء مدتها. (وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا
بِعِلْمِهِ)
__________
(1). الأيم: التي لا زوج لها. [.....]
(2). راجع ج 16 ص 269 فما بعد.
(3). راجع ص 302 من هذا الجزء.
أي جعلكم أزواجا فيتزوج الذكر بالأنثى فيتناسلان بعلم الله، فلا يكون حمل ولا وضع إلا والله عالم به، فلا يخرج شي عن تدبيره. عمره إلا في كتاب) سماه معمرا بما هو صائر إليه. قال سعيد بن جبير عن أبن عباس:" وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ" إلا كتب عمره، كم هو سنة كم هو شهرا كم هو يوما كم هو ساعة ثم يكتب في كتاب آخر: نقص من عمره يوم، نقص شهر، نقص سنة، حتى يستوفي أجله. وقال سعيد بن جبير أيضا، قال: فما مضى من أجله فهو النقصان، وما يستقبل فهو الذي يعمره، فالهاء على هذا للمعمر. وعن سعيد أيضا: يكتب عمره كذا وكذا سنة ثم يكتب في أسفل ذلك: ذهب يوم، ذهب يومان، حتى يأتي على آخره. وعن قتادة: المعمر من بلغ ستين سنة، والمنقوص من عمره من يموت قبل ستين سنة. ويذهب الفراء في معنى" وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ" أي ما يكون من عمره" وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ" بمعنى آخر، أي ولا ينقص الآخر من عمره إلا في كتاب. فالكناية في" عُمُرِهِ" ترجع إلى آخر غير الأول. وكنى عنه بالهاء كأنه الأول، ومثله قولك: عندي درهم ونصفه، أي نصف أخر. وقيل: إن الله كتب عمر الإنسان مائة سنة إن أطاع، وتسعين إن عصى، فأيهما بلغ فهو في كتاب. وهذا مثل قوله عليه الصلاة والسلام: (من أحب أن يبسط له في زرقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه) أي أنه يكتب في اللوح المحفوظ: عمر فلان كذا سنة، فإن وصل رحمه زيد في عمره كذا سنة. فبين ذلك في موضع آخر من اللوح المحفوظ، إنه سيصل رحمه فمن أطلع على الأول دون الثاني ظن أنه زيادة أو نقصان وقد مضى هذا المعنى عند قوله تعالى:" يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ" [الرعد: 39] والكناية على هذا ترجع إلى العمر. وقيل: المعنى وما يعمر من معمر أي هرم، ولا ينقص آخر من عمر الهرم إلا في كتاب، أي بقضاء من الله جل وعز. روي معناه عن الضحاك واختاره النحاس، قال: وهو أشبهها بظاهر التنزيل. وروي نحوه عن أبن عباس. فالهاء على هذا يجوز أن تكون للمعمر، ويجوز أن تكون لغير
وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12)
المعمر.
أي كتابة الأعمال والآجال غير متعذر عليه. وقراءة العامة" ينقص" بضم
الياء وفتح القاف وقرأت فرقة منهم يعقوب" يُنْقَصُ" بفتح الياء وضم
القاف، أي لا ينقص من عمره شي. يقال، نقص الشيء بنفسه ونقصه غيره، وزاد بنفسه
وزاده غيره، متعد ولازم. وقرا الأعرج والزهري" مِنْ عُمُرِهِ" بتخفيف
الميم وضمها الباقون. وهما لغتان مثل السحق والسحق. و" يَسِيرٌ" أي
إحصاء طويل الأعمار وقصيرها لا يتعذر عليه شي منها ولا يعزب. والفضل منه: يسر ولو
سميت به إنسانا انصرف، لأنه فعيل.
[سورة فاطر (35): آية 12]
وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ
أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً
تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ
وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12)
قوله تعالى: (وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ) فيه أربه مسائل:
الاولى: قال ابن عباس:" فُراتٌ" حلو، و" أُجاجٌ" مر. وقرا
طلحة:" هذا ملح أجاج" بفتح الميم وكسر اللام بغير ألف. وأما المالح فهو
الذي يجعل فيه الملح. وقرا عيسى وابن أبي إسحاق" سيغ شرابه" مثل سيد
وميت. لا اختلاف في أنه منهما جميعا. وقد مضى في" النحل" الكلام فيه.
الثانية قوله تعالى (وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها) مذهب أبي إسحاق أن
الحلية إنما تستخرج من الملح، فقيل منهما لأنهما مختلطان. وقال غيره: إنما تستخرج
الأصداف التي فيها الحلية من الدر وغيره من المواضع التي فيها العذب والملح نحو
العيون، فهو مأخوذ منهما، لان في البحر عيونا عذبة، وبينهما يخرج اللؤلؤ عند
التمازج. وقيل:
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13)
من
مطر السماء. وقال محمد بن يزيد قولا رابعا، قال: إنما تستخرج الحلية من الملح
خاصة. النحاس: وهذا أحسنها وليس هذا عنده، لأنهما مختلطان، ولكن جمعا ثم أخبر عن
أحدهما كما قال عز وجل:" وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ
وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ" [القصص: 73].
وكما تقول: لو رأيت الحسن والحجاج لرأيت خيرا وشرا. وكما تقول: لو رأيت الأعمش
وسيبويه لملأت يدك لغة ونحوا. فقد عرف معنى هذا، وهو كلام فصيح كثير، فكذا:"
وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً
تَلْبَسُونَها" فاجتمعا في الأول وانفرد الملح بالثاني. الثالثة وفي
قول:" تَلْبَسُونَها"، دليل على أن لباس كل شي بحسبه، فالخاتم يجعل في
الإصبع، والسوار في الذراع، والقلادة في العنق، والخلخال في الرجل. وفي البخاري
والنسائي عن ابن سيرين قال قلت لعبيدة: افتراش الحرير كلبسه؟ فال نعم. وفي، الصحاح
عن أنس (فقمت على حصير لنا قد اسود من طول ما لبس). الحديث. الرابعة قوله تعالى
(وترى الفلك فيه مواخر) قال النحاس: أي ماء الملح خاصة، ولولا ذلك لقال فيهما. وقد
مخرت السفينة تمخر إذا شقت الماء. وقد مضى هذا في" النحل". فال مجاهد:
التجارة في الفلك إلى البلدان البعيدة: في مدة قريبة، كما تقدم في"
البقرة". وقيل: ما يستخرج من حليته ويصاد من حيتانه. (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)
على ما آتاكم من فضله. وقيل: على ما أنجاكم من هول.
[سورة فاطر (35): آية 13]
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ
الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ
لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ
(13)
قوله تعالى: (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ)
تقدم في (آل عمران) وغيرها. (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي
لِأَجَلٍ مُسَمًّى) تقدم في (لقمان) بيانه.
إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)
(ذلِكُمُ
اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ) أي هذا الذي من صنعه ما تقرر هو الخالق المدبر،
والقادر المقتدر، فهو الذي يعبد. يعني الأصنام. قطمير) أي لا يقدرون عليه ولا على
خلقه. والقطمير القشرة الرقيقة البيضاء التي بين التمرة والنواة، قاله أكثر
المفسرين. وقال أبن عباس: هو شق النواة، وهو اختيار المبرد، وقال قتادة. وعن قتادة
أيضا: القطمير القمع الذي على رأس النواة. الجوهري: ويقال: هي النكتة البيضاء التي
في ظهر النواة، تنبت منها النخلة.
[سورة فاطر (35): آية 14]
إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا
لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ
خَبِيرٍ (14)
قوله تعالى: (إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ) أي إن تستغيثوا بهم في
النوائب لا يسمعوا دعاءكم، لأنها جمادات لا تبصر ولا تسمع. إذ ليس كل سامع ناطقا.
وقال قتادة: المعنى لو سمعوا لم ينفعوكم. وقيل: أي لو جعلنا لهم عقولا وحياة
فسمعوا دعاءكم لكانوا أطوع لله منكم، ولما استجابوا لكم على الكفر. (وَيَوْمَ
الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ) أي يجحدون أنكم عبدتموهم، ويتبرءون منكم.
ثم يجوز أن يرجع هذا إلى المعبودين مما يعقل، كالملائكة والجن والأنبياء والشياطين
أي يجحدون أن يكون ما فعلتموه حقا، وأنهم أمروكم بعبادتهم، كما أخبر عن عيسى
بقوله:" ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ" «1»
[المائدة: 116] ويجوز أن يندرج فيه الأصنام أيضا، أي يحييها الله حتى تخبر أنها
ليست أهلا للعبادة. هو الله عز وجل، أي لا أحد أخبر بخلق الله من الله، فلا ينبئك
مثله في عمله. ينبئك مثله في عمله «2»
__________
(1). راجع ج 6 ص 374
(2). في ب وح: عليه.
[سورة فاطر (35): آية 15]
يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ
الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15)
إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16)
قوله
تعالى: (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ) أي المحتاجون
إليه في بقائكم وكل أحوالكم. الزمخشري:" فإن قلت لم عرف الفقراء؟ قلت: قصد
بذلك أن يريهم أنهم لشدة افتقارهم إليه هم جنس الفقراء، وإن كانت الخلائق كلهم
مفتقرين إليه من الناس وغيرهم لان الفقر مما يتبع الضعف، وكلما كان الفقير أضعف
كان أفقر، وقد شهد الله سبحانه على الإنسان بالضعف في قوله:" وَخُلِقَ
الْإِنْسانُ ضَعِيفاً" «1»
[النساء: 28]، وقال:" اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ" «2»
[الروم: 54] ولو نكر لكان المعنى: أنتم بعض الفقراء. فإن قلت: قد قوبل"
الْفُقَراءُ" ب"- الْغَنِيُّ" فما فائدة" الْحَمِيدُ"؟
قلت: لما أثبت فقرهم إليه وغناه عنهم، وليس كل غنى نافعا بغناه إلا إذا كان الغني
جوادا منعما، وإذا جاد وأنعم حمده المنعم عليهم واستحق عليهم الحمد- ذكر"
الْحَمِيدُ" ليدل به على أنه الغني النافع بغناه خلقه، الجواد المنعم عليهم،
المستحق بإنعامه عليهم أن يحمدوه". وتخفيف الهمزة الثانية أجود الوجوه عند
الخليل، ويجوز تخفيف الاولى وحدها وتخفيفهما وتحقيقهما جميعا." وَاللَّهُ
هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ" تكون" هو" زائدة، فلا يكون لها موضع
من الاعراب، وتكون مبتدأة فيكون موضعها رفعا.
[سورة فاطر (35): الآيات 16 الى 17]
إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَما ذلِكَ عَلَى
اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17)
قوله تعالى: (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) فيه حذف، المعنى إن يشأ [أن «3»
] يذهبكم يذهبكم، أي يفنيكم. (وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) أي أطوع منكم وأزكى.
(وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ) أي ممتنع عسير متعذر. وقد مضى هذا في
(إبراهيم) «4».
[سورة فاطر (35): آية 18]
وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا
يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ
يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما
يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18)
__________ (1). راجع ج 5 ص (168)
(2). راجع ج 46 من هذا الجزء.
(3). زيادة عن النحاس.
(4). راجع ج 9 ص 354
تقدم
الكلام فيه «1»
، وهو مقطوع مما قبله. والأصل" تؤزر" حذفت الواو اتباعا ليزر."
وازِرَةٌ" نعت لمحذوف، أي نفس وازرة. وكذا (وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى
حِمْلِها) قال الفراء: أي نفس مثقلة أو دابة. قال: وهذا يقع للمذكر والمؤنث. قال
الأخفش: أي وإن تدع مثقلة إنسانا إلى حملها وهو ذنوبها. والحمل ما كان على الظهر،
والحمل حمل المرأة وحمل النخلة، حكاهما الكسائي بالفتح لا غير. وحكى ابن السكيت أن
حمل النخلة يفتح ويكسر. (لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى )
التقدير على قول الأخفش: ولو كان الإنسان المدعو ذا قربى. وأجاز الفراء ولو كان ذو
قربى. وهذا جائز عند سيبويه، ومثله" وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ" «2»
[البقرة: 280] فتكون" كانَ" بمعنى وقع، أو يكون الخبر محذوفا، أي وإن
كان فيمن تطالبون ذو عسرة. وحكى سيبويه: الناس مجزيون بأعمالهم إن خير فخير، على
هذا. وخيرا فخير، على الأول. وروى عن عكرمة أنه قال: بلغني أن اليهودي والنصراني
يرى الرجل المسلم يوم القيامة فيقول له: ألم أكن قد أسديت إليك يدا، ألم أكن قد
أحسنت إليك؟ فيقول بلى. فيقول: أنفعني، فلا يزال المسلم يسأل الله تعالى حتى ينقص،
من عذابه. وأن الرجل ليأتي إلى أبيه يوم القيامة فيقول: ألم أكن بك بارا، وعليك
مشفقا، وإليك محسنا، وأنت ترى ما أنا فيه، فهب لي حسنة من حسناتك، أو احمل عني
سيئة، فيقول: إن الذي سألتني يسير، ولكني أخاف مثل ما تخاف. وأن الأب ليقول لابنه
مثل ذلك فيرد عليه نحوا من هذا. وأن الرجل ليقول لزوجته: ألم أكن أحسن العشرة لك،
فاحملي عني خطيئة لعلي أنجو، فتقول: إن ذلك ليسير ولكني أخاف مما تخاف منه. ثم تلا
عكرمة:" وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ
وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى ". وقال الفضيل بن عياض: هي المرأة تلقى ولدها فتقول:
يا ولدي، ألم يكن بطني لك وعاء، ألم يكن ثديي لك سقاء، ألم يكن حجري لك وطاء،
يقول: بلى يا أماه، فتقول: يا بني، قد أثقلتني ذنوبي فاحمل عني منها ذنبا واحدا،
فيقول: إليك عني يا أماه، فإني بذنبي عنك مشغول.
__________
(1). راجع ج 7 ص 157.
(2). راجع ج 3 ص 371.
وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22)
قوله
تعالى: (إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) أي إنما
يقبل إنذارك من يخشى عقاب الله تعالى، وهو كقوله تعالى:" إِنَّما تُنْذِرُ
مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ" «1»
[يس: 11]. قوله تعالى: (وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ) أي من
اهتدى فإنما يهتدي لنفسه. وقرى:" ومن أزكى فإنما يزكى لنفسه". (وَإِلَى
اللَّهِ الْمَصِيرُ) أي إليه مرجع جميع الخلق.
[سورة فاطر (35): الآيات 19 الى 22]
وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (19) وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (20)
وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (21) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ
إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ
(22)
قوله تعالى: (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) أي الكافر والمؤمن والجاهل
والعالم. مثل:" قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ" «2»
[المائدة: 100]. (وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ) قال الأخفش سعيد:"
لَا" زائدة، والمعنى ولا الظلمات والنور، ولا الظل والحرور. قال الأخفش:
والحرور لا يكون إلا مع شمس النهار، والسموم يكون بالليل، وقيل بالعكس. وقال رؤبة
ابن العجاج: الحرور تكون بالنهار خاصة، والسموم يكون بالليل خاصة، حكاه المهدوي.
وقال الفراء: السموم لا يكون إلا بالنهار، والحرور يكون فيهما. النحاس: وهذا أصح،
لان الحرور فعول من الحر، وفية معنى التكثير، أي الحر المؤذي. قلت: وفي صحيح مسلم
عن أبي هريرة عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (قالت النار رب
أكل بعضي بعضا فأذن لي أتنفس فأذن لها بنفسين نفس في الشتاء ونفس في الصيف فما
وجدتم من برد أو زمهرير فمن نفس جهنم وما وجدتم من حر أو حرور فمن نفس جهنم (.
وروي من حديث الزهري عن سعيد عن أبي هريرة:) فما تجدون من الحر فمن
__________
(1). راجع ص 9 من هذا الجزء فما بعد آية 11 سورة يس.
(2). راجع ج 6 ص 327.
إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23)
سمومها
وشدة ما تجدون من البرد فمن زمهريرها) وهذا يجمع تلك الأقوال، وأن السموم والحرور
يكون بالليل والنهار، فتأمله. وقيل: المراد بالظل والحرور الجنة والنار، فالجنة
ذات ظل دائم، كما قال تعالى:" أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها" «1»
[الرعد: 35] والنار ذات حرور، وقال معناه السدي. وقال ابن عباس: أي ظل الليل، وحر السموم
بالنهار. قطرب: الحرور الحر، والظل البرد. (وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا
الْأَمْواتُ) قال ابن قتيبة: الأحياء العقلاء، والأموات الجهال. قال قتادة: هذه
كلها أمثال، أي كما لا تستوي هذه الأشياء كذلك لا يستوي الكافر والمؤمن. (إِنَّ
اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ) أي يسمع أولياءه الذين خلقهم لجنته. (وَما أَنْتَ
بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) أي الكفار الذين أمات الكفر قلوبهم، أي كما لا
تسمع من مات، كذلك لا تسمع من مات قلبه. وقرا الحسن وعيسى الثقفي وعمرو ابن
ميمون:" بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ" بحذف التنوين تخفيفا، أي هم
بمنزلة [أهل ] القبور في أنهم لا ينتفعون بما يسمعونه ولا يقبلونه.
[سورة فاطر (35): آية 23]
إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (23)
أي رسول منذر، فليس عليك إلا التبليغ، ليس لك من الهدي شي إنما الهدى بيد الله
تبارك وتعالى.
[سورة فاطر (35): آية 24]
إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ
خَلا فِيها نَذِيرٌ (24)
قوله تعالى: (إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً) أي بشيرا
بالجنة أهل طاعته، ونذيرا بالنار أهل معصيته. (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها
نَذِيرٌ) أي سلف فيها نبي. قال ابن جريج: إلا العرب.
__________
(1). راجع ج 9 ص 324.
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)
[سورة
فاطر (35): الآيات 25 الى 26]
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ
بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ
الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (26)
قوله تعالى: (وَإِنْ كَذَّبُوكَ) يعني كفار قريش. (فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ) أنبياءهم، يسلي رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (جاءَتْهُمْ
رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي بالمعجزات الظاهرات والشرائع الواضحات.
(وَبِالزُّبُرِ) أي الكتب المكتوبة. (وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ) أي الواضح. وكرر
الزبر والكتاب وهما واحد لاختلاف اللفظين. وقيل: يرجع البينات والزبر والكتاب إلى
معنى واحد، وهو ما أنزل على الأنبياء من الكتب. (ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ
كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) أي كيف كانت عقوبتي لهم. وأثبت ورش عن نافع وشيبة
الياء في" نكيري" حيث وقعت في الوصل دون الوقف. وأثبتها يعقوب في
الحالين، وحذفها الباقون في الحالين. وقد مضى هذا كله، والحمد لله.
[سورة فاطر (35): الآيات 27 الى 28]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ
ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ
مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ
وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ
عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)
قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) هذه الرؤية
رؤية القلب والعلم، أي ألم ينته علمك ورأيت بقلبك أن الله أنزل، ف"-
أَنَّ" واسمها وخبرها سدت مسد مفعولي الرؤية." فَأَخْرَجْنا بِهِ
ثَمَراتٍ" هو من باب تلوين الخطاب." مُخْتَلِفاً أَلْوانُها"
نصبت" مُخْتَلِفاً" نعتا ل"- ثَمَراتٍ"."
أَلْوانُها" رفع بمختلف، وصلح أن يكون نعتا ل"- ثَمَراتٍ" لما عاد
عليه من ذكره. ويجوز في غير القرآن رفعه، ومثله رأيت رجلا خارجا أبوه.
"
بِهِ" أي بالماء وهو واحد، والثمرات مختلفة. (وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ
وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها) الجدد جمع جدة، وهي الطرائق المختلفة الألوان،
وإن كان الجميع حجرا أو ترابا. قال الأخفش: ولو كان جمع جديد لقال: جدد (بقسم
الجيم والدال) نحو سرير وسرر. وقال زهير:
كأنه أسفع الخدين ذو جدد ... طاو ويرتع بعد الصيف عريانا
وقيل: إن الجدد القطع، مأخوذ من جددت الشيء إذا قطعته، حكاه ابن بحر. قال الجوهري:
والجدة الخطة التي في ظهر الحمار تخالف لونه. والجدة الطريقة، والجمع جدد، قال
تعالى:" وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها"
أي طرائق تخالف لون الجبل. ومنه قولهم: ركب فلان جدة من الامر، إذا رأى فيه رأيا.
وكساء مجدد: فيه خطوط مختلفة. الزمخشري: وقرا الزهري" جدد" بالضم جمع
جديدة، وهي الجدة، يقال: جديدة وجدد وجدائد كسفينة وسفن وسفائن. وقد فسر بها قول
أبي ذؤيب:
جون السراة له جدائد أربع «1»
وروي عنه" جدد" بفتحتين، وهو الطريق الواضح المسفر، وضعه موضع الطرائق
والخطوط الواضحة المنفصل بعضها من بعض. (وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ) وقرى:
(وَالدَّوَابِّ) مخففا. ونظير هذا التخفيف قراءة من قرأ: (وَلَا الضَّالِّينَ) لان
كل واحد منهما فر من التقاء الساكنين فحرك ذلك أولهما وحذف هذا آخرهما قاله
الزمخشري. (وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ) أي فيهم الأحمر والأبيض والأسود
وغير ذلك وكل ذلك دليل على صانع مختار. وقال: (مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ) فذكر الضمير
مراعاة ل (- مِنَ) قاله المؤرج. وقال أبو بكر بن عياش: إنما ذكر الكناية لأجل أنها
مردودة إلى (ما) مضمرة مجازه: ومن الناس ومن الدواب ومن الانعام ما هو مختلف
ألوانه أي أبيض وأحمر وأسود. (وَغَرابِيبُ سُودٌ) قال أبو عبيدة: الغربيب الشديد
السواد، ففي الكلام تقديم وتأخير، والمعنى: ومن الجبال
__________
(1). صدر البيت:
والدهر لا يبقى على حدثانه
[.....]
سود
غرابيب. والعرب تقول للشديد السواد الذي لونه كلون الغراب: أسود غربيب. قال
الجوهري: وتقول هذا أسود غربيب، أي شديد السواد. وإذا قلت: غرابيب سود، تجعل السود
بدلا من غرابيب لان توكيد الألوان لا يتقدم. وفي الحديث عن النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن الله يبغض الشيخ الغربيب) يعني الذي يخضب بالسواد. قال
امرؤ القيس:
العين طامحة واليد سابحة ... والرجل لافحة والوجه غربيب «1»
وقال آخر يصف كرما:
ومن تعاجيب خلق الله غاطية ... يعصر منها ملاحي وغربيب «2»
(كَذلِكَ) هنا تمام الكلام، أي كذلك تختلف أحوال العباد في الخشية، ثم استأنف
فقال: (إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ
غَفُورٌ) يعني بالعلماء الذين يخافون قدرته، فمن علم أنه عز وجل قدير أيقن
بمعاقبته على المعصية، كما روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس" إِنَّما يَخْشَى
اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ" قال: الذين علموا أن الله على كل شي
قدير. وقال الربيع بن أنس: من لم يخش الله تعالى فليس بعالم. وقال مجاهد: إنما
العالم من خشي الله عز وجل. وعن ابن مسعود: كفى بخشية الله تعالى علما وبالاغترار
جهلا. وقيل لسعد ابن إبراهيم: من أفقه أهل المدينة؟ قال أتقاهم لربه عز وجل. وعن
مجاهد قال: إنما الفقيه من يخاف الله عز وجل. وعن علي رضي الله عنه قال: إن الفقيه
حق الفقيه من لم يقنط
__________
(1). هذه رواية الأصول. والبيت كما ورد في ديوانه طبع مطبعة الاستقامة:
واليد سابحة والرجل ضارحة ... والعين قادحة والمتن سلحوب
والماء منهمر والشد منحدر ... والقصب مضطمر واللون غربيب
قوله (سابحة) يعنى إذا جرى فرسه مد يديه فكأنه سابح في الماء. وضرحت الدابة
برجلها: رمحت. وقدحت العين: غارت. والمتن: الظهر. وقوله (سلحوب) بالسين وفسر بأنه
أملس قليل اللحم. وهذا التفسير لم نجده لهذه الكلمة في المظان التي بين أيدينا.
والرواية فيه (ملحوب) بالميم. ولحب متن الفرس وعجزه: املاس في حدور. ومتن لحوب.
و(والشد) العدو. و(القصب) بالضم: الخصر. و(مضطمر) ضامر.
(2). الغاطية: الشجرة التي طالت أغصانها وانبسطت على الأرض. و(ملاحى): أبيض.
إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30)
الناس
من رحمة الله، ولم يرخص لهم في معاصي الله تعالى، ولم يؤمنهم من عذاب الله، ولم
يدع القرآن رغبة عنه إلى غيره، إنه لا خير في عبادة لا علم فيها، ولا علم لا فقه
فيه، ولا قراءة لا تدبر فيها. وأسند الدارمي أبو محمد عن مكحول قال: قال رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم
ثم تلا هذه الآية- إنما يخشى الله من عباده العلماء. إن الله وملائكته وأهل
سماواته وأهل أرضيه والنون في البحر يصلون على الذين يعلمون الناس الخير"
الخبر مرسل. قال الدارمي: وحدثني أبو النعمان حدثنا حماد ابن زيد عن يزيد بن حازم
قال حدثني عمي جرير بن زيد «1»
أنه سمع تبيعا يحدث عن كعب قال: إني لأجد نعت قوم يتعلمون لغير العمل، ويتفقهون
لغير العبادة، ويطلبون الدنيا بعمل الآخرة، ويلبسون جلود الضأن، قلوبهم أمر من
الصبر، فبي يغترون، وإياي يخادعون، فبي حلفت لأتيحن لهم فتنة تذر الحليم فيهم
حيران. خرجه الترمذي مرفوعا من حديث أبي الدرداء وقد كتبناه في مقدمة الكتاب «2»
. الزمخشري: فإن قلت: فما وجه قراءة من قرأ" إنما يخشى الله"
بالرفع" مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ" بالنصب، وهو عمر بن عبد العزيز.
وتحكى عن أبي حنيفة. قلت: الخشية في هذه القراءة استعارة، والمعنى: إنما يجلهم
ويعظمهم كما يجل المهيب المخشي من الرجال بين الناس من بين جميع عباده. (إِنَّ
اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) تعليل لوجوب الخشية، لدلالته على عقوبة العصاة وقهرهم،
وإثابة أهل الطاعة والعفو عنهم. والمعاقب والمثيب حقه أن يخشى.
[سورة فاطر (35): الآيات 29 الى 30]
إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا
مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (29)
لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ
(30)
__________
(1). في الأصول: (جرير بن يزيد) وهو تحريف راجع تهذيب التهذيب وسنن الدارمي.
(2). راجع ج 1 ص 19 فما بعد.
وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35)
قوله
تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ
وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً) هذه آية القراء العاملين
العالمين الذين يقيمون الصلاة الفرض والنفل، وكذا في الإنفاق. وقد مضى في مقدمة
الكتاب ما ينبغي أن يتخلق به قارئ القرآن «1»
." يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ" قال أحمد بن يحيى: خبر"
إِنَّ"" يَرْجُونَ". (وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) قيل: الزيادة
الشفاعة في الآخرة. وهذا مثل الآية الأخرى:" رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ
وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ" إلى قوله" وَيَزِيدَهُمْ مِنْ
فَضْلِهِ" «2»
[النور: 38- 37]، وقوله في آخر النساء:" فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ
فَضْلِهِ" [النساء: 173] وهناك «3»
بيناه. (إِنَّهُ غَفُورٌ) للذنوب. (شَكُورٌ) يقبل القليل من العمل الخالص، ويثيب
عليه الجزيل من الثواب.
[سورة فاطر (35): آية 31]
وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما
بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31)
قوله تعالى: (وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ) يعني القرآن. (هُوَ
الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) أي من الكتب. (إِنَّ اللَّهَ
بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ).
[سورة فاطر (35): الآيات 32 الى 35]
ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ
ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ
بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ
يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً
وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (33) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ
عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ
الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها
لُغُوبٌ (35)
__________
(1). راجع ج 1 ص 26 فما بعد.
(2). راجع ج 12 ص 279.
(3). راجع ج 6 ص 26
فيه
أربع مسائل: الاولى- هذه الآية مشكلة، لأنه قال جل وعز:" اصْطَفَيْنا مِنْ
عِبادِنا" ثم قال:" فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ" وقد تكلم
العلماء فيها من الصحابة والتابعين ومن بعدهم. قال النحاس: فمن أصح ما روى في ذلك
ما روي عن ابن عباس" فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ" قال: الكافر، رواه
ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس أيضا. وعن ابن عباس أيضا"
فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ
بِالْخَيْراتِ" قال: نجت فرقتان، ويكون التقدير في العربية: فمنهم من عبادنا
ظالم لنفسه، أي كافر. وقال الحسن: أي فاسق. ويكون الضمير الذي في"
يَدْخُلُونَها" يعود على المقتصد والسابق لا على الظالم. وعن عكرمة وقتادة
والضحاك والفراء أن المقتصد المؤمن العاصي، والسابق التقي على الإطلاق. قالوا:
وهذه الآية نظير قوله تعالى في سورة الواقعة" وَكُنْتُمْ أَزْواجاً «1»
ثَلاثَةً" [الواقعة: 7] الآية. قالوا وبعيد أن يكون ممن يصطفي ظالم. ورواه
مجاهد عن ابن عباس. قال مجاهد:" فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ" أصحاب
المشأمة،" وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ" أصحاب الميمنة،" وَمِنْهُمْ
سابِقٌ بِالْخَيْراتِ" السابقون من الناس كلهم. وقيل: الضمير في"
يَدْخُلُونَها" يعود على الثلاثة الأصناف، على ألا يكون الظالم ها هنا كافرا
ولا فاسقا. وممن روي عنه هذا القول عمر وعثمان وأبو الدرداء، وابن مسعود وعقبة بن
عمرو وعائشة، والتقدير على هذا القول: أن يكون الظالم لنفسه الذي عمل الصغائر.
و" المقتصد" قال محمد بن يزيد: هو الذي يعطي الدنيا حقها والآخرة حقها،
فيكون" جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها" عائدا على الجميع على هذا الشرح
والتبيين، وروي عن أبي سعيد الخدري. وقال كعب الأحبار: استوت مناكبهم- ورب الكعبة-
وتفاضلوا بأعمالهم. وقال أبو إسحاق السبيعي: أما الذي سمعت منذ ستين سنة فكلهم ناج.
وروى أسامة بن زيد أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرأ هذه الآية
وقال: (كلهم في الجنة). وقرا عمر بن الخطاب هذه الآية ثم قال قال رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (سابقنا سابق ومقتصدنا ناج وظالمنا مغفور له). فعلى
هذا القول يقدر مفعول الاصطفاء من قوله:" أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ
اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا"
__________
(1). راجع ج 17 ص 198
مضافا
حذف كما حذف المضاف في" وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ" «1»
[يوسف: 82] أي اصطفينا دينهم فبقى اصطفيناهم، فحذف العائد إلى الموصول كما حذف في
قوله:" وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ" «2»
[هود: 31] أي تزدريهم، فالاصطفاء إذا موجه إلى دينهم، كما قال تعالى:" إِنَّ
اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ «3»
الدِّينَ" [البقرة: 132]. قال النحاس: وقول ثالث- يكون الظالم صاحب الكبائر،
والمقتصد الذي لم يستحق الجنة بزيادة حسناته على سيئاته، فيكون:" جَنَّاتُ
عَدْنٍ يَدْخُلُونَها" للذين سبقوا بالخيرات لا غير. وهذا قول جماعة من أهل
النظر، لان الضمير في حقيقة النظر لما يليه أولى. قلت: القول الوسط أولاها وأصحها
إن شاء الله، لان الكافر والمنافق لم يصطفوا بحمد الله، ولا اصطفى دينهم. وهذا قول
ستة من الصحابة، وحسبك. وسنزيده بيانا وإيضاحا في باقي الآية. الثانية- قوله
تعالى: (أَوْرَثْنَا الْكِتابَ) أي أعطينا. والميراث عطاء حقيقة أو مجازا، فإنه
يقال فيما صار للإنسان بعد موت آخر. و" الْكِتابَ" ها هنا يريد به معاني
الكتاب وعلمه وأحكامه وعقائده، وكان الله تعالى لما أعطى أمة محمد صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القرآن، وهو قد تضمن معاني الكتب المنزلة، فكأنه ورث أمة محمد
عليه السلام الكتاب الذي كان في الأمم قبلنا. (اصْطَفَيْنا) أي اخترنا. واشتقاقه
من الصفو، وهو الخلوص من شوائب الكدر. وأصله اصتفونا، فأبدلت التاء طاء والواو
ياء. (مِنْ عِبادِنا) قيل المراد أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
قاله أبن عباس وغيره. وكان اللفظ يحتمل جميع المؤمنين من كل أمة، إلا أن عبارة
توريث الكتاب لم تكن إلا لامة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والأول لم
يرثوه. وقيل: المصطفون الأنبياء، توارثوا الكتاب بمعنى أنه انتقل عن بعضهم إلى
آخر، قال الله تعالى:" وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ" «4»
[النمل: 16]، وقال:" يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ" «5»
[مريم: 6] فإذا جاز أن تكون النبوة موروثة فكذلك الكتاب." فَمِنْهُمْ ظالِمٌ
لِنَفْسِهِ" من وقع في صغيرة. قال أبن عطية: وهذا
__________
(1). راجع ج 9 ص 245.
(2). راجع ج 9 ص 27.
(3). راجع ج 2 ص 134 فما بعد.
(4). راجع ج 13 ص 163 فما بعد.
(5). راجع ج 11 ص 73 فما بعد.
قول
مردود من غير ما وجه. قال الضحاك: معنى" فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ"
أي من ذريتهم ظالم لنفسه وهو المشرك. الحسن: من أممهم، على ما تقدم ذكره من الخلاف
في الظالم. والآية في أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقد اختلفت
عبارات أرباب القلوب في الظالم والمقتصد والسابق، فقال سهل بن عبد الله: السابق
العالم، والمقتصد المتعلم، والظالم الجاهل. وقال ذو النون المصري: الظالم الذاكر
الله بلسانه فقط، والمقتصد الذاكر بقلبه، والسابق الذي لا ينساه. وقال الأنطاكي:
الظالم صاحب الأقوال، والمقتصد صاحب الافعال، والسابق صاحب الأحوال. وقال أبن
عطاء: الظالم الذي يحب الله من أجل الدنيا، والمقتصد الذي يحبه من أجل العقبى،
والسابق الذي أسقط مراده بمراد الحق. وقيل: الظالم الذي يعبد الله خوفا من النار،
والمقتصد الذي يعبد الله طمعا في الجنة، والسابق الذي يعبد الله لوجهه لا لسبب.
وقيل: الظالم الزاهد في الدنيا، لأنه ظلم نفسه فترك لها حظا وهي المعرفة والمحبة،
والمقتصد العارف، والسابق المحب. وقيل: الظالم الذي يجزع عند البلاء، والمقتصد
الصابر على البلاء، والسابق المتلذذ بالبلاء. وقيل: الظالم الذي يعبد الله على
الغفلة والعادة، والمقتصد الذي يعبده على الرغبة والرهبة، والسابق الذي يعبده على
الهيبة. وقيل: الظالم الذي أعطي فمنع، والمقتصد الذي أعطي فبذل، والسابق الذي يمنع
فشكر وآثر. يروى أن عابدين التقيا فقال: كيف حال إخوانكم بالبصرة؟ قال: بخير، إن
أعطوا شكروا وإن منعوا صبروا. فقال «1»
: هذه حالة الكلاب عندنا ببلخ! عبادنا إن منعوا شكروا وإن أعطوا آثروا. وقيل:
الظالم من استغنى بماله، والمقتصد من أستغنى بدينه، والسابق من أستغنى بربه. وقيل:
الظالم التالي للقرآن ولا يعمل به، والمقتصد التالي للقرآن ويعمل به، والسابق
القارئ للقرآن العامل به والعالم به. وقيل: السابق الذي يدخل المسجد قبل تأذين المؤذن،
والمقتصد الذي يدخل المسجد وقد أذن، والظالم الذي يدخل المسجد وقد أقيمت الصلاة،
لأنه ظلم نفسه الأجر فلم يحصل لها ما حصله غيره. وقال بعض أهل العلم في هذا: بل
السابق الذي يدرك الوقت والجماعة فيدرك الفضيلتين، والمقتصد الذي إن فاتته الجماعة
لم يفرط
__________
(1). الزيادة من ك. [.....]
في
الوقت، والظالم الغافل عن الصلاة حتى يفوت الوقت والجماعة، فهو أولى بالظلم. وقيل:
الظالم الذي يحب نفسه، والمقتصد الذي يحب دينه، والسابق الذي يحب ربه. وقيل:
الظالم الذي ينتصف ولا ينصف، والمقتصد الذي ينتصف وينصف، والسابق الذي ينصف ولا
ينتصف. وقالت عائشة رضي الله عنها: السابق الذي أسلم قبل الهجرة، والمقتصد من أسلم
بعد الهجرة، والظالم من لم يسلم إلا بالسيف، وهم كلهم مغفور لهم. قلت: ذكر هذه
الأقوال وزيادة عليها الثعلبي في تفسيره. وبالجملة فهم طرفان وواسطة، وهو المقتصد
الملازم للقصد وهو ترك الميل، ومنه قول جابر بن حني الثعلبي:
نعاطي الملوك السلم ما قصدوا لنا ... وليس علينا قتلهم بمحرم
أي نعاطيهم الصلح ما ركبوا بنا القصد، أي ما لم يجوروا، وليس قتلهم بمحرم علينا إن
جاروا، فلذلك كان المقتصد منزلة بين المنزلتين، فهو فوق الظالم لنفسه ودون السابق
بالخيرات. (ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) يعنى إتياننا الكتاب لهم. وقيل: ذلك
الاصطفاء مع علمنا بعيوبهم هو الفضل الكبير. وقيل: وعد الجنة لهؤلاء الثلاثة فضل
كبير. الثالثة- وتكلم الناس في تقديم الظالم على المقتصد والسابق فقيل: التقديم في
الذكر لا يقتضي تشريفا، كقوله تعالى:" لا يَسْتَوِي أَصْحابُ «1»
النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ" [الحشر: 20]. وقيل: قدم الظالم لكثرة
الفاسقين منهم وغلبتهم وأن المقتصدين قليل بالإضافة إليهم، والسابقين أقل من
القليل، ذكره الزمخشري ولم يذكره غيره وقيل: قدم الظالم لتأكيد الرجاء في حقه، إذ
ليس له شي يتكل عليه إلا رحمة ربه. واتكل المقتصد على حسن ظنه، والسابق على طاعته.
وقيل: قدم الظالم لئلا ييئس من رحمة الله، وأخر السابق لئلا يعجب بعمله. وقال جعفر
بن محمد بن علي الصادق رضي الله عنه: قدم الظالم ليخبر أنه لا يتقرب إليه إلا بصرف
رحمته وكرمه، وأن الظلم لا يؤثر في الاصطفائية إذا كانت ثم عناية، ثم ثنى
بالمقتصدين لأنهم بين الخوف والرجاء، ثم ختم بالسابقين لئلا يأمن أحد مكر الله،
وكلهم في الجنة
__________
(1). راجع ج 18 ص 440.
بحرمة
كلمة الإخلاص:" لا إله إلا الله محمد رسول الله". وقال محمد بن علي
الترمذي: جمعهم في الاصطفاء إزالة للعلل عن العطاء، لان الاصطفاء يوجب الإرث، لا
الإرث يوجب الاصطفاء، ولذلك قيل في الحكمة: صحح النسبة ثم ادع في الميراث. وقيل:
أخر السابق ليكون أقرب إلى الجنات والثواب، كما قدم الصوامع والبيع في" سورة
الحج" «1»
على المساجد، لتكون الصوامع أقرب إلى الهدم والخراب، وتكون المساجد أقرب إلى ذكر
الله. وقيل: إن الملوك إذا أرادوا الجمع بين الأشياء بالذكر قدموا الأدنى، كقوله
تعالى:" لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ" «2»
[الأعراف: 167]، وقوله:" يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ
يَشاءُ الذُّكُورَ" «3» [الشورى: 49]، وقوله:" لا يَسْتَوِي أَصْحابُ
النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ" [الحشر: 20] قلت: ولقد أحسن من قال:
وغاية هذا الجود أنت وإنما ... يوافي إلى الغايات في آخر الامر
الرابعة- قوله: (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها) جمعهم في الدخول لأنه ميراث،
والعاق والبار في الميراث سواء إذا كانوا معترفين بالنسب، فالعاصي والمطيع مقرون
بالرب. وقرى:" جنة عدن" على الافراد، كأنها جنة مختصة بالسابقين لقلتهم،
على ما تقدم. و" جنات عدن" بالنصب على إضمار فعل يفسره الظاهر، أي يدخلون
جنات عدن يدخلونها. وهذا للجميع، وهو الصحيح إن شاء الله تعالى. وقرا أبو عمرو
(يدخلونها) بضم الياء وفتح الخاء. قال: لقوله (يُحَلَّوْنَ). وقد مضى في (الحج)
الكلام في قوله تعالى: (يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً
وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ) «4»." وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي
أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ" قال أبو ثابت: دخل رجل المسجد فقال اللهم ارحم
غربتي وآنس وحدتي يسر لي جليسا صالحا. فقال أبو الدرداء: لئن كنت صادقا فلانا أسعد
بذلك منك، سمعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:
__________
(1). راجع ج 12 ص 68.
(2). راجع ج 7 ص 309.
(3). راجع ج 16 ص 48.
(4). راجع ج 12 ص 28.
وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37)
"
ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ
ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ"-
قال- فيجيء هذا السابق فيدخل الجنة بغير حساب، وأما المقتصد فيحاسب حسابا يسيرا،
وأما الظالم لنفسه فيحبس في المقام ويوبخ ويقرع ثم يدخل الجنة فهم الذين
قالوا:" الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا
لَغَفُورٌ شَكُورٌ" وفي لفظ آخر" وأما الذين ظلموا أنفسهم فأولئك يحبسون
في طول المحشر ثم هم الذين يتلقاهم «1» الله برحمته فهم الذين يقولون" الحمد
لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور- إلى قوله- ولا يمسنا فيها
لغوب". وقيل: هو الذي يؤخذ منه في مقامه، يعني يكفر عنه بما يصيبه من الهم
والحزن، ومنه قوله تعالى:" مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ" «2»
[النساء: 123] يعني في الدنيا. قال الثعلبي: وهذا التأويل أشبه بالظاهر، لأنه
قال:" جنات عدن يدخلونها"، ولقوله:" الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ
عِبادِنا" والكافر والمنافق لم يصطفوا. قلت: وهذا هو الصحيح، وقد قال صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة، ريحها
وطيب وطعمها مر). فأخبر أن المنافق يقرؤه، وأخبر الحق سبحانه وتعالى أن المنافق في
الدرك الأسفل من النار، وكثير من الكفار واليهود والنصارى يقرءونه في زماننا هذا.
وقال مالك: قد يقرأ القرآن من لا خير فيه. والنصب: التعب. واللغوب: الإعياء.
[سورة فاطر (35): الآيات 36 الى 37]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا
وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ
يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا
نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ
النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37)
__________
(1). كذا في ش وح. وفي ب. وك:- يتلافاهم.
(2). راجع ج 5 ص 396)
قوله
تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ) لما ذكر أهل الجنة وأحوالهم
ومقالتهم، ذكر أهل النار وأحوالهم ومقالتهم. (لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا)
مثل:" لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى " «1» [الأعلى: 13]. (وَلا
يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها) مثل: (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ
بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ" «2» [النساء: 56].
(كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ)
أي كافر بالله ورسوله. وقرا الحسن (فيموتون) بالنون ولا يكون للنفي حينئذ جواب
ويكون (فيموتون) عطفا على (يُقْضى ) تقديره لا يقضى عليهم ولا يموتون كقوله تعالى:
(وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) «3». قال الكسائي: (وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ
فَيَعْتَذِرُونَ) بالنون في المصحف لأنه رأس آية و(لا يُقْضى عَلَيْهِمْ
فَيَمُوتُوا) لأنه ليس رأس آية. ويجوز في كل واحد منهما ما جاز في صاحبه. (وَهُمْ
يَصْطَرِخُونَ فِيها) أي يستغيثون في النار بالصوت العالي. والصراخ الصوت العالي،
والصارخ المستغيث والمصرخ المغيث. قال:
كنا إذا ما أتانا صارخ فزع ... كان الصراخ له قرع الظنابيب «4»
(رَبَّنا أَخْرِجْنا) أي يقولون ربنا أخرجنا من جهنم وردنا إلى الدنيا. (نَعْمَلْ
صالِحاً) قال ابن عباس: نقل: لا إله إلا الله. وهو معنى قولهم: (غَيْرَ الَّذِي كُنَّا
نَعْمَلُ) أي من الشرك، أي نؤمن بدل الكفر، ونطيع بدل المعصية، ونمتثل أمر الرسل.
(أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ) هذا جواب دعائهم،
أي فيقال لهم، فالقول مضمر. وترجم البخاري: (باب من بلغ ستين سنة فقد أعذر الله
إليه في العمر لقوله عز وجل" أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ
مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ" يعني الشيب) حدثنا عبد السلام بن مطهر
قال حدثنا عمر بن علي قال حدثنا معن بن محمد الغفاري عن سعيد بن أبي سعيد المقبري
عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (أعذر الله إلى
امرئ أخر أجله حتى بلغه ستين سنة). قال الخطابي:" أعذر إليه" أي بلغ به
أقصى العذر، ومنه قولهم: قد
__________
(1). راجع ج 1 ص (227)
(2). راجع ج 5 ص (253)
(3). راجع ج 19 ص (164)
(4). البيت لسلامة بن جندل. والظنابيب (جمع الظنبوب) وهو مسمار يكون في جبة
السنان.
أعذر
من أنذر، أي أقام عذر نفسه في تقديم نذارته. والمعنى: أن من عمره الله ستين سنة لم
يبق له عذر، لان الستين قريب من معترك المنايا، وهو سن الإنابة والخشوع وترقب
المنية ولقاء الله تعالى، ففيه إعذار بعد إعذار، الأول بالنبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والموتان «1» في الأربعين والستين. قال علي وابن عباس وأبو
هريرة في تأويل قوله تعالى" أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ
مَنْ تَذَكَّرَ": إنه ستون سنة. وقد روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أنه قال في موعظته: (ولقد أبلغ في الاعذار من تقدم في الإنذار وإنه
لينادي مناد من قبل الله تعالى أبناء الستين" أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما
يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ" (. وذكر الترمذي
الحكيم من حديث عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:) إذا كان يوم القيامة نودي أبناء الستين وهو العمر الذي قال
الله" أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ" (.
وعن ابن عباس أيضا أنه أربعون سنة. وعن الحسن البصري ومسروق مثله. ولهذا القول
أيضا وجه، وهو صحيح، والحجة له قوله تعالى:" حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ
وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً" «2» [الأحقاف 15] الآية. ففي الأربعين تناهي
العقل، وما قبل ذلك وما بعده منتقص عنه «3»، والله أعلم. وقال مالك: أدركت أهل
العلم ببلدنا وهم يطلبون الدنيا والعلم ويخالطون الناس، حتى يأتي لأحدهم أربعون
سنة، فإذا أتت عليهم اعتزلوا الناس واشتغلوا بالقيامة حتى يأتيهم الموت. وقد مضى
هذا المعنى في سورة" الأعراف"»
. وخرج ابن ماجة عن أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قال: (أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين وأقلهم من تجاوز ذلك). قوله تعالى:
(وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ) وقرى" وجاءتكم النذر" واختلف فيه، فقيل القرآن.
وقيل الرسول، قاله زيد بن علي وابن زيد. وقال ابن عباس وعكرمة وسفيان ووكيع
والحسين ابن الفضل والفراء والطبري: هو الشيب. وقيل: النذير الحمى. وقيل: موت الأهل
والأقارب. وقيل: كمال العقل. والنذير بمعنى الإنذار.
__________
(1). الموتان (بضم الميم وفتحها وسكون الواو): الموت.
(2). راجع ج 16 ص (194)
(3). كيف هذا وقد عاش صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثلاثا وستين سنة؟؟
[.....]
(4). راجع ج 7 ص 276
إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38)
قلت:
فالشيب والحمى وموت الأهل كله إنذار بالموت، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: (الحمى رائد الموت). قال الأزهري: معناه أن الحمى رسول الموت، أي كأنها
تشعر بقدومه وتنذر بمجيئه. والشيب نذير أيضا، لأنه يأتي في سن الاكتهال، وهو علامة
لمفارقة سن الصبا الذي هو سن اللهو واللعب. قال:
رأيت الشيب من نذر المنايا ... لصاحبه وحسبك من نذير
وقال آخر:
فقلت لها المشيب نذير عمري ... ولست مسودا وجه النذير
وأما موت الأهل والأقارب والأصحاب والاخوان فإنذار بالرحيل في كل وقت وأوان، وحين
وزمان. قال:
وأراك تحملهم ولست تردهم ... فكأنني بك قد حملت فلم ترد
وقال آخر:
الموت في كل حين ينشر الكفنا ... ونحن في غفلة عما يراد بنا
وأما كمال العقل فبه تعرف حقائق الأمور ويفصل بين الحسنات والسيئات، فالعاقل يعمل
لآخرته ويرغب فيما عند ربه، فهو نذير. وأما محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فبعثه الله بشيرا ونذيرا إلى عباده قطعا لحججهم، قال الله تعالى:"
لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ" «1»
[النساء: 165] وقال:" وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا" «2» [الاسراء:
15]. قوله تعالى: (فَذُوقُوا) يريد عذاب جهنم، لأنكم ما اعتبرتم ولا اتعظتم. (فَما
لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) أي مانع من عذاب الله.
[سورة فاطر (35): آية 38]
إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ
الصُّدُورِ (38)
__________
(1). راجع ج 6 ص 18.
(2). راجع 10 ص 230.
هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (39)
تقدم
معناه في غير موضع. والمعنى: علم أنه لو ردكم إلى الدنيا لم تعملوا صالحا، كما
قال:" وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ" «1» [الانعام: 28].
و" عالِمُ
" إذا كان بغير تنوين صلح أن يكون للماضي والمستقبل، وإذا كان منونا لم يجز
أن يكون للماضي.
[سورة فاطر (35): آية 39]
هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ
كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً
وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (39)
قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ) قال قتادة: خلفا
بعد خلف، قرنا بعد قرن. والخلف هو التالي للمتقدم، ولذلك قيل لابي بكر: يا خليفة
الله، فقال: لست بخليفة الله، ولكني خليفة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وأنا راض بذلك. (فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) أي جزاء كفره وهو
العقاب والعذاب. (وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا
مَقْتاً) أي بغضا وغضبا. (وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً)
أي هلاكا وضلالا.
[سورة فاطر (35): آية 40]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي
ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ
آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ
بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (40)
قوله تعالى:" قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ
تَدْعُونَ"" شُرَكاءَكُمُ" منصوب بالرؤية، ولا يجوز رفعه، وقد يجوز
الرفع عند سيبويه في قولهم: قد علمت زيدا أبو من هو؟ لان زيدا في المعنى مستفهم
عنه. ولو قلت: أرأيت زيدا أبو من هو؟ لم يجز الرفع. والفرق بينهما أن معنى هذا
أخبرني عنه، وكذا معنى هذا أخبروني عن شركائكم الذي تدعون من
__________
(1). راجع ج 6 ص 409
إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41)
دون
الله، أعبدتموهم لان لهم شركة في خلق السماوات، أم خلقوا من الأرض شيئا! (أَمْ
آتَيْناهُمْ كِتاباً) أي أم عندهم كتاب أنزلناه إليهم بالشركة. وكان في هذا رد على
من عبد غير الله عز وجل، لأنهم لا يجدون في كتاب من الكتب أن الله عز وجل أمر أن
يعبد غيره. (فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ) قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وحفص عن
عاصم" عَلى بَيِّنَةٍ" بالتوحيد، وجمع الباقون. والمعنيان متقاربان إلا
أن قراءة الجمع أولى، لأنه لا يخلو من قرأه" عَلى بَيِّنَةٍ" من أن يكون
خالف السواد الأعظم، أو يكون جاء به على لغة من قال: جاءني طلحت، فوقف بالتاء،
وهذه لغة شاذة قليلة، قاله النحاس. وقال أبو حاتم وأبو عبيد: الجمع أولى لموافقته
الخط، لأنها في مصحف عثمان" بينات" بالألف والتاء. (بَلْ إِنْ يَعِدُ
الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً) أي أباطيل تغر، وهو قول السادة
للسفلة: إن هذه الآلهة تنفعكم وتقربكم. وقيل: إن الشيطان يعد المشركين ذلك. وقيل:
وعدهم بأنهم ينصرون عليهم.
[سورة فاطر (35): آية 41]
إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا
إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (41)
قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا) لما
بين أن آلهتهم لا تقدر على خلق شي من السماوات والأرض بين أن خالقهما وممسكهما هو
الله، فلا يوجد حادث إلا بإيجاده، ولا يبقى إلا ببقائه. و" إِنَّ" في موضع
نصب بمعنى كراهة أن تزولا، أو لئلا تزولا، أو يحمل على المعنى، لان المعنى أن الله
يمنع السماوات والأرض أن تزولا، فلا حاجة على هذا إلى إضمار، وهذا قول الزجاج.
(وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ) قال الفراء: أي
ولو زالتا ما أمسكهما من أحد. و" إِنَّ" بمعنى ما. قال: وهو مثل
قوله:" وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ
بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ" «1» [الروم: 51]. وقيل: المراد زوالهما
__________
(1). راجع ص 45 من هذا الجزء.
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43)
يوم
القيامة. وعن إبراهيم قال: دخل رجل من أصحاب ابن مسعود إلى كعب الأحبار يتعلم منه
العلم، فلما رجع قال له ابن مسعود: ما الذي أصبت من كعب؟ قال سمعت كعبا يقول: إن
السماء تدور على قطب مثل قطب الرحى، في عمود على منكب ملك، فقال له عبد الله: وددت
أنك انقلبت براحلتك ورحلها، كذب كعب، ما ترك يهوديته! إن الله تعالى يقول:"
إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا" إن السماوات
لا تدور، ولو كانت تدور لكانت قد زالت. وعن ابن عباس نحوه، وأنه قال لرجل مقبل من
الشام: من لقيت به؟ قال كعبا. قال: وما سمعته يقول؟ قال: سمعته يقول: إن السماوات
على منكب ملك. فال: كذب كعب، أما ترك يهوديته بعد! إن الله تعالى يقول:"
إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا" والسماوات سبع
والأرضون سبع، ولكن لما ذكرهما أجراهما مجرى شيئين، فعادت الكناية إليهما، وهو
كقوله تعالى:" أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً
فَفَتَقْناهُما" «1» [الأنبياء: 30] ثم ختم الآية بقوله:" إِنَّهُ كانَ
حَلِيماً غَفُوراً" لان المعنى فيما ذكره بعض أهل التأويل: أن الله يمسك
السماوات والأرض أن تزولا من كفر الكافرين، وقولهم اتخذ الله ولدا. قال الكلبي:
لما قالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله، كادت السماوات
والأرض أن تزولا عن أمكنتهما، فمنعهما الله، وأنزل هذه الآية فيه، وهو كقوله
تعالى:" لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا. تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ
مِنْهُ" «2» [مريم: 90- 89] الآية.
[سورة فاطر (35): الآيات 42 الى 43]
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ
أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ
نُفُوراً (42) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ
الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ
الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ
لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً (43)
__________
(1). راجع ج 11 ص 282.
(2). راجع ج 11 ص 155.
قوله
تعالى: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ) هم
قريش أقسموا قبل أن يبعث الله رسوله محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حين
بلغهم أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم، فلعنوا من كذب نبيه منهم، وأقسموا بالله جل أسمه
(لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ) أي نبي (لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ)
يعني ممن كذب الرسل من أهل الكتاب. وكانت العرب تتمنى أن يكون منهم رسول كما كانت
الرسل من بني إسرائيل، فلما جاءهم ما تمنوه وهو النذير من أنفسهم، نفروا عنه ولم
يؤمنوا به. (اسْتِكْباراً) أي عتوا عن الايمان (وَمَكْرَ السَّيِّئِ) أي مكر العمل
السيئ وهو الكفر وخدع الضعفاء، وصدهم عن الايمان ليكثر أتباعهم. وأنث" من
إحدى الأمم" لتأنيث أمة، قاله الأخفش. وقرا حمزة والأخفش" ومكر السيئ
ولا يحيق المكر السيئ" فحذف الاعراب من الأول واثبته في الثاني. قال الزجاج:
وهو لحن، وإنما صار لحنا لأنه حذف الاعراب منه. وزعم المبرد أنه لا يجوز في كلام
ولا في شعر، لان حركات الاعراب لا يجوز حذفها، لأنها دخلت للفرق بين المعاني. وقد
أعظم بعض النحويين أن يكون الأعمش على جلالته ومحله يقرأ بهذا، قال: إنما كان يقف
عليه، فغلط من أدى عنه، قال: والدليل على هذا أنه تمام الكلام، وأن الثاني لما لم
يكن تمام الكلام أعرب باتفاق، والحركة في الثاني أثقل منها في الأول لأنها ضمة بين
كسرتين. وقد احتج بعض النحويين لحمزة في هذا بقول سيبويه، وأنه أنشد هو وغيره:
إذا اعوججن قلت صاحب قوم «1»
وقال الآخر:
فاليوم أشرب غير مستحقب ... إثما من الله ولا واغل «2»
__________
(1). تمامه:
بالدو أمثال السفين العوم
الدو: الصحراء. وأمثال السفين، رواحل محملة تقطع الصحراء قطع السفين البحر.
(2). البيت لامرئ القيس. والمستحقب: المكتسب للإثم الحامل له. والواغل: الداخل على
القوم يشربون ولم يدع. قال هذا حين قتل أبوه ونذر ألا يشرب الخمر حتى يثأر به فلما
أخذ ثأره حلت له يزعمه فلا يأثم في شربها إذ قد وفى بنذره فيها.
وهذا
لا حجة فيه، لان سيبويه لم يجزه، وإنما حكاه عن بعض النحويين، والحديث إذا قيل فيه
عن بعض العلماء لم يكن فيه حجة، فكيف وإنما جاء به على وجه الشذوذ ولضرورة الشعر
وقد خولف فيه. وزعم الزجاج أن أبا العباس أنشده:
إذا اعوججن قلت صاح قوم
وأنه أنشد:
فاليوم أشرب غير مستحقب
بوصل الالف على الامر، ذكر جميعه النحاس. الزمخشري: وقرا حمزة" ومكر
السيئ" بسكون الهمزة، وذلك لاستثقاله الحركات، ولعله اختلس فظن سكونا، أو وقف
وقفة خفيفة ثم ابتدأ" وَلا يَحِيقُ". وقرا ابن مسعود" ومكرا
سيئا" وقال المهدوي: ومن سكن الهمزة من قوله:" وَمَكْرَ
السَّيِّئِ" فهو على تقدير الوقف عليه، ثم أجرى الوصل مجرى الوقف، أو على أنه
أسكن الهمزة لتوالي الكسرات والياءات، كما قال:
فاليوم أشرب غير مستحقب
قال القشيري: وقرا حمزة" ومكر السيئ" بسكون الهمزة، وخطأه أقوام. وقال
قوم: لعله وقف عليه لأنه تمام الكلام، فغلط الراوي وروى ذلك عنه في الإدراج، وقد
سبق الكلام في أمثال هذا، وقلنا: ما ثبت بالاستفاضة أو التواتر أن النبي صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرأه فلا بد من جوازه، ولا يجوز أن يقال: إنه لحن،
ولعل مراد من صار إلى التخطئة أن غيره أفصح منه، وإن كان هو فصيحا." وَلا
يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ" أي لا ينزل عاقبة الشرك إلا
بمن أشرك. وقيل: هذا إشارة إلى قتلهم ببدر. وقال الشاعر:
وقد دفعوا المنية فاستقلت ... ذراعا بعد ما كانت تحيق
أي تنزل، وهذا قول قطرب. وقال الكلبي:" يَحِيقُ" بمعنى يحيط. والحوق
الإحاطة، يقال: حاق به كذا أي أحاط به. وعن ابن عباس أن كعبا قال له: إني أجد في
التوراة" من حفر لأخيه حفرة وقع فيها"؟ فقال ابن عباس: فإني أوجدك في
القرآن ذلك. قال: وأين؟ قال: فاقرأ (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا
بِأَهْلِهِ) ومن أمثال العرب" من حفر لأخيه
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44)
جبا
وقع فيه منكبا" وروى الزهري أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
(لا تمكر ولا تعن ماكرا فإن الله تعالى يقول:" وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ
السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ"، ولا تبغ ولا تعن باغيا فإن الله تعالى
يقول:" فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ" [الفتح: 10]
وقال تعالى:" إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ" [يونس: 23] وقال
بعض الحكماء:
يا أيها الظالم في فعله ... والظلم مردود على من ظلم
إلى متى أنت وحتى متى ... تحصى المصائب وتنسى النعم
وفي الحديث (المكر والخديعة في النار). فقوله: (في النار) يعني في الآخرة تدخل
أصحابها في النار، لأنها من أخلاق الكفار لا من أخلاق المؤمنين الأخيار، ولهذا قال
عليه الصلاة والسلام في سياق هذا الحديث: (وليس من أخلاق المؤمن المكر والخديعة
والخيانة). وفي هذا أبلغ تحذير عن التخلق بهذه الأخلاق الذميمة، والخروج عن أخلاق
الايمان الكريمة. قوله تعالى: (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ)
أي إنما ينتظرون العذاب الذي نزل بالكفار الأولين. (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ
اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا) أي أجرى الله العذاب
على الكفار، ويجعل ذلك سنة فيهم، فهو يعذب بمثله من استحقه، لا يقدر أحد أن يبدل
ذلك، ولا أن يحول العذاب عن نفسه إلى غيره. والسنة الطريقة، والجمع سنن. وقد مضى
في" آل عمران" «1» وأضافها إلى الله عز وجل. وقال في موضع آخر:"
سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا" «2» فأضاف إلى القوم
لتعلق الامر بالجانبين، وهو كالاجل، تارة يضاف إلى الله، وتارة إلى القوم، قال
الله تعالى:" فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ" «3» [العنكبوت: 5]
وقال:" فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ". [النحل: 61].
[سورة فاطر (35): آية 44]
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللَّهُ
لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ
عَلِيماً قَدِيراً (44)
__________
(1). راجع ج 4 ص 216.
(2). راجع ج 10 ص 302.
(3). راجع ج 13 ص 326.
وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45)
بين
السنة التي ذكرها، أي أو لم يروا ما أنزلنا بعاد وثمود، وبمدين وأمثالهم لما كذبوا
الرسل، فتدبروا ذلك بنظرهم إلى مساكنهم ودورهم، وبما سمعوا على التواتر بما حل
بهم، أفليس فيه عبرة وبيان لهم، ليسوا خيرا من أولئك ولا أقوى، بل كان أولئك أقوى،
دليله قوله:" وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللَّهُ
لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ" أي إذا أراد
إنزال عذاب بقوم لم يعجزه ذلك." إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً".
[سورة فاطر (35): آية 45]
وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ
دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ
فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (45)
قوله تعالى: (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا) يعني من الذنوب.
(ما ترك على ظهرها من دابة) قال ابن مسعود: يريد جميع الحيوان مما دب ودرج. قال
قتادة: وقد فعل ذلك زمن نوح عليه السلام. وقال الكلبي:" مِنْ دَابَّةٍ"
يريد الجن والانس دون غيرهما، لأنهما مكلفان بالعقل. وقال ابن جرير والأخفش
والحسين بن الفضل: أراد بالدابة هنا الناس وحدهم دون غيرهم. قلت: والأول أظهر،
لأنه عن صحابي كبير. قال ابن مسعود: كاد الجعل أن يعذب في حجره بذنب ابن آدم. وقال
يحيى بن أبي كثير: أمر رجل بالمعرف ونهى عن المنكر، فقال له رجل: عليك بنفسك فإن
الظالم لا يضر إلا نفسه. فقال أبو هريرة: كذبت؟ والله الذي لا إله إلا هوثم قال- والذي
نفسي بيده إن الحبارى لتموت هزلا في وكرها بظلم الظالم. وقال الثمالي ويحيى بن
سلام في هذه الآية: يحبس الله المطر فيهلك كل شي. وقد مضى في" البقرة"
نحو هذا عن عكرمة ومجاهد في تفسير" وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ" «1»
هم الحشرات والبهائم يصيبهم الجدب بذنوب علماء السوء الكاتمين فيلعنونهم. وذكرنا
هناك حديث البراء
__________
(1). راجع ج 2 ص 186 طبعه ثانية.
ابن
عازب قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله:"
وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ" قال: (دواب الأرض). (وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ
إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) قال مقاتل: الأجل المسمى هو ما وعدهم في اللوح المحفوظ.
وقال يحيى: هو يوم القيامة. (فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ) أي بمن يستحق
العقاب منهم (بَصِيراً). ولا يجوز أن يكون العامل في" إذا""
بَصِيراً" كما لا يجوز: اليوم إن زيدا خارج. ولكن العامل فيها" جاءَ"
لشبهها بحروف المجازاة، والأسماء التي يجازى بها يعمل فيها ما بعدها. وسيبويه لا
يرى المجازاة ب"- إذا" إلا في الشعر، كما قال:
إذا قصرت أسيافنا كان وصلها ... خطانا إلى أعدائنا فنضارب «1»
ختمت سورة" فاطر" والحمد لله.
__________
(1). البيت لقيس بن الحطيم الأنصار راجع ج 1 ص 201 طبعه ثانية أو ثالثة. [.....]
" ج 15"
الجزء
الخامس عشر
[تفسير سورة يس- 36]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سورة يس وهى مكية بإجماع. وهى ثلاث وثمانون
آية، إ لا أن فرقة قالت: إن قوله تعالى" وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا
وَآثارَهُمْ" [يس: 12] نزلت في بنى سلمة من الأنصار حين أرادوا أن يتركوا
ديارهم، وينتقلوا إلى جوار مسجد الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، على ما
يأتي. وفى كتاب أبى داود عن معقل بن يسار قال: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:" قرءوا يس على موتاكم". وذكر الآجري من حديث أم الدرداء «1»
عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" ما من ميت يقرأ عليه سورة
يس إلا هون الله عليه. وفي مسند الدارمي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" من قرأ سورة يس في ليلة ابتغاء وجه الله غفر له
في تلك الليلة" خرجه أبو نعيم الحافظ أيضا. وروى الترمذي عن أنس قال: قال
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" إن لكل شيء قلبا وقلب القرآن
يس ومن قرأ يس كتب الله له بقراءتها قراءة القرآن عشر مرات" قال: هذا حديث
غريب، وفي إسناده هارون أبو محمد شيخ مجهول، وفي الباب عن أبي بكر الصديق، ولا يصح
حديث أبي بكر من قبل إسناده، وإسناده ضعيف. وعن عائشة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" إن في القرآن لسورة تشفع لقرائها ويغفر لمستمعها
ألا وهي سورة يس تدعى في التوراة المعمة" قيل: يا رسول الله وما المعمة؟ قال:"
تعم صاحبها بخير الدنيا وتدفع عنه أهاويل الآخرة وتدعى الدافعة والقاضية"
قيل: يا رسول الله وكيف ذلك؟ قال:" تدفع عن صاحبها كل سوء وتقضي له كل حاجة
ومن قرأها عدلت له عشرين حجة ومن سمعها كانت له كألف دينار تصدق بها في سبيل الله
ومن كتبها وشربها أدخلت جوفه ألف دواء وألف نور وألف يقين وألف رحمة وألف رأفة
وألف هدى ونزع
__________
(1). كذا في نسخ الأصل والذي في الدر المنثور: أبي الدردا.
عنه
كل داء وغل". ذكره الثعلبي من حديث عائشة، والترمذي الحكيم في نوادر الأصول
من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه مسندا. وفي مسند الدارمي عن شهر بن حوشب قال
قال ابن عباس: من قرأ" يس" حين يصبح أعطي يسر يومه حتى يمسي ومن قرأها
في صدر ليلته أعطي يسر ليلته حتى يصبح. وذكر النحاس عن عبد الرحمن بن أبي ليلى
قال: لكل شي قلب وقلب القرآن يس من قرأها نهارا كفي همه ومن قرأها ليلا غفر ذنبه.
وقال شهر ابن حوشب: يقرأ أهل الجنة" طه" و" يس" فقط. رفع هذه
الأخبار الثلاثة الماوردي فقال: روى الضحاك عن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إن لكل شي قلبا وإن قلب القرآن يس ومن قرأها في
ليلة أعطي يسر تلك الليلة ومن قرأها في يوم أعطي يسر ذلك اليوم وإن أهل الجنة يرفع
عنهم القرآن فلا يقرءون شيئا إلا طه ويس". وقال يحيى بن أبي كثير: بلغني أن
من قرأ سورة" يس" ليلا لم يزل في فرح حتى يصبح، ومن قرأها حين يصبح لم
يزل في فرح حتى يمسي، وقد حدثني من جربها، ذكره الثعلبي وابن عطية، قال ابن عطية: ويصدق
ذلك التجربة. وذكر الترمذي الحكيم في نوادر الأصول عن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد
بن الصلت عن عمر بن ثابت عن محمد بن مروان عن أبي جعفر قال: من وجد في قلبه قساوة
فليكتب" يس" في جام بزعفران ثم يشربه، حدثني أبي رحمه الله قال: حدثنا
أصرم بن حوشب، عن بقية بن الوليد، عن المعتمر بن أشرف، عن محمد بن علي قال: قال
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" القرآن أفضل من كل شي دون الله
وفضل القرآن على سائر الكلام كفضل الله على خلقه فمن وقر القرآن فقد وقر الله ومن
لم يوقر القرآن لم يوقر الله وحرمة القرآن عند الله كحرمة الوالد على ولده. القرآن
شافع مشفع وما حل «1» مصدق فمن شفع له القرآن شفع ومن محل به القرآن ص، دق ومن
جعله أمامه قاده إلى الجنة ومن جعله خلفه ساقه إلى النار. وحملة القرآن هم
المحفوفون بحرمة الله الملبسون نور الله المعلمون كلام الله من والاهم فقد والى الله
ومن عاداهم فقد عادى الله، يقول الله تعالى: يا حملة القرآن
__________
(1). قال ابن الأثير: ما حل أي خصم مجادل مصدق.
يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5)
استجيبوا
لربكم بتوقير كتابه يزدكم حبا ويحببكم إلى عباده يدفع عن مستمع القرآن بلوى الدنيا
ويدفع عن تالي «1» القرآن بلوى الآخرة ومن استمع آية من كتاب الله كان له أفضل مما
تحت العرش إلى التخوم وإن في كتاب الله لسورة تدعى العزيزة ويدعى صاحبها الشريف
يوم القيامة تشفع لصاحبها في أكثر من ربيعة ومضر وهي سورة يس". وذكر الثعلبي
عن أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" من قرأ
سورة يس ليلة الجمعة أصبح مغفورا له". وعن أنس أن رسول الله صلى قال:"
من دخل المقابر فقرأ سورة يس خفف الله عنهم يومئذ وكان له بعدد حروفها
حسنات".
[سورة يس (36): الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلى
صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (4)
تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5)
قوله تعالى:" يس" في" يس" أوجه من القراءات: قرأ أهل المدينة
والكسائي" يس والقرآن الحكيم" بإدغام النون في الواو. وقرا أبو عمرو
والأعمش وحمزة" يس" بإظهار النون. وقرا عيسى بن عمر" يسن"
بنصب النون. وقرا ابن عباس وابن أبي إسحاق ونصر بن عاصم" يسن" بالكسر.
وقرا هارون الأعور ومحمد بن السميقع" يسن" بضم النون، فهذه خمس قراءات.
القراءة الأولى بالإدغام على ما يجب في العربية، لأن النون تدغم في الواو. ومن بين
قال سبيل حروف الهجاء أن يوقف عليها، وإنما يكون الإدغام في الإدراج. وذكر سيبويه
النصب وجعله من جهتين: إحداهما أن يكون مفعولا ولا يصرفه، لأنه عنده اسم أعجمي
بمنزلة هابيل، والتقدير أذكر يسئن. وجعله سيبويه اسما للسورة. وقوله الآخر أن يكون
مبنيا على الفتح مثل كيف وأين. وأما الكسر فزعم الفراء أنه مشبه بقول العرب جير لا
أفعل، فعلى هذا يكون" يسن" قسما. وقاله ابن عباس. وقيل: مشبه بأمس وحذام
وهؤلاء ورقاش. وأما الضم فمشبه بمنذ وحيث وقط، وبالمنادي المفرد إذا قلت يا رجل،
لمن يقف عليه. قال ابن السميقع وهارون: وقد جاء في تفسيرها
__________
(1). الزيادة من" نوادر الأصول" للترمذي الحكيم.
يا
رجل فالأولى بها الضم. قال ابن الأنباري"" يس" وقف حسن لمن قال هو
افتتاح للسورة. ومن قال: معنى" يس" يا رجل لم يقف عليه. وروي عن ابن
عباس مسعود وغيرهما أن معناه يا إنسان، وقالوا في قوله تعالى:" سَلامٌ عَلى
إِلْ ياسِينَ" [الصافات: 130] أي على آل محمد. وقال سعيد بن جبير: هو اسم من
أسماء محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ودليله" إِنَّكَ لَمِنَ
الْمُرْسَلِينَ". قال السيد الحميري:
يا نفس لا تمحضي بالنصح جاهدة ... وعلى المودة إلا آل ياسين
وقال أبو بكر الوراق: معناه يا سيد البشر. وقيل: إنه اسم من أسماء الله، قال مالك.
روى عنه أشهب قال: سألته هل ينبغي لأحد أن يتسمى بياسين؟ قال: ما أراه ينبغي لقول
الله:" يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ" يقول هذا اسمي يس. قال ابن العربي
هذا كلام بديع، وذلك أن العبد يجوز له أن يتسمى باسم الرب إذا كان فيه معنى منه،
كقوله: عالم وقادر ومريد ومتكلم. وإنما منع مالك من بالتسمية" يسئن"،
لأنه اسم من أسماء الله لا يدرى معناه، فربما كان معناه ينفرد به الرب فلا يجوز أن
يقدم عليه العبد. فإن قيل فقد قال الله تعالى:" سَلامٌ عَلى إِلْ
ياسِينَ" [الصافات: 130] «1» قلنا: ذلك مكتوب بهجاء فتجوز التسمية به، وهذا
الذي ليس بمتهجى هو الذي تكلم مالك عليه، لما فيه من الإشكال، والله أعلم. وقال
بعض العلماء: افتتح الله هذه السورة بالياء والسين وفيهما مجمع الخير: ودل المفتتح
على أنه قلب، والقلب أمير على الجسد، وكذلك" يس" أمير على سائر السور،
مشتمل على جميع القرآن. ثم اختلفوا فيه أيضا، فقال سعيد بن جبير وعكرمة: هو بلغة
الحبشة. وقال الشعبي: هو بلغة طي. الحسن: بلغة كلب. الكلبي: هو بالسريانية فتكلمت
به العرب فصار من لغتهم. وقد مضى هذا المعنى في [طه ] وفي مقدمة الكتاب مستوفى.
وقد سرد القاضي عياض أقوال المفسرين في معنى" يس" فحكى أبو محمد مكي أنه
روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: لي عند ربي عشرة أسماء"
ذكر أن منها طه ويس اسمان له.
__________
(1). راجع ج 11 ص 165 وما بعدها طبعه أولى أو ثانية. وج 1 ص 67 وما بعدها طبعه
ثانية.
قلت:
وذكر الماوردي عن علي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يقول" إن الله تعالى أسماني في القرآن سبعة أسماء محمد وأحمد وطه
ويس والمزمل والمدثر وعبد الله" قاله القاضي. وحكى أبو عبد الرحمن السلمي عن
جعفر الصادق أنه أراد يا سيد، مخاطبة لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعن
ابن عباس:" يس" يا إنسان أراد محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقال: هو قسم وهو من أسماء الله سبحانه. وقال الزجاج: قيل معناه يا محمد وقيل يا
رجل وقيل يا إنسان. وعن ابن الحنفية:" يس" يا محمد. وعن كعب:"
يس" قسم أقسم الله به قبل أن يخلق السماء والأرض بألفي عام قال «1» يا
محمد:" إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ" ثم قال:" وَالْقُرْآنِ
الْحَكِيمِ". فإن قدر أنه من أسمائه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وصح
فيه أنه قسم كان فيه من التعظيم ما تقدم، مو كد فيه القسم عطف القسم الآخر عليه.
وإن كان بمعنى النداء فقد جاء قسم آخر بعده لتحقيق رسالته والشهادة بهدايته. أقسم
الله تعالى باسمه وكتابه أنه لمن المرسلين بوحيه إلى عباده، وعلى صراط مستقيم من
إيمانه، أي طريق لا اعوجاج فيه ولا عدول عن الحق. قال النقاش: لم يقسم الله تعالى
لأحد من أنبيائه بالرسالة في كتابه إلا له، وفية من تعظيمه وتمجيده على تأويل من
قال إنه يا سيد ما فيه، وقد قال عليه السلام:" أنا سيد ولد آدم" انتهى
كلامه. وحكى القشيري قال ابن عباس: قالت كفار قريش لست مرسلا وما أرسلك الله
إلينا، فأقسم الله بالقرآن المحكم أن محمدا من المرسلين." والْحَكِيمِ"
المحكم حتى لا يتعرض لبطلان وتناقض، كما قال:" أُحْكِمَتْ آياتُهُ" وكذلك
أحكم في نظمه ومعانيه فلا يلحقه خلل. وقد يكون" الْحَكِيمِ" في حق الله
بمعنى المحكم بكسر الكاف كا لأليم بمعنى المؤلم" عَلى صِراطٍ
مُسْتَقِيمٍ" أي دين مستقيم وهو الإسلام. وقال الزجاج: على طريق الأنبياء
الذين تقدموك، وقال:" إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ" خبر إن، و"
عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ" خبر ثان، أي إنك لمن المرسلين، وإنك على صراط
مستقيم. وقيل: المعنى لمن المرسلين على استقامة، فيكون قوله:" عَلى صِراطٍ
مُسْتَقِيمٍ" من صلة الْمُرْسَلِينَ، أي إنك لمن المرسلين
__________
(1). زيادة يقتضيها المقام، ويدل عليها ما ورد في" الدر المنثور"
السيوطي عن كعب.
لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8)
الذين
أرسلوا على طريقة مستقيمة، كقوله تعالى:" وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ
مُسْتَقِيمٍ. صراط الله" أي الصراط الذي أمر الله به. قوله تعالى:"
تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ" قرأ ابن عامر وحفص والأعمش ويحيى وحمزة
والكسائي وخلف:" تنزيل" بنصب اللام على المصدر، أي نزل الله ذلك تنزيلا.
وأضاف المصدر فصار معرفة كقوله:" فَضَرْبَ الرِّقابِ" [محمد: 4] أي
فضربا للرقاب. الباقون" تَنْزِيلَ" بالرفع على خبر ابتداء محذوف أي هو
تنزيل، أو الذي أنزل إليك تنزيل العزيز الرحيم. هذا وقرى:" تنزيل" بالجر
على البدل من" الْقُرْآنِ" والتنزيل يرجع إلى الْقُرْآنِ. وقيل: إلى
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أي إنك لمن المرسلين، وإنك"
تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ". فالتنزيل على هذا بمعنى الإرسال، قال الله
تعالى:" قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً. رَسُولًا يَتْلُوا"
[الطلاق: 11- 10] ويقال: أرسل الله المطر وأنزله بمعنى. ومحمد صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رحمة الله أنزلها من السماء. ومن نصب قال: إِنَّكَ لَمِنَ
الْمُرْسَلِينَ إرسالا من العزيز الرحيم. و" الْعَزِيزِ" المنتقم ممن
خالفه" الرَّحِيمِ" بأهل طاعته.
[سورة يس (36): الآيات 6 الى 8]
لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ
الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنا فِي
أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8)
قوله تعالى:" لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ""
قَوْماً" لا موضع لها من الإعراب عند أكثر أهل التفسير منهم قتادة، لأنها نفي
والمعنى: لتنذر قوما ما أتى آباءهم قبلك نذير. وقيل: هي بمعنى الذي فالمعنى:
لتنذرهم مثل ما أنذر آباؤهم، قاله ابن عباس وعكرمة وقتادة أيضا. وقيل: إن"
قَوْماً" والفعل مصدر، أي لتنذر قوما إنذار آبائهم. ثم يجوز أن تكون العرب قد
بلغتهم بالتواتر أخبار الأنبياء، فالمعنى لم ينذروا برسول من أنفسهم. ويجوز أن
يكون بلغهم الخبر ولكن غفلوا وأعرضوا ونسوا. ويجوز أن يكون هذا خطابا لقوم لم
يبلغهم خبر نبي، وقد قال الله:" وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها
وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ"
[سبأ: 44] وقال:" لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ" [السجدة: 3] أي لم يأتهم نبي. وعلى قول من قال بلغهم خبر الأنبياء، فالمعنى فهم معرضون ألان متغافلون عن ذلك ويقال لامرض عن الشيء انه غافل عنه. وقيل:" فَهُمْ غافِلُونَ" عن عقاب الله. قوله تعالى:" لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ" أي وجب العذاب على أكثرهم" فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ" بإنذارك. وهذا فيمن سبق في علم الله أنه يموت على كفره. ثم بين سبب تركهم الإيمان فقال:" إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا". قيل: نزلت في أبي جهل ابن هشام وصاحبيه المخزوميين، وذلك أن أبا جهل حلف لئن رأى محمدا يصلي ليرضخن رأسه بحجر، فلما رآه ذهب فرفع حجرا ليرميه، فلما أومأ إليه رجعت يده إلى عنقه، والتصق الحجر بيده، قاله ابن عباس وعكرمة وغيرهما، فهو على هذا تمثيل أي هو بمنزلة من غلت يده إلى عنقه، فلما عاد إلى أصحابه أخبرهم بما رأى، فقال الرجل الثاني وهو الوليد بن المغيرة: أنا أرضخ رأسه. فأتاه وهو يصلي على حالته ليرميه بالحجر فأعمى الله بصره فجعل يسمع صوته ولا يراه، فرجع إلى أصحابه فلم يرهم حتى نادوه فقال: والله ما رأيته ولقد سمعت صوته. فقال الثالث: والله لأشدخن أنا رأسه. ثم أخذ الحجر وانطلق فرجع القهقرى ينكص على عقبيه حتى خر على قفاه مغشيا عليه. فقيل له: ما شأنك؟ قال شأني عظيم رأيت الرجل فلما دنوت منه، وإذا فحل يخطر بذنبه ما رأيت فحلا قط أعظم منه حال بيني وبينه، فو اللات والعزى لو دنوت منه لأكلني. فأنزل الله تعالى:" إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ". وقرا ابن عباس:" إنا جعلنا في أيمانهم". وقال الزجاج: وقرى" إنا جعلنا في أيديهم". قال النحاس: وهذه القراءة تفسير ولا يقرأ بما خالف المصحف. وفي الكلام حذف على قراءة الجماعة، التقدير: إنا جعلنا في أعناقهم وفي أيديهم أغلالا فهي إلى الأذقان، فهي كناية عن الأيدي لا عن الأعناق، والعرب تحذف مثل هذا. ونظيره:" سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ" [النحل: 81] وتقديره وسرابيل تقيكم البرد فحذف، لأن ما وقى من الحر وقى من البرد، لأن الغل إذا كان في العنق فلا بد أن يكون في اليد، ولا سيما
وقد
قال الله عز وجل:" فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ" فقد علم أنه يراد به
الأيدي." فَهُمْ مُقْمَحُونَ" أي رافعو رؤوسهم لا يستطيعون الإطراق، لأن
من علت يده إلى ذقنه ارتفع رأسه. روى عبد الله بن يحيى: أن علي بن أبي طالب عليه
السلام أراهم الإقماح، فجعل يديه تحت لحيته وألصقهما ورفع رأسه. قال النحاس، وهذا
أجل ما روي فيه وهو مأخوذ مما حكاه الأصمعي. قال: يقال أقمحت الدابة إذا جذبت
لجامها لترفع رأسها. قال النحاس: والقاف مبدلة من الكاف لقربها منها. كما يقال:
قهرته وكهرته. قال الأصمعي: يقال أكمحت الدابة إذا جذبت عنانها حتى ينتصب رأسها.
ومنه قول الشاعر:
... والرأس مكمح «1»
ويقال: أكمحتها وأكفحتها وكبحتها، هذه وحدها بلا ألف عن الأصمعي. وقمح البعير
قموحا إذا رفع رأسه عند الحوض وامتنع من الشرب، فهو بعير قامح وقمح، يقال: شرب
فتقمح وانقمح بمعنى إذا رفع رأسه وترك الشرب ريا. وقد قامحت إبلك: إذا وردت ولم
تشرب، ورفعت رأسها من داء يكون بها أو برد. وهي إبل مقامحة، وبعير مقامح، وناقة
مقامح أيضا، والجمع قماح على غير قياس، قال بشر يصف سفينة:
ونحن على جوانبها قعود ... ونغض الطرف كالإبل القماح
والإقماح: رفع الرأس وغض البصر، يقال: أقمحه الغل إذا ترك رأسه مرفوعا من ضيقه.
وشهرا قماح: أشد ما يكون من البرد، وهما الكانونان
سميا بذلك، لأن الإبل إذا وردت آذاها برد الماء فقامحت رءوسها، ومنه قمحت «2»
السويق. وقيل: هو مثل ضربه الله تعالى لهم في امتناعكم من الهدى كامتناع المغلول،
قال يحيى بن سلام وأبو عبيدة. وكما يقال: فلان حمار، أي لا يبصر الهدى. وكما قال:
لهم عن الرشد أغلال وأقياد
__________
(1). للبيت الذي الرمة وتمامه:
تمور بضبعيها وترمى بجوزها ... وحذارا من الإيعاد والرأس مكمح
(2). قمح السويق (بكسر الميم) إذا استفه.
وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11)
وفي
الخبر: أن أبا ذؤيب كان يهوى امرأة في الجاهلية، فلما أسلم راودته فأبى وأنشأ
يقول:
فليس كعهد الدار يا أم مالك ... وولكن أحاطت بالرقاب السلاسل
وعاد الفتى كالكهل ليس بقائل ... وسوى العدل شيئا فاستراح العواذل «1»
أراد منعنا بموانع الإسلام عن تعاطي الزنى والفسق. وقال الفراء أيضا: هذا ضرب مثل،
أي حبسناهم عن الإنفاق في سبيل الله، وهو كقوله تعالى:" وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ
مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ" [الإسراء: 29] وقال الضحاك. وقيل: إن هؤلاء صاروا
في الاستكبار عن الحق كمن جعل في يده غل فجمعت إلى عنقه، فبقي رافعا رأسه لا
يخفضه، وغاضا بصره لا يفتحه. والمتكبر يوصف بانتصاب العنق. وقال الأزهري: إن
أيديهم لما علت عند أعناقهم رفعت الأغلال أذقانهم ورءوسهم صعدا كالإبل ترفع
رءوسها. وهذا المنع بخلق الكفر في قلوب الكفار، وعند قوم بسلبهم التوفيق عقوبة لهم
على كفرهم. وقيل: الآية إشارة إلى ما يفعل بأقوام غدا في النار من وضع الأغلال في
أعناقهم والسلاسل، كما قال تعالى:" إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ
وَالسَّلاسِلُ" [غافر: 71] وأخبر عنه بلفظ الماضي." فَهُمْ
مُقْمَحُونَ" تقدم تفسيره. وقال مجاهد:" مُقْمَحُونَ" مغلون عن كل
خير.
[سورة يس (36): الآيات 9 الى 11]
وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا
فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (9) وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ
أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ
الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ
كَرِيمٍ (11)
قوله تعالى:" وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ
سَدًّا" قال مقاتل: لما عاد أبو جهل إلى أصحابه، ولم يصل إلى النبي صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وسقط الحجر من يده، أخذ
__________
(1). يقول: رجع الفتى عما كان عليه من فتوته، وصار كأنه كهل، فاستراح العواذل
لأنهم لا يجدن ما يعذلن فيه. سوى العدل. أي سوى الحق.
الحجر
رجل آخر من بني مخزوم وقال: أقتله بهذا الحجر. فلما دنا من النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طمس الله على بصره فلم ير النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فرجع إلى أصحابه فلم يبصرهم حتى نادوه، فهذا معنى الآية. وقال محمد بن
إسحاق في روايته: جلس عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو جهل وأمية بن خلف، يرصدون النبي
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليبلغوا من أذاه، فخرج عليهم عليه السلام وهو
يقرأ" يس" وفي يده تراب فرماهم به وقرا:" وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ
أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا" فأطرقوا حتى مر عليهم عليه
السلام. وقد مضى هذا في سورة" سبحان" «1» ومضى في" الكهف" «2»
الكلام في" سدا" بضم السين وفتحها وهما لغتان." فَأَغْشَيْناهُمْ"
أي غطينا أبصارهم، وقد مضى في أول [البقرة «3»]. وقرا ابن عباس وعكرمة ويحيى بن
يعمر" فأعشيناهم" بالعين غير معجمة من العشاء في العين وهو ضعف بصرها
حتى لا تبصر بالليل قال:
متى تأته تعشو إلى ضوء ناره «4»
وقال تعالى:" ومن يعش عن ذكر الرحمن" [الزخرف: 36] الآية. والمعنى
متقارب، والمعنى أعميناهم، كما قال:
ومن الحوادث لا أبا لك أنني ... وضربت علي الأرض بالأسداد
لا أهتدي فيها لموضع تلعة ... وبين العذب وبين أرض مراد
" فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ" أي الهدى، قاله قتادة. وقيل: محمدا حين
ائتمروا على قتله، قاله السدي. وقال الضحاك:" وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ
أَيْدِيهِمْ سَدًّا" أي الدنيا" وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا" أي
الآخرة أي عموا عن البعث وعموا عن قبول الشرائع في الدنيا، قال الله تعالى:"
وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما
خَلْفَهُمْ" أي زينوا لهم الدنيا ودعوهم الى التكذيب بالأخرة. وقيل: على
هذا" مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا" أي غرورا بالدنيا" وَمِنْ
خَلْفِهِمْ سَدًّا" أي تكذيبا بالأخرة وقيل:" مِنْ بَيْنِ
أَيْدِيهِمْ" الآخرة" وَمِنْ خَلْفِهِمْ" الدنيا." وَسَواءٌ
عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ تقدم في"
البقرة" «5» والآية رد على القدرية وغيرهم.
__________
(1). راجع ج 10 ص 269 طبعه أولى أو ثانيه.
(2). راجع ج 11 ص 59 طبعه أولى أو ثانيه.
(3). راجع ج 1 ص 191 طبعه ثانيه أو ثالثه.
(4). هو الحطيئة وتمام البيت:
تجد خير نار عندها خير موقد
(5). راجع ج 8 ص 184 طبعه ثانيه أو ثالثه.
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)
وعن
ابن شهاب: أن عمر بن عبد العزيز أحضر غيلان القدري فقال: يا غيلان بلغني أنك تتكلم
بالقدر، فقال: يكذبون على يا أمير المؤمنين. ثم قال: يا أمير المؤمنين أرأيت قول
الله تعالى:" إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ
نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً. إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا
شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً" [الإنسان: 3- 2] قال: اقرأ يا غيلان فقرأ حتى
انتهى إلى قوله:" فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا"
[الإنسان: 29] فقال اقرأ فقال:" وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ
اللَّهُ" [الإنسان: 30] فقال: والله يا أمير المؤمنين إن شعرت أن هذا في كتاب
الله قط. فقال له: يا غيلان اقرأ أول سورة [يس ] فقرأ حتى بلغ" وَسَواءٌ
عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ" فقال
غيلان: والله يا أمير المؤمنين كأني لم أقرأها قط قبل اليوم، اشهد يا أمير
المؤمنين أني تائب. قال عمر: اللهم إن كان صادقا فتب عليه وثبته، وإن كان كاذبا
فسلط عليه من لا يرحمه واجعله آية للمؤمنين، فأخذه هشام فقطع يديه ورجليه وصلبه.
وقال ابن عون: فأنا رأيته مصلوبا على باب دمشق. فقلنا: ما شأنك يا غيلان؟ فقال:
أصابتني دعوة الرجل الصالح عمر بن عبد العزيز. قوله تعالى:" إِنَّما تُنْذِرُ
مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ" يعني القرآن وعمل به." وَخَشِيَ الرَّحْمنَ
بِالْغَيْبِ" أي ما غاب من عذابه وناره، قاله قتادة. وقيل: أي يخشاه في مغيبه
عن أبصار الناس وانفراده بنفسه." فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ" أي لذنبه"
وَأَجْرٍ كَرِيمٍ" أي الجنة.
[سورة يس (36): آية 12]
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ
شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (12)
فيه أربع مسائل الاولى- قوله تعالى:" إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى "
أخبرنا تعالى بإحيائه الموتى ردا على الكفرة. وقال الضحاك والحسن: أي نحييهم
بالإيمان بعد الجهل، والأول أظهر أي نحييهم بالبعث للجزاء. ثم توعدهم بذكره كتب
الآثار وهي الثانية- وإحصاء كل شي وكل ما يصنعه الإنسان. قال قتادة: معناه من عمل.
وقاله مجاهد وابن زيد. ونظيره قوله:" عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ":
[الانفطار: 5] وقوله:" يُنَبَّأْ
الْإِنْسانُ
يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ
" [القيامة: 13]، وقال:" اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما
قَدَّمَتْ لِغَدٍ" [الحشر: 18] فآثار المرء التي تبقى وتذكر بعد الإنسان من
خير أو شر يجازى عليها: من أثر حسن، كعلم علموه، أو كتاب صنفوه، أو حبيس احتبسوه،
أو بناء بنوه من مسجد أو رباط أو قنطرة أو نحو ذلك. أو سيئ كوظيفة وظفها بعض
الظلام على المسلمين، وسكة أحدثها فيها تخسيرهم، أو شي أحدثه فيه صد عن ذكر الله
من ألحان وملاه، وكذلك كل سنة حسنة، أو سيئة يستن بها. وقيل: هي آثار المشاءين إلى
المساجد. وعلى هذا المعنى تأول الآية عمر وابن عباس وسعيد بن جبير. وعن ابن عباس
أيضا أن معنى:" وآثارهم" خطاهم إلى المساجد. قال النحاس: وهذا أولى ما
قيل فيه، لأنه قال: إن الآية نزلت في ذلك، لأن الأنصار كانت منازلهم بعيدة عن
المسجد. وفي الحديث مرفوعا إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قال:" يكتب له برجل حسنة وتحط عنه برجل سيئه ذاهبا وراجعا إذ اخرج إلى
المسجد". قلت: وفي الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال: كانت بنو سلمة «1» في
ناحية المدينة فأرادوا النقلة إلى قرب المسجد فنزلت هذه الآية:" إِنَّا
نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ" فقال رسول
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" إن آثاركم تكتب" فلم ينتقلوا.
قال: هذا حديث حسن «2» غريب من حديث الثوري. وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله
قال: أراد بنو سلمة أن يتحولوا إلى قرب المسجد، قال: والبقاع خالية، قال: فبلغ ذلك
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال:" يا بني سلمة دياركم تكتب
آثاركم دياركم تكتب آثاركم" فقالوا: ما كان يسرنا أنا كنا تحولنا. وقال ثابت
البناني: مشيت مع أنس بن مالك إلى الصلاة فأسرعت، فحبسني فلما انقضت الصلاة قال:
مشيت مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأسرعت، فحبسني فلما انقضت
الصلاة قال:" أما علم أن الآثار تكتب" فهذا احتجاج بالآية. وقال قتادة
ومجاهد أيضا والحسن: الآثار في هذه الآية الخطا. وحكى الثعلبي عن أنس أنه قال:
الآثار هي الخطا إلى الجمعة. وواحد الآثار أثر ويقال أثر.
__________
(1). سلمة بكسر اللام بطن من الأنصار. [.....]
(2). الزيادة من صحيح الترمذي.
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17) قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19)
الثالثة-
في هذه الأحاديث المفسرة لمعنى الآية دليل على أن البعد من المسجد أفضل، فلو كان
بجوار مسجد، فهل له أن يجاوزه إلى الأبعد؟ أختلف فيه، فروي عن أنس أنه كان يجاوز
المحدث إلى القديم. وروي عن غيره: الأبعد فالأبعد من المسجد أعظم أجرا. وكره الحسن
وغيره هذا، وقال: لا يدع مسجدا قربه ويأتي غيره. وهذا مذهب مالك. وفي تخطي مسجده
إلى المسجد الأعظم قولان. وخرج ابن ماجة من حديث أنس بن مالك قال: قال رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" صلاة الرجل في بيته بصلاة وصلاته في
مسجد القبائل بخمس وعشرين صلاة وصلاته في المسجد الذي يجمع «1» فيه بخمسمائة
صلاة"." دياركم" منصوب على الإغراء أي ألزموا و"
نَكْتُبُ" جزم على جواب ذلك الأمر." وكُلَّ" نصب بفعل مضمر يدل
عليه" أَحْصَيْناهُ" كأنه قال: وأحصينا كل شي أحصيناه. ويجوز رفعه بالابتداء
إلا أن نصبه أولى، ليعطف ما عمل فيه الفعل على ما عمل فيه الفعل. وهو قول الخليل
وسيبويه. والإمام: الكتاب المقتدى به الذي هو حجة. وقال مجاهد وقتادة وابن زيد:
أراد اللوح المحفوظ. وقالت فرقة: أراد صحائف الأعمال.
[سورة يس (36): الآيات 13 الى 19]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13)
إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ
فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ
مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (15)
قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَما عَلَيْنا
إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (17)
قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ
وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (18) قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ
ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19)
__________
(1). يجمع (بالتشديد) من التجمع، أي يصلى فيه الجمعة.
خطاب
للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر أن يضرب لقومه مثلا بأصحاب القرية
«1» هذه القرية هي أنطاكية في قول جميع المفسرين فيما ذكر الماوردي. نسبت إلى أهل
أنطبيس وهو اسم الذي بناها ثم غير لما عرب، ذكره السهيلي. ويقال فيها: أنتاكية
بالتاء بدل الطاء. وكان بها فرعون يقال له أنطيخس بن أنطيخس يعبد الأصنام، ذكره
المهدوي، وحكاه أبو جعفر النحاس عن كعب ووهب. فأرسل الله إليه ثلاثة: وهم صادق،
وصدوق، وشلوم هو الثالث. هذا قول الطبري. وقال غيره: شمعون ويوحنا. وحكى النقاش:
سمعان ويحيى ولم يذكرا صادقا ولا صدوقا. ويجوز أن يكون" مَثَلًا"
و" أَصْحابَ الْقَرْيَةِ" مفعولين ل اضْرِبْ، أو" أَصْحابَ
الْقَرْيَةِ" بدلا من" مَثَلًا" أي اضرب لهم مثل أصحاب القرية فحذف
المضاف. أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإنذار هؤلاء المشركين أن
يحل بهم ما حل بكفار أهل القرية المبعوث إليهم ثلاثة رسل. قيل: رسل من الله على
الابتداء. وقيل: إن عيسى بعثهم إلى أنطاكية للدعاء إلى الله .. أضاف الرب ذلك إلى
نفسه، لأن عيسى أرسلهما بأمر الرب، وكان ذلك حين رفع عيسى إلى السماء. قيل ضربوهما
وسجنوهما." فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ" أي فقوينا وشددنا الرسالة"
بِثالِثٍ". وقرا أبو بكر عن عاصم" فعززنا بثالث" بالتخفيف وشدد
الباقون. قال الجوهري: وقول تعالى:" فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ" يخفف ويشدد، أي
قوينا وشددنا. قال الأصمعي: أنشدني فيه أبو عمرو بن العلاء للمتلمس:
أجد إذا رحلت «2» تعزز لحمها ... وإذا تشد بنسعها لا تنبس
أي لا ترغو، فعلى هذا تكون القراءتان بمعنى. وقيل: التخفيف بمعنى غلبنا وقهرنا
ومنه" وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ" [ص: 23]. والتشديد بمعنى قوينا وكثرنا.
وفي القصة: أن عيسى أرسل
__________
(1). الزيادة من حاشية جمل ان القربى.
(2). وفي السان: أجد إذا ضمرت. ويروى في غيره: عنس إذا ضمرت.
إليهم رسولين فلقيا شيخا يرعى غنيمات له وهو حبيب النجار صاحب" يس" فدعوه إلى الله وقالا: نحن رسولا عيسى ندعوك إلى عبادة الله. فطالبهما بالمعجزة فقالا: نحن نشفي المرضى وكان له ابن مجنون. وقيل: مريض على الفراش فمسحاه، فقام بإذن الله صحيحا، فآمن الرجل بالله. وقيل: هو الذي جاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى ، ففشا أمرهما، وشفيا كثيرا من المرضى، فأرسل الملك إليهما- وكان يعبد الأصنام- يستخبرهما فقالا: نحن رسولا عيسى. فقال: وما آيتكما؟ قالا: نبرئ الأكمه والأبرص ونبرئ المريض بإذن الله، وندعوك إلى عبادة الله وحده. فهم الملك بضربهما. وقال وهب: حبسهما الملك وجلدهما مائة جلدة، فانتهى الخبر إلى عيسى فأرسل ثالثا. قيل: شمعون الصفا رأس الحواريين لنصرهما، فعاشر حاشية الملك حتى تمكن منهم، واستأنسوا به، ورفعوا حديثه إلى الملك فأنس به، وأظهر موافقته في دينه، فرضي الملك طريقته، ثم قال يوما للملك: بلغني أنك حبست رجلين دعواك إلى الله، فلو سألت عنهما ما وراءهما. فقال: إن الغضب حال بيني وبين سؤالهما. قال: فلو أحضرتهما. فأمر بذلك، فقال لهما شمعون: ما برهانكما على ما تدعيان؟ فقالا: نبرئ الأكمه والأبرص. فجئ بغلام ممسوح العينين، موضع عينيه كالجبهة، فدعوا ربهما فانشق موضع البصر، فأخذا بندقتين طينا فوضعاهما في خديه، فصارتا مقلتين يبصر بهما، فعجب الملك وقال: إن ها هنا غلاما مات منذ سبعة أيام ولم أدفنه حتى يجئ أبوه فهل يحييه ربكما؟ فدعوا الله علا نية، ودعاه شمعون سرا، فقام الميت حيا، فقال للناس: إني مت منذ سبعة أيام، فوجدت مشركا، فأدخلت في سبعة أودية من النار، فأحذركم ما أنتم فيه فآمنوا بالله، ثم فتحت أبواب السماء، فرأي شابا حسن الوجه يشفع لهؤلاء الثلاثة شمعون وصاحبيه، حتى أحياني الله، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن عيسى روج الله وكلمته، وأن هؤلاء هم رسل الله. فقالوا له وهذا شمعون أيضا معهم؟ قال: نعم وهو أفضلهم. فأعلمهم شمعون أنه رسول المسيح إليهم، فأثر قوله في الملك، فدعاه إلى الله، فآمن الملك في قوم كثير وكفر آخرون. وحكى القشيري أن الملك آمن ولم يؤمن قومه، وصاح جبريل صيحة مات كل من بقي منهم من الكفار.
وروي
أن عيسى لما أمرهم أن يذهبوا إلى تلك القرية قالوا: يا نبي الله إنا لا نعرف أن
نتكلم بألسنتهم ولغاتهم. فدعا الله لهم فناموا بمكانهم، فهبوا من نومتهم قد حملتهم
الملائكة فألقتهم بأرضي أنطاكية، فكلم كل واحد صاحبه بلغة القوم، فذلك قول:"
وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ" [البقرة: 87] فقالوا جميعا:" إِنَّا
إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ" قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا"
تأكلون الطعام وتمشون في الأسواق" وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ يأمر
به ولا من شي»
ينهى عنه" إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ" في دعواكم الرسالة،"
رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ" فقالت الرسل:" رَبُّنا
يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ" وإن كذبتمونا" وَما عَلَيْنا
إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ" في أن الله واحد" قالُوا" لهم"
إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ" أي تشاءمنا بكم. قال مقاتل: حبس عنهم المطر ثلاث
سنين فقالوا هذا بشؤمكم. ويقال إنهم أقاموا ينذرونهم عشر سنين." لَئِنْ لَمْ
تَنْتَهُوا" عن إنذارنا" لَنَرْجُمَنَّكُمْ" قال الفراء: لنقتلنكم.
قال: وعامة ما في القرآن من الرجم معناه القتل. وقال قتادة: هو على بابه من الرجم
بالحجارة. وقيل: لنشتمنكم، وقد تقدم جميعه «2»." وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا
عَذابٌ أَلِيمٌ" قيل: هو القتل. وقيل: هو التعذيب المؤلم. وقيل: هو التعذيب
المؤلم قبل القتل كالسلخ والقطع والصلب. فقالت الرسل:" طائِرُكُمْ
مَعَكُمْ" أي شومكم معكم أي حظكم من الخير والشر معكم ولازم في أعناقكم، وليس
هو من شؤمنا، قال معناه الضحاك. وقال قتادة: أعمالكم معكم. ابن عباس: معناه
الأرزاق والأقدار تتبعكم. الفراء:" طائِرُكُمْ مَعَكُمْ" رزقكم وعملكم،
والمعنى واحد. وقرا الحسن:" أطيركم" أي تطيركم «3»." أَإِنْ
ذُكِّرْتُمْ" قال قتادة: إن ذكرتم تطيرتم. وفية تسعة أوجه من القراءات: قرأ
أهل المدينة" أين ذكرتم" بتخفيف الهمزة الثانية. وقرا أهل الكوفة:"
أإن" بتحقيق الهمزتين. والوجه الثالث:" أاإن ذكرتم" بهمزتين بينهما
ألف أدخلت الألف كراهة للجمع بين الهمزتين. والوجه الرابع" أاين" بهمزة
بعدها ألف وبعد الألف همزة مخففة. والقراءة الخامسة" أاأن" بهمزتين
مفتوحتين بينهما ألف. والوجه السادس" أأن" بهمزتين محققتين مفتوحتين.
وحكى الفراء: أن هذه القراءة قراءة أبي رزين.
__________
(1). زيادة يقتضيها السياق.
(2). راجع ج 9 ص 91 طبعه أولى أو ثانيه.
(3). قال أبو حيان في هذه القراءة:" اطيركم" مصدر أطير الذي فأدغمت
التاء في الطاء، فاجتلبت همزة الوصل في الماضي والمصدر.
وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29)
قلت:
وحكاه الثعلبي عن زر بن حبيش وابن السميق. وقرا عيسى بن عمر والحسن البصري:"
قالوا طائركم معكم أين ذكرتم" بمعنى حيث. وقرا يزيد بن القعقاع والحسن
وطلحة" ذكرتم" بالتخفيف، ذكر جميعه النحاس. وذكر المهدوي عن طلحة بن
مصرف وعيسى الهمذاني:" آن ذكرتم" بالمد، على أن همزة الاستفهام دخلت على
همزة مفتوحة. الماجشون:" أن ذكرتم" بهمزة واحدة مفتوحة. فهذه تسع
قراءات. وقرا ابن هرمز" طيركم معك"." أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ" أي
لإن وعظتم، وهو كلام مستأنف أي إن وعظتم تطيرتم. وقيل: إنما تطيروا لما بلغهم أن
كل نبي دعا قومه فلم يجيب كان عاقبتهم الهلاك. قال قتادة: مسرفون في تطيركم. يحيى
بن سلام: مسرفون في كفركم. وقال ابن بحر: السرف ها هنا الفساد ومعناه بل أنتم قوم
مفسدون. وقيل: مسرفون مشركون، والإسراف مجاوزة الحد والمشرك يجاوز الحد.
[سورة يس (36): الآيات 20 الى 29]
وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا
الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ
(21) وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22)
أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ
عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ
مُبِينٍ (24)
إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا
لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ
الْمُكْرَمِينَ (27) وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ
مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً
واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (29)
هو حبيب بن مري وكان نجارا. وقيل: إسكافا. وقيل: قصارا. وقال ابن عباس ومجاهد
ومقاتل: هو حبيب
ابن
إسرائيل النجار وكان ينحت الأصنام، وهو ممن آمن بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وبينهما ستمائة سنة، كما آمن به تبع الأكبر وورقة بن نوفل وغيرهما. ولم
يؤمن بنبي أحد إلا بعد ظهوره. قال وهب: وكان حبيب مجذوما، ومنزله عند أقصى باب من
أبواب المدينة، وكان يعكف على عبادة الأصنام سبعين سنة يدعوهم، لعلهم يرحمونه
ويكشفون ضره فما استجابوا له، فلما أبصر الرسل دعوه إلى عبادة الله فقال: هل من
آية؟ قالوا: نعم ندعو ربنا القادر فيفرج عنك ما بك. فقال: إن هذا لعجب لي، أدعو
هذه الآلهة سبعين سنة تفرج عني فلم تستطع، فكيف «1» يفرجه ربكم في غداة واحدة؟
قالوا: نعم ربنا على ما يشاء قدير، وهذه لا تنفع شيئا ولا تضر. فآمن ودعوا ربهم
فكشف الله ما به، كأن لم يكن به بأس، فحينئذ أقبل على التكسب، فإذا أم سى تصدق
بكسبه، فأطعم عياله نصفا وتصدق بنصف، فلما هم قومه بقتل الرسل جاءهم. ف" قالَ
يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ" الآية قال قتادة: كان يعبد الله في
غار، فلما سمع بخبر المرسلين جاء يسعى، فقال للمرسلين: أتطلبون على ما جئتم به
أجرا؟ قالوا: لا ما أجرنا إلا على الله. قال أبو العالية: فاعتقد صدقهم وآمن بهم
وأقبل على قومه ف" قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ". أي لو
كانوا متهمين لطلبوا منكم المال" وَهُمْ مُهْتَدُونَ" فاهتدوا
بهم." وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي" قال قتادة: قال له قومه
أنت على دينهم؟! فقال:" وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي" أي
خلقني." وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ" وهذا احتجاج منه عليهم. وأضاف الفطرة
إلى نفسه، لأن ذلك نعمة عليه توجب الشكر، والبعث إليهم: لأن ذلك وعيد يقتضي الزجر،
فكان إضافة النعمة إلى نفسه اظهر شكرا، وإضافة البعث إلى الكافر أبلغ أثرا."
أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً" يعني أصناما." إِنْ يُرِدْنِ
الرَّحْمنُ بِضُرٍّ" يعني ما أصابه من السقم." لا تُغْنِ عَنِّي
شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ" يخلصوني مما أنا فيه من البلاء"
إِنِّي إِذاً" يعني إن فعلت ذلك" لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي خسران
ظاهر." إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ" قال ابن مسعود: خاطب
الرسل بأنه
__________
(1). الزيادة من تفسير الآلوسي.
مؤمن
بالله ربهم، ومعنى" فَاسْمَعُونِ" أي فأشهدوا، أي كونوا شهودي بالإيمان.
وقال كعب ووهب: إنما قال ذلك لقومه إنى آمنت بربكم الذي كفرتم به. وقيل: إنه لما
قال لقومه" اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ. اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ
أَجْراً" رفعوه إلى الملك وقالوا: قد تبعت عدونا، فطول معهم الكلام ليشغلهم
بذلك عن قتل الرسل، إلى أن قال:" إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ" فوثبوا
عليه فقتلوه. قال ابن مسعود: وطئوه بأرجلهم حتى خرج قصبه «1» من دبره، وألقي في
بئر وهي الرس وهم أصحاب الرس. وفي رواية أنهم قتلوا الرسل الثلاثة. وقال السدي
رموه بالحجارة وهو يقول: اللهم أهد قومي حتى قتلوه. وقال الكلبي: حفروا حفرة
وجعلوه فيها، وردموا فوقه التراب فمات ردما. وقال الحسن: حرقوه حرقا، وعلقوه من
سور المدينة وقبره في سور أنطاكية، حكاه الثعلبي. قال القشيري: وقال الحسن لما
أراد القوم أن يقتلوه رفعه الله إلى السماء، فهو في الجنة لا يموت إلا بفناء
السماء وهلاك الجنة، فإذا أعاد الله الجنة أدخلها. وقيل: نشروه بالمنشار حتى خرج
من بين رجليه، فوالله ما خرجت روحه إلا إلى الجنة فدخلها، فذلك قوله:" قِيلَ
ادْخُلِ الْجَنَّةَ" وقال جماعة: معنى" قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ"
وجبت لك الجنة، فهو خبر بأنه قد استحق دخول الجنة: لأن دخولها يستحق بعد البعث.
__________
(1). القصب المعى.
قلت:
والظاهر من الآية أنه لما قتل قيل له ادخل الجنة. قال قتادة: أدخله الله الجنة وهو
فيها حي يرزق، أراد قول تعالى:" وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ" [آل
عمران: 169] على ما تقدم في [آل عمران ] بيانه «1». والله أعلم. قوله تعالى:"
قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ" مرتب على تقدير سؤال سائل عما وجد من
قول عند ذلك الفوز العظيم الذي هو" بِما غَفَرَ لِي رَبِّي" وَجَعَلَنِي
مِنَ الْمُكْرَمِينَ" وقرى" من المكرمين" وفي معنى تمنيه قولان:
أحد هما أنه تمنى أن يعلموا بحاله ليعلموا حسن مآله وحميد عاقبته. الثاني تمنى ذلك
ليؤمنوا مثل إيمانه فيصيروا إلى مثل حاله. قال ابن عباس: نصح قومه حيا وميتا. رفعه
القشيري فقال: وفي الخبر أنه عليه السلام قال في هذه الآية" إنه نصح لهم في
حياته وبعد موته". وقال ابن أبي ليلى: سباق الأمم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة
عين، علي بن أبي طالب وهو أفضلهم، ومؤمن آل فرعون، وصاحب يس، فهم الصديقون. ذكره
الزمخشري مرفوعا عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وفي هذه الآية
تنبيه عظيم، ودلالة على وجوب كظم الغيظ، والحلم عن أهل الجهل، والترؤف على من أدخل
نفسه في غمار الأشرار واهل البغي، والتشمر في تخليصه، والتلطف في افتدائه،
والاشتغال بذلك عن الشماتة به والدعاء عليه. ألا ترى كيف تمنى الخير لقتلته،
والباغين له الغوائل وهم كفرة عبدة أصنام، فلما قتل حبيب غضب الله له وعجل النقمة
على قومه، فأمر جبريل فصاح بهم صيحة فماتوا عن آخرهم، فذلك قوله:" وَما
أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا
مُنْزِلِينَ" أي ما أنزلنا عليهم من رسالة ولا نبي بعد قتله، قال قتادة
ومجاهد والحسن. قال الحسن: الجند الملائكة النازلون بالوحي على الأنبياء. وقيل:
الجند العساكر، أي لم أحتج في هلاكهم إلى إرسال جنود ولا جيوش ولا عساكر بل أهلكهم
بصيحة واحدة. قال معناه ابن مسعود وغيره. فقوله:" وَما كُنَّا
مُنْزِلِينَ" تصغير لأمرهم، أي أهلكناهم بصيحة واحدة من بعد ذلك الرجل، أو من
بعد رفعه إلى السماء. وقيل:" وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ" على من كان
قبلهم.
__________
(1). راجع ج 4 ص 268 وما بعدها طبعه أولى أو ثانيه.
الزمخشري: فان قلت فلم أنزل الجنود من السماء يوم بدر والخندق؟ فقال:" فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها" [الأحزاب 9]، وقال:" بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ" [آل عمران: 24 1]." بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ" [آل عمران: 125]. قلت: إنما كان يكفي ملك واحد، فقد أهلكت مدائن قوم لوط بريشة من جناح جبريل، وبلاد ثمود وقوم صالح بصيحة، ولكن الله فضل محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بكل شي على سائر الأنبياء وأولي العزم من الرسل فضلا عن حبيب النجار، وأولاه من أسباب الكرامة والإعزاز ما لم يوله أحدا، فمن ذلك أنه أنزل له جنودا من السماء، وكأنه أشار بقوله:" وَما أَنْزَلْنا"." وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ" إلى أن إنزال الجنود من عظائم الأمور التي لا يؤهل لها إلا مثلك، وما كنا نفعل لغيرك." إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً" قراءة العامة" واحِدَةً" بالنصب على تقدير ما كانت عقوبتهم إلا صيحة واحدة. وقرا أبو جعفر بن القعقاع وشيبة والأعرج:" صيحة" بالرفع هنا، وفي قوله:" إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ" جعلوا الكون بمعنى الوقوع والحدوث، فكأنه قال: ما وقعت عليهم إلا صيحة واحدة. وأنكر هذه القراءة أبو حاتم وكثير من النحويين بسبب التأنيث فهو ضعيف، كما تكون ما قامت إلا هند ضعيفا من حيث كان المعنى ما قام أحد إلا هند. قال أبو حاتم: فلو كان كما قرأ أبو جعفر لقال: إن كان إلا صيحة. قال النحاس: لا يمتنع شي من هذا، يقال: ما جاءتني إلا جاريتك، بمعنى ما جاءتني امرأة أو جارية إلا جاريتك. والتقدير في القراءة بالرفع ما قاله أبو إسحاق، قال: المعنى إن كانت عليهم صيحة إلا صيحة واحدة، وقدره غيره: ما وقع عليهم إلا صيحة واحدة. وكان بمعنى وقع كثير في كلام العرب. وقرا عبد الرحمن بن الأسود- ويقال إنه في حرف عبد الله كذلك-" إن كانت إلا زقه واحذ". وهذا مخالف للمصحف. وأيضا فإن اللغة المعروفة زقا يزقو إذا صاح، ومنه المثل: أثقل من الزواقي، فكان يجب على هذا أن يكون زقوة. ذكره النحاس.
يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32)
قلت:
وقال الجوهري الزقو والزقي مصدر، وقد زقا الصدى يزقو زقاء: أي صاح، وكل صائح زاق،
والزقية الصيحة. قلت: وعلى هذا يقال: زقوة وزقية لغتان، فالقراء صحيحة لا اعتراض
عليها. والله أعلم." فَإِذا هُمْ خامِدُونَ" أي ميتون هامدون، تشبيها
بالرماد الخامد. وقال قتادة: هلكى. والمعنى واحد.
[سورة يس (36): الآيات 30 الى 32]
يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ
يَسْتَهْزِؤُنَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ
أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا
مُحْضَرُونَ (32)
قوله تعالى:" يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ" منصوب، لأنه نداء نكرة ولا
يجوز فيه غير النصب عند البصريين. وفي حرف أبي" يا حسرة العباد" على
الإضافة. وحقيقة الحسرة في اللغة أن يلحق الإنسان من الندم ما يصير به حسيرا. وزعم
الفراء أن الاختيار النصب، وأنه لو رفعت النكرة الموصولة بالصلة كان صوابا.
واستشهد بأشياء منها أنه سمع من العرب: يا مهتم بأمرنا لا تهتم. وأنشد:
يا دار غيرها البلى تغييرا «1»
قال النحاس: وفي هذا إبطال باب النداء أو أكثره، لأنه يرفع النكرة المحضة، ويرفع
ما هو بمنزلة المضاف في طول، ويحذف التنوين متوسطا، ويرفع ما هو في المعنى مفعول
بغير علة أوجبت ذلك. فأما ما حكاه عن العرب فلا يشبه ما أجازه، لأن تقدير يا مهتم
بأمرنا لا تهتم على التقديم والتأخير، والمعنى يا أيها المهتم لا تهتم بأمرنا.
وتقدير البيت: يا أيتها الدار، ثم حول المخاطبة، أي يا هؤلاء غير هذه الدار البلى،
كما قال الله جل وعز:" حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ
بِهِمْ" [يونس: 22]. ف" حسرة" منصوب على النداء، كما تقول يا رجلا
أقبل، ومعنى النداء
__________
(1). البيت للأحوص، وتمامه:
وسفت عليها الريح بعدك مورا
هذا موضع حضور الحسرة. الطبري: المعنى يا حسرة من العباد على أنفسهم وتندما وتلهفا في استهزائهم برسل عليهم السلام. ابن عباس:" يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ" أي يا ويلا على العباد. وعنه أيضا حل هؤلاء محل من يتحسر عليهم. وروى الربيع عن أنس عن أبي العالية أن العباد ها هنا الرسل، وذلك أن الكفار لما رأوا العذاب قالوا:" يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ" فتحسروا على قتلهم، وترك الإيمان بهم، فتمنوا الإيمان حين لم ينفعهم الإيمان، وقال مجاهد. وقال الضحاك: إنها حسرة الملائكة على الكفار حين كذبوا الرسل. وقيل:" يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ" من قول الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى، لما وثب القوم لقتله. وقيل: إن الرسل الثلاثة هم الذين قالوا لما قتل القوم ذلك الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى، وحل بالقوم العذاب: يا حسرة على هؤلاء، كأنهم أمنوا أن يكونوا قد أمنوا. وقيل: هذا من قول القوم قالوا لما قتلوا الرجل وفارقتهم الرسل، أو قتلوا الرجل مع الرسل الثلاثة، على اختلاف الروايات: يا حسرة على هؤلاء الرسل، وعلى هذا الرجل، ليتنا آمنا بهم في الوقت الذي ينفع الإيمان وتم الكلام على هذا، ثم ابتدأ فقال:" ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ". وقرا ابن هرمز ومسلم بن جندب وعكرمة:" يا حسرة على العباد" بسكون الهاء للحرص على البيان وتقرير المعنى في النفس، إذ كان موضع وعظ وتنبيه والعرب تفعل ذلك في مثله، وإن لم يكن موضعا للوقف. ومن ذلك ما روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يقطع قراءته حرفا حرفا، حرصا على البيان والإفهام. ويجوز أن يكون" عَلَى الْعِبادِ" متعلقا بالحسرة. ويجوز أن يكون متعلقا بمحذوف لا بالحسرة، فكأنه قدر الوقف على الحسرة فأسكن الهاء، ثم قال:" عَلَى الْعِبادِ" أي أتحسر على العباد. وعن ابن عباس والضحاك وغيرهما:" يا حسرة العباد" مضاف بحذف" على". وهو خلاف المصحف. وجاز أن يكون من باب الإضافة إلى الفاعل فيكون العباد فاعلين، كأنهم إذا شاهدوا العذاب تحسروا فهو كقولك يا قيام زيد. ويجوز أن تكون من باب الإضافة إلى المفعول، فيكون العباد مفعولين، فكأن العباد يتحسر عليهم من يشفق لهم. وقراءة من قرأ:" يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ" مقوية لهذا المعنى.
قال
سيبويه:" أن" بدل من" كم"، ومعنى كم ها هنا الخبر، فلذلك جاز
أن يبدل منها ما ليس باستفهام. والمعنى: ألم يروا أن القرون الذين أهلكناهم أنهم
إليهم لا يرجعون. وقال الفراء:" كَمْ" في موضع نصب من وجهين: أحدهما
ب" يَرَوْا" واستشهد على هذا بأنه في قراءة ابن مسعود" ألم يروا من
أهلكنا". والوجه الآخر أن يكون" كَمْ" في موضع نصب ب"
أَهْلَكْنا". قال النحاس: القول الأول محال، لأن" كم" لا يعمل فيها
ما قبلها، لأنها استفهام، ومحال أن يدخل الاستفهام في خبر ما قبله. وكذا حكمها إذا
كانت خبرا، وإن كان سيبويه قد أومأ إلى بعض هذا فجعل" أنهم" بدلا من كم.
وقد رد ذلك محمد بن يزيد أشد رد، وقال:" كَمْ" في موضع نصب ب"
أَهْلَكْنا" و" أَنَّهُمْ" في موضع نصب، والمعنى عنده بأنهم
أي" أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ"
بالاستئصال. قال: والدليل على هذا أنها في قراءة عبد الله" من أهلكنا قبلهم
من القرون أنهم إليهم لا يرجعون". وقرا الحسن:" إنهم إليهم لا
يرجعون" بكسر الهمزة على الاستئناف. وهذه الآية رد على من زعم أن من الخلق من
يرجع قبل القيامة بعد الموت. يريد يوم القيامة للجزاء. وقرا ابن عامر وعاصم
وحمزة:" وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا" بتشديد" لَمَّا". وخفف الباقون.
فإن مخففة من الثقيلة وما بعدها مرفوع بالابتداء، وما بعده الخبر. وبطل عملها حين
تغير لفظها. ولزمت اللام في الخبر فرقا بينها وبين إن التي بمعنى ما."
وما" عند أبي عبيدة زائدة. والتقدير عنده: وإن كل لجميع. قال الفراء: ومن شدد
جعل" لَمَّا" بمعنى إلا و" إِنْ" بمعنى ما، أي ما كل إلا
لجميع، كقوله:" إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ" [المؤمنون: 25].
وحكى سيبويه: في قوله سألتك بالله لما فعلت. وزعم الكسائي أنه لا يعرف هذا. وقد
مضى هذا المعنى في [هود «1»]. وفي حرف أبي" وإن منهم إلا جميع لدينا
محضرون".
__________
(1). راجع ج 9 ص 105 وما بعدها طبعه أولى أو ثانيه.
وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36)
[سورة
يس (36): الآيات 33 الى 36]
وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا
فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ
وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما
عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ
الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا
يَعْلَمُونَ (36)
قوله تعالى:" وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها" نبههم
الله تعالى بهذا على إحياء الموتى، وذكرهم توحيده وكمال قدرته، وهي الأرض الميتة
أحياها بالنبات وإخراج الحب منها." فَمِنْهُ" أي من الحب"
يَأْكُلُونَ" وبه يتغذون. وشدد أهل المدينة" الميتة" وخفف الباقون
وقد تقدم «1»." وَجَعَلْنا فِيها" أي في الأرض." جَنَّاتٍ" أي
بساتين." مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ" وخصصهما بالذكر، لأنهما أعلى
الثمار." وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ" أي في البساتين."
لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ" الهاء في" ثَمَرِهِ" تعود على ماء
العيون، لأن الثمر منه اندرج، قاله الجرجاني والمهدوي وغيرهما. وقيل: أي ليأكلوا
من ثمر ما ذكرنا، كما قال:" وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً
نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ" [النحل: 66]. وقرا حمزة والكسائي:"
من ثمره" بضم الثاء والميم. وفتحهما الباقون. وعن الأعمش ضم الثاء وإسكان
الميم. وقد مضى الكلام فيه في [الأنعام «2»]." ما" في موضع خفض على
العطف على" مِنْ ثَمَرِهِ" أي ومما عملته أيديهم. وقرا الكوفيون:"
وما عملت" بغير هاء. الباقون" عَمِلَتْهُ" على الأصل من غير حذف.
وحذف الصلة أيضا في الكلام كثير لطول الاسم. ويجوز أن تكون" ما" نافية
لا موضع لها فلا تحتاج إلى صلة ولا راجع. أي ولم تعمله أيديهم من الزرع الذي أنبته
الله لهم. وهذا قول ابن عباس والضحاك ومقاتل. وقال غيرهم: المعنى ومن الذي عملته
أيديهم أي من الثمار، ومن أصناف الحلاوات والأطعمة، ومما
__________
(1). راجع ج 2 ص 216 وما بعدها طبعه ثانيه.
(2). راجع ج 7 ص 49 وما بعدها طبعه أولى أو ثانيه. [.....]
وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38)
اتخذوا
من الحبوب بعلاج كالخبز والدهن المستخرج من السمسم والزيتون. وقيل: يرجع ذلك إلى
ما يغرسه الناس. روي معناه عن ابن عباس أيضا. نعمه. نزه نفسه سبحانه عن قول
الكفار، إذ عبدوا غيره مع ما رأوه من نعمه وآثار قدرته. وفية تقدير الأمر، أي
سبحوه ونزهوه عما لا يليق به. وقيل: فيه معنى التعجب، أي عجبا لهؤلاء في كفرهم مع
ما يشاهدونه من هذه الآيات، ومن تعجب من شي قال: سبحان الله. والأزواج الأنواع
والأصناف، فكل زوج صنف، لأنه مختلف في الألوان والطعوم والأشكال والصغر والكبر،
فاختلافها هو ازدواجها. وقال قتادة: يعني الذكر والأنثى. (مِمَّا تُنْبِتُ
الْأَرْضُ) يعني من النبات، لأنه أصناف. (وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ) يعني وخلق منهم
أولادا أزواجا ذكورا وإناثا. و(مِمَّا لا يَعْلَمُونَ) أي من أصناف خلقه في البر
والبحر والسماء والأرض. ثم يجوز أن يكون ما يخلقه لا يعلمه البشر وتعلمه الملائكة.
ويجوز ألا يعلمه مخلوق. ووجه الاستدلال في هذه الآية أنه إذا انفرد بالخلق فلا
ينبغي أن يشرك به.
[سورة يس (36): الآيات 37 الى 38]
وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (37)
وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ
(38)
قوله تعالى: (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ) أي وعلامة دالة
على توحيد الله وقدرته ووجوب إلاهيته. والسلخ: الكشط والنزع، يقال: سلخه الله من
دينه، ثم تستعمل بمعنى الإخراج. وقد جعل ذهاب الضوء ومجيء الظلمة كالسلخ من الشيء
وظهور المسلوخ فهي استعارة. و(مظلمون) داخلون في الظلام، يقال: أظلمنا أي دخلنا في
ظلام الليل، وأظهرنا دخلنا في وقت الظهر، وكذلك أصبحنا وأضحينا وأمسينا.
وقيل:" مِنْهُ" بمعنى عنه، والمعنى نسلخ عنه ضياء النهار." فَإِذا
هُمْ مُظْلِمُونَ" أي في ظلمه، لأن ضوء النهار يتداخل في الهواء فيضيء فإذا
خرج منه أظلم.
قوله
تعالى: (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها) يجوز أن يكون تقديره وآية لهم
الشمس. ويجوز أن يكون الشَّمْسُ مرفوعا بإضمار فعل يفسره الثاني. ويجوز أن يكون
مرفوعا بالابتداء" تَجْرِي" في موضع الخبر أي جارية. وفي صحيح مسلم عن
أبي ذر قال: سألت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن قوله عز
وجل:" وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها" قال:" مستقرها تحت
العرش". وفيه عن أبي ذر أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال
يوما: (أتدرون أين تذهب هذه الشمس) قالوا الله ورسوله أعلم، قال:" إن هذه
تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة فلا تزال كذلك حتى يقال لها
ارتفعي ارجعي من حيث جئت فترجع فتصبح طالعة من مطلعها ثم تجري حتى تنتهي إلى
مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة ولا تزال كذلك حتى يقال لها ارتفعي ارجعي من حيث جئت
فترجع فتصبح طالعة من مطلعها ثم تجري لا يستنكر الناس منها شيئا حتى تنتهي إلى
مستقرها ذاك تحت العرش فيقال لها ارتفعي أصبحي طالعة من مغربك فتصبح طالعة من
مغربها) فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" أتدرون متى ذلكم
ذاك حين" لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ
أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً" [الأنعام: 158] (. ولفظ البخاري عن أبي
ذر قال: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأبي ذر حين غربت
الشمس:" تدري أين تذهب" قلت الله ورسوله أعلم، قال:" فإنها تذهب
حتى تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها وتستأذن فلا
يؤذن لها يقال لها ارجعي من حيث جئت فتطلع من مغربها فذلك قوله تعالى:"
وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ
الْعَلِيمِ". ولفظ الترمذي عن أبي ذر قال: دخلت المسجد حين غابت الشمس والنبي
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جالس. فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:" يا أبا ذر أتدري أين تذهب هذه" قال قلت: الله ورسوله أعلم،
قال:" فإنها تذهب فتستأذن في السجود فيؤذن لها وكأنها قد قيل لها اطلعي من
حيث جئت فتطلع من مغربها" قال: ثم قرأ" ذلك «1» مستقر لها" قال
وذلك قراءة عبد الله. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.
__________
(1). كذا في الأصول وفى صحيح الترمذي والعلة تحريف، إذ لا تعرف قراءة بهذا النص،
وقراءة عبد الله بن مسعود" والشمس تجرى لا مستقر لها" كما سيأتي.
وقال عكرمة: إن الشمس إذا غربت دخلت محرابا تحت العرش تسبح الله حتى تصبح، فإذا أصبحت استعفت ربها من الخروج فيقول لها الرب: ولم ذاك؟ قالت: إني إذا خرجت عبدت من دونك. فيقول الرب تبارك وتعالى: أخرجي فليس عليك من ذاك شي، سأبعث إليهم جهنم مع سبعين ألف ملك يقودونها حتى يدخلوهم فيها. وقال الكلبي وغيره: المعنى تجري إلى أبعد منازلها في الغروب، ثم ترجع إلى أدنى منازلها، فمستقرها بلوغها الموضع الذي لا تتجاوزه بل ترجع منه، كالإنسان يقطع مسافة حتى يبلغ أقصى مقصوده فيقضي وطره، ثم يرجع إلى منزل الأول الذي ابتدأ منه سفره. وعلى تبليغ الشمس أقصى منازلها، وهو مستقرها إذا طلعت الهنعة، وذلك اليوم أطول الأيام في السنة، وتلك الليلة أقصر الليالي، فالنهار خمس عشرة ساعة والليل تسع ساعات، ثم يأخذ في النقصان وترجع الشمس، فإذا طلعت الثريا استوى الليل والنهار، وكل واحد ثنتا عشرة ساعة، ثم تبلغ أدنى منازلها وتطلع النعائم، وذلك اليوم أقصر الأيام، والليل خمس عشرة ساعة، حتى إذا طلع فرغ الدلو المؤخر استوى الليل والنهار، فيأخذ الليل من النهار كل يوم عشر ثلث ساعة، وكل عشرة أيام ثلث ساعة، وكل شهر ساعة تامة، حتى يستويا ويأخذ الليل حتى يبلغ خمس عشرة ساعة، ويأخذ النهار من الليل كذلك. وقال الحسن: إن للشمس في السنة ثلاثمائة وستين مطلعا، تنزل في كل يوم مطلعا، ثم لا تنزله إلى الحول، فهي تجري في تلك المنازل وهي مستقرها. وهو معنى الذي قبله سواء. وقال ابن عباس: إنها إذا غربت وانتهت إلى الموضع الذي لا تتجاوزه استقرت تحت العرش إلى أن تطلع. قلت: ما قاله ابن عباس يجمع الأقوال فتأمله. وقيل: إلى انتهاء أمدها عند انقضاء الدنيا وقرا ابن مسعود وا بن عباس" والشمس تجري لا مستقر لها" أي إنها تجري في الليل والنهار لا وقوف لها ولا قرار، إلى أن يكورها الله يوم القيامة. وقد احتج من خالف المصحف فقال: أنا أقرأ بقراءة ابن مسعود وابن عباس. قال أبو بكر الأنباري: وهذا باطل مردود على من نقله، لأن أبا عمر وروى عن مجاهد عن ابن عباس وابن كثير روى
وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39)
عن
مجاهد عن ابن عباس" وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها" فهذان
السندان عن ابن عباس اللذان يشهد بصحتهما الإجماع، يبطلان ما روي بالسند الضعيف
مما يخالف مذهب الجماعة، وما اتفقت عليه الأمة. قلت: والأحاديث الثابتة التي
ذكرناها ترد قوله، فما أجرأه على كتاب الله، قاتله الله. وقوله:"
لِمُسْتَقَرٍّ لَها" أي إلى مستقرها، والمستقر موضع القرار. (ذلِكَ
تَقْدِيرُ) أي الذي ذكر من أمر الليل والنهار والشمس تقدير" الْعَزِيزِ
الْعَلِيمِ".
[سورة يس (36): آية 39]
وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39)
فيه ثلاث مسائل: الأولى- قوله تعالى:" وَالْقَمَرَ" يكون تقديره وآية
لهم القمر. ويجوز أن يكون" والقمر" مرفوعا بالابتداء. وقرا
الكوفيون" وَالْقَمَرَ" بالنصب على إضمار فعل وهو اختيار أبي عبيد. قال:
لأن قبله فعلا وبعده فعلا، قبله" نَسْلَخُ" وبعده"
قَدَّرْناهُ". النحاس: واهل العربية جميعا فيما علمت على خلاف ما قال: منهم
الفراء قال: الرفع أعجب إلي، وإنما كان الرفع عندهم أولى، لأنه معطوف على ما قبله
ومعناه وآية لهم القمر. وقوله: إن قبله" نَسْلَخُ" فقبله ما هو أقرب منه
وهو" تَجْرِي" وقبله" وَالشَّمْسُ" بالرفع. والذي ذكره بعده
وهو" قدرناه" قد عمل في الهاء. قال أبو حاتم: الرفع أولى، لأنك شغلت
الفعل عنه بالضمير فرفعته بالابتداء. ويقال: القمر ليس هو المنازل فكيف قال:"
قَدَّرْناهُ مَنازِلَ" ففي هذا جوابان: أحدهما قدرناه إذا منازل، مثل:"
وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ" [يوسف: 82]. والتقدير الآخر قدرنا له منازل ثم حذفت
اللام، وكان حذفها حسنا لتعدي الفعل إلى مفعولين مثل" وَاخْتارَ مُوسى
قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا" [الأعراف: 155]. والمنازل ثمانية وعشرون منزلا،
ينزل القمر كل ليلة منها بمنزل، وهي، الشرطان. البطين. الثريا. الدبران. الهقعة.
الهنعة. الذراع. النثرة. الطرف الجبهة. الخراتان. الصرفة. العواء. السماك. الغفر.
الزبانيان.
الإكليل.
القلب. الشولة. النعائم. البلدة. سعد الذابح. سعد بلع. سعد السعود. سعد الأخبية.
الفرغ المقدم. الفرغ المؤخر. بطن الحوت. فإذا صار القمر في آخرها عاد إلى أولها،
فيقطع الفلك في ثمان وعشرين ليلة. ثم يستسر ثم يطلع هلالا، فيعود في قطع الفلك على
المنازل، وهي منقسمة على البروج لكل برج منزلان وثلث. فللحمل الشرطان والبطين وثلث
الثريا، وللثور ثلثا الثريا والدبران وثلثا الهقعة، ثم كذلك إلى سائرها. وقد مضى
في" الحجر" «1» تسمية البروج والحمد لله. وقيل: إن الله تعالى خلق الشمس
والقمر من نار ثم كسيا النور عند الطلوع، فأما نور الشمس فمن نور العرش، وأما نور
القمر فمن نور الكرسي، فذلك أصل الخلقة وهذه الكسوة. فأما الشمس فتركت كسوتها على
حالها لتشعشع وتشرق، وأما القمر فأمر الروح الأمين جناح على وجهه فمحا ضوءه بسلطان
الجناح، وذلك أنه روح والروح سلطانه غالب على الأشياء. فبقي ذلك المحو على ما يراه
الخلق، ثم جعل في غلاف من ماء، ثم جعل له مجرى، فكل ليلة يبدو للخلق من ذلك الغلاف
قمرا بمقدار ما يقمر لهم حتى ينتهي بدؤه، ويراه الخلق بكماله واستدارته. ثم لا
يزال يعود إلى الغلاف كل ليلة شي منه فينقص من الرؤية والإفمار بمقدار ما زاد في
البدء. ويبتدئ في النقصان من الناحية التي لا تراه الشمس وهي ناحية الغروب حتى
يعود كالعرجون القديم، وهو العذق المتقوس ليبسه ودقته. وإنما قيل القمر، لأنه يقمر
أي يبيض الجو ببياضه إلى أن يستسر. الثانية-" حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ
الْقَدِيمِ" قال الزجاج: هو عود العذق الذي عليه الشماريخ، وهو فعلون من
الانعراج وهو الانعطاف، أي سار في منازله، فإذا كان في آخرها دق واستقوس وضاق حتى
صار كالعرجون. وعلى هذا فالنون زائدة. وقال قتادة: هو العذق اليابس المنحني من
النخلة. ثعلب:" كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ" قال:" كَالْعُرْجُونِ"
الذي يبقى من الكباسة في النخلة إذا قطعت، و" الْقَدِيمِ" البالي.
الخليل: في باب الرباعي" العرجون" أصل العذق وهو أصفر عريض يشبه به
الهلال إذا انحنى. الجوهري:
__________
(1)." راجع ج 10 ص 9 طبعة أولى أو ثانيه.
العرجون"
أصل العذق الذي يعوج وتقطع منه الشماريخ فيبقى على النخل يابسا، وعرجنه ضربه
بالعرجون. فالنون على قول هؤلاء أصلية، ومنه شعر أعشى بني قيس:
شرق المسك والعبير «1» بها ... وفهي صفراء كعرجون القمر
فالعرجون إذا عتق ويبس وتوس شبه القمر في دقته وصفرته به. ويقال له أيضا الإهان
والكباسة والقنو، واهل مصر يسمونه الإسباطة. وقرى:" العرجون" بوزن
الفرجون وهما لغتان كالبزيون «2» والبزيون، ذكره الزمخشري وقال: هو عود العذق ما
بين شماريخه إلى منبته من النخلة. واعلم أن السنة منقسمة على أربعة فصول، لكل فصل
سبعة منازل: فأولها الربيع، وأوله خمسة عشر يوما من أذار، وعدد أيامه اثنان وتسعون
يوما، تقطع فيه الشمس ثلاثة بروج: الحمل، والثور، والجوزاء، وسبعة منازل: الشرطان
والبطين والثريا والدبران والهقعة والهنعة والذراع. ثم يدخل فصل الصيف في خمسة عشر
يوما من حزيران، وعدد أيامه اثنان وتسعون يوما، تقطع الشمس فيه ثلاثة بروج:
الشرطان، والأسد، والسنبلة، وسبعة منازل: وهي النثرة والطرف والجبهة والخراتان
والصرفة والعواء والسماك. ثم يدخل فصل الخريف في خمسة عشر يوما من أيلول، وعدد
أيامه أحد وتسعون يوما، تقطع فيه الشمس ثلاثة بروج، وهي الميزان، والعقرب، والقوس،
وسبعة منازل الغفر والزبانان والإكليل والقلب والشولة والنعائم والبلدة. ثم يدخل
فصل الشتاء في خمسة عشر يوما من كانون الأول، وعدد أيامه تسعون يوما وربما كان
أحدا وتسعين يوما، تقطع فيه الشمس ثلاثة بروج: وهي الجدي والدلو والحوت، وسبعة
منازل سعد الذابح وسعد بلع وسعد السعود وسعد الأخبية والفرغ المقدم، والفرغ المؤخر
وبطن الحوت. وهذه قسمة السريانيين لشهورها: تشرين الأول، تشرين الثاني، كانون
الأول، كانون الثاني، أشباط، آذار، نيسان، أيار، حزيران، تموز، آب، أيلول، وكلها
أحد وثلاثون إلا تشرين الثاني ونيسان وحزيران وأيلول، فهي ثلاثون، وأشباط ثمانية
وعشرون يوما وربع يوم.
__________
(1). كذا في الأصل ولم نعثر عليه في ديوانه، ويحتمل أن يكون: شرق العنبر والمسك
بها.
(2). اليزيون: السندس. وقيل هو رقيق الديباج.
لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)
وإنما
أردنا بهذا أن تنظر في قدرة الله تعالى فذلك قوله تعالى:" وَالْقَمَرَ
قَدَّرْناهُ مَنازِلَ" فإذا كانت الشمس في منزل أهل الهلال بالمنزل الذي
بعده، وكان الفجر بمنزلتين من قبله، فإذا كانت الشمس بالثريا في خمسة وعشرين وما
من نيسان، كان الفجر بالشرطين، واهل الهلال بالدبران، ثم يكون له في كل ليلة منزلة
حتى يقطع في ثمان وعشرين ليلة ثمانيا وعشرين منزلة. وقد قطعت الشمس منزلتين
فيقطعهما، ثم يطلع في المنزلة التي بعد منزلة الشمس ف" ذلِكَ تَقْدِيرُ
الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ". الثالثة- قوله تعالى:" الْقَدِيمِ" قال
الزمخشري: القديم المحول وإذا قدم دق وانحنى واصفر فشبه القمر به من ثلاثة أوجه.
وقيل: أقل عدة الموصوف بالقد يم لحول، فلو أن رجلا قال: كل مملوك لي قديم فهو حر،
أو كتب ذلك في وصيته عتق من مضى له حول أو أكثر. قلت: قد مضى في" البقرة"
«1» ما يترتب على الأهلة من الأحكام والحمد لله.
[سورة يس (36): آية 40]
لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ
النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)
قوله تعالى:" لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ"
رفعت الشمس بالابتداء، ولا يجوز أن تعمل" لا" في معرفة. وقد تكلم
العلماءء في معنى هذه الآية، فقال بعضهم: معناها أن الشمس لا تدرك القمر فتبطل
معناه. أي لكل واحد منهما سلطان على حياله، فلا يدخل أحدهما على الآخر فيذهب
سلطانه، إلى أن يبطل الله ما دبر من ذلك، فتطلع الشمس من مغربها على ما تقدم في
آخر سو ره" الأنعام" «2» بيانه. وقيل: إذا طلعت الشمس لم يكن للقمر ضوء،
وإذا طلع القمر لم يكن للشمس ضوء. روي معناه عن ابن عباس والضحاك وقال مجاهد: أي
لا يشبه ضوء أحدهما ضوء الآخر. وقال قتادة: لكل حد وعلم لا يعدوه
__________
(1). راجع ج 2 ص 341 وما بعدها طبعه ثانية.
(2). راجع ج 7 ص 145 وما بعدها طبعه أولى أو ثانية.
ولا
يقصر دونه إذا جاء سلطان هذا ذهب سلطان هذا. وقال الحسن: إنهما لا يجتمعان في
السماء ليلة الهلال خاصة. أي لا تبقى الشمس حتى يطلع القمر، ولكن إذا غربت الشمس
طلع القمر. يحيى بن سلام: لا تدرك الشمس القمر ليلة البدر خاصة لأنه يبادر بالمغيب
قبل طلوعها. وقيل: معناه إذا اجتمعا في السماء كان أحدهما بين يدي الآخر في منازل
لا يشتركان فيها، قاله ابن عباس أيضا. وقيل: القمر في السماء الدنيا والشمس في
السماء الرابعة فهي لا تدركه، ذكره النحاس والمهدوي. قال النحاس: وأحسن ما قيل في
معناها وأبينه مما لا يدفع أن سير القمر سير سريع والشمس لا تدركه في السير ذكره
المهدوي أيضا. فأما قول سبحانه:" وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ"
[القيامة: 9] فذلك حين حبس الشمس عن الطلوع على ما تقدم بيانه في آخر"
الأنعام" «1» ويأتي في سورة" القيامة" أيضا. وجمعهما علامة لانقضاء
الدنيا وقيام الساعة." وَكُلٌّ" يعنى من الشمس والقمر والنجوم" فِي
فَلَكٍ يَسْبَحُونَ" أي يجرون. وقيل: يدورون. ولم يقل تسبح، لأنه وصفها بفعل من
يعقل. وقال الحسن: الشمس والقمر والنجوم في فلك بين السماء والأرض غير ملصقة، ولو
كانت ملصقة ما جرت، ذكره الثعلبي والماوردي. واستدل بعضهم بقول تعالى:" وَلَا
اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ" على أن النهار مخلوق قبل الليل، وأن الليل لم
يسبقه بخلق. وقيل: كل واحد منهما يجئ وقته ولا يسبق صاحبه إلى أن يجمع بين الشمس
والقمر يوم القيامة، كما قال:" وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ" وإنما
هذا التعاقب الآن لتتم مصالح العباد" لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ
وَالْحِسابَ" [يونس: 5] ويكون الليل للإجمام والاستراحة، والنهار للتصرف، كما
قال تعالى:" وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ
لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ" [القصص: 73] وقال:"
وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً" أي راحة لأبدانكم من عمل النهار.
فقوله:" وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ" أي غالب النهار، يقال: سبق فلان
فلانا أي غلبه. وذكر المبرد قال: سمعت عمارة يقرأ:" ولا الليل سابق
النهار" فقلت ما هذا؟ قال: أردت سابق النهار فحذفت التنوين، لأنه أخف. قال
النحاس: يجوز أن يكون" النهار" منصوبا بغير تنوين ويكون التنوين حذف
لالتقاء الساكنين.
__________
(1). راجع ج 7 ص 146 طبعه أو ثانية.
وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44)
[سورة
يس (36): الآيات 41 الى 44]
وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41)
وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ
فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً
إِلى حِينٍ (44)
قوله تعالى:" وَآيَةٌ لَهُمْ" يحتمل ثلاثة معان: أحدها عبرة لهم، لأن في
الآيات اعتبارا. الثاني نعمة عليهم، لأن في الآيات إنعاما. الثالث إنذار لهم، لأن
في الآيات إنذارا." أنا حملنا ذرياتهم «1» في الفلك المشحون" من أشكل ما
في السورة، لأنهم هم المحمولون. فقيل المعنى وآية لأهل مكة أنا حملنا ذرية القرون
الماضية" فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ" فالضميران مختلفان، ذكره المهدوي.
وحكاه النحاس عن على بن سليمان أنه سمعه يقوله. وقيل: الضميران جميعا لأهل مكة على
أن يكون ذرياتهم أولادهم وضعفاءهم، فالفلك على القول الأول سفينة نوح. وعلى الثاني
يكون اسما للجنس، خبر جل وعز بلطفه وامتنانه أنه خلق السفن يحمل فيها من يحمل فيها
من يصعب عليه المشي والركوب من الذمة والضعفاء، فيكون الضميران على هذا متفقين.
وقيل: الذرية الآباء والأجداد، حملهم الله تعالى في سفينة نوح عليه السلام،
فالآباء ذرية والأبناء ذرية، بدليل هذه الآية، قاله أبو عثمان. وسمي الآباء ذرية،
لأن منهم ذرأ الأبناء. وقول رابع: أن الذرية النطف حملها الله تعالى في بطون
النساء تشبيها بالفلك المشحون، قاله علي بن أبى طالب رضي الله عنه، ذكره الماوردي.
وقد مضى في" البقرة" «2» اشتقاق الذرية والكلام فيها مستوفى. و"
الْمَشْحُونِ" المملوء الموقر و" الْفُلْكِ" يكون واحدا وجمعا. وقد
تقدم في" يونس" «3» القول فيه. قوله تعالى:" وَخَلَقْنا لَهُمْ
مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ" والأصل يركبونه فحذفت الهاء لطول الاسم «4»
وأنه رأس آية. وفي معناه ثلاثة أقوال: مذهب مجاهد وقتادة وجماعة من أهل التفسير،
__________
(1)." ذرياتهم" بالجمع قراءة نافع.
(2). راجع ج 2 ص 107 وما بعدها طبعه ثانية.
(3). راجع ج 8 ص 324 طبعه أو ثانية.
(4). كذا في كل نسخ الأصل وفى إعراب القرآن المنحاس:
وروي
عن ابن عباس أن معنى" مِنْ مِثْلِهِ" للإبل، خلقها لهم للركوب في البر
مثل السفن المركوبة في البحر، والعرب تشبه الإبل بالسفن. قال طرفة:
كأن حدوج المالكية غدوة ... وخلايا سفين بالنواصف من دد «1»
جمع خلية وهي السفينة العظيمة. والقول الثاني أنه للإبل والدواب وكل ما يركب.
والقول الثالث أنه للسفن، النحاس: وهو أصحها لأنه متصل الإسناد عن ابن عباس."
وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ" قال: خلق لهم سفنا أمثالها
يركبون فيها. وقال أبو مالك: إنها السفن الصغار خلقها مثل السفن الكبار، وروي عن
ابن عباس والحسن. وقال الضحاك وغيره: هي السفن المتخذة بعد سفينة نوح. قال
الماوردي: ويجيء على مقتضى تأويل علي رضي الله عنه في أن الذرية في الفلك المشحون
هي النطف في بطون النساء قول خامس في قوله:" وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ
ما يَرْكَبُونَ" أن يكون تأويله النساء خلقن لركوب الأزواج لكن لم أره محكيا.
قوله تعالى:" وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ" أي في البحر فترجع الكناية
إلى أصحاب الذرية، أو إلى الجميع، وهذا يدل على صحت قول ابن عباس ومن قال إن
المراد" مِنْ مِثْلِهِ" السفن لا الإبل." فَلا صَرِيخَ
لَهُمْ" أي لا مغيث لهم رواه سعيد عن قتادة. وروى شيبان عنه فلا منعة لهم
ومعناهما متقاربان. و" صَرِيخَ" بمعنى مصرخ فعيل بمعنى فاعل.
ويجوز" فلا صريخ لهم"، لأن بعده ما لا يجوز فيه إلا الرفع، لأنه معرفة
وهو" وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ" والنحويون يختارون لا رجل في الدار ولا زيد.
ومعنى:" ينقذون" يخلصون من الغرق. وقيل: من العذاب." إِلَّا
رَحْمَةً مِنَّا" قال الكسائي: هو نصب على الاستثناء. وقال الزجاج: نصب مفعول
من أجله، أي للرحمة" وَمَتاعاً" معطوف عليه." إِلى حِينٍ" إلى
الموت، قاله قتادة. يحيى بن سلام: إلى القيامة أي إلا أن نرحمهم ونمتعهم إلى
آجالهم، وأن الله عجل عذاب الأمم السالفة، وأخر عذاب أمة محمد صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وان كذبوه إلى الموت والقيامة.
__________
(1). الحدوج حدج وهو مركب من مراكب النساء. والمالكية منسوبة إلى مالك بن سعد بن
ضبيعة. والتواصف جمع نا صفة وهى الرحبة الواسعة تكون في الوادي. ودد موضع.
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (46) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50)
[سورة
يس (36): الآيات 45 الى 50]
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ
تُرْحَمُونَ (45) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا
عَنْها مُعْرِضِينَ (46) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ
اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ
اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (47) وَيَقُولُونَ
مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) ما يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً
واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49)
فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50)
قوله تعالى:" وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما
خَلْفَكُمْ" قال قتادة: يعني" اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ" أي
من الوقائع فيمن كان قبلكم من الأمم" وَما خَلْفَكُمْ" من الآخرة. ابن
عباس وابن جبير ومجاهد:" ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ" ما مضى من الذنوب"
وَما خَلْفَكُمْ" ما يأتي من الذنوب. الحسن:" ما بَيْنَ
أَيْدِيكُمْ" ما مضى من أجلكم" وَما خَلْفَكُمْ" ما بقي منه.
وقيل:" ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ" من الدنيا،" وَما خَلْفَكُمْ"
من عذاب الآخرة، قال سفيان. وحكى عكس هذا القول الثعلبي عن ابن عباس. قال:"
ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ" من أمر الآخرة وما عملوا لها،" وَما
خَلْفَكُمْ" من أمر الدنيا فاحذروها ولا تغتروا بها. وقيل:" ما بَيْنَ
أَيْدِيكُمْ" ما ظهر لكم" وَما خَلْفَكُمْ" ما خفي عنكم. والجواب
محذوف والتقدير إذا قيل لهم ذلك أعرضوا، دليله قول بعد:" وَما تَأْتِيهِمْ
مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ" فأكتفي
بهذا عن ذلك. قوله تعالى:" وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ
اللَّهُ" أي تصدقوا على الفقراء. قال الحسن: يعني اليهود أمروا بإطعام
الفقراء. وقيل: هم المشركون قال لهم فقراء أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: أعطونا ما زعمتم من أموالكم أنها لله، وذلك قوله:" وَجَعَلُوا
لِلَّهِ مِمَّا
ذَرَأَ
مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً"
[الأنعام: 136] فحرموهم وقالوا: لو شاء الله أطعمكم- استهزاء- فلا نطعمكم حتى
ترجعوا إلى ديننا. قالوا" أَنُطْعِمُ" أي أنرزق" مَنْ لَوْ يَشاءُ
اللَّهُ أَطْعَمَهُ" كان بلغهم من قول المسلمين: أن الرازق هو الله. فقالوا
هزءا أنرزق من لو يشاء الله أغناه. وعن ابن عباس: كان بمكة زنادقة، فإذا أمروا
بالصدقة على المساكين قالوا: لا والله أيفقره الله ونطعمه نحن. وكانوا يسمعون
المؤمنين يعلقون أفعال الله تعالى بمشيئته فيقولون: لو شاء الله لأغنى فلانا، ولو
شاء الله لأعز، ولو شاء الله لكان كذا. فأخرجوا هذا الجواب مخرج الاستهزاء
بالمؤمنين، وبما كانوا يقولونه من تعليق الأمور بمشيئة الله تعالى. وقيل: قالوا
هذا تعلقا بقول المؤمنين لهم:" أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ"
أي فإذا كان الله رزقنا فهو قادر على أن يرزقكم فلم تلتمسون الرزق منا؟. وكان هذا
الاحتجاج باطلا، لأن الله تعالى إذا ملك عبدا مالا ثم أوجب عليه فيه حقا فكأنه
انتزع ذلك القدر منه، فلا معنى للاعتراض. وقد صدقوا في قولهم: لو شاء الله أطعمهم
ولكن كذبوا في الاحتجاج. ومثله قوله:" سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ
شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا" [الأنعام: 148]، وقوله:" قالُوا نَشْهَدُ
إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ
يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ" [المنافقون: 1]." إِنْ
أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ" قيل هو من قول الكفار للمؤمنين، أي في
سؤال المال وفي اتباعكم محمدا. قال معناه مقاتل وغيره. وقيل: هو من قول أصحاب
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهم. وقيل: من قول الله تعالى للكفار حين
ردوا بهذا الجو أب. وقيل: إن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان يطعم مساكين
المسلمين فلقيه أبو جهل فقال: يا أبا بكر أتزعم أن الله قادر على إطعام هؤلاء؟
قال: نعم. قال: فما باله لم يطعمهم؟ قال: ابتلى قوما بالفقر، وقوما بالغنى، وأمر
الفقراء بالصبر، وا مر الأغنياء بالإعطاء. فقال: والله يا أبا بكر ما أنت إلا في
ضلال أتزعم أن الله قادر على إطعام هؤلاء وهو لا يطعمهم ثم تطعمهم أنت؟ فنزلت هذه
الآية، ونزل قوله تعالى:" فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ
بِالْحُسْنى " [الليل: 6- 5] الآيات. وقيل: نزلت الآية في قوم من الزنادقة، وقد
كان فيهم أقوام يتزندقون فلا يؤمنون بالصانع واستهزء وا بالمسلمين بهذا القول،
ذكره القشيري والماوردي.
قوله
تعالى:" وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ" لما قيل لهم:" اتَّقُوا
ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ" قالوا:" مَتى هذَا
الْوَعْدُ" وكان هذا استهزاء منهم أيضا أي لا تحقيق لهذا الوعيد. قال الله
تعالى:" ما يَنْظُرُونَ" أي ما ينتظرون" إِلَّا صَيْحَةً
واحِدَةً" وهي نفخة إسرافيل" تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ" أي
يختصمون في أمور دنياهم فيموتون في مكانهم، وهذه نفخة الصعق. وفي"
يَخِصِّمُونَ" خمس قراءات: قرأ أبو عمرو وابن كثير" وهم يختصمون"
بفتح الياء والخاء وتشديد الصاد. وكذا روى ورش عن نافع. فأما أصحاب القراءات
وأصحاب نافع سوى ورش فرو وا عنه" يختصمون" بإسكان الخاء وتشديد الصاد
على الجمع بين ساكنين. وقرا عاصم والكسائي" وهم يختصمون" بإسكان الخاء و
- تخفيف الصاد من خصمه. وقرا عاصم والكسائي" وهم يختصمون" بكسر الخاء
وتشديد الصاد ومعناه يختصم بعضهم بعضا. وقيل: تأخذهم وهم عند أنفسهم يختصمون في
الحجة أنهم لا يبعثون. وقد روى ابن جبير عن أبى بكر عن عاصم وحماد عن عاصم كسر
الياء والخاء والتشديد. قال النحاس: القراءة الولي أبينها والأصل فيها يختصمون
فأدغمت التاء في الصاد فنقلت حركتها الى الخاء- وفى حرف بى" وهم
يختصمون"- وإسكان الخاء لا يجوز، لأنه جمع بين ساكنين وليس أحد هما حرف مد
ولين. وقيل: أسكنوا الخاء على أصلها، والمعنى يخصم بعضهم بعضا فحذف المضاف، وجاز
أن يكون المعنى يخصمون مجادلهم عند أنفسهم فحذف المفعول، قال الثعلبي: وهى قراءة
أبى بن كعب. قال النحاس: فأما" يَخِصِّمُونَ" فالأصل فيه أيضا يختصمون،
فأدغمت التاء في الصاد ثم كسرت الخاء لالتقاء الساكنين. وزعم الفراء أن هذه
القراءة أجود وأكثر، فترك ما هو أولى من إلقاء حركة التاء على الخاء واجتلب لها
حركة أخرى وجمع بين ياء وكسرة، وزعم أنه أجود وأكثر. وكيف يكون أكثر وبالفتح قراءة
الخلق من أهل مكة واهل البصرة واهل المدينة! وما روى عن عاصم من كسر الياء والخاء
فللإتباع. وقد مضى هذا في" البقرة" «1» في" يَخْطَفُ
أَبْصارَهُمْ"
__________
(1). انظر ج 1 ص 291 طبعه ثانية أو ثالثة.
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54)
وفى"
يونس" «1» في" يَهْدِي". وقال عكرمة في قوله جل وعز" إِلَّا
صَيْحَةً واحِدَةً" قال: هي النفخة الأولى في الصور. وقال أبو هريرة: ينفخ في
الصور والناس في أسواقهم، فمن حالب لقحة، ومن ذارع ثوبا، ومن مار في حاجة. وروى
نعيم عن أبى هريرة قال قال رسول الله عليه وسلم:" تقوم الساعة والرجلان قد
نشرا ثوبهما يتبايعانه فلا يطويانه حتى تقوم الساعة، والرجل يليط «2» حوضه ليسقي
ماشيته فما يسقيها حتى تقوم الساعة والرجل يخفض ميزانه فما يرفعه حتى تقوم الساعة،
والرجل يرفع أكلته إلى فيه فما يتبلعها حتى تقوم الساعة (. وفي حديث عبد الله بن
عمرو:" وأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله- قال- فيصعق ويصعق الناس"
الحديث." فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً" أي لا يستطيع بعضهم أن يوصى
تعضا لما في يده من حق. وقيل: لا يستطيع أن يوصى بعضهم بعضا بالتوبة والإقلاع بل
يموتون في أسواقهم ومواضعهم." وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ" إذا
ماتوا. وقيل: إن معنى" وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ" لا يرجعون
إليهم قولا. وقال قتادة:" وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ" أي إلى
منازلهم، لأنهم قد أعجلوا عن ذلك.
[سورة يس (36): الآيات 51 الى 54]
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ
(51) قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ
وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ
جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا
تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54)
قوله تعالى:" وَنُفِخَ فِي الصُّورِ" هذه النفخة الثانية للنشأة. وقد
بينا في سورة" النمل" «3» أنهما نفختان لا ثلاث. وهذه الآية دالء على
ذلك. وروى المبارك بن
__________
(1). راجع ج 8 ص 341 طبعه أولى أو ثانيه. [.....]
(2). يليط حوضه وفى رواية بلوط حوضه أي يطينه.
(3). راجع ج 13 ص 239 طبعه أولى أو ثانيه.
فضالة
عن الحسن قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" بين
النفختين أربعون سنة الأولى يميت الله بها كل حي والأخرى يحيى الله بها كل
ميت". وقال قتادة: الصور جمع صورة، أي نفخ في الصور الأرواح. وصورة وصور مثل
سورة، قال العجاج:
ورب ذى سرادق محجور ... سرت إليه في أعالي السور
وقد روى عن أبى هريرة أنه قرأ" ونفخ في الصور". النحاس: والصحيح
أن" الصور" بإسكان الواو. القرن، جاء بذلك التوقيف عن رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذلك معروف في كلام العرب. أنشد أهل اللغة:
نحن نطحناهم غداة الغورين ... بالضابحات في غبار النقعين
نطحا شديدا لا كنطح الصورين
وقد مضى هذا في" الأنعام" «1» مستوفى." فَإِذا هُمْ مِنَ
الْأَجْداثِ" أي القبور. وقرى بالفاء" من الاجداف" ذكره الزمخشري.
يقال جدث وجدف. واللغة الفصيحة الجدث بالثاء والجمع أجدث وأجداث، قال المتنخل
الهذلي:
عرفت بأجدث فنعاف عرق ... علامات كتحبير النماط
واجتدث أي اتخذ جدثا." إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ" أي يخرجون، قاله ابن
عباس وقتادة. ومنه قول امرى القيس:
فسلي ثيابي من ثيابك تنسلي
ومنه قيل للولد نسل، لأنه يخرج من بطن أمه. وقيل: يسرعون. والنسلان والعسلان
الإسراع في السير، ومنه مشية الذئب، قال «2»:
عسلان الذئب أمسى قاربا ... وبرد الليل عليه فنسل
يقال: عسل الذئب ونسل، يعسل وينسل، من باب ضرب يضرب. ويقال: ينسل بالضم أيضا. وهو
الإسراع في المشي، فالمعنى يخرجون مسرعين. وفى التنزيل:
__________
(1). راجع ج 7 ص 20 وما بعدها طبعه أولى أو ثانيه.
(2). البيت للبيد، وقيل هو للنابغة الجعدي.
"
ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ" [لقمان: 28]،
وقال:" يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ"
[القمر: 7]، وفي" سائل سائل": [المعارج: 1]" يَوْمَ يَخْرُجُونَ
مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ" [المعارج: 43]
أي يسرعون. وفى الخبر: شكونا إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الضعف
فقال:" عليكم بالنسل" أي بالإسراع في المشي فإنه ينشط. قوله تعالى:
(قالُوا يا وَيْلَنا) قال ابن الأنباري:" يا وَيْلَنا" وقف حسن ثم
تبتدئ" مَنْ بَعَثَنا" وروي عن بعض القراء" يا ويلنا من
بعثنا" بكسر من والثاء من البعث. روي ذلك عن علي رضي الله عنه، فعلى هذا
المذهب لا يحسن الوقف على قوله:" يا وَيْلَنا" حتى يقول:" مِنْ
مَرْقَدِنا". وفي قراءة أبي بن كعب" من هبنا" بالوصل" مِنْ
مَرْقَدِنا" فهذا دليل على صحة مذهب العامة. قال المهدوي: قرأ ابن أبي
ليلى:" قالوا يا ويلتنا" بزيادة تاء وهو تأنيث الوصل، ومثله:" يا
وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ" [هود: 72]. وقرا علي رضي الله عنه"
يا ويلتا من بعثنا" ف" من" متعلقة بالويل أو حال من" وَيْلَتى
" فتتعلق بمحذوف، كأنه قال: يا ويلتا كائنا من بعثنا، وكما يجوز أن يكون خبرا
عنه كذلك يجوز أن يكون حالا منه. و" الرَّحْمنِ" من قوله:" مِنْ مَرْقَدِنا"
متعلقة بنفس البعث. ثم قيل: كيف قالوا هذا وهم من المعذبين في قبورهم؟ فالجواب أن
أبي بن كعب قال: ينامون نومة. وفى رواية فيقولون: يا ويلنا من أهبنا من مرقدنا.
قال أبو بكر الأنباري: لا يحمل هذا الحديث على أن" أهبنا" من لفظ القرآن
كما قال من طعن في القرآن، ولكنه تفسير" بَعَثَنا" أو معبر عن بعض معانيه.
قال أبو بكر: وكذا حفظته" من هبنا" بغير ألف في أهبنا مع تسكين نون من.
والصواب فيه على طريق اللغة" من أهبنا" بفتح النون على أن فتحة همزة أهب
ألقيت على نون" من" وأسقطت الهمزة، كما قالت العرب: من أخبرك من أعلمك؟
وهم يريدون من أخبرك. ويقال: أهببت النائم فهب النائم. أنشدنا أحمد بن يحيى
النحوي:
وعاذلة هبت بليل تلومني ... ولم يعتمرني قبل ذاك عذول
وقال أبو صالح: إذا نفخ النفخة الأولى رفع العذاب عن أهل القبور وهجعوا هجعة إلى
النفخة الثانية وبينهما أربعون سنة، فذلك قولهم:" من بعثنا من مرقدنا"
وقال ابن
عباس وقتادة. وقال أهل المعاني: إن الكفار إذا عاينوا جهنم وما فيها من أنواع العذاب صار ما عذبوا به في قبورهم إلى جنب عذابها كالنوم. قال مجاهد: فقال لهم المؤمنون" هذا ما وعد الرحمن". قال قتادة: فقال لهم من هدى الله:" هذا ما وعد الرحمن". وقال الفراء: فقال لهم الملائكة:" هذا ما وعد الرحمن". النحاس: وهذه الأقوال متفقة، لأن الملائكة من المؤمنين وممن هدى الله عز وجل. وعلى هذا يتأول قول الله عز وجل:" إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ" [البينة: 7] وكذا الحديث: (المؤمن عند الله خير من كل ما خلق). ويجوز أن تكون الملائكة وغيرهم من المؤمنين قالوا لهم:" هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ". وقيل: إن الكفار لما قال بعضهم لبعض:" مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا" صدقوا الرسل لما عاينوا ما أخبروهم به، ثم قالوا" هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ" فكذبنا به، أقروا حين لم ينفعهم الإقرار. وكان حفص يقف على" مِنْ مَرْقَدِنا" ثم يبتدئ فيقول:" هذا". قال أبو بكر بن الأنباري:" مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا" وقف حسن، ثم تبتدئ:" هذا ما وعد الرحمن" ويجوز أن تقف على مرقدنا هذا" فتخفض هذا على الإتباع للمرقد، وتبتدئ:" ما وعد الرحمن" على معنى بعثكم ما وعد الرحمن، أي بعثكم وعد الرحمن. النحاس: التمام على" مِنْ مَرْقَدِنا" و" هذا" في موضع رفع بالابتداء وخبره" ما وَعَدَ الرَّحْمنُ". ويجوز أن يكون في موضع خفض على النعت ل" مَرْقَدِنا" فيكون التمام" مِنْ مَرْقَدِنا هذا"." ما وَعَدَ الرَّحْمنُ" في موضع رفع من ثلاث جهات. ذكر أبو إسحاق منها اثنتين قال: يكون بإضمار هذا. والجهة الثانية أن يكون بمعنى حق ما وعد الرحمن بعثكم. والجهة الثالثة أن يكون بمعنى ما وعد الرحمن." إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً" يعني إن بعثهم وإحياءهم كان بصيحة واحدة وهي قول إسرافيل: أيتها العظام البالية، والأوصال المقتطعة والشعور المتمزقة! إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء. وهذا معنى قول الحق:" يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ." [ق: 42]. وقال:" مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ" [القمر: 8] على ما يأتي. وفي قراءة ابن مسعود إن صح عنه" إن كانت إلا زقية
إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59)
واحدة"
والزقية
الصيحة، وقد تقدم هذا." فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ" فإذا
هم" مبتدأ وخبره" جميع" نكرة، و" محضرون" من صفته.
ومعنى" مُحْضَرُونَ" مجموعون أحضروا موقف الحساب، وهو كقوله:" وَما
أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ" [النحل: 77]. قوله
تعالى:" فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً" أي لا تنقص من ثواب
عمل." وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ""
مِمَّا" في محل نصب من وجهين: الأول أنه مفعول ثان لما لم يسم فاعله. والثاني
بنزع حرف الصفة تقديره: إلا بما كنتم تعملون، أي تعملونه فحذف.
[سورة يس (36): الآيات 55 الى 59]
إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (55) هُمْ
وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (56) لَهُمْ فِيها
فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (57) سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58)
وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59)
قوله تعالى:" إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ
فاكِهُونَ" قال ابن مسعود وابن عباس وقتادة ومجاهد: شغلهم افتضاض العذارى.
وذكر الترمذي الحكيم في كتاب مشكل القرآن له: حدثنا محمد بن حميد الرازي، حدثنا
يعقوب القمي، عن حفص بن حميد، عن شمر بن عطية، عن شقيق بن سلمة، عن عبد الله بن
مسعود في قوله" إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ"
قال: شغلهم افتضاض العذارى. حدثنا محمد بن حميد، حدثنا هارون بن المغيرة، عن نهشل،
عن الضحاك، عن ابن عباس بمثله. وقال أبو قلابة: بينما الرجل من أهل الجنة مع أهله
إذ قيل له تحول إلى أهلك فيقول أنا مع أهلي مشغول، فيقال تحول أيضا إلى أهلك. وقيل:
أصحاب الجنة في شغل بما هم فيه من اللذات والنعيم عن الاهتمام بأهل المعاصي
ومصيرهم إلى النار، وما هم فيه من أليم العذاب، وإن كان فيهم أقرباؤهم وأهلوهم،
قال سعيد بن المسيب وغير هـ. وقال وكيع: يعني في السماع. وقال ابن كيسان:"
فِي شُغُلٍ" أي في زيارة بعضهم بعضا. وقيل: في ضيافة الله تعالى. وروي أنه
إذا كان يوم القيامة نادى مناد: أين عبادي الذين
أطاعوني
وحفظوا عهدي بالغيب؟ فيقومون كأنما وجوههم البدر والكو كب الدري، ركبانا على نجب
من نور أزمتها من الياقوت، تطير بهم على رءوس الخلائق، حتى يقوموا بين يدي العرش،
فيقول الله جل وعز لهم: السلام على عبادي الذين أطاعوني وحفظوا عهدي بالغيب، أنا
اصطفيتكم وأنا اجتبيتكم وأنا اخترتكم، اذهبوا فادخلوا الجنة بغير حساب ف" لا
خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ" [الزخرف: 68]
(فيمرون على الصراط كالبرق الخاطف فتفتح لهم أبوابها. ثم إن الخلق في المحشر
موقوفون فيقول بعضهم لبعض: يا قوم أين فلان وفلان، وذلك حين يسأل بعضهم بعضا
فينادي مناد" إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ
فاكِهُونَ". و" شغل" و" شغل" لغتان قرئ بهما، مثل الرعب
والرعب، والسحت والسحت، وقد تقدم." «1» فاكِهُونَ" قال الحسن: مسرورون.
وقال ابن عباس: فرحون. مجاهد والضحاك: معجبون. السدي: ناعمون. والمعنى متقارب.
والفكاهة المزاح والكلام الطيب. وقرا أبو جعفر وشيبة والأعرج: فكهون" بغير
ألف وهما لغتان كالفأرة والفره، والحاذر والحذر، قاله الفراء. وقال الكسائي وأبو
عبيدة: الفاكه ذو الفاكهة، مثل شاحم ولاحم وتامر ولابن، والفكه المتفكه والمتنعم.
و" فكهون" بغير ألف في قول قتادة معجبون. وقال أبو زيد: يقال رجل فكه
إذا كان طيب النفس ضحوكا. وقرا طلحة بن مصرف:" فاكِهِينَ" نصبه على
الحال." هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ"
مبتدأ وخبره. ويجوز أن يكون" هُمْ" توكيدا" وَأَزْواجُهُمْ"
عطف على المضمر، و" مُتَّكِؤُنَ" نعت لقوله" فاكِهُونَ".
وقراءة العامة:" فِي ظِلالٍ" بكسر الظاء والألف. وقرا ابن مسعود وعبيد
بن عمير والأعمش ويحيى وحمزة والكسائي وخلف:" فِي ظُلَلٍ بضم الظاء من غير
ألف، فالظلال جمع ظل، وظلل جمع ظلة." عَلَى الْأَرائِكِ" يعني السرر في
الحجال واحدها أريكة، مثل سفينة وسفائن، قال الشاعر:
كأن احمرار الورد فوق غصونه ... بوقت الضحى في روضة المتضاحك
خدود عذارى قد خجلن من الحيا ... تهادين بالريحان فوق الأرائك
__________
(1). راجع ج 6 ص 184 طبعه أو ثانية.
وفي
الخبر عن أبي سعيد الخدري قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" إن
أهل الجنة كلما جامعوا نساءهم عدن أبكارا." وقال ابن عباس: إن الرجل من أهل
الجنة ليعانق الحوراء سبعين سنة، لا يملها ولا تمله، كلما أتاها وجدها بكرا، وكلما
رجع إليها عادت إليه شهوته، فيجامعها بقوة سبعين رجلا، لا يكون بينهما مني، يأتي
من غير مني منه ولا منها." لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ" ابتداء وخبر."
وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ" الدال الثانية مبدلة من تاء، لأنه يفتعلون من دعا أي
من دعا بشيء أعطيه. قاله أبو عبيدة، فمعنى" يَدَّعُونَ" يتمنون من
الدعاء. وقيل: المعنى أن من أدعى منهم شيئا فهو له، لأن الله تعالى قد طبعهم على
ألا يدعي منهم أحد إلا ما يجمل ويحسن أن يدعيه. وقال يحيى بن سلام:"
يَدَّعُونَ" يشتهون. ابن عباس. يسألون. والمعنى متقارب. قال ابن الأنباري:"
وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ" وقف حسن، ثم تبتدئ:" سَلامٌ" على معنى ذلك
لهم سلام. ويجوز أن يرفع السلام على معنى ولهم ما يدعون مسلم خالص. فعلى هذا
المذهب لا يحسن الوقف على" ما يَدَّعُونَ". وقال الزجاج:"
سَلامٌ" مرفوع على البدل من" ما" أي ولهم أن يسلم الله عليهم، وهذا
منى أهل الجنة. وروي من حديث جرير بن عبد الله البجلي أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور فرفعوا رؤوسهم
فإذا الرب تعالى قد اطلع عليهم من فوقهم فقال السلام عليكم يا أهل الجنة فذلك
قوله:" سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ". فينظر إليهم وينظرون إليه
فلا يلتفتون إلى شي من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم فيبقى نوره
وبركاته عليهم في ديارهم" ذكره الثعلبي والقشيري. ومعناه ثابت في صحيح مسلم،
وقد بيناه في" يونس" «1» عند قوله تعالى:" لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا
الْحُسْنى وَزِيادَةٌ" [يونس: 26]. ويجوز أن تكون" ما" نكرة،
و" سلام" نعتا لها، أي ولهم ما يدعون مسلم. ويجوز أن تكون"
ما" رفع بالابتداء، و" سَلامٌ" خبر عنها. وعلى هذه الوجوه لا يوقف
على" وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ". وفي قراءة ابن مسعود" سلاما"
يكون مصدرا، وإن شئت في موضع الحال، أي ولهم
__________
(1). راجع ج ص 230 طبعه أولى أو ثانيه.
أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64)
ما
يدعون ذا سلام أو سلامة أو مسلما، فعي هذا المذهب لا يحسن الوقف على"
يدعون" وقرا محمد بن كعب القرظي" سلم" على الاستئناف كأنه قال: ذلك
سلم لهم لا يتنازعون فيه. ويكون" وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ" تاما. ويجوز
أن يكون" سَلامٌ" بدلا من قوله:" وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ"،
وخبر" ما يَدَّعُونَ"" لهم". ويجوز أن يكون"
سَلامٌ" خبرا آخر، ويكون معنى الكلام أنه لهم خالص من غير منازع فيه."
قولا" مصدر على معنى قال الله ذلك قولا. أو يقوله قولا، ودل على الفعل
المحذوف لفظ مصدره. ويجوز أن يكون المعنى ولهم ما يدعون قولا، أي عدة من الله.
فعلى هذا المذهب الثاني لا يحسن الوقف على" يَدَّعُونَ". وقال
السجستاني: الوقف على قوله:" سَلامٌ" تام، وهذا خطأ لأن القول خارج مما
قبله. قوله تعالى:" وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ"
ويقال تميزوا وأمازوا وامتازوا بمعنى، ومزته فانماز وامتاز، وميزته فتميز. أي يقال
لهم هذا عند الوقوف للسؤال حين يؤمر بأهل الجنة إلى الجنة، أي اخرجوا من جملتهم.
قال قتادة: عزلوا عن كل خير. وقال الضحاك: يمتاز المجرمون بعضهم من بعض، فيمتاز
اليهود فرقة، والنصارى فرقة، والمجوس فرقة، والصابئون فرقة، وعبدة الأوثان فرقة.
وعنه أيضا: إن لكل فرقة في النار بيتا تدخل فيه ويرد بابه، فتكون فيه أبدالا ترى
وقال داود بن الجراح: فيمتاز المسلمون من المجرمين، إلا أصحاب الأهواء فيكونون مع
المجرمين.
[سورة يس (36): الآيات 60 الى 64]
أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ
إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ
(61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ
(62) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما
كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64)
قوله تعالى:" أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ" العهد هنا بمعنى الوصية، أي ألم أوصكم وأبلغكم على ألسنة الرسل." أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ" أي لا تطيعوه في معصيتي. قال الكسائي: لا للنهي." وَأَنِ اعْبُدُونِي" وأن اعبدوني" بكسر النون على الأصل، ومن ضم كره كسرة بعدها ضمة." هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ" أي عبادتي دين قويم. قوله تعالى:" وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ" أي أغوى" جِبِلًّا كَثِيراً" أي خلقا كثيرا، قاله مجاهد. قتادة: جموعا كثيرة. الكلبي: أمما كثيرة، والمعنى واحد. وقرا أهل المدينة وعاصم" جِبِلًّا" بكسر الجيم والباء. وأبو عمرو وابن عامر" جبلا" بضم الجيم وإسكان الباء. الباقون" جبلا" ضم الجيم والباء وتخفيف اللام، وشددها الحسن وابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر وعبد الله بن عبيد والنضر بن أنس. وقرا أبو يحيى والأشهب العقيلي" جبلا" بكسر الجيم وإسكان الباء وتخفيف اللام. فهذه خمس قراءات. قال المهدوي والثعلبي: وكلها لغات بمعنى الخلق. النحاس: أبينها القراءة الأولى، والدليل على ذلك أنهم قد أجمعوا على أن قرءوا" وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ" [الشعراء: 184] فيكون" جِبِلًّا" جمع جبلة والاشتقاق فيه كله واحد. وإنما هو من جبل الله عز وجل الخلق أي خلقهم. وقد ذكرت قراءة سادسة وهي:" ولقد أضل منكم جيلا كثيرا" بالياء. وحكي عن الضحاك أن الجيل الواحد عشرة آلاف، والكثير ما لا يحصيه إلا الله عز وجل، ذكره الماوردي." أفلم تكونوا تعقلون" عداوته وتعلموا أن الواجب طاعة الله." هذه جهنم" أي تقول لهم خزنة جهنم هذه جهنم التي وعدتم فكذبتم بها. وروي عن أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (إذا كان يوم القيامة جمع الله الإنس والجن والأولين والآخرين في صعيد واحد ثم أشرف عنق من النار على الخلائق فأحاط بهم ثم ينادي مناد" هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ" فحينئذ تجثو الأمم على ركبها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ، وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ".
الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ (67) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68)
[سورة
يس (36): الآيات 65 الى 68]
الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ
أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى
أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشاءُ
لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ
(67) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (68)
قوله تعالى:" الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا
أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ" في صحيح مسلم
عن أنس بن مالك قال: كنا عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فضحك
فقال: (هل تدرون مم أضحك؟- قلنا الله ورسوله أعلم قال- من مخاطبة العبد ربه، يقول
يا رب ألم تجرني من الظلم قال: يقول بلى فيقول فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهدا
مني قال فيقول كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا وبالكرام الكاتبين شهودا قال فيختم على
فيه فيقال لأركانه انطقي قال فتنطق بأعماله قال: ثم يخلى بينه وبين الكلام فيقول
بعدا لكن وسحقا فعنكن كنت أناضل" خرجه أيضا من حديث أبي هريرة. وفيه:"
ثم يقال له الآن نبعث شاهدنا عليك ويتفكر في نفسه من ذا الذي يشهد علي فيختم على
فيه ويقال لفخذه (ولحمه وعظامه) «1» انطقي فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله وذلك
ليعذر من نفسه وذلك المنافق وذلك الذي يسخط الله عليه". وخرج الترمذي عن
معاوية بن حيدة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث ذكره قال:
وأشاره بيده إلى الشام فقال" من هاهنا إلى ها هنا تحشرون ركبانا ومشاة وتجرون
على وجوهكم يوم القيامة على أفواهكم الفدام توفون سبعين أمة أنتم خيرهم وأكرمهم
على الله وإن أول ما يعرب عن أحدكم فخذه" في رواية أخرى:" فخذه
وكفه" الفدام مصفاة الكوز والإبريق، قال الليث. قال أبو عبيد: يعني أنهم
منعوا الكلام حتى تكلم أفخاذهم فشبه ذلك بالفدام الذي يجعل على الإبريق. ثم قيل في
سبب الختم أربعة أوجه: أحدها: لأنهم قالوا
__________
(1). الزيادة من صحيح مسلم
" وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ" [الأنعام: 23] فختم الله على أفواههم حتى نطقت جوارحهم، قاله أبو موسى الأشعري. الثاني: ليعرفهم أهل الموقف فيتميزون منهم، قاله ابن زياد. الثالث: لأن إقرار غير الناطق أبلغ في الحجة من إقرار الناطق لخروجه مخرج الإعجاز، إن كان يوما لا يحتاج إلى إعجاز. الرابع: ليعلم أن أعضاءه التي كانت أعوانا في حق نفسه صارت عليه شهودا في حق ربه. فإن قيل: لم قال" وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ" فجعل ما كان من اليد كلاما، وما كان من الرجل شهادة؟ قيل: إن اليد مباشرة لعمله والرجل حاضرة، وقول الحاضر على غيره شهادة، وقول الفاعل على نفسه إقرار بما قال أو فعل، فلذلك عبر عما صدر من الأيدي بالقول وعما صدر من الأرجل بالشهادة. وقد روي عن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:" أول عظم من الإنسان يتكلم يوم يختم على الأفواه فخذه من الرجل اليسرى" ذكره الماوردي والمهدوي. وقال أبو موسى الأشعري: إنى لأحسب أن أول ما ينطق منه فخذه اليمنى، ذكره المهدوي أيضا. قال الماوردي: فاحتمل أن يكون تقدم الفخذ بالكلام على سائر الأعضاء، لأن لذة معاصيه يدركها بحواسه التي هي في الشطر الأسفل منها الفخذ، فجاز لقربه منها أن يتقدم في الشهادة عليها. قال: وتقدمت اليسرى، لأن الشهوة في ميامن الأعضاء أقوى منها في مياسرها، فلذلك تقدمت اليسرى على اليمنى لقلة شهوتها. قلت: أو بالعكس لغلبة الشهوة، أو كلاهما معا والكف، فإن بمجموع ذلك يكون تمام الشهوة واللذة. والله أعلم. قوله تعالى:" ولو نشاء لطمسنا على أعينهم فاستبقوا الصراط فأنى يبصرون" حكى الكسائي: طمس يطمس ويطمس. والمطموس والطميس عند أهل اللغة الأعمى الذي ليس في عينيه شق. قال ابن عباس: المعنى لأعميناهم عن الهدى، فلا يهتدون أبدا إلى طريق الحق. وقا ل الحسن والسدي: المعنى لتركناهم عميا يترددون. فالمعنى لأعميناهم فلا يبصرون طريقا إلى تصرفهم في منازلهم ولا غيرها. وهذا اختيار الطبري. وقوله:" فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ" أي استبقوا الطريق ليجوزوا" فَأَنَّى يُبْصِرُونَ" أي فمن أين يبصرون. وقال عطاء ومقاتل وقتادة وروي عن ابن عباس: ولو نشاء لفقأنا أعين ضلالتهم،
وأعميناهم عن غيهم، وحولنا أبصارهم من الضلالة إلى الهدى، فاهتدوا وأبصروا رشدهم، وتبادروا إلى طريق الآخرة. ثم قال:" فَأَنَّى يُبْصِرُونَ" ولم نفعل ذلك بهم، أي فكيف يهتدون وعين الهدى مطموسة، على الضلال باقية. وقد روي عن عبد الله بن سلام في تأويل هذه الآية غير ما تقدم، وتأولها على أنها في يوم القيامة. وقال: إذا كان يوم القيامة ومد الصراط.، نادى مناد ليقم محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأمته، فيقومون برهم وفاجرهم يتبعونه ليجوزوا الصراط، فإذا صاروا عليه طمس الله أعين فجارهم، فاستبقوا الصراط فمن أين يبصرونه حتى يجاوزوه. ثم ينادي مناد ليقم عيسى وأمته، فيقوم فيتبعونه برهم وفاجرهم فيكون سبيلهم تلك السبيل، وكذا سائر الأنبياء عليهم السلام. ذكره النحاس وقد كتبناه في التذكرة بمعناه حسب ما ذكره ابن المبارك في رقائقه. وذكره القشيري. وقال ابن عباس رضي الله عنه: أخذ الأسود بن الأسود حجرا ومعه جماعة من بني مخزوم ليطرحه على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فطمس الله على بصره، وألصق الحجر بيده، فما أبصره ولا اهتدى، ونزلت الآية فيه. والمطموس هو الذي لا يكون بين جفنيه شق، مأخوذ من طمس الريح الأثر، قاله الأخفش والقتبي. قوله تعالى:" وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ" المسخ: تبديل الخلقة وقلبها حجرا أو جمادا أو بهيمة. قال الحسن: أي لأقعدناهم فلا يستطيعون أن يمضوا أمامهم ولا يرجعوا وراءهم. وكذلك الجماد لا يتقدم ولا يتأخر. وقد يكون المسخ تبديل صورة الإنسان بهيمة، ثم تلك البهيمة لا تعقل موضعا تقصده فتتحير، فلا تقبل ولا تدبر. ابن عباس رضي الله عنه: المعنى لو نشاء لأهلكناهم في مساكنهم. وقيل: المعنى لو نشاء لمسخناهم في المكان الذي اجترءوا فيه على المعصية. ابن سلام: هذا كله يوم القيامة يطمس الله تعالى أعينهم على الصراط. وقرأ الحسن والسلمى وزر بن حبيش وعاصم في رواية أبي بكر" مكاناتهم" على الجمع، الباقون بالتوحيد: وقرا أبو حيوة:" فما استطاعوا مضيا" بفتح الميم. والمضي بضم الميم مصدر يمضي مضيا إذا ذهب.
وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70)
قوله
تعالى:" وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ" قرأ عاصم
وحمزة" نُنَكِّسْهُ" بضم النون الأولى
وتشديد الكاف من التنكيس. الباقون" ننكسه" بفتح النون الأولى وضم الكاف
من نكست الشيء أنكسه نكسا قلبته على رأسه فانتكس. قال قتادة: المعنى أنه يصير إلى
حال الهرم الذي يشبه حال الصبا. وقال سفيان في قول تعالى:" وَمَنْ
نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ" إذا بلغ ثمانين سنة تغير جسمه وضعفت
قوته. قال الشاعر:
من عاش أخلقت الأيام جدته ... وخانه ثقتاه السمع والبصر
فطول العمر يصير الشباب هرما، والقوة ضعفا، والزيادة نقصا، وهذا هو الغالب. وقد
تعوذ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أن يرد إلى أرذل العمر. وقد في النحل
بيانه." «1» أَفَلا يَعْقِلُونَ" أن من فعل هذا بكم قادر على بعثكم.
وقرا نافع وابن ذكوان أن من فعل هذا بكم قادر على بعثكم. وقرا نافع وابن
ذكوان:" تعقلون" بالتاء. الباقون بالياء".
[سورة يس (36): الآيات 69 الى 70]
وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ
وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى
الْكافِرِينَ (70)
قوله تعالى:" وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ" فيه أربع
مسائل: لا أولى- أخبر تعالى عن حال نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ورد
قول من قال من الكفار إنه شاعر، وإن القرآن شعر، بقوله:" وَما عَلَّمْناهُ
الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ" وكذلك كان رسول الله صلى عليه وسلم لا يقول
الشعر ولا يزنه، وكان إذا حاول إنشاد بيت قديم متمثلا كسر وزنه، وإنما كان يحرز
المعاني فقط صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. من ذلك أنه أنشد يوما قول طرفة:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ... وويأتيك من لم تزوده بالأخبار
وأنشد يوما وقد قيل له من أشعر الناس فقال الذي يقول:
ألم ترياني كلما جئت طارقا ... وجدت بها وإن لم تطب طيبا
__________
(1). راجع ج 10 ص 140 وما بعدها طبعه أولى أو ثانيه.
وأنشد
يوما:
أتجعل نهبي ونهب العب ... وئد بين الأقرع وعيينة
وقد كان عليه السلام ربما أنشد بيت المستقيم في النادر. روي أنه أنشد بيت عبد الله
بن رواحة:
ببيت يجافي جنبة عن فراشه ... وإذا استثقلت بالمشركين المضاجع
وقال الحسن بن أبي الحسن: أنشد النبي عليه السلام:
كفى بالإسلام والشيب للمرء ناهيا
فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله إنما قال الشاعر:
هريرة ودع إن تجهزت غاديا ... وكفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا
فقال أبو بكر أو عمر: أشهد أنك رسول الله، يقول الله عز وجل:" وما علمناه
الشعر وما ينبغي له". وعن الخليل بن أحمد: كان الشعر أحب إلى رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من كثير من الكلام، ولكن لا يتأتى له. الثانية-
إصابته الوزن أحيانا لا يوجب أنه يعلم الشعر، وكذلك ما يأتي أحيانا من نثر كلامه
ما يدخل في ورن، كقول يوم حنين وغيره:
(هل أنت إلا إصبع دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت)
وقوله:
(أنا النبي لا كذب ... وأنا ابن عبد المطلب)
فقد يأتي مثل ذلك في آيات القرآن، وفى كل كلام، وليس ذلك شعرا ولا في معناه، كقوله
تعالى:" لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ"
[آل عمران: 92]، وقوله:" نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ" [الصف:
13]، وقوله:" وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ" [سبأ: 13] إلى
غير ذلك من الآيات. وقد ذكر ابن العربي منها آيات وتكلم عليها وأخرجها عن الوزن،
على أن أبا الحسن الأخفش قال في قول: (أنا النبي لا كذب) ليس بشعر. وقال الخليل في
كتاب العين: إن ما جاء من السجع على جزأين لا يكون شعرا. وروي عنه أنه من منهوك
الرجز. وقد قيل:
لا يكون من منهوك الرجز إلا بالوقف على الباء من قوله:" لا كذب"، ومن قوله:" عبد المطلب". ولم يعلم كيف قاله النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال ابن العربي: والأظهر من حال أنه قال:" لا كذب" الباء مرفوعة، ويخفض الباء من عبد المطلب على الإضافة. وقال النحاس قال بعضهم: إنما الرواية بالإعراب، وإذا كانت بالإعراب لم يكن شعرا، لأنه إذا فتح الباء من البيت الأول أو ضمها أو نونها، وكسر الباء من البيت الثاني خرج عن وزن الشعر. وقال بعضهم: ليس هذا الوزن من الشعر. وهذا مكابرة العيان، لأن أشعار العرب على هذا قد رواها الخليل وغيره. وأما قوله:" هل أنت إلا إصبع دميت" فقيل إنه من بحر السريع، وذلك لا يكون إلا إذا كسرت التاء من دميت، فإن سكن لا يكون شعرا بحال، لأن هاتين الكلمتين على هذه الصفة تكون فعول، ولا مدخل لفعول في بحر السريع. ولعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالها ساكنة التاء أو متحركة التاء من غير إشباع. والمعول عليه في الانفصال على تسليم أن هذا شعر، ويسقط الاعتراض، ولا يلزم منه أن يكون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عالما بالشعر ولا شاعر أن التمثل بالبيت النزر وإصابة القافيتين من الرجز وغيره، لا يوجب أن يكون قائلها عالما بالشعر، ولا يسمى شاعرا باتفاق العلماء، كما أن من خاط خيطا لا يكون خياطا. قال أبو إسحاق الزجاج: معنى:" وما علمناه الشعر" وما علمنا هـ أن يشعر أي ما جعلناه شاعرا، وهذا لا يمنع أن ينشد شيئا من الشعر. قال النحاس: وهذا من أحسن ما قيل في هذا. وقد قيل: إنما خبر الله عز وجل أنه ما علمه الله الشعر ولم يخبر أنه لا ينشد شعرا، وهذا ظاهر الكلام. وقيل فيه قول بين، زعم صاحبه أنه إجماع من أهل اللغة، وذلك أنهم قالوا: كل من قال قولا موزونا لا يقصد به إلى شعر فليس بشعر وإنما وافق الشعر. وهذا قول بين. قالوا: وإنما الذي نفاه الله عن نبيه عليه السلام فهو العلم بالشعر وأصنافه، وأعاريضه وقوافيه والاتصاف بقوله، ولم يكن موصوفا بذلك بالاتفاق. ألا ترى أن قريشا تراوضت فيما يقولون للعرب فيه إذا قدموا عليهم الموسم، فقال بعضهم: نقول إنه شاعر. فقال أهل الفطنة منهم: والله لتكذبنكم العرب، فإنهم يعرفون
أصناف
الشعر، فوالله ما يشبه شيئا منها، وما قوله بشعر. وقال أنيس أخو أبي ذر: لقد وضعت
قوله على أقراء الشعر»
فلم يلتئم أنه شعر. أخرجه مسلم، وكان أنيس من أشعر العرب. وكذلك عتبة
بن أبي ربيعة لما كلمه: والله ما هو بشعر ولا كهانة ولا سحر، على ما يأتي بيانه من
خبره في سورة" فصلت" إن شاء الله تعالى. وكذلك قال غيرهما من فصحاء
العرب العرباء، واللسن البلغاء. ثم إن ما يجري على اللسان من موزون الكلام لا يعد
شعرا، وإنما بعد منه ما يجري على وزن الشعر مع القصد إليه، فقد يقول القائل: حدثنا
شيخ لنا وينادي يا صاحب الكسائي، ولا يعد هذا شعرا. وقد كان رجل ينادي في مرضه وهو
من عرض العامة العقلاء: اذهبوا بي إلى الطبيب وقولوا قد اكتوى. الثالثة- روى ابن
القاسم عن مالك أنه سئل عن إنشاد الشعر فقال: لا تكثرن منه، فمن عيبه أن الله
يقول:" وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ" قال: ولقد
بلغني أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى أبي موسى الأشعري: أن أجمع الشعراء
قبلك، وسلهم عن الشعر، وهل بقي معهم معرفة، وأحضر لبيدا ذلك، قال: فجمعهم فسألهم
فقالوا إنا لنعرفه ونقوله. وسأل لبيدا فقال: ما قلت شعرا منذ سمعت الله عز وجل
يقول:" الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ" [البقرة: 2- 1] قال ابن
العربي: هذه الآية ليست من عيب الشعر، كما لم يكن قوله:" وَما كُنْتَ
تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ" [العنكبوت:
48] من عيب الكتابة، فلما لم تكن الأمية من عيب الخط، كذلك لا يكون نفي النظم عن
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من عيب الشعر. روي أن المأمون قال لأبي
علي المنقري: بلغني أنك أمي، وأنك لا تقيم الشعر، وأنك تلحن. فقال: يا أمير
المؤمنين، أما اللحن فربما سبق لساني منه بشيء، وأما الأمية وكسر الشعر فقد كان
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يكتب ولا يقيم الشعر. فقال له:
سألتك عن ثلاثة عيوب فيك فزدتني رابعا وهو الجهل، يا جاهل! إن ذلك كان للنبي
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فضيلة، وهو فيك وفي أمثالك نقيصة، وإنما منع
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك لنفي الظنة عنه، لا لعيب في الشعر
والكتابة.
__________ (1). أقراء الشعر: أنواعه وطرقه وبحوره ومقاصده.
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (73)
الرابعة-
قوله تعالى:" وَما يَنْبَغِي لَهُ" أي وما ينبغي له أن يقول. وجعل الله
جل وعز ذلك علما من أعلام نبيه عليه السلام لئلا تدخل الشبهة على من أرسل إليه،
فيظن أنه قوي على القرآن بما في طبعه من القوة على الشعر. ولا اعتراض لملحد على
هذا بما يتفق الوزن فيه من القرآن وكلام الرسول، لأن ما وافق وزنه وزن الشعر، ولم
يقصد به إلى الشعر ليس بشعر، ولو كان شعرا لكان كل من نطق بموزون من العامة الذين
لا يعرفون الوزن شاعرا، على ما تقدم بيانه. وقال الزجاج: معنى" وَما
يَنْبَغِي لَهُ" أي ما يتسهل قول الشعر إلا الإنشاء." إِنْ هُوَ"
أي هذا الذي يتلوه عليكم" ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ" قوله تعالى:"
لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا" أي حي القلب، قال قتادة. الضحاك: عاقلا. وقيل:
المعنى لتنذر من كان مؤمنا في علم الله. هذا على قراءة التاء خطابا للنبي عليه
السلام، وهي قراءة نافع وابن عامر. وقرا الباقون بالياء على معنى لينذر الله عز
وجل، أو لينذر محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو لينذر القرآن. وروي عن
ابن السميقع" لينذر" بفتح الياء والذال." وَيَحِقَّ الْقَوْلُ
عَلَى الْكافِرِينَ" أي وتجب الحجة بالقرآن على الكفرة.
[سورة يس (36): الآيات 71 الى 73]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً
فَهُمْ لَها مالِكُونَ (71) وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها
يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (73)
قوله تعالى:" أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ" هذه رؤية القلب،
أي أولم ينظروا ويعتبروا ويتفكروا." مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا" أي مما
أبدعناه وعملناه من غير واسطة ولا وكالة ولا شركة. و" ما" بمعنى الذي
وحذفت إلها لطول الاسم. وإن جعلت" ما" مصدرية لم تحتج إلى إضمار
الهاء." أنعاما" جمع نعم والنعم مذكر." فَهُمْ لَها
مالِكُونَ" ضابطون قاهرون." وَذَلَّلْناها لَهُمْ أي سخرناها لهم حتى
يقود الصبي الجمل العظيم ويضربه ويصرفه كيف شاء لا يخرج من طاعته." فَمِنْها
رَكُوبُهُمْ" قراءة العامة بفتح الراء، أي مركوبهم، كما يقال: ناقة
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76)
حلوب
أي محلوب. وقرا الأعمش والحسن وابن السميقع:" فمنها ركوبهم" بضم الراء
على المصدر. وروى عن عائشة أنها قرأت" فمنها ركوبتهم" وكذا في مصحفها
والركوب والركوبة واحد، مثل الحلوب والحلوبة والحمول والحمولة. وحكى النحويون
الكوفيون: أن العرب تقول: امرأة صبور وشكور بغير هاء. ويقولون: شاة حلوبة وناقة
ركوبة، لأنهم أرادوا أن يفرقوا بين ما كان له الفعل وبين ما كان الفعل واقعا عليه،
فحذفوا الهاء مما كان فاعلا وأثبتوا فيما كان مفعولا، كما قال «1»:
فيها اثنتان وأربعون حلوبة ... وسودا كخافية الغراب الأسحم
فيجب أن يكون على هذا ركوبتهم. فأما البصريون فيقولون: حذفت الهاء على النسب.
والحجة للقول الأول ما رواه الجرمي عن أبي عبيدة قال: الركوبة تكون للواحد
والجماعة، والركوب لا يكون إلا للجماعة. فعلى هذا يكون لتذكير الجمع. وزعم أبو
حاتم: أنه لا يجوز" فمنها ركوبهم" بضم الراء لأنه مصدر، والركوب ما
يركب. وأجاز الفراء" فمنها ركوبهم" بضم الراء، كما تقول فمنها أكلهم
ومنها شربهم." وَمِنْها يَأْكُلُونَ" من لحمانها" وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ"
من أصوافها وأوبارها وأشعارها وشحومها ولحومها وغير ذلك." وَمَشارِبُ"
يعني ألبانها، ولم ينصرفا لأنهما من الجموع التي لا نظير لها في الواحد."
أَفَلا يَشْكُرُونَ" الله على نعمه.
[سورة يس (36): الآيات 74 الى 76]
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لا يَسْتَطِيعُونَ
نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ
إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (76)
ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ قوله تعالى:" وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ
اللَّهِ آلِهَةً" أي قد رأوا هذه الآيات من قدوتنا، ثم اتخذوا من دوننا آلهة
لا قدرة لها على فعل." لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ" أي لما يرجون من نصرتها
__________
(1). هو عنترة بن شداد.
أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77)
لهم
إن نزل بهم عذاب. ومن العرب من يقول: لعله أن يفعل." لا يَسْتَطِيعُونَ
نَصْرَهُمْ" يعني الآلهة. وجمعوا بالواو والنون، لأنه أخبر عنهم بخبر
الآدميين." وَهُمْ" يعني الكفار" لَهُمْ" أي للآلهة"
جُنْدٌ مُحْضَرُونَ" قال الحسن: يمنعون منهم ويدفعون عنهم. وقال قتادة: أي
يغضبون لهم في الدنيا. وقيل: المعنى أنهم يعبدون الآلهة ويقومون بها، فهم لها
بمنزلة الجند وهي لا تستطيع أن تنصرهم. وهذه الأقوال الثلاثة متقاربة المعنى.
وقيل: إن الآلهة جند للعابدين محضرون معهم في النار. فلا يدفع بعضهم عن بعض. وقيل:
معناه وهذه الأصنام لهؤلاء الكفار جند الله عليهم في جهنم، لأنهم يلعنونهم
ويتبرءون من عبادتهم. وقيل: الآلهة جند لهم محضرون يوم القيامة لإعانتهم في
ظنونهم. وفي الخبر: إنه يمثل لكل قوم ما كانوا يعبدونه في الدنيا من دون الله
فيتبعونه إلى النار، فهم لهم جند محضرون قلت: ومعنى هذا الخبر ما ثبت في صحيح مسلم
من حديث أبي هريرة، وفي الترمذي عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قال:" يجمع الله الناس يوم القيامة في صعيد واحد ثم يطلع عليهم رب العالمين
فيقول ألا ليتبع كل إنسان ما كان يعبد فيمثل لصاحب الصليب صليبه ولصاحب التصاوير
تصاويره ولصاحب النار ناره فيتبعون ما كانوا يعبدون ويبقى المسلمون" وذكر
الحديث بطوله." فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ" هذه اللغة الفصيحة. ومن
العرب من يقول يحزنك. والمراد تسلية نبيه عليه السلام، أي لا يحزنك قولهم شاعر
ساحر. وتم الكلام تم استأنف فقال:" إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما
يُعْلِنُونَ" من القول والعمل وما يظهرون فنجازيهم بذلك.
[سورة يس (36): آية 77]
أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ
مُبِينٌ (77)
مبين قوله تعالى:" أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ" قال ابن عباس: الإنسان هو
عبد الله بن أبي. وقال سعيد بن جبير: هو العاص بن وا السهمي. وقال الحسن: هو أبي
بن خلف الجمحي.
وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79)
وقاله
ابن إسحاق، ورواه ابن وهب عمالك." أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ" وهو
اليسير من الماء، نطف إذا قطر." فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ" أي مجادل
في الخصومة مبين للحجة. يريد بذلك أنه صار به بعد أن لم يكن شيئا مذكورا خصيما
مبينا. وذلك أنه أتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعظم حائل فقال: يا
محمد أترى أن الله يحيي هذا بعد ما رم! فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ" نعم ويبعثك الله ويدخلك النار" فنزلت هذه الآية.
[سورة يس (36): الآيات 78 الى 79]
وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ
رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ
خَلْقٍ عَلِيمٌ (79)
قوله تعالى:" وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ
الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ" فيه مسألتان: الأولى- قوله تعالى:" وَضَرَبَ
لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ" أي ونسي أنا أنشأناه من نطفة ميتة فركبنا
فيه الحياة. أي جوا به من نفسه حاضر، ولهذا قال عليه السلام:" نعم ويبعثك
الله ويدخلك النار" ففي هذا دليل على صحة القياس، لأن الله جل وعز احتج على
منكري البعث بالنشأة الأولى." قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ
رَمِيمٌ" أي بالية. رم العظم فهو رميم ورمام. وإنما قال رميم ولم يقل رميمة،
لأنها معدولة عن فاعلة، وما كان معدولا عن وجهه ووزنه كان مصروفا عن إعرابه،
كقوله:" وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا" [مريم: 28] أسقط الهاء، لأنها مصروفة
عن باغية. وقيل: إن هذا الكافر قال للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
أرأيت إن سحقتها وأذريتها في الريح أيعيدها الله! فنزلت" قُلْ يُحْيِيهَا
الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ" أي من غير شي فهو قادر عي إعادتها في
النشأة الثانية من شي وهو عجم الذنب. ويقال عجب الذنب بالياء." وَهُوَ
بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ" أي كيف بيدي ويعيد.
الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)
الثانية-
في هذه الآية دليل على أن في العظام حياة وأنها تنجس بالموت. وهو قول أبي حنيفة
«1» وبعض أصحاب الشافعي. وقال الشافعي رضي الله عنه: حياة فيها. وقد تقدم هذا
في" النحل". فإن قيل: أراد بقوله" مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ"
أصحاب العظام وإقامة المضاف مقام المضاف إليه كثير في اللغة، موجود في الشريعة. قلنا:
إنما يكون إذ احتيج لضرورة وليس ها هنا ضرورة تدعو إلى هذا الإضمار، ولا يفتقر إلى
هذا التقدير، إذا الباري سبحانه قد أخبر به وهو قادر عليه والحقيقة تشهد له، فإن
الإحساس الذي هو علامة الحياة موجود فيه، قاله ابن العربي.
[سورة يس (36): الآيات 80 الى 83]
الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ
تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى
أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّما
أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحانَ
الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)
قوله تعالى:" الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً"
نبه تعالى على وحدانيته، ودل على كمال قدرته في إحياء الموتى بما يشاهدونه من
إخراج المحرق اليابس من العود الندي الر طب. وذلك أن الكافر قال: النطفة حارة رطبة
بطبع حياة فخرج منها الحياة، والعظم بارد يابس بطبع الموت فكيف تخرج منه الحياة!
فأنزل الله تعالى:" الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ
ناراً" أي إن الشجر الأخضر من الماء والماء بارد رطب ضد النار وهما لا
يجتمعان، فأخرج الله منه النار، فهو القادر على إخراج الضد من الضد، وهو على كل شي
قدير. معني بالآية
__________
(1). هذا يخالف مذهب الحنفية وما تقدم للمؤلف في ج 10 ص 155 من أن أبا حنيفة يقول
بطهارة عظم الميتة.
ما
في المرخ والعفار، وهي زناده العرب، ومنه قولهم: في كل شجر نار واستمجد المر
والعفار «1»، فالعفار الزند وهو الأعلى، والمرخ الزندة وهي الأسفل، يؤخذ منهما
غصنان مثل المسواكين يقطران ماء فيحك بعضهما إلى بعض فتخرج منهما النار.
وقال:" مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ" ولم يقل الخضراء وهو جمع، لأن رده
إلى اللفظ. ومن العرب من يقول: الشجر الخضراء، كما قال عز وجل:" مِنْ شَجَرٍ
مِنْ زَقُّومٍ فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ" [الواقعة: 53- 52]. ثم قال
تعالى محتجا:" أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ
عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ" أي أمثال المنكرين للبعث. وقرا سلام أبو
المنذر ويعقوب الحضرمي:" يقدر على أن يخلق مثلهم" على أنه فعل."
بلى" أي إن خلق السموات والأرض أعظم من خلقهم، فالذي خلق السموات والأرض يقدر
على أن يبعثهم." وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ" وقرا الحسن باختلاف
عنه" الخالق". قوله تعالى:" إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً
أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ" قرأ الكسائي" فيكون" بالنصب
عطفا على" يَقُولَ" أي إذا أراد خلق شي لا يحتاج إلى تعب ومعالجة. وقد
مضى هذا في غير موضع." فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ
شَيْءٍ" نزه نفسه تعالى عن العجز والشرك وملكوت وملكوتي في كلام العرب بمعنى
ملك. والعرب تقول: جبروتي خير من رحموتي. وقال سعيد عن قتادة:" مَلَكُوتُ
كُلِّ شَيْءٍ" مفاتح كل شي. وقرا طلحة بن مصرف وإبراهيم التيمي والأعمش"
ملكة"، وهو بمعنى ملكوت إلا أنه خلاف المصحف." وَإِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ" أي تردون وتصيرون بعد مماتكم. وقراءة العامة بالتاء على الخطاب.
وقرا السلمي وزر بن حبيش وأصحاب عبد الله" يرجعون" بالياء على الخبر.
__________
(1). استمجد المرخ والعفار: أي استكثرا وأخذا من النار ما هو حسبهما. وهو مثل يضرب
في تفضيل بعض الشيء على بعض.
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3) إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5)
[تفسير
سورة الصافات ]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تفسير سورة الصافات مكية في قول الجميع
[سورة الصافات (37): الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (2) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (3)
إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (4)
رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (5)
قوله تعالى:" وَالصَّافَّاتِ صَفًّا. فَالزَّاجِراتِ زَجْراً. فَالتَّالِياتِ
ذِكْراً" هذه قراءة أكثر القراء. وقرا حمزة بالإدغام فيهن. وهذه القراءة التي
نفر منها أحمد بن حنبل لما سمعها. النحاس: وهي بعيدة في العربية من ثلاث جهات:
إحداهن أن التاء ليست من مخرج الصاد، ولا من مخرج الزاي، ولا من مخرج الذال، ولا
من أخواتهن، وإنما أختاها الطاء والدال، وأخت الزاي الصاد والسين، وأخت الذال
الظاء والثاء. والجهة الثانية أن التاء في كلمة وما بعدها في كلمة أخرى. والجهة
الثالثة أنك إذا أدغمت جمعت بين ساكنين من كلمتين، وإنما يجوز الجمع بين ساكنين في
مثل هذا إذا كانا في كلمة واحدة، نحو دابة وشابة. ومجاز قراءة حمزة أن التاء قريبة
المخرج من هذه الحروف." وَالصَّافَّاتِ" قسم، الواو بدل من الباء.
والمعنى برب الصافات و" فَالزَّاجِراتِ" عطف عليه." إِنَّ
إِلهَكُمْ لَواحِدٌ" جواب القسم. وأجاز الكسائي فتح إن في القسم. والمراد
ب" الصَّافَّاتِ" وما بعدها إلى قوله:" فَالتَّالِياتِ
ذِكْراً" الملائكة في قول ابن عباس وابن مسعود وعكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد
وقتادة. تصف في السماء كصفوف الخلق في الدنيا للصلاة. وقيل: تصف أجنحتها في الهواء
واقفة فيه حتى يأمرها الله بما يريد. وهذا كما تقوم العبيد بين أيدي ملوكهم صفوفا.
وقال الحسن:" صَفًّا" لصفوفهم عند ربهم في صلاتهم. وقيل: هي الطير،
دليله قوله
تعالى:"
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ" [الملك: 19]. والصف
ترتيب الجمع على خط كالصف في الصلاة. والصَّافَّاتِ" جمع الجمع، يقال: جماعة
صافة ثم يجمع صافات. وقيل: الصافات جماعة الناس المؤمنين إذا قاموا صفا في الصلاة
أو في الجهاد، ذكره القشيري." فَالزَّاجِراتِ" الملائكة في قول ابن عباس
وابن مسعود ومسروق وغيرهم على ما ذكرناه. إما لأنها تزجر السحاب وتسوقه في قول
السدي. وإما لأنها تزجر عن المعاصي بالمواعظ والنصائح. وقال قتادة: هي زواجر
القرآن." فَالتَّالِياتِ ذِكْراً" الملائكة تقرأ كتاب الله تعالى، قال
ابن مسعود وابن عباس والحسن ومجاهد وابن جبير والسدي. وقيل: المراد جبريل وحده
فذكر بلفظ الجمع، لأنه كبير الملائكة فلا يخلو من جنود وأتباع. وقال قتادة: المراد
كل من تلا ذكر الله تعالى وكتبه. وقيل: هي آيات القرآن وصفها بالتلاوة كما قال
تعالى:" إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ" [النمل:
76]. ويجوز أن يقال لآيات القرآن تاليات، لأن بعض الحروف يتبع بعضا، ذكره القشيري.
وذكر الماوردي: أن المراد بالتاليات الأنبياء يتلون الذكر على أممهم. فإن قيل: ما
حكم الفاء إذا جاءت عاطفة في الصفات؟ قيل له: إما أن تدل على ترتب معانيها في
الوجود، كقوله «1»:
يا لهف زيابة للحارث الص ... ابح فالغانم فالآيب
كأنه قال: الذي صبح فغنم فآب. وإما على ترتبها في التفاوت من بعض الوجوه كقولك: خذ
الأفضل فالأكمل، واعمل الأحسن فالأجمل. وإما على ترتب موصوفاتها في ذلك كقوله: رحم
الله المحلقين فالمقصرين. فعلى هذه القوانين الثلاثة ينساق أمر ألفاء العاطفة في
الصفات، قاله الزمخشري." إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ" جواب القسم. قال
مقاتل: وذلك أن الكفار بمكة قالوا أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً، وكيف يسع
هذا الخلق فرد إله! فأقسم الله بهؤلاء تشريفا.
__________
(1). هو سلمة بن ذهل ويعرف بابن زيابة وزيابة أبوه، وقيل اسم أمه. يقول يا لهف أبى
على الحرث إذا صبح قومي بالغارة فغنم وآب سالما ألا أكون لقيته فقتلته. ويريد يا
لهف نفسي. والحرث هو الحرث بن همام الشيباني كما في شرح أشعار الحماسة. وبعد هذا
البيت:
والله لو لاقيته خاليا ... ولآب سيقانا مع الغالب
ونزلت
الآية. قال ابن الأنباري: وهو وقف حسن، ثم تبتدى" رَبُّ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ" على معنى هو رب السموات. النحاس: ويجوز أن يكون" رَبُّ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ"
خبرا بعد خبر، ويجوز أن يكون بدلا من" واحد". قلت: وعلى هذين الوجهين لا
يوقف على" لواحد". وحكى الأخفش:" رب السموات ورب المشارق"
بالنصب على النعت لاسم إن. بين سبحانه معنى وحدانيته وألوهيته وكمال قدرته
بأنه" رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ" أي خالقهما ومالكهما" وَما
بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ" أي مالك مطالع الشمس. ابن عباس: للشمس كل يوم
مشرق ومغرب، وذلك أن الله تعالى خلق للشمس ثلاثمائة وخمسة وستين كوة في مطلعها،
ومثلها في مغربها على عدد أيام السنة الشمسية، تطلع في كل يوم في كوة منها، وتغيب
في كوة، لا تطلع في تلك الكوة إلا في ذلك اليوم من العام المقبل. ولا تطلع إلا وهي
كارهة فتقول: رب لا تطلعني على عبادك فإني أراهم يعصونك. ذكره أبو عمر في كتاب
التمهيد، وابن الأنباري في كتاب الر د عن عكرمة، قال: قلت لابن عباس أرأيت ما جاء
عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أمية بن أبي الصلت" آمن شعره
وكفر قلبه" قال: هو حق فما أنكرتم من ذلك؟ قلت: أنكرنا قول:
والشمس تطلع كل آخر ليلة ... وحمراء يصبح لونها يتورد
ليست بطالعه لهم في رسلها ... وإلا معذبة وإلا تجلد
ما بال الشمس تجلد؟ فقال: والذي نفسي بيده ما طلعت شمس قط حتى ينخسها سبعون ألف
ملك، فيقولون لها اطلعي اطلعي، فتقول لا أطلع على قوم يعبدونني من دون الله،
فيأتيها ملك فيستقل لضياء بني آدم، فيأتيها شيطان يريد أن يصدها عن الطلوع فتطلع
بين قرنيه فيحرقه الله تعالى تحتها، فذلك قول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:" ما طلعت إلا بين قرني شيطان ولا غربت إلا بين قرني شيطان وما
غربت قط إلا خرت لله ساجدة فيأتيها شيطان يريد أن يصدها عن السجود فتغرب بين قرنيه
فيحرقه الله تعالى تحتها" لفظ ابن الأنباري. وذكر
إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10)
عن
عكرمة عن ابن عباس قال: صدق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمية بن
أبي الصلت في هذا الشعر:
زحل وثور تحت رجل يمينه ... ووالنسر للأخرى وليث مرصد
والشمس تطلع كل آخر ليلة ... وحمراء يصبح لونها يتورد
ليست بطالعه لهم في رسلها ... وإلا معذبة وإلا تجلد
قال عكرمة: فقلت لابن عباس: يا مولاي أتجلد الشمس؟ فقال: إنما اضطره الروي إلى
الجلد لكنها تخاف العقاب. ودل بذكر المطالع على المغارب، فلهذا لم يذكر المغارب،
وهو كقوله:" سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ" [النحل: 81]. وخص المشارق
بالذكر، لأن الشروق قبل الغروب. وقال في سورة [الرحمن ]" رَبُّ
الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ" [الرحمن: 17] أراد بالمشرقين أقصى
مطلع تطلع منه الشمس في الأيام الطوال، وأقصر يوم في الأيام القصار على ما تقدم
في" يس" «1» والله أعلم.
[سورة الصافات (37): الآيات 6 الى 10]
إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (6) وَحِفْظاً مِنْ
كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (7) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى
وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (8) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (9) إِلاَّ
مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (10)
قوله تعالى:" إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ
الْكَواكِبِ" قال قتادة: خلقت النجوم ثلاثا، رجوما للشياطين، ونورا يهتدى
بها، وزينة لسماء الدنيا. وقرا مسروق والأعمش والنخعي وعاصم وحمزة"
بِزِينَةٍ" مخفوض منون" الْكَواكِبِ" خفض على البدل من"
بِزِينَةٍ" لأنها هي. وقرا أبو بكر كذلك إلا أنه نصب" الكواكب"
بالمصدر الذي هو زينة. والمعنى بأن زينا الكواكب فيها. ويجوز أن يكون منصوبا
بإضمار أعنى، كأنه قال: إنا زيناها" بزينة" أعني" الكواكب".
وقيل: هي بدل من زينة على الموضع.
__________
(1). راجع ص 27 وما بعدها من هذا الجزء. [.....]
ويجوز"
بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ" بمعنى أن زينتها الكواكب. أو بمعنى هي الكواكب.
الباقون" بزينة الكواكب" على الإضافة. والمعنى زينا السماء الدنيا
بتزيين الكواكب، أي بحسن الكواكب. ويجوز أن يكون كقراءة من نون إلا أنه حذف
التنوين استخفافا." وَحِفْظاً" مصدر أي حفظناها حفظنا." مِنْ كُلِّ
شَيْطانٍ مارِدٍ" لما أخبر أن الملائكة تنزل بالوحي من السماء، بين أنه حرس
السماء عن استراق السمع بعد أن زينها بالكواكب. والمارد: العاتي من الجن والإنس،
والعرب تسميه شيطانا. قوله تعالى:" لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ
الْأَعْلى " قال أبو حاتم: أي لئلا يسمعوا ثم حذف" أن" فرفع الفعل.
الملأ الأعلى: أهل السماء الدنيا فما فوقها، وسمي الكل منهم أعلى بالإضافة إلى ملأ
الأرض. الضمير في" يَسَّمَّعُونَ" للشياطين. وقرا جمهور الناس"
يسمعون" بسكون السين وتخفيف الميم. وقرا حمزة وعاصم في رواية حفص" لا
يسمعون" بتشديد السين والميم من التسميع. فينتفي على القراءة الأولى سماعهم
وإن كانوا يستمعون، وهو المعنى الصحيح، ويعضده قوله تعالى:" إِنَّهُمْ عَنِ
السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ" [الشعراء: 212]. وينتفي على القراءة الأخيرة أن
يقع منهم استماع أو سماع. قال مجاهد: كانوا يتسمعون ولكن لا يسمعون. وروي عن ابن
عباس" لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ" قال: هم لا يسمعون ولا
يتسمعون. واصل" يَسَّمَّعُونَ" يتسمعون فأدغمت التاء في السين لقربها
منها. واختارها أبو عبيد، لأن العرب لا تكاد تقول: سمعت إليه وتقول تسمعت
إليه." وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ" أي يرمون من كل جانب، أي
بالشهب." دُحُوراً" مصدر لأن معنى" يُقْذَفُونَ" يدحرون.
دحرته دحرا ودحورا أي طردته. وقرا السلمي ويعقوب الحضرمي" دحورا" بفتح
الدال يكون مصدرا على فعول. وأما الفراء فإنه قدره على أنه اسم الفاعل. أي ويقذفون
بما يدحرهم أي بدحور ثم حذف الباء، والكوفيون يستعملون هذا كثير كما أنشدوا «1»:
تمرون الديار ولم تعوجوا
__________
(1). الزيادة من اعراب القرآن للنحاس. والبيت لجرير وتمامه:
كلامكم على إذن حرام
واختلف هل كان هذا القذف قبل المبعث، أو بعده لأجل المبعث، على قولين. وجاءت الأحاديث بذلك على ما يأتي من ذكرها في سورة" الجن" عن ابن عباس. وقد يمكن الجمع بينهما أن يقال: إن الذين قالوا لم تكن الشياطين ترمى بالنجوم قبل مبعث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم رميت، أي لم تكن ترمى رميا يقطعها عن السمع، ولكنها كانت ترمى وقتا ولا ترمى وقتا، وترمى من جانب ولا ترمى من جانب. ولعل الإشارة بقوله تعالى:" وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ. دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ" إلى هذا المعنى، وهو أنهم كانوا لا يقذفون إلا من بعض الجوانب فصاروا يرمون واصبا. وإنما كانوا من قبل كالمتجسسة من الإنس، يبلغ الواحد منهم حاجته ولا يبلغها غيره، ويزسلزم واحد ولا يزسلزم غيره، بل يقبض عليه ويعاقب وينكل. فلما بعث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زيد في حفظ السماء، واعدت لهم شهب لم تكن من قبل، ليدحروا عن جميع جوانب السماء، ولا يقروا في مقعد من المقاعد التي كانت لهم منها، فصاروا لا يقدرون على سماع شي مما يجري فيها، إلا أن يختطف أحد منهم بخفة حركته خطفة، فيتبعه شهاب ثاقب قبل أن ينزل إلى الأرض فيلقيها إلى إخوانه فيحرقه، فبطلت من ذلك الكهانة وحصلت الرسالة والنبوة. فإن قيل: إن هذا القذف إن كا ن لأجل النبوة فلم دام بعد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فالجواب: أنه دام بدوام النبوة، فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبر ببطلان الكهانة فقال:" ليس منا من تكهن" فلو لم تحرس بعد موته لعادت الجن إلى تسمعها، وعادت الكهانة. ولا يجوز ذلك بعد أن بطل، ولأن قطع الحراسة عن السماء إذا وقع لأجل النبوة فعادت الكهانة دخلت الشبهة على ضعفاء المسلمين، ولم يؤمن أن يظنوا أن الكهانة إنما عادت لتناهي النبوة، فصح أن الحكمة تقضي دوام الحراسة في حياة النبي عليه السلام، وبعد أن توفاه الله إلى كرامته صلى الله عليه وعلى آله." وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ" أي دائم، عن مجاهد وقتادة. وقال ابن عباس: شديد. الكلبي والسدي وأبو صالح: موجع، أي الذي يصل وجعه إلى القلب، مأخوذ من الوصب وهو المرض" إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ" استثناء من قوله:" وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ". وقيل: الاستثناء يرجع إلى غير
الوحي،
لقوله تعالى:" إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ" [الشعراء: 212]
فيسترق الواحد منهم شيئا مما يتفاوض فيه الملائكة، مما سيكون في العالم قبل أن
يعلمه أهل الأرض، وهذا لخفة أجسام الشياطين فيرجمون بالشهب حينئذ. وروي في هذا
الباب أحاديث صحاح، مضمونها أن الشياطين كانت تصعد إلى السماء، فتقعد للسمع واحدا
فوق واحد، فيتقدم الأجسر نحو السماء ثم الذي يليه ثم الذي يليه، فيقضي الله تعالى
الأمر من أمر الأرض، فيتحدث به أهل السماء فيسمعه منهم الشيطان الأدنى، فيلقيه إلى
الذي تحته فربما أحرقه شهاب، وقد ألقى الكلام، وربما لم يحرقه على ما بيناه. فتنزل
تلك الكلمة إلى الكهان، فيكذبون معها مائة كذبة، وتصدق تلك الكلمة فيصدق الجاهلون
الجميع كما بيناه في [الأنعام «1»]. فلما جاء الله بالإسلام حرست السماء بشدة، فلا
يفلت شيطان سمع بتة. والكواكب الراجمة هي التي يراها الناس تنقض. قال النقاش ومكي:
وليست بالكواكب الجارية في السماء، لأن تلك لا ترى حركتها، وهذه الراجمة ترى
حركتها، لأنها قريبة منا. وقد مضى في هذا الباب في سورة" الحجر" «2» من
البيان ما فيه كفاية. وذكرنا في" سبأ" «3» حديث أبي هريرة. وفيه"
والشياطين بعضهم فوق بعض" وقال فيه الترمذي حديث حسن صحيح. وفية عن ابن عباس:"
ويختطف الشياطين السمع فيرمون فيقذفونه إلى أوليائهم فما جاءوا به على وجهه فهو حق
ولكنهم يحرفونه ويزيدون". قال هذا حديث حسن صحيح. والخطف: أخذ الشيء بسرعة،
يقال «4» خطف وخطف وخطف وخطف. والأصل في المشددات اختطف فأدغم التاء في الطاء
لأنها أختها، وفتحت الخاء، لأن حركة التاء ألقيت عليها. ومن كسرها فلالتقاء
الساكنين. ومن كسر الطاء أتبع الكسر الكسر." فاتبعه شهاب ثاقب" أي مضيء،
قاله الضحاك والحسن وغيرهما. وقيل: المراد كواكب النار تتبعهم حتى تسقطهم في
البحر. وقال ابن عباس في الشهب: تحرقهم من غير موت. وليست الشهب التي يرجم الناس
بها
__________
(1). راجع ج 7 ص 3 وما بعدها طبعه أولى أو ثانيه.
(2). راجع ج 10 ص 10 وما بعدها طبعه أولى أو ثانيه.
(3). راجع 14 ص 296 طبعه أولى أو ثانيه.
(4). زيادة يقتضيها السياق، ويدل عليها ما في إعراب القرآن للنحاس.
فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17)
من
الكواكب الثوابت. يدل على ذلك رؤية حركاتها، والثابتة تجري ولا ترى حركاتها
لبعدها. وقد مضى هذا. وجمع شهاب شهب، والقياس في القليل أشهبة وإن لم يسمع من
العرب و" ثاقِبٌ" معناه مضيء، قاله الحسن ومجاهد وأبو مجلز. ومنه قوله:
وزندك أثقب أزنادها
أي أضوأ. وحكى الأخفش في الجمع: شهب ثقب وثواقب وثقاب. وحكى الكسائي: ثقبت النار
تثقب ثقابة وثقوبا إذا اتقدت، وأثقبتها أنا. وقال زيد بن أسلم في الثاقب: إنه
المستوقد، من قولهم: أثقب زندك أي استوقد نارك، قال الأخفش. وأنشد قول الشاعر:
بينما المرء شهاب ثاقب ... وضرب الدهر سناه فخمد
[سورة الصافات (37): الآيات 11 الى 17]
فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ
مِنْ طِينٍ لازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ
(13) وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ
مُبِينٌ (15)
أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16)
أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17)
قوله تعالى:" فَاسْتَفْتِهِمْ" أي سلهم يعني أهل مكة، مأخوذ من استفتاء
المفتي." أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا" قال مجاهد: أي من
خلقنا من السموات والأرض والجبال والبحار. وقيل: يدخل فيه الملائكة ومن سلف من
الأمم الماضية. يدل على ذلك أنه أخبر عنهم" بمن" قال سعيد بن جبير:
الملائكة. وقال غيره:" من" الأمم الماضية وقد هلكوا وهم أشد خلقا منهم.
نزلت في أبي الأشد بن كلدة، وسمي بأبى الأشد لشدة بطشه وقوته. وسيأتي في"
البلد" ذكره. ونظير هذه:" لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ
مِنْ خَلْقِ النَّاسِ" [غافر: 57] وقوله:" أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً
أَمِ السَّماءُ" [النازعات: 27]." إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ
لازِبٍ" أي لاصق، قال ابن عباس. ومنه قول علي رضي الله عنه:
تعلم فإن الله زادك بسطة ... ووأخلاق خير كلها لك لازب
وقال
قتادة وابن زيد: معنى" لازب" لازق. الماوردي: والفرق بين اللاصق واللازق
أن اللاصق: هو الذي قد لصق بعضه ببعض، واللازق: هو الذي يلتزق بما أصابه. وقال
عكرمة:" لازب" لزج. سعيد بن جبير: أي جيد حر يلصق باليد. مجاهد"
لازب" لازم. والعرب تقول: طين لازب ولازم، تبدل الباء من الميم. ومثله قولهم
لاتب ولازم. على إبدال الباء بالميم. واللازب الثابت، تقول: صار الشيء ضربة لازب،
وهو أفصح من لازم. قال النابغة:
ولا تحسبون الخير لا شر بعده ... ولا تحسبون الشر ضربة لازب
وحكى الفراء عن العرب: طين لاتب بمعنى لازم. واللاتب الثابت، تقول منه: لتب يلتب
لتبا ولتوبا، مثل لزب يزب بالضم لزوبا، وأنشد أبو الجراح في اللاتب:
فإن يك هذا من نبيذ شربته ... وفاني من شرب النبيذ لتائب
صداع وتوصيم العظام وفترة ... ووغم مع الإشراق في الجوف لاتب «1»
واللاتب أيضا: اللاصق مثل اللازب، عن الأصمعي حكاه الجوهري. وقال السدي والكلبي في
اللازب: إنه الخالص. مجاهد والضحاك: إنه المنتن. قوله تعالى:" بَلْ عَجِبْتَ
وَيَسْخَرُونَ" قراءة أهل المدينة وأبي عمرو وعاصم بفتح التاء خطابا للنبي
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أي بل عجبت مما نزل عليك من القرآن وهم يسخرون
به. وهي قراءة شريح وأنكر قراءة الضم «2» وقال: إن الله لا يعجب من شي، وإنما يعجب
من لا يعلم. وقيل: المعنى بل عجبت من إنكارهم للبعث. وقرا الكوفيون إلا عاصما بضم
التاء. واختارها أبو عبيد والفراء، وهي مروية عن علي وابن مسعود، رواه شعبة عن
الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود أنه قرأ:" بل عجبت" بضم التاء.
ويروى عن ابن عباس. قال الفراء في قوله سبحانه:" بَلْ عَجِبْتَ
وَيَسْخَرُونَ" قرأها الناس بنصب
__________
(1). قوله: وغم مع الإشراق كرواية اللسان. ورواية الطبري: وغثي مع الإشراق.
(2). الزيادة من تفسير الألوسي.
التاء ورفعها، والرفع أحب إلي، لأنها عن علي وعبد الله وابن عباس. وقال أبو زكريا القراء: العجب إن أسند إلى الله عز وجل فليس معناه من الله كمعناه من العباد، وكذلك قوله:"" اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ" ليس ذلك من الله كمعناه من العباد. وفى هذا بيان الكسر لقول شريح حيث أنكر القراءة بها. روى جرير والأعمش عن أبي وائل شقيق بن سلمة قال: قرأها عبد الله يعني ابن مسعود" بل عجبت ويسخرون" قال شريح: إن الله لا يعجب من شي إنما يعجب من لا يعلم. قال الأعمش فذكرته لإبراهيم فقال: إن شريحا كان يعجبه رأيه، إن عبد الله كان أعلم من شريح وكان يقرؤها عبد الله" بل عجبت،". قال الهروي: وقال بعض الأئمة: معنى قوله:" بَلْ عَجِبْتَ" بل جازيتهم على عجبهم، لأن الله تعالى أخبر عنهم في غير موضع بالتعجب من الحق، فقال:" وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ" [ص: 4] وقال:" إِنَّ هذا لَشَيْ ءٌ عُجابٌ"،" أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ" [يونس: 2] فقال تعالى:" بَلْ عَجِبْتَ" بل جازيتهم على التعجب. قلت: وهذا تمام معنى قول الفراء واختاره البيهقي. وقال علي بن سليمان: معنى القراءتين واحد، التقدير: قيل يا محمد بل عجبت، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مخاطب بالقرآن. النحاس: وهذا قول حسن وإضمار القول كثير. البيهقي: والأول أصح. المهدوي: ويجوز أن يكون إخبار الله عن نفسه بالعجب محمولا على أنه أظهر من أمره وسخطه على من كفر به ما يقوم مقام العجب من المخلوقين، كما يحمل إخباره تعالى عن نفسه بالضحك لمن يرضى عنه- على ما جاء في الخبر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على أنه أظهر له من رضاه عنه ما يقوم له مقام الضحك من المخلوقين مجازا واتساعا. قال الهروي: ويقال معنى (عجب ربكم) أي رضي وأثاب، فسماه عجبا وليس بعجب في الحقيقة، كما فال تعالى:" وَيَمْكُرُ اللَّهُ" [الأنفال: 30] معناه ويجازيهم الله على مكرهم، ومثله في الحديث (عجب ربكم من إلكم، م وقنوطكم). وقد يكون العجب بمعنى وقوع ذلك العمل عند الله عظيما. فيكون معنى قوله:" بَلْ عَجِبْتَ" أي بل عظم فعلهم عندي. قال البيهقي: ويشبه أن يكون هذا معنى حديث عقبة بن عامر قال:
سمعت
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:" عجب ربك من شاب ليست له
صبوة" وكذلك ما خرجه البخاري عن أبي هريرة «1» عن النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال" عجب الله من قوم يدخلون الجنة في السلاسل" قال
البيهقي: وقد يكون هذا الحديث وما ورد من أمثاله أنه يعجب ملائكته من كرمه ورأفته
بعباده، حين حملهم على الإيمان به بالقتال والأسر في السلاسل، حتى إذا آمنوا
أدخلهم الجنة. وقيل: معنى" بَلْ عَجِبْتَ" بل أنكرت. حكاه النقاش. وقال
الحسين بن الفضل: التعجب من الله إنكار الشيء وتعظيمه، وهو لغة العرب. وقد جاء في
الخبر" عجب ربكم من الكم وقنوطكم"." وَيَسْخَرُونَ" قيل:
الواو واو الحال، أي عجبت منهم في حال سخريتهم. وقيل: تم الكلام عند قوله:"
بَلْ عَجِبْتَ" ثم استأنف فقال:" وَيَسْخَرُونَ" أي مما جئت به إذا
تلوته عليهم. وقيل: يسخرون منك إذا دعوتهم. قوله تعالى:" وَإِذا ذُكِّرُوا"
أي وعظوا بالقرآن في قول قتادة:" لا يَذْكُرُونَ" لا ينتفعون به. وقال
سعيد بن جبير: أي إذا ذكر لهم ما حل بالمكذبين من قبلهم أعرضوا عنه ولم
يتدبروا." وَإِذا رَأَوْا آيَةً" أي معجزة" يَسْتَسْخِرُونَ"
أي يسخرون في قول قتادة. ويقولون إنها سحر. واستسخر وسخر بمعنى مثل استقر وقر،
واستعجب، وعجب. وقيل:" يَسْتَسْخِرُونَ" أي يستدعون السخري من غيرهم.
وقال مجاهد: يستهزئون. وقيل: أي يظنون أن تلك الآية سخرية." وَقالُوا إِنْ
هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ" أي إذا عجزوا عن مقابلة المعجزات بشيء قالوا هذا
سحر وتخييل وخداع." أَإِذا مِتْنا" أي انبعث إذا متنا؟. فهو استفهام
إنكار منهم وسخرية." أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ" أي أو تبعث آباؤنا.
دخلت ألف الاستفهام على حرف العطف. قرأ نافع:" أو آباؤنا" بسكون الواو.
وقد مضى هذا في سورة" الأعراف" «2». في قوله تعالى:" أَوَأَمِنَ
أَهْلُ الْقُرى " [الأعراف: 98].
__________
(1). الزيادة من البخاري وفى الأصل بياض.
(2). راجع ج 7 ص 253 طبعه أولى أو ثانيه.
قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28) قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35)
[سورة
الصافات (37): الآيات 18 الى 21]
قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (18) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا
هُمْ يَنْظُرُونَ (19) وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (20) هذا يَوْمُ
الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21)
قوله تعالى:" قُلْ نَعَمْ" أي نعم تبعثون." وَأَنْتُمْ
داخِرُونَ" أي صاغرون أذلاء، لأنهم إذا رأوا وقوع ما أنكروه فلا محالة يذلون
وقيل: أي ستقوم القيامة وإن كرهتم، فهذا أمر واقع على رغمكم وإن أنكرتموه اليوم
بزعمكم." فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ" أي صيحة واحدة، قاله الحسن
وهي النفخة الثانية. وسميت الصيحة زجرة، لأن مقصودها الزجر أي يزجر بها كزجر الإبل
والخيل عند السوق." فَإِذا هُمْ قِيامٌ" يَنْظُرُونَ" أي ينظر
بعضهم إلى بعض. وقيل: المعنى ينتظرون ما يفعل بهم. وقيل: هي مثل قوله:"
فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا" [الأنبياء: 97]. وقيل: أي
ينظرون إلى البعث الذي أنكروه. قوله تعالى:" وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ
الدِّينِ" نادوا على أنفسهم بالويل، لأنهم يومئذ يعلمون ما حل بهم. وهو منصوب
على أنه مصدر عند البصريين. وزعم الفراء أن تقديره يأوي لنا، ووي بمعنى حزن.
النحاس: ولو كان كما قال لكان منفصلا وهو في المصحف متصل، ولا نعلم أحدا يكتبه إلا
متصلا. و" يَوْمُ الدِّينِ" يوم الحساب. وقيل: يوم الجزاء." هذا
يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ" قيل: هو من قول بعضهم
لبعض، أي هذا اليوم الذي كذبنا به. وقيل: هو قول الله تعالى لهم. وقيل: من قول
الملائكة، أي هذا يوم الحكم بين الناس فيبين المحق من المبطل. ف" فَرِيقٌ فِي
الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ" [الشورى: 7].
[سورة الصافات (37): الآيات 22 الى 35]
احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ
دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ
مَسْؤُلُونَ (24) ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ
مُسْتَسْلِمُونَ (26)
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (27) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ
تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (28) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29)
وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (30)
فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (31)
فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي
الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34)
إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35)
قوله تعالى:" احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ"، هو من قول الله تعالى للملائكة:" احْشُرُوا المشركين وَأَزْواجَهُمْ" أي أشياعهم في الشرك، والشرك الظلم، قال الله تعالى:" إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ" [لقمان: 13] فيحشر الكافر مع الكافر، قاله قتادة وأبو العالية. وقال عمر بن الخطاب في قول الله عز وجل:" احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ" قال: الزاني مع الزاني، وشارب الخمر مع شارب الخمر، وصاحب السرقة مع صاحب السر قه. وقال ابن عباس:" وَأَزْواجَهُمْ" أي أشباههم. وهذا يرجع إلى قول عمر. وقيل:" وَأَزْواجَهُمْ" نساؤهم الموافقات على الكفر، قاله مجاهد والحسن، ورواه النعمان بن بشير عن عمر بن الخطاب. وقال الضحاك:" وَأَزْواجَهُمْ" قرناءهم من الشياطين. وهذا قول مقاتل أيضا: يحشر كل كافر مع شيطانه في سلسلة." وَما كانُوا يَعْبُدُونَ. مِنْ دُونِ اللَّهِ" من الأصنام والشياطين وإبليس." فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ" أي سوقوهم إلى النار. وقيل:" فَاهْدُوهُمْ" أي دلوهم. يقال: هديته إلى الطريق، وهديته الطريق، أي دللته عليه. وأهديت الهدية وهديت العروس، ويقال أهديتها، أي جعلتها بمنزلة الهدية. قوله تعالى:" وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ" وحكى عيسى بن عمر" أنهم" بفتح الهمزة. قال الكسائي: أي لأنهم وبأنهم، يقال: وقفت الدابة أقفها وقفا فوقفت هي وقوفا، يتعدى ولا يتعدى، أي احسبوهم. وهذا يكون قبل السوق إلى الجحيم، وفية تقديم وتأخير،
أي
قفوهم للحساب ثم سوقوهم إلى النار. وقيل: يساقون إلى النار أولا ثم يحشرون للسؤال
إذا قربوا من النار." إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ" عن أعمالهم وأقوالهم
وأفعالهم، قال القرظي والكلبي. الضحاك: عن خطاياهم. ابن عباس: عن لا إله إلا الله.
وعنه أيضا: عن ظلم الخلق. وفي هذا كله دليل على أن الكافر يحاسب. وقد مضى في"
الحجر" «1» الكلام فيه. وقيل سؤالهم أن يقال لهم:" لَمْ يَأْتِكُمْ
رُسُلٌ مِنْكُمْ
" [الأنعام: 130] إقامة الحجة. ويقال لهم:" ما لَكُمْ لا
تَناصَرُونَ" على جهة التقريع والتوبيخ، أي ينصر بعضكم بعضا فيمنعه من عذاب
الله. وقيل: هو إشارة إلى قول أبي جهل يوم بدر:" نَحْنُ جَمِيعٌ
مُنْتَصِرٌ" [القمر: 44]. وأصله تتناصرون فطرحت إحدى التاءين تخفيفا. وشدد
البزي التاء في الوصل. قوله تعالى:" بَلْ هُمُ الْيَوْمَ
مُسْتَسْلِمُونَ" قال قتادة: مستسلمون في عذاب الله عز وجل. ابن عباس: خاضعون
ذليلون. الحسن: منقادون. الأخفش: ملقون بأيديهم. والمعنى متقارب." وَأَقْبَلَ
بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ" يعني الرؤساء والأتباع" يَتَساءَلُونَ"
يتخاصمون. ويقال لا يتساءلون فسقطت لا. النحاس: وإنما غلط الجاهل باللغة فتوهم أن
هذا من قوله:" فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ"
[المؤمنون: 101] إنما هو لا يتساءلون بالأرحام، فيقول أحدهم: أسألك بالرحم الذي
بيني وبينك لما نفعتني، أو أسقطت لي حقا لك علي، أو وهبت لي حسنة. وهذا بين، لأن
قبله" فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ" [المؤمنون: 101]. أي ليس ينتفعون
بالأنساب التي بينهم، كما جاء في الحديث:" إن الرجل ليسر بأن يصبح له على
أبيه أو على ابنه حق فيأخذه منه لأنها الحسنات والسيئات"، وفي حديث
آخر:" رحم الله امرأ كان لأخيه عنده مظلمة من مال أو عرض فأتاه فاستحله قبل
أن يطالبه به فيأخذ من حسناته فإن لم تكن له حسنات زيد عليه من سيئات المطالب".
و" يَتَساءَلُونَ" ها هنا إنما هو أن يسأل بعضهم بعضا ويوبخه في أنه
أضله أو فتح بابا من المعصية، يبين ذلك أن بعده" إِنَّكُمْ كُنْتُمْ
تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ" قال مجاهد: هو قول الكفار للشياطين. قتادة: هو
قول الإنس للجن. وقيل: هو من قول
__________
(1). راجع ج 10 ص 60 طبعه أولى أو ثانيه.
الأتباع
للمتبوعين، دليله قول تعالى:" وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ
عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ" [سبأ: 31]
الآية. قال سعيد عن قتادة: أي تأتوننا عن طريق الخير وتصدوننا عنها. وعن ابن عباس
نحو منه. وقيل: تأتوننا عن اليمين التي نحبها ونتفاءل بها لتغرونا بذلك من جهة
النصح. والعرب تتفاءل بما جاء عن اليمين وتسميه السانح. وقيل:" تَأْتُونَنا
عَنِ الْيَمِينِ" تأتوننا مجيء من إذا حلف لنا صدقناه. وقيل: تأتوننا من قبل
الدين فتهونون علينا أمر الشريعة وتنفروننا عنها. قلت: وهذا القول حسن جدا، لأن من
جهة الدين يكون الخير والشر، واليمين بمعنى الدين، أي كنتم تزينون لنا الضلالة.
وقيل: اليمين بمعنى القوة، أي تمنعوننا بقوة وغلبة وقهر، قال الله تعالى:"
فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ" [الصافات: 93] أي بالقوة وقوه الرجل
في يمينه، وقال الشاعر:
إذا ما راية رفعت لمجد ... وتلقاها عرابة باليمين
أي بالقوة والقدرة. وهذا قول ابن عباس. وقال مجاهد:" تَأْتُونَنا عَنِ
الْيَمِينِ" أي من قبل الحق أنه معكم، وكله متقارب المعنى." قالُوا بَلْ
لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ" قال قتادة: هذا قول الشياطين لهم. وقيل: من قول
الرؤساء، أي لم تكونوا مؤمنين قط حتى ننقلكم منه إلى الكفر، بل كنتم على الكفر
فأقمتم عليه للألف والعادة." وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ"
أي من حجة في ترك الحق" بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ" أي ضالين
متجاوزين الحد." فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا" هو أيضا من قول
المتبوعين، أي وجب علينا وعليكم قول ربنا، فكلنا ذائقو العذاب، كما كتب الله وأخبر
على ألسنة الرسل" لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ
أَجْمَعِينَ" [السجدة: 13]. وهذا موافق للحديث: (إن الله جل وعز كتب للنار
أهلا وللجنة أهلا لا يزاد فيهم ولا ينقص منهم)." فَأَغْوَيْناكُمْ" أي
زينا لكم ما كنتم عليه من الكفر" إِنَّا كُنَّا غاوِينَ" بالوسوسة
والاستدعاء. ثم قال خبرا عنهم:" فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ
مُشْتَرِكُونَ" الضال والمضل." إِنَّا كَذلِكَ" أي مثل هذا
الفعل" نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ" أي المشركين.! إِنَّهُمْ كانُوا إِذا
قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ" أي إذا قيل لهم قولوا
فأضمر القول.
وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38) وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40)
و"
يَسْتَكْبِرُونَ" في موضع نصب على خبر كان. ويجوز أن يكون في موضع رفع على
أنه خبر إن، وكان ملغاة. ولما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأبي
طالب عند موته واجتماع قريش" قولوا لا إله إلا الله تملكوا بها العرب وتدين
لكم بها العجم" أبوا وأنفوا من ذلك. وقال أبو هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" انزل الله تعالى في كتابه فذكر قوما استكبروا
فقال:" إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ
يَسْتَكْبِرُونَ" وقال تعالى:" إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي
قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ
سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ
التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها" [الفتح: 26] وهي (لا إله إلا
الله محمد رسول الله) استكبر عنها المشركون يوم الحديبية يوم كاتبهم رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على قضية المدة، ذكر هذا الخبر البيهقي، والذي
قبله القشيري.
[سورة الصافات (37): الآيات 36 الى 40]
وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جاءَ
بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ
الْأَلِيمِ (38) وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلاَّ
عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40)
قوله تعالى:" وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ
مَجْنُونٍ" أي لقول شاعر مجنون، فرد الله جل وعز عليهم فقال:" بَلْ جاءَ
بِالْحَقِّ" يعني القرآن والتوحيد" وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ" فيما
جاءوا به من التوحيد." إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ"
الأصل لذائقون فحذفت النون استخفافا وخفضت للإضافة. ويجوز النصب كما أنشد سيبويه:
فألفيته غير مستعتب ... ولا ذاكر الله إلا قليلا
وأجاز سيبويه" وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ" على هذا." وَما تُجْزَوْنَ
إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ" أي إلا بما عملتم من الشرك" إِلَّا
عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ" لاستثناء ممن يذوق العذاب. وقراءة أهل
المدينة والكوفة" المخلصين" بفتح اللام، يعني الذين أخلصهم الله لطاعته
ودينه وولايته. الباقون بكسر اللام، أي الذين أخلصوا لله العبادة. وقيل: هو
استثناء منقطع، أي إنكم أيها المجرمون ذائقو العذاب لكن عباد الله المخلصين لا
يذوقون العذاب.
أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (44) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49)
[سورة
الصافات (37): الآيات 41 الى 49]
أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي
جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (44) يُطافُ عَلَيْهِمْ
بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45)
بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها
يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ
مَكْنُونٌ (49)
قوله تعالى:" أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ" يعني المخلصين، أي لهم
عطية معلومة لا تنقطع. قال قتادة: يعني الجنة. وقال غيره: يعني رزق الجنة. وقيل: هي
الفواكه التي ذكر قال مقاتل: حين يشتهونه. وقال ابن السائب: إنه بمقدار الغداة
والعشي، قال الله تعالى:" وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً
وَعَشِيًّا" [مريم: 62]." فَواكِهُ" جمع فاكهة، قال الله
تعالى:" وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ" [الطور: 22] وهي الثمار كلها
رطبها ويابسها، قاله ابن عباس." فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ" أي ولهم إكرام
من الله جل وعز برفع الدرجات وسماع كلامه ولقائه." فِي جَنَّاتِ
النَّعِيمِ" أي في بساتين يتنعمون فيها. وقد تقدم أن الجنان سبع في سورة
[يونس «1»] منها النعيم. قوله تعالى:" عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ" قال
عكرمة ومجاهد: لا ينظر بعضهم في قفا بعض تواصلا وتحاببا. وقيل: الأسرة تدور كيف
شاءوا فلا يرى أحد قفا أحد. وقال ابن عباس: على سرر مكللة بالدر والياقوت
والزبرجد، السرير ما بين صنعاء إلى الجابية، وما بين عدن إلى أيلة. وقيل: تدور
بأهل المنزل الواحد. والله أعلم. قوله تعالى:" يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ
مِنْ مَعِينٍ" لما ذكر مطاعمهم ذكر شرابهم. والكأس عند أهل اللغة اسم شامل
لكل إناء مع شرابه، فإن كان فارغا فليس بكأس. قال الضحاك والسدي: كل كأس في القرآن
فهي الخمر، والعرب تقول للإناء إذا كان فيه خمر كأس، فإذا لم يكن فيه خمر قالوا
إناء وقدح. النحاس: وحكى من يوثق به من أهل اللغة
__________
(1). راجع ج 8 ص 329 وما بعدها طبعه أو أولى ثانيه.
أن
العرب تقول للقدح إذا كان فيه خمر: كأس، فإذا لم يكن فيه خمر فهو قدح، كما يقال
للخوان إذا كان عليه طعام: مائدة، فإذا لم يكن عليه طعام لم تقل له مائدة. قال أبو
الحسن ابن كيسان: ومنه ظعينة للهودج إذا كان فيه المرأة. وقال الزجاج:"
بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ" أي من خمر تجري كما تجري العيون على وجه الأرض.
والمعين: الماء الجاري الظاهر." بَيْضاءَ" صفة للكأس. وقيل:
للخمر." لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ" قال الحسن: خمر الجنة أشد بياضا من
اللبن." لَذَّةٍ" قال الزجاج: أي ذات لذة فحذف المضاف. وقيل: هو مصدر
جعل اسما أي بيضا لذيذة، يقال شراب لذ ولذيذ، مثل نبات غض وغضيض. فأما قول القائل
«1»:
ولذ كطعم الصرخدي تركته ... وبأرض العدا من خشية الحدثان
فانه يريد النوم. وقيل:" بَيْضاءَ" أي لم يعتصرها الرجال
بأقدامهم." لا فِيها غَوْلٌ" أي لا تغتال عقولهم، ولا يصيبهم منها مرض
ولا صداع." وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ" أي لا تذهب عقولهم بشربها،
يقال: الخمر غول للحلم، والحرب غول للنفوس، أي تذهب بها. وقال: نزف الرجل ينزف فهو
منزوف ونزيف إذا سكر. قال امرؤ القيس:
وإذا هي تمشي كمشي النزي ... وف يصرعه بالكثيب البهر «2»
وقال أيضا:
نزيف إذا قام لوجه تمايلت ... وتراشي الفؤاد الرخص ألا تخترا «3»
وقال آخر «4»:
فلثمت فاها آخذا بقرونها ... وشرب النزيف ببرد ماء الحشرج
__________
(1). هو الراعي. ويروى:
ولذ كطعم الصرخدى طرحته ... عشية خمس القوم والعين عاشقه
والصرخد موضع ينسب إليه الشراب. أراد أنه لما دخل ديار أعدائه لم ينم حذارا لهم.
(2). البهر: الكلال وانقطاع النفس.
(3). الختر: ضعف يأخذ عنه شراب الدواء أو السم. يقول هي سكرى من الشراب، إذا قامت
به لوجه وجدت فتورا في عظامها وكسلا، فهي تدارى فؤادها وتراشيه ألا يعذبها في
مشيها. [.....]
(4). هو جميل بن معمر. وقيل البيت: لعمر بن أبى ربيعة. والحشرج نقرة في الجبل
يجتمع فيها الماء فيصفو.
وقرا
حمزة والكسائي بكسر الزاي، من أنزف القوم إذا حان منهم النزف وهو السكر، يقال:
أحصد الزرع إذا حان حصاده، وأقطف الكرم إذا حان قطافه، وأركب المهر إذا حان ركوبه.
وقيل: المعنى لا ينفدون شرابهم، لأنه دأبهم، يقال: أنزف الرجل فهو منزوف إذا فنيت
خمره. قال الحطيئة «1»:
لعمري لئن أنزفتم أو صحوتم ... ولبئس الندامى كنتم آل أبجرا
النحاس: والقراءة الأولى أبين وأصح في المعنى، لأن معنى" ينزفون" عند
جلة أهل التفسير منهم مجاهد لا تذهب عقولهم، فنفى الله عز وجل عن خمر الجنة الآفات
التي تلحق في الدنيا من خمرها من الصداع والسكر. ومعنى" ينزفون" الصحيح
فيه أنه يقال: أنزف الرجل إذا نفد شرابه، وهو يبعد أن يوصف به شراب الجنة، ولكن
مجازه أن يكون بمعنى لا ينفد أبدا. وقيل:" لا ينزفون" بكسر الزاي لا
يسكرون، ذكره الزجاج وأبو علي على ما ذكره القشيري. المهدوي: ولا يكون معناه
يسكرون، لأن قبله" لا فِيها غَوْلٌ". أي لا تغتال عقولهم فيكون تكرارا،
ويسوغ ذلك في" الواقعة". ويجوز أن يكون معنى" لا فِيها
غَوْلٌ" لا يمرضون، فيكون معنى" وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ" لا
يسكرون أو لا ينفد شرابهم. قال قتادة الغول وجع البطن. وكذا روى ابن أبي نجيح عن
مجاهد" لا فِيها غَوْلٌ" قال لا فيها وجع بطن. الحسن: صداع. وهو قول ابن
عباس:" لا فِيها غَوْلٌ" لا فيها صداع. وحكى الضحاك عنه أنه قال: في
الخمر أربع خصال: السكر والصداع والقيء والبول، فذكر الله خمر الجنة فنزهها عن هذه
الخصال. مجاهد: داء. ابن كيسان: مغص. وهذه الأقوال متقاربة. وقال الكلبي:" لا
فِيها غَوْلٌ" أي إثم، نظيره:" لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ"
[الطور: 23]. وقال الشعبي والسدي وأبو عبيدة: لا تغتال عقولهم فتذهب بها. ومنه قول
الشاعر:
وما زالت الكأس تغتالنا ... وتذهب بالأول الأول
__________
(1). نسبه الجوهر يألى الابيردى. وأبجر هو أبجر بن جابر العجلى وكان نصرانيا.
أي
تصرع واحدا واحدا. وإنما صرف الله تعالى السكر عن أهل الجنة لئلا ينقطع الالتذاذ
عنهم بنعيمهم. وقال أهل المعاني: الغول فساد يلحق في خفاء. يقال: اغتاله اغتيالا
إذا أفسد عليه أمره في خفية. ومنه الغول والغيلة: وهو القتل خفية. قوله
تعالى:" وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ" أي نساء قد قصرن طرفهن على
أزواجهن فلا ينظرن إلى غيرهم، قاله ابن عباس ومجاهد ومحمد بن كعب وغيرهم.
عكرمة:" قاصِراتُ الطَّرْفِ" أي محبوسات على أزواجهن. والتفسير الأول
أبين، لأنه ليس في الآية مقصورات ولكن في موضع آخر" مَقْصُوراتٌ" يأتي
بيانه. و" قاصِراتُ" مأخوذ من قولهم: قد أقتصر على كذا إذا اقتنع به
وعدل عن غيره، قال امرؤ القيس:
من القاصرات الطرف لو دب محول ... ومن الذر فوق الإتب منها لأثرا<